كاتب الموضوع :
بنت أرض الكنانه
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: وأذكر في الهوى جرحك!!!!!!!
الفصل مهدى للكونتيسة
BLUE MAY
اول من استقبل وأذكر في الهوى جرحك بترحاب
قد تكون ملك متعذرة الاستيعاب حتى على نفسها ولكن لنحاول فك طلاسمها من خلال تلك القصاصة المهترءة المصفرة التي سندرك مقصدها بها عن قريب
((رأيت بشرا يسعون للتنكيل بخلق الله... يظنون أنفسهم يستطيعون إذلال أي كان... مثل من يضمر هذا، البعد عنه غنيمة لأبد الحياة... سأرتفع على الأنقاض التي حفروها لي بإمعان، لأصير كيانا شاهق الارتفاع))
ولنا في العمر أمنية
السادس
*قيثارة*
معزولة عن البيئة الفقيرة التي تحيا فيها، فقط تمن عليها، تجزل العطايا لأبناء قريتها، هم يترقبون الهدايا التي تغدقهم بها من لحوم وفيرة في عيد الأضحى، ومخبوزات.. ونقانق.. وفطائر.. وكحك وبسكويت في عيد الفطر، تمد أياديها لهم وتتقبل انحنائهم لها ليطبعوا قبلات الامتنان عليها، هي ابنة القصور، أمها تنحدر من صلب ماركيز انكليزي، ووالدها قروي بسيط لكنه كان جد فاحش الثراء، لقد كان تزواج والدتها "جيهان نور" من شمس التبريزي بمثابة مصاهرة السلطة لرأس المال، سرعان ما سقط شمس التبريزي صريع عيون جيهان نور، لقد كانت قطة متوحشة البهاء، صار يلبي لها كافة طلباتها، ويهرع لتحقيق قاطبة رغباتها، كانت جيهان نور مختلطة العروق، فوالدتها مصرية مسيحية، وأبوها ماركيز طاغية تتجلى على قسماته بلادة حسه التي ورثها من أسلافه البريطانيين، لم يكن الماركيز شخصية متدينة، لم يفرق معه لو ناسب كاثوليكيا مثله أو مسلما!!!، فقط ينبغي على الزيجة أن تغذي طموحاته، وأن تكون لائقة وملائمة....
شمس التبريزي كان يافعا في الواحدة والعشرين حينها، وابنته كانت لم تتخطى السابعة عشر ربيعا... لقد أوحى لها مطاردة شمس، أن تنصب له الفخ، تكاد تكون ورطته بها!!!!، كانت تتحدث معه تحت وطأة القيظ المحتر وهما يسيران على بساط المروج اليانعة... كانت تتجاذب معه أطراف الحديث عن اللاشيء، فقط تزعم احترامها العميق له ثم تشجعت وغازلته بأنه أكثر رجال قريتها جاذبية متوحشة، احمر وجه شمس من تشبيهها له بالجذاب كما المغناطيس، وبذي الرجولة الكاسحة، فقهقهت حينها من هيئته التي تحاكي فتاة بتول تستمع لوصلة إطراء للمرة الأولى في حياتها، إلا أن تعابير وجهه الساخطة والرافضة ألجمتها عن متابعة ما اعتراها من موجة قهقهة متنامية، أبلغها شمس بصرامة أنها لا تناسبه، فهي مسيحية متحررة، وهي ابنة الماركيز الذي لا يستسيغه مطلقا، وهمَّ بتركها ولكنها لمحت أحد رجال القرية يقترب، وعلى حين غرة سحبته نحوها وارتمت عليه وحضنته بأقصى وسعها، ضرب الرجل الدخيل على وجهه حينما أبصر هذا المشهد الذي اقشعر له بدنه، وتوسعت عيونه وجوما وسقط فكه في بلادة استيعاب للحظة حاسمة، ومن ثم تأججت نيران الثرثرة في القرية النائية وكان لزاما على شمس نكاحها، كان يبغضها حينها إلا أنها أحالته خاتما في إصبعها بعد زواجهما، لم يروقه أن تكون زوجته من ملة مغايرة!!!!!، ولكنها ادعت القراءة بنهم في الإسلام وبعد انقضاء فترة محدودة فاجأته بإعلان إسلامها، لم تعتنق جيهان نور الإسلام حقا!!!!، كانت فقط تحكم الخديعة عليه، كانت أم قيثارة امرأة داهية!!!!
كانت تتآمر مع والدها للاستيلاء على بسطة الأرض التي تملكها قرية التبريزي، بنقود شمس الطائلة أغرقت جيهان نور القرية في الديون، وللسداد يجب أن تُمْنَح وثيقة بيع غير مشروط، انتبه شمس لما تحيكه جيهان بعد بعض الوقت، كان مغيب العقل بسبب ما تسبغه به!!!!
وكانت حجتها الواهية حينها أنهم متعطشون للنقود، ينفقونها على الترهات، ولا يخططون بها توسعة أعمالهم، فقط يتفاخروا بها ويتباهون، ولذا فمن لا يدفع دينه يجب أن ينكل به، لكي لا تأخذهم الثقة بطيبة شمس التي كانت على الدوام فياضة!!!!... ينبغي أن يكون المتقاعس عن السداد عظة لكي تستطيع أن تسترد النقود من غيره من المستدينين، ولكن شمس زأر فيها حينها وأبى أن تُحني دخيلة حتى لو كانت زوجته الأثيرة رءوس أهل قريته الفقيرة!!!!!
حينها كشرت جيهان نور عن أضراسها وزمجرت فيه بأن الديون لصالحها هي.... وهو ليس له شأن بها، فما كان من شمس إلا أن بسط نقوده كلها لجيهان ليُخلص قريته من أنيابها!!!!!
صحيح أن شمس كتب عقارات وأراضي شاسعة كثيرة لزوجته الحبيبة لكنه لا يلبث يملك أطنانا مترامية من الأموالِ والأفدنة!!!!
منذ بدء زواج جيهان بشمس وهي تدس له سم بطيء المفعول في طعامه الذي تحرص على إعداده له يوميا..... جسد شمس نحل وهزل، ودب فيه الوهن والخوار، حتى احتار فيه الأطباء.... وليت الأمر اقتصر على البدن فعقله صار مفككا لم يعد مترابطا!!!!!
كانت تترقب جيهان نور زواله بفروغ الصبر، ولكن حملها كان مفاجأة مدوية لها!!!!، كانت حريصة كي لا تحمل من ذلك القروي الساذج، ولكن هكذا الله كتب!!!!
لأول مرة تقع ابنة المصرية المسيحية حائرة!!!!، لقد حُرِمَت أمها منذ نعومة أظافرها، تشتبه في أن يكون والدها الطاغية قتلها!!!!!... فلقد أفضى لها مرة في زلة لسان أنها كانت تود التحرر منه، وأنها كانت تمقته، مسدت جيهان بطنها بمحبة وبإدراك لطبيعة الحياة التي تقبع فيها الآن، هي لا تريد لطفلها أن يشب ليكون مثلها... بدون دعم أبوين.... بدون محبة واسعة!!!!!، لأول مرة تطفر العبرات من أحداقها!!!!، وتقرر أن تتخلى عن مطامع والدها فهو لن يشبع ولو أعطته قدر الأرض كنوزا وذهبا، هو لن يتطلع نحوها يوما مهما فعلت برمقة رضا واستحسان لطالما انتظرتها وسعت لتظفر بها....
لم تعد تدس له السم في الطعام، بل أنها منحته الترياق بنفسها!!!!!
شمس طيب القلب، حنون، وسيكون أب صالح لطفلها، هي لن تبيده لأجل تطلعات أبيها النهم ليفرض سيطرته على زمام البلدة بأسرها، لو كان شمس التبريزي حجر عثرة في طريق أبيها فهو زوجها الذي لا يستبدلها بكافة نساء الأرض... هو من زرع بذرته في أحشائها، ستكون ابنتها مصرية أكثر منها أجنبية، تحمل الكثير من العروق العربية، ستكون حفيدة قبطية مسيحية صالحة، وابنة مسلم ورع يؤدي الصلاة في أوقاتها!!!!!
استشاط الماركيز غضبا من تخلي ابنته عنه، هددها بفضحها أمام زوجها إلا أنها كانت حجر صلد، لم تتوقع جيهان نور أن ينفذ أبيها توعداته، ظنته يكن لها ولو ذرة محبةٍ واحدة، ولكنه وشى بها فعلا لشمس ساحقا قلبها!!!!!
لقد أخبره حتى في فورة انفعاله أنهما كانا يدبران للتخلص منه بسم يسري ببطء في جسده الآن!!!!!
أبلغه كذبا أن ابنته ترافق أحد رجاله الانكليزيين، وأنها تخونه في وضح النهار مع ابن جلدتها الوسيم!!!!
لقد وضعها أبوها في محشر، أوصدت عيونها وغالبت عبراتها مدركة فقط في تلك اللحظة أنها تعشق زوجها القروي البسيط.... ليته يستدير لها الآن ليكتشف أمواج مشاعرها الصادقة منعكسة في لمعان البحر الأزرق بمقلتيها الواسعتين...
حينما كانت تخدعه بستار من الإشراقات الزائفة كان يتفحص فيها بنهمٍ وولع، وهي الآن جد صادقة تخشى بطشه بها، كانت بائسة تماما... وعلى حافة الهاوية، ولكن موقف شمس كان غريبا ومبهجا لها، لقد أجفلها تماما، ردَّ على والدها بثبات ليرحل من هنا وإلا سيُطلق عليه أهل البلدة ليفترسونه، وحذره من الأوبة للقرية من جديد، وأفصح له بصلابة ويقين أنه يضع ثقة كاملة بزوجته الهجين!!!!، فعروقها المصرية تأبى عليها الغدر وخذلان الحبيب....
ولكنها كانت بقايا كبرياء تلك التي تتحدث، لقد توجهت له بإشراقة المحبين بعد طرده لأبيها فأبصرته عابس المحيا مكفهر التقاسيم، حدجها لبرهة وجيزة بمآقي منحوتة من مرمر أسود، باردة وخالية من الحياة، ثم أخبرها بدون أن يركز عليها عين " هذا بيتك، وسيظل هكذا لأبد الآبدين، طبيب القرية بشرني بحملك!!!!، ذلك الحمل الذي أخفيتيه عني، لو كان مني لكنتِ أخبرتيني بمجرد علمك، وهذا يدفع بي للتساؤل عن هوية والد طفلك، تُرى هل هو ذلك المسخ الانجليزي الذي يتشدق والدك بالحديث عنه؟!!!!"
تشبثت جيهان نور بتلابيبه حينها وشرعت ترجرجه وهي تهذي بصراخِ وقد تلبستها موجة جنون وغضب سافرين " هذا كذب... هذا افتراء... تصورت أن أبي جلمود لكنه فاق الحدود... تأخرت في إخبارك لأني كنت متحيرة، كنت....."
هنا التزمت جيهان نور الصمت للأبد، أطرقت برأسها واعترفت بجريرتها من خلال تنكيسها لجبينها.... قرأها إدانة خيانة فراش... ولكنها كانت إقرارا بخيانتها لوطنها الذي نشأت وترعرعت فيه!!!!!
كانت الدموع تنزل من عينائها وهو يخبرها بثبات وكبرياء... وبصوت مصقول بارد من فوق رأسها بكثير " سأستر عليكِ، لا أتوقع أن يرغب بكِ ابن الانكليز بعدما أحيلكِ أنتِ وأبيكِ فقيرين معدمين، حسنا يا جيهان.. لمَ فقط تعجلتِ توريط أبناء قريتي في تدبيراتكِ أنتِ وأبيكِ؟!!!، كنتما انتظرا زوالي من الحياة، ولكنه طمعكما من فضحكما لي، صحيح أن عقلي كانت عليه غشاوة بفضل السموم التي تبثونها في، ولكن حبي لبلدي جعلني أستفيق، حينما علمت بالديون لم أستوعب لمَ تلجأي لذلك الأسلوب الغريب؟؟، ماذا ستستفيدي حينما تكوني من آكلة الربا، لم أُخَوِّنَكِ حينها، كنت مازلت أبله غرير أرفض تصديق حقيقتك المقرفة، سأخبركِ أمرا لا تعرفيه، أُدرك أنه كان هناك سم يستشري في ويفتك بي!!!!، لقد أجريت فحوصات في مصر وتلك كانت نتيجتها، لم أشتبه بكِ أبدا، كنتِ حبيبتي وزوجتي ودثاري في الليل".....
غالب شمس انفعالاته التي تتأجج فيه، لمَ لا يميتها؟؟.... لمَ لا يلفظها؟..... لمَ هو لا يقوى على التنازل عنها؟؟.... لمَ الدموع ناضبة من أحداقه؟؟... لمَ الحياة خاوية من نكهة الحياة؟!!!!...
وتابع " أنا أسامحكِ يا جيهان على تخطيطكِ لقتلي بالسم البطيء، ولكني لن أسامحكِ يوما على تدبيركِ إغراق قريتي في الديون، لن أسامحكِ على خيانتكِ لوطني، لو كان الطفل مني فأنا سأربيه، ولو كان من غيري فأنا لن أفضحكِ وأعريك، ولكن اسمعي يا جيهان أنا مُعْرِض عنكِ لأبد الآبدين، وأَبْعِدي سمومكِ عن قريتي لكي لا تختبري نفاذ صبري الجميل، شراهتكِ لمنح القروض لكل من يريد هي ما جعلتني أرتاب، ولكن ما أحالني متيقنا كوني أمسكت بلص كان يركض هاربا بنقود أعرتيها لشيخٍ ضرير، أتعرفين ما الذي أخبرني به ذلك اللص؟؟!!!... أنه مأجور من قبلك أنتِ تمنحي النقود بيد وتستعيدينها باليد الأخرى، تُحركي اللصوص ليعيثوا في قريتي فسادا، ليحرقوا الخير المتفتح في الأغصان، ليُعَجِّزوا المقترضين على سداد ما واتيتيهم إياه بابتسامة ظاهرها إشراقة وباطنها لئيم، لقد وثقوا بكِ لأنكِ زوجة شمس التبريزي، ولكنهم لا يعلمون أن زوجة ابنهم ثعبانٌ مبين!!!!"
سألها ومحياه ينفرج عن ابتسامة مريرة حينما انتبه لصمتها الرهيب " ألا تريدي أن تعقبي؟!!!!"
هزت جيهان رأسها نافية الرغبة في التعليق، واكتفت بقول أبح خفيض يحاكي الغمغمات المدغمة " ما الذي يمكنني أن أضيفه؟؟، أنت محق أنا امرأة في الحضيض"....
تبدلت جيهان بعد افتراء والدها عليها... وتصديق زوجها الأسوأ عنها، صارت تقرأ عن الإسلام بنهم حقيقي، وصار إسلامها متأصلا فيها، يتنامى مع ازدهار وردة قيثارة بداخلها، وضعت ابنتها بمحبة عميقة تكنها لبعلها، كانت تطمع في أن تقرب الصغيرة بينهما وتزيل الحواجز اللامرئية التي تفصلهما عن بعضهما
شمس بدا متلهفا للصغيرة قيثارة بمجرد أن أبصرها، أشرق محياه حالما وقع نظره عليها، وحملها بين كفيه، وأودعها قلبه للأبد
كانت مدللته، وبرغم كونها فتاة كان يُجْلِسَها وإياه في أمسياته وتسامراته مع أصدقائه، اكتسبت قيثارة طباع صلدة، كانت أجنبية التقاسيم لكنها كانت فلاحة حقيقية، تعرف خبايا الأرض، كيف تتم عملية الزراعة، توزع البذور بنفسها والبهجة تعلو وجهها، وتشارك في جني المحاصيل بحبورٍ وكدٍ واضحين، كانت قيثارة طفلة طليقة اللسان لبقة في الحديث حلوة المعشر، ابنة أبيها ورثت عنه حتى كيفية تقطيبه للجبين!!!!
لم تضاهيه ملامح ولكنها حاكته مواقف... ونجابة... وحصافة.... ومحبة مطردة لقريتها النائية... كانت قيثارة ولا تزال تفديها بكل شيء!!!!
وكانت قيثارة ساخطة لأنها لا تشبه والدها الحبيب، وكانت تعرب عن نقمتها لأمها وتخبرها أنها تفضل الملامح الشرقية عن خاصتها الناصعة البياض التي لا تليق سوى بالفتيات الطريات!!!!
لم تتوافق قيثارة مع عيونها الزمردية الواسعة وبشرتها الشاحبة النقية، وكانت تطعن أمها بأنها تحبذ سيماء والدها شمس عنها، وتُبرز مدى امتعاضها وتبرمها غير مكترثة بغرزها نصل حاد في قلب أمها من جراء كلماتها الغليظة القاسية!!!!!
كانت جيهان ستكون مسرورة أكثر، لو ابنتها ورثت سنابل القمح التي تخالط بشرة أبيها، فهذا سيسعدها لأنها متيمة به وتكون بذلك قد أهدته قطعة تضاهيه في كل شيء، وكان سيرد عنها اتهامه لها بأن ابنتها مجهولة الهوية مشكوكة النسب، صحيح أنه لم يعد لتلك السيرة حالما أودع الصغيرة قلبه، ولكنها تقرأها في عينيه، حينما يتناهى لسمعه تذمر قيثارة لأمها أنها لا تحاكي والدها في المحيا، يلتوي ثغره عن ابتسامة متهكمة .... ومُدينة لها، ثم تستحيل قسماته قاسية صلدة، ويرمقها بحقد وكراهية سافرين!!!!
عاشت جيهان نور على الهامش في حياة زوجها، تخفي عنه انفطارها كل يوم باكية وذلك حينما يسود الليل الربوع ويمكنها أن تُطلق تأوهاتها وأنينها....
لم تكن حساسة قبل أن تنغمس مشاعرها في الهوى!!!!!
كانت باردة وجافة ولكن الحب حررها من قوالب تصرفات جامدة كانت تحركها!
لقد أَطْلَق عشقها لشمس خفقان قلبها من معقله!!!!
ومرت السنين بجيهان نور، اعتلى رأسها المشيب، وحفر الزمن أخاديده على قسماتها، ولكنها ظلت كما كانت وردة فواحة بأحلى عبير.....
وعلى حين غرة ساد البلد هرج ومرج.... الكل رشق شمس التبريزي بأنه دنَّس حرمة القرية الطاهرة.... وعاث فسادا مع فتاة مطلقة في العشرين!!!!
أنكر شمس الاتهام، ولكن سمعة الفرس زهر صارت في الحضيض، وكان لزاما عليه للمرة الثانية أن ينكح فتاة لم يرغبها أبدا، كان الفارق العمري بين شمس وزهر مهول، يكاد يكون ثلاثين عام، كانت طعنة نجلاء في صميم آمال جيهان نور، تهاوت حينها، تماسكت مدادا إلا أنها لم تعد تقوى على تحمل المزيد، وسقطت جيهان نور طريحة الفراش، وصار ريقها ينفث دما، وتكالبت الأسقام عليها حتى أوهنتها تماما، ولم يستطع أحد التوصل لهوية ما أَلَمَّ بها، وكان خبر حمل زهر هو القشة التي قصمت ظهر البعير، بمجرد أن واتاها النبأ، استنشقت الهواء بقوة عاتية وكأنها لآخر مرة تبتلعه في جوفها، وتهاوت جيهان نور جثة بلا حراك أمام أبصار ابنتها قيثارة، التي نزف قلبها ندما لأنها أعطت الأثرة لوالدها على أمها لطوال حياتها....
كانت تلك هي اللحظة التي تبدلت فيها قيثارة للأبد، لم تعد بشوشة، لم تعد الفتاة الطيبة التي يغترف من منبع جودها الجميع، باتت قاسية كما الحجر الصلد الذي لا يتشقق منه نبات ولا يتصدع لخشية الله....
صارت تتهرب من الصلاة منذ ذلك الأوان، وكأن عقارب الساعة تعطلت وثبتت على ذلك الزمان، وكأنها تود الانتقام..... من نفسها أولا لأنها لم تسبغ أمها عناية واهتمام في حياتها اكتفت بالإعراب عن نفورها من كونها قطعة منها في تقاسيمها، لو يعود الزمن لغيرت كل ما كان!!!!
والدها حاول اختراق عزلتها الروحية والتواصل معها، حاول إخراجها من شرنقة الشعور بالذنب والانغماس في الأشجان، كان فمها يتوحش في الرد عليه في البدء مخبرة إياه أنه خائن وأنه قتل والدتها بدمٍ بارد وأنها لن تغفر له ولا تود رؤيته حتى يفارق الحياة
كانت تنتقم من حبها له بإظهار كراهية لم تفلح في تأصيلها بزوايا روحها...
ووطنت قيثارة نفسها بعد بعض الوقت على رأب الصدع بينها وبين أبيها، لن تسمح لتلك الجرذ زهر ووليدها بالاستيلاء على كل وفر أبيها، داهنت.... تملقت.... وسقطت أكثر وأكثر في بئر سحيق بلا قرار...
وحينما وُلدت أعمار زبرجدة... ولدت قبل أوانها.... كان جسدها ضئيل وكانت تنازع الحياة وهي موصلة على جهاز تنفس صناعي لأنها لا تقوى على سحب الأنفاس....
مخطط قيثارة في قتل زبرجدة وهي جنين في بطن أمها لم يحرز نجاح، حرضت خادمة في أول حمل زوجة أبيها لتدفعها من على السلم ، وتهرب بعدها بأموال وفيرة، فباء التدبير بالإخفاق الذريع، فتوت كانت مسلطة بصرها على أختها زهر، تراقب كل من يتربص بها، وبمجرد أن دفعتها الخادمة تلقفتها توت، وقبل أن تستفيق مما كان يُحَاك لأختها كانت المرأة تركض مهرولة لتختفي عن أنظارها... مؤامرات قيثارة لم تخمد وتواصلت بإخفاقات متلاحقة.... وآخرها كان تسديد امرأة ملثمة لزهر، وهي تتبضع من السوق ضربة عنيفة على بطنها، تسببت في نزيف شديد ارتحلت على إثره لمشفى المدينة المجاورة لتضع مولودتها قبل أوانها....
الحقد تنامى بداخل قيثارة نحو أعمار زبرجدة، لم ترأف بها لبنيتها الضئيلة، الكراهية التي تضمرها لها تتفاقم ويجب أن تزيحها من خارطة الوجود لتستنشق أنفاسها.... ولتدب فيها الحياة من جديد!!!!!
تلك الصغيرة هي من غرزت نصلا في قلب أمها، لتحيلها جثة هامدة....
ودفعت قيثارة بملثم ليفصل زبرجدة عن جهاز التنفس الصناعي لتخمد أنفاسها إلا أن ممرضة لمحت ما ينتوي عليه فانطلقت تصيح بأقصى وسعها، ولكنه ولى هاربا ولم يتمكنوا من اقتفاء إثره مطلقا....
تاريخٌ من الكراهية السوداء....
ميراثٌ من حقدٍ لن يموت ولا حتى بانصرام الحياة برمتها
أعمار!!!!!!
استحوذت على اهتمام أبيها، صارت أثيرته، واحتلت مكانها في قلبه!!!!... صار يرتاب في قيثارة من جرائها!!!!... الحوادث المتكررة لزهر وابنته جعلته يسلط نظرة اتهام لها!!!!.... أدماها حينها رغم أنها نظرة صائبةٌ وسديدة!!!!....
بسبب زبرجدة هوت قيثارة للحضيض.... بسببها ها هي منزلقة في الدرك الأسفل من الجحيم!!!...
بسببها صارت قيثارة مغتربة عن نفسها!!!!
تشمئز من شرها!!!!
ولكن المعاصي جرت أقدامها ولم تعد تقوى على الإفلات من براثنها التي أطبقت عليها...
ها هي قيثارة امرأة تقارب السبعين!!!!
امرأة تنفث حقدا أسودا
وتتمنى تبديل ما كان!!!!
ليس ذنب زبرجدة الشر الذي اعتمل في قلبها، ليست جريرتها أن نبأ الحمل بها أودى بحياة أمها...
أحيانا ابنة شمس التبريزي تفكر هكذا، ولكن ابنة جيهان نور تؤنبها وتعنفها حينها، كيف تنسى مصاب أمها؟؟، كيف تتقبل دخيلة أفسدت حياتها؟!!!!....
هذا التصارع الرهيب في أعماقها لمَ لا يُزْهِق أنفاسها؟؟؟
لمَ لا يريحها من تلك الحياة القاحلة التي صارت فيها تكره ذاتها؟؟؟؟....
لقد اختارت الولاء لأمها منذ أن لفظت أنفاسها، لقد اختارت أن تكون ابنة الأجنبية وحفيدة الماركيز، وسعت بشراسة للانسلاخ عن هويتها كابنة القروي الصالح شمس التبريزي....
تكاد لا تتعرف على نفسها رغم انصرام عمرها....
تكاد تكون طاغية بجبروتها وقساوة قلبها
هي قيثارة
أطلق والدها عليها هذا الاسم تيمنا بأن تصدح ذات يوم مترنمة بأناشيد الأصباح
ولكنها استحالت حاقدة الطباع لا تطيق صوت البلبل الصداح!!!!
قصر قيثارة مشيد من الحجر الوردي الشاحب، والذي يتناسب مع الأعمدة الدائرية التي تكتنف زواياه، الحديقة مدرجات من المروج الناعمة، وتقع الشرفات على حافة مسبح لازوردي خلاب، نافورة تتفجر وسط الحديقة بمياهها الملونة المتدفقة الكثيفة... قيثارة ذات ذائقة فريدة... حسها للجمال ساحر وأخاذ...
كانت أمامها مئات الفرص لتتخلى عن قريتها النائية ولكنها لا تتنازل عنها ولو وضعوا لها ملء الأرض ذهبا!!!!
هي لن تمكث مطلقا في احدى مدائن المحروسة، لا يطيب لها العيش إلا هنا!!!!!
كانت تتناول الإفطار باسترخاء وكسل، وهي مغمضة العيون، تتذوق اللقمة التي لونت بها حلقها بتمهل وتلذذ، حينما هرولت صوبها صديقتها عائشة وقالت لها من بين أنفاسها اللاهثة وهي تنتشلها واقفة" أعمار زبرجدة عادت للقرية يا قيثارة، الرجال ملتفون حولها وسيفتكوا بها، أهرعي لنجدتها، أرجوكِ ليس وقت كراهية، أختكِ لو ماتت ذنبها في رقبتك، يكفي إهداركِ لعمرها، ألا تأخذكِ للحظة الشفقة بها؟؟؟"
وانخرطت عائشة في وصلة نحيب قطعت قلب قيثارة
ليت لها قلب مثل خاصة عائشة...
يحب الجميع ولا يتحمل برادة حقدٍ واحدة
كانت عائشة تتشبث بقيثارة حينها وهي تهوى باكية...
ربتت قيثارة على ظهرها، ثم لمتها في أحضانها!!!!
نبذتها عائشة وهي تصيح كما المجنونة " قلت لكِ تحركي، تبلدكِ الآن لن أغفره لكِ"....
ردت عليها قيثارة هامسة حينها باعتداد وأنفة متأصلين فيها على امتداد عمرها
" أنا امرأة ضريرة يا صديقتي!!!!"
هزت عائشة رأسها نافية وهي تُبْعِد رأسها عنها لتتواصل مع أحداقها الميتة " ولكنكِ لستِ عاجزة يا قيثارة، لا تتحاذقي عليّ، أنتِ هي قيثارة القادرة على كل شيء"...
تخاذلت قيثارة عن الجدال معها وعقبت باقتضاب وفتور " سأبذل أقصى وسعي!!!!"
___________________________
*زبرجدة*
متى صارت دماء هذا الغريب عنها... ذلك الذي ذاد عنها ببسالة مغطية ليدها، متى صارت خطوطا تجري لطخات على ثوبها... تفرست في ملامحه لوهلة واجمة غير قادرة على إصدار أية رد فعل ولا حتى الصراخ والعويل...
هو سلمان!!!!!
ذلك المراهق الذي أنقذها يوما من براثن ذئب تشتبه زبرجدة أن قيثارة دفعته يوما في طريقها لتزيحها من الحياة بأسرها...
لكم تبدلت سحنته، صارت صلبة وقوية لا تهزها الرياح العاتية
لمَ لا تتقلص ملامحه أنينا؟؟؟
لمَ لا يصرخ من فرط الوجع الثخين الذي يداهمه؟؟؟
لمَ فقط يرمقها هكذا وكأنه مستسلم لدنو حتفه وراضي بما وقع له لأنها قريبة منه أخيرا....
وتُمْسِك برأسه بين يديها
وتغدقة برمقة أم جزعة على مصاب ولدها الوحيد....
تقَبَّض محياها وهي تخبره بتمتمة مريرة وتلوح برأسها نافية " لا أستحق، أنا لا آبه للموت، أنا لا أستحق، أنت مجذوب!!!، انغرزت سكاكين في جسدي مرارا ولم أموت، هشموا جمجمتي ولم أُسْعِدهم بلقائي حتفي، أنا لن أموت وأريحهم، أنا الشوكة المحشورة في حلوقهم، أنت مجذوب، أنا أشفق عليك، أنتَ تعيش أوهام تفضي بأني زوجتك، أنا معطوبة من الداخل، أنا لست زبرجدة الحلم الذي يراود كل شباب القرية، ذلك كان تمثيل، زبرجدة الحقيقة فأرة جبانة وغبية!!!.... فأرة جبانة وغبية"... انتابتها وصلة سعال مباغتة ومدت يدها لتخفي لهاث أنفاسها وحينما أبعدتها أبصرت لطخة دم علقت بيدها... لقد سعلت دما جاريا!!!!
كانت تحتضنه بجسدها وكل ما بها واجف، غير مدركة لما يحدث حقا!!!، تسكن ملكوت غير الملكوت....
شعرت بإنمله يتسلل ليمسح دمعها، وبدا مرتعبا من خيط دم سال من زاوية شفتها....
سألها مناوشا ليفرج عنها كربها" أنتِ تشاطريني النزيف؟؟"
ما وقع لسلمان تسبب في بلبلة عاصفة، ساد الهرج والمرج، البعض يطارد الملثم، البعض ساهِم وعلى رأسه الطير، آخرون يصرخوا في زبرجدة الغير واعية لما يجري من حولها لتتخلى عن تشبثها به ليتمكنوا من نقله للمشفى في الحال...
كانت زبرجدة تهدهده وكأنه طفلها غير مستوعبة لمَ تصرخ تلك الحشود في وجهها، منصور من فكَّ قبضتها من على زوجها، وهدر فيها لتكف عن ممارسة طقوس الجنون التي تبسط نفوذها عليها كلما وقعت لها مصيبة!!!!
حمله منصور ورجلين آخرين وهرولوا به للمشفى، خلو البقعة منه أثار انتباهها نهضت واقفة تحملق في الوجوه التي تحدق بها، ثم انفجرت ضاحكة وكأنها حقا مجنونة وعيونها تبرق بوهج الخبل وهي تُخْرِج لهم لسانها، وترتقي بحواجبها صعودا وهبوطا، وتؤدي حركات أخرى متقنة بوجهها وأكتافها....
ثم وكأنها لاحظت أخيرا، ندَّت عنها صرخة التياع.... وارتحلت في إثر من حملوا سلمان
كانت تمثل دورها بحرفية عالية، لقد أتقنت أدوار عدة طول عمرها، ستنتشر شائعة جنونها في القرية كما النار في الهشيم، وحينها سيشفق عليها القريون الساذجون، وسيتخلوا عن فكرة قتلها، ووقتها ستتمكن من إيجاد بصيص لتفر هي وتوت من مصر بأسرها!!!!
وماذا عن سلمان؟؟؟
حسنا هي لا تتذكره
وهو ليس أول رجل يضحي بحياته لأجلها!!!!
هو لا يفوق محمود في شيء لكي تشعر بالامتنان العميق نحوه!!!!
ولكن دمائه التي جرت على يديها، لقد أنقذ حياتها موقنا أن في هذا منتهاه، محمود كان يعلب ويلهو ولكن اللعبة انقلبت حقيقة وأبادته، لو كان بيد محمود الاختيار حقا لما اجتبى حياتها!!!!
لتواجه حقيقة ما يعتريها، هي مشتتة الذهن لا تستوعب زواجها بدون علمها!!!، لا تتذكر سلمان هذا مطلقا، ولكن نظرات عيونه تشي بأنه مغرم بها، قلبها قصف بقوة من هول ما أصابه لكن طبيعتها البليدة دفعتها لتكون مسترخية وغير مبالية!!!!، هي تَسِر له مشاعر حب صادقة؟؟؟!!!!، هناك ما يدفعها للهرب من تلك الأحاسيس التي تعتمل فيها، لو لديها فقدان جزئي في الذاكرة فعلا فهذا يفسر نسيانها له، بعد تهشيم شكري لجمجمتها تبددت شهور من عمر ذكرياتها، آخر شهرين قبل وقوع حادثها الدامي ضبابيان في عقلها، لو كانت تلك هي الحقيقة فهي كانت متزوجة بسلمان بتتمة رضاها، ولمَ ترهق نفسها بالأفكار التي تتزاحم على عقلها، لتسأل منصور، الذي شمر عن ساعده واندست ابرة في وريده لتجلب دما يبث به الحياة لرفيقه
ازدردت ريقها وسألته وهي تثقبه بنظرات لا تختلف عن خاصة توت حينما تكون كما الجلمود
" هل كنتْ موجودة أثناء هذا العقد يا منصور؟؟"
أطلت رمقة مزدرية من عمق عيون منصور لها، وأجابها باحتقار فياض
" لن تَطْلِي عليّ دور الفاقدة لذاكرتها، لا تكترثي لمصاب زوجك، وكل ما يهمك هو إيهامي بشيء غير حقيقي، مازلتِ لئيمة يا ابنة شمس التبريزي، ذلك وجه توت البغيض يحدق بي، هل سحرت لكِ تلك المرأة لتحيلك متحجرة الأحاسيس؟؟"
ضغطت على أسنانها وهي تخبره بصرامة... وبفم شَموس
" لا تهين توت، لم تلحق بكم ضير لتصير مادة لتقولاتكم"....
جابهها منصور متساءلا " لمَ فقط تحبي تلك اللئيمة؟؟.... تلك المرأة تستغلك ولم تَكِن لكِ محبة صادقة البتة"
صرَّت أعمار زبرجدة على أسنانها وأطلقت الحقيقة أخيرا على لسانها
" تلك جدتي!!!!!... أم والدتي، إياك أن ترشق توت بما أرتأيه سبة، قد أقتلكَ حينها يا منصور، يكفيها ما اجترته من عذاب، يكفيها ما لحق بها من عطب روحي لا يزول"...
بدا منصور ذاهلا مما تقوله زبرجدة، وتدلى فكه السفلي وهو يحملق بها
كان صالح يشعر بثقل رأسه، فتركها تترنح على رقبته، كان راكن للجدار بجوار غرفة العمليات التي تحوي سلمان، يبتهل لله نجاته، وأفلتت نظرة منه غير مقصودة أبدا نحو الحجرة التي يتبرع فيها منصور بدمه، تملى في وجه زبرجدة، لم تبدو متألمة لمصاب صديقه من جرائها، جرح خام مفتوح في قلب صديقه بسبب تلك المنعدمة الشعور، تقلص محياه اشمئزازا من تلك الجلفة الباردة....
كان اهتمام زبرجدة منصبا على توت، لازمتها وكانت كما ظلها، تعتني بها، وتتسامر معها، وتدفع بالبسمة لتعتلي وجهها، غضت الطرف عن كون سلمان يجري جراحة خطيرة في مكان غير مجهز لمثل تلك العمليات، لم تعد تود التفكير فيه، لتقصيه من الخواطر التي تتسابق على ذهنها!!!!!
الألم الذي يستشري فيها من جراء إمكانية لفظه لأنفاسه ساحق وخام
ولكنها ينبغي أن تفر من تلك القرية لتستطيع استئناف حياتها
هو لن يكون القيد الذي يربطها ببلدها!!!!
صحيح أنها أخبرت السلطانة بفحوى أنها ستقبع في قريتها حتى تفيض أنفاسها
ولكنه كان قرار عفوي وتلقائي لم تتمعن التفكير فيه، ولم تدرسه من كافة نواحيه
حياتها ليست هنا أبدا
حينما سألتها توت كيف جابهتهم، أخبرتها زبرجدة بحقيقة ما حدث، وقطبت جبينها وسألتها " أكنتِ تعرفي بزواجي به؟!!!، لم توردي لي ذكر أبدا عن هذا الأمر!!!"...
غشي الارتباك لوهلة عينيها ثم سرعان ما استحالتا متنمرتين وبرغم الإعياء المستشري بها علقت بصلابة وهي تصر على أسنانها " تلك الوثيقة مزورة!!!... لا تنساقي وراء تلك الضلالات، لا أدري دافع سلمان هذا من جراء هذا التلفيق"...
سرحت زبرجدة بتفكيرها وتمتمت " ربما!!!"
وصول والدة سلمان صاحبه صراخ وعويل.... ثم ساد السكون لوهلة قبل أن تقتحم والدته الغرفة التي تحويها هي وتوت كما العاصفة الهوجاء... أطلَّ البغض شررا من أحداقها، والتهمت الخطوات التي تعزلها عنها، ورفعت جسدها الجاثي بجوار سرير توت، وتشابكت معها بصريا وهي تقول لها من بين أضراسها " لعنة الله عليكِ يا خبيثة"...
ورمتها ببصقة بللت وجهها...
قبل أن تقذفها ليرتطم جسدها بالجدار، وتغادر الحجرة وهي تُطلق سيل شتائم نابية...
استرعى انتباه السيدة أسماء والدة سلمان ما تتفوه به من سبات متوالية، فالتزمت الصمت، واغروقت عيونها بطبقة دمع كثيفة، انزلقت حول زوايا شفتيها خطوطا جارية، بسبب تلك البغيضة ها هي تركز على شيء آخر غير مصاب وليدها!!!.... تكيل السباب للعينة، وتنسى الابتهال لربها الرأفة بولدها، كيف يستجيب الله لها الآن بعدما أفرغت حقدا وتوغلت البغضاء فيها!!!!
كانت تخفي رأسها في جدار الرواق، مطأطئة الهامة، وتجهش في البكاء بصوتٍ مكتوم....
____________________
أجرت انجيلا إنعاش قلبي رئوي محترف لجدها، منحته قبلة الحياة، وبغتة سعل وولج لدنيا الورى، كانت امورة تنتفض هلعا، وتصطك أسنانها ببعضها، وتنكمش على ذاتها دعمها أبوها بلملمتها في أحضانه الواسعة...
تلاقت عيون انجيلا وعليّ لبرهة مطولة سألها فيها كيف تكون بذلك التمرس في فنون الإسعافات المبدئية...
كان ممتنا لها إنقاذها لجده، وغير مستوعب كيف تستحيل عيونها بريئة وطاهرة بعدما تمرغت في الوحول وانزلقت في المجون
لم تكترث انجيلا له، وأحادت ببصرها عنه، وارتمت في حضن جدها، وسألته عن المعول وراء ما دهاه!!!...
تملص العجوز منها وأبعدها برفق عن أحضانه، وأطلق شعاع بصره صوب النافذة الجانبية وتساءل بتململ " متى سنصل للقرية؟؟.... التهموا الطريق في الحال".... حثهم وهو شارد فيما يمكن أن يكون وقع لحفيدته زبرجدة!!!!!.....
___________________
*نور الجبالي*
القاهرة
لا يروقها حال وليد، هي تستهجن نمط الحياة الذي ينغمس فيه، انحلال... وجرعات من المخدرات، صبرها عيل، واحتمالها نضب...
ما يثلج صدرها قليلا هو أن وليدها لم يصل مرحلة الإدمان بعد، والتوى ثغرها تهكما مريرا بالنسبة للمخدرات فحسب يا نور، أما منوال حياته العفن فقد طغى على كافة أوقاته!!!!
أنجز دراسته بتفوق... نعم، كان مخول باقتدار لتقلد زمام الأمور مع أخيه، ليرفعا الثقل عن كاهل والدهما وزوجها الحبيب، ولكنه بغتة تبدل، وصار لايبالي لشيء، صار عابثا بكفاءة وتمرس، يجب أن تنتزعه من الوحلة التي يُغْرِق نفسه فيها....
صلاح الشاب بالزواج، أجل ستنتقي له فتاة ليس على سمعتها لغط لتنتشله من وهدة الضياع...
قلَّبَت صور البنات التي تعرفهم في ذكرياتها، ثناء... مغترة وكما الطاووس المنفوش لا ترى أبعد من أنفها، سهام.... ضحلة الجمال لن تلفت انتباهه وتتمكن من السيطرة عليه وخصوصا وهي مهتزة الشخصية ضعيفة الأركان، أميرة... فائقة الذكاء ووجهها يومض حُسنا وبهاء، ولكنها خُطِبَت قريبا....
توقف عقلها بغتة على صورة سلام السلحدار، فتاة تنحدر من سلالة عريقة، وجهها كما البدر في ليلة تمامه، عيونها بركتان من العسل المصفى، أنهت دراستها قريبا، فتاة جدية لا تخالط الشباب، برغم عشقها لرحلات السفاري إلا أنها علمت من أحد الشباب الذي كان مرافقا لابنها وليد حينما كان صالحا، أنها الوحيدة التي تعتزل الصبية في تلك التجمعات....
مزدانة انتقلت هي وولديها منذ بضعة سنوات، يمكثون الآن بعيدا عنهم، لقد كانوا في زمن مضى جيران، رغم أن علاقتها بمزدانة انقطعت بمرور الأعوام إلا أنها تتصورها سترحب جدا لو تقدمت خاطبة ابنتها لولدها... المهم أن تقنعه هو أولا....
لا.. المهم أن تُكَوِّن جبهة قوية ضده.... ينبغي أن يساندها زوجها فيما تنتويه.... هو دوما يستخف بأفكارها ولكن عليه أن يعضدها الآن...
_______________________
تعاقبت ليالي وأيام، وانطوى من صفحة الدهر أسبوعان....
تماثلت توت للشفاء، وخرجت من المشفى ترافقها زبرجدة، بردت النيران في قلوب أهالي البلد نحو زبرجدة، فلقد أشفقوا عليها بعدما أصابها الشطط من جراء ما وقع لزوجها، داومت على زيارة سلمان يوميا، ولكن أمه حجبته عنها وسكرت الأبواب في وجهها، وعينت حراسا ليحجموها عن المروق له حينما تكون غير متواجدة، لم تكن زبرجدة تعكف على الذهاب له غراما مشبوبا به، هذا جزء مما تنتويه!!!!
يجب أن يطمئن الجميع من ناحيتها!!!!
هي تتبادل مع السلطانة أحاديث عبر الهاتف الخلوي يوميا، ولقد خططتا سويا كل شيء لتتمكن من تولية الأدبار هي وتوت عن قريب...
______________________________
الجد عليّ اطمأن باله على زبرجدة وبدون أن يُقَدِّم تنازلا واحدا.... وهذا أبهجه حتى النخاع...
______________________________________
كانت ريح الخزامي امرأة ماكرة، وتتمتع بكهن فطري خام، لقد وضعت نصب عيونها إعادة شمل علي وملك من جديد، لقد سلطت عليهم مخططاتها، استخدمت امورة كيوبيد حب بينهما، ولم تكن ريح الخزامي لتُخْفِق عن تحقيق ما تبتغيه، فهي المرأة التي تجمع في يدها خيوط كل الألاعيب....
خرجت من محياها ابتسامة ظفر وهي تسند رأسها على وسادتها وتتذكر مقتطفات مما فعلته لتعيد الوصال وتُرْأِب صدع العلاقة بين علي وملك....
الغيرة هي ملح الحب!!!!!
وريح الخزامي تفقه هذا الأمر جيدا جدا
ما وقع للجد علي جعل أولاده يتسارعوا من كافة بقاع المحروسة ليقبلوا أياديه وليتمنوا له طوال العمر، محمد وزوجته نور قدما مع وليد، وعيسى وامرأته وابنه المغتر هرولا فالتزلف من الجد يضمن لهم إرثا مديد...
كان سامي ابن عيسى شاب عابث فارع الطول عريض المنكبين....
كان معجب على الدوام بفتنة – ملك- ابنة عمه المرحوم...
فقط ريح الخزامي انتبهت لهذا، فتعمدت إرسال ملك لتقتطف لها الزهور من الحديقة مع استهلالة العصر، ادعت أنها تريد باقة مرتبة متناسقة لتضعها بجوار مرقد أخيها، لتبعث أريجا ناعما في خياشيمه...
ثم أخبرت سامي بموضع ملك، وأشارت وكأنها تتفوه بعفوية بأنها وحدها تقتطف الأزهار، استغل سامي نهزة تواجدها بمفردها وارتحل فورا في إثرها
وحينما أقبل عليها عليّ، قالت له وهي مغضنة المحيا أسى واغتماما، أن سامي سيلهو بملك، هو ليس شاب جدي، وهو دائب الالتصاق بها منذ أن قدم إلى هنا... وها هو الآن يطاردها وهي تجمع البتلات لجدها في الحديقة غير مكترث بأن يتخذ الناس سيرتها منهش!!!!
تضرج وجه علي بدماء الغضب، ونفرت عروق رقبته احتقانا.... وهرول ليرى ما تفعله السيدة ملك مع ابن عمه الرقيع....
حسنا ريح الخزامي لا تعرف ما وقع بالضبط لكن ملك آبت راكضة للداخل بعد وقت قليل وفي يدها بقايا عروق لأزهار اقتطفتها ولكنها سقطت منها في الطريق، بدت على وشك الانفطار باكية، وتود فقط الوصول في أسرع وقت لسريرها لتنهار عليه....
عليّ هذا أحمق وفاشل كبير.. كما أنه أعمى البصيرة تماما مثل العين... هكذا طرقت الأفكار ريح الخزامي...
وعقدت ريح الخزامي تحالف مع امورة، ليلما الشمل من جديد، كانت تلقن أمورة ما الذي ستتفوه به، وما الذي ستقوم به بالحذافير!!!!!
هال علي دلوفه لغرفة ابنته فإبصار الدموع منهملة من أحداقها في سكونٍ مطبق، كانت الصغيرة مفترشة أريكة ملاصقة للجدار الذي يحوي نافذة مشرعة، كانت امورة تمثل باقتدار دور الشاردة التي تطل أنظارها على الحديقة بدون أن تُبْصِر أدنى شيء...
دنا منها بدون أن يُحْدِث جلبة وانحنى ليطبع قبلة حانية على وجنتها المكتنزة...
واستوى جالسا بجوارها وهو يلتقط أناملها ليُغْرِقها في بحور يده!!!!
وسألها وهو يكفكف دمعها " لمَ البكاء يا أمورتي؟؟"
أحنت الصغيرة هامتها وقالت والأنفاس تغص في حلقها " ماما ستتزوج عن قريب كما عادتها، وستلج لعدم الاكتراث بي مرة أخرى، وسأعود مهملة من قبلها كما كنت دوما، سامي هذا أنا أمقته"....
ورفعت امورة وجهها لأبيها وعلقت بحقد مستطير " هو يلاحق أمي وسينتزعها مني، وأنت... أنت لا تحفل بهذا، ستدع أمي تتسرب من بين يديّ، أنت أيضا تتزوج كثيرا جدا وتُحْضِر دوما نساء غريبات بغيضات، ليتحكمون بي"...
كان اتهامها لأبيها يَخِز فيه، ولكن أمورة لم تأخذها به شفقة، وقررت متابعة ما تبتغيه
تلونت لهجتها بغتة بالتضرع وهي تجثو على ركبتيها بجواره وتتشبث بيديه
" لا تدع ماما تتخلى عني من جديد، أنا متعلقة بها جدا الآن، لو كنتما أنتما الاثنان لا تقدران على استئناف الحياة بدون زواج، فلمَ لا تؤوبا لبعضكما؟؟"
واستطردت امورة " ماما تتحدث دوما عنكَ بكل خير، وتمدحك وتشيد بك، لأجلي بابا، لأجل امورة، أرجوك لا تجعلها تُحْضِر لي زوج بغيض، سأضع له السم في الطعام حينها، وسأدلف الإصلاحية، وستكونا أنتما المسئولين، عن كوني خلف أسوار السجون ممتهنة ومنفية!!!!"
كانت أمورة تهدد والدها بإصبع نافر من قبضة مضمومة توجهها له... ثم انهارت على ركبتيه مجهشة في النحيب...
في تلك الليلة تقلب على الفراش بدون أن يغمض له جفن
كان الفجر يوشك أن ينفلت ليعم الكون ببزوغ الضياء...
قضى ليلته في أرق، لقد اقترن بنساء مطلقات وأرامل صحيح، وتحمل لهيب الغيرة التي تستعر فيه من تصورهن مع رجال قبله، ولكن ملك وضع خاص جدا!!!!، هو لن يحتمل.... لن يحتمل مطلقا ما سيعانيه منها... ومعها، ذلك عذاب يفوق قدراته كلها... حك جبينه، ومزق وجهه مرورا بربريا عليه... والحل يا عليّ... هو يعرف ملك جيدا، لو لم يكن سامي المرشح ليكون عريسها الأخير، لن ينصرم شهر قبل أن تكون متعلقة بإبط زوجها الجديد...
وله في العمر أمنية، لو تكون ملك مملوكة حصرية له هو، لو تكون نظراتها صافية كما كانت عند صغرها، لو لم تتلوث وتصير باغية!!!!
ضاقت الحجرة به فقرر مغادرتها ليفتش عن براح يريحه مما يعانيه، صعد لسطح القصر المزين بأصص الزهور الناعمة، تأمل في صوت البلبل الصداح الذي يتبادل الترانيم مع الكروان المغرد، وهلَّت عليه نسمات الفجر الحالمة لتزيح كافة الأثقال التي تجثم على عاتقه، وهو يهبط الدرج عائدا لمخدعه، لمح سامي يخرج مضطربا من حجرة ملك، تداخل معه بصريا، وتوقدت عيونه شررا مستطيرا حينها، ألغى المسافة التي تعزله عنه، وهدر فيه من بين أضراسه وهو يحكم قبضة فولاذية عليه " ما الذي كنت تفعله يا خسيس؟؟... في بيت جدنا ومع من؟!!!.. مع مطلقة ابن عمك، وابنة عمك كذلك، ألا تستحي البتة؟؟... سأحيلك بركة دم تحت أقدامي كي تكون عظة وعبرة لمن تسول له نفسه التعدي على مقتنيات الغير!!!"
برغم أنا سامي مفتول العضلات، يقضي أوقات جمة في صالات كمال الأجسام، إلا أن ردة فعل عليّ على ما ارتآه ألقت الروع في نفسه، حاول التملص منه بدون جدوى، فقال ما حسب أنه سينجيه " هي من دعتني، عيونها دعوة، ضحكاتها دعوة، غمزاتها دعوة، كل ما بها دعوة، وأنا فقط لبيت الدعوة"...
واستطرد بصوت كما الفحيح وهو يكور شفاهه تهكما لاذعا " ومقتنيات الغير؟!!.... أرجوك يا عليّ، أتقصد أن ملك من مقتنياتك أنت، ملك تلك مملوكة للجميع، وكلنا نعي ذلك منذ أمد بعيد"....
أحلَّ علي وثاقه بعدما قذفه ببصقة لطخت وجهه، هو محق فيما تفوه به، وكانت الأنفاس تتصاعد في صدر المتعاركين، وكانت ملك ترهف السمع لما يجري في الرواق من خلف الباب لم ترد المجابهة، ليتعفن كلتا عليّ وسامي في الجحيم، لقد ضجرت منهما هما الاثنين، واكتفت منهما لأبد الآبدين...
ولكن عليّ أجفلها بشرعه الباب عليها...
تقهقرت للخلف خوفا من الشر الذي يقدح من نواظره...
قالت بتحشرج وهي تحرك رأسها بهزات انفعالية وتشوح بيديها " لا يحق لك الدلوف لهنا"...
تقوس فمه ساخرا منها، وانفرج محياه عن ابتسامة متهكمة وعقب بنعومة خطرة وهو يغلق الباب بقدمه " فقط أنا من لا يحق لي الدلوف لهنا، ولكن كل الكلاب الذين ينهشون فيكِ على الرحب والسعة متى ما أرادوا"....
تعثر لسانها في الكلام من فرط خوفها منه.... هي لم ترتكب شيئا شائنا ولكنها مرتبكة حاليا فخرج صوتها متلعثما مهتز " لقد طردته والرب شاهد على ما أقول، لم أُمَكِّنَه مني"
وازدردت ريقها بعناء وتابعت كي تهدئ وتيرة انفعاله " لا تكن غاضبا هكذا، شرف أم ابنتك محفوظ"...
انحنى ثغره متهكما وعقب " عن أي محفوظ تتحدثين؟!!!، ضبطكِ في وضح النهار معه وهو يحيط خصركِ من الخلف بتملك وشغف، في وضح النهار.... وفي قرية معتدة بالتقاليد... ألا تخشين فتك أهل القرية بكِ؟؟... ألا تستحين؟؟"
عيونه الغاضبة استحالت جمر بركاني أسود مخيف وهو يردف " سآخذ ما تمنحيه للجميع"...
صوتها تلاشى في حلقها رمادا متطايرا، فقط عيونها توسعت ووقف كل شعر جسدها وشحبت كل خلية في بدنها، وصارت متيبسة تماما غير مدركة كيفية التصرف السليم، لقد كان الصديقي يُبعد عنها أي أذى يحيكه لها الغير، ثم حينما التحقت بالكهنوت كانت الراهبات رفيقاتها كما الملائكة في نقاء القلب وطهره... قلما تعاملت مع معتدي أو منتهك عرض... صراحة لمرة واحدة منقضية لاقت مثل هذا الابتلاء العظيم!!!!
مع إحكام قبضته عليها شرع الجد الباب ووقف مصعوق يتطلع نحوهما بشده ووجوم...
تصلب جسد الجد عليّ لوهلة، إلا أنه سرعان ما تمالك نفسه، أغلق المسافة بينه وبين حفيده وسدد له لكمات متلاحقة وهو يرعد فيه بأقصى عزيمته
" يا معرة الرجال... تحاول الاعتداء على حفيدتي في عقر داري.... عاففتها وطلقتها فلمَ تدلف كما اللص لحجرتها الآن... شرفكَ منبثق من شرفها يا جرذ.... هي أم ابنتك وابنة عمك وحفيدتي أنا.... إياك أن أراك قربها مجددا.... سأفجر نافورة دم من قلبكَ حينها"....
ربتت ريح الخزامي على كتف شقيقها وقالت له وهي آسفة على حال حفيد أخيها الذي ارتضى لابنه عمه الاعتداء والامتهان
"كلنا نخطئ يا عليّ، وكل خطأ له تصحيح، لا أشاركك الرأي بأنهما يجب أن يبتعدا عن بعضهما، شرف البنت مثل عود الكبريت، وباقتحام عليّ الصغير لخلوة ملك قد هتك جزءً من عرضها حتى ولو لم ينل ظفرا منها، سنعيد لم الشمل لأجل امورة، وسيبذل مبلغا ضخم كمهر، وسيجلب لها أغلى شبكة على وجه الأرض، وسيكون مؤخر صداقها كل ما يملك، هذا هو العقاب الذي يستحقه، أما ملك فبزواجها منه سَتُخْرِج كل ما فعله معها الآن عليه... هذا هو قصاصها العادل منه!!!"
احتجت انجيلا حينها " أنا أعترض، لا أرضى به"....
نهرها جدها " كلام أختي دوما سديد، التزمي السكون يا ملك، لمَ لم توصدي الباب عليكِ؟؟.... أنت السبب فيما نعانيه الآن..."
اعتصرت انجيلا بيديها شقي منامتها وتمتمت بعتب ولوم لجدها " ترتاب في يا جدي؟!!!!"
هز الجد رأسه وقال وهو يحاول طمر ما يجيش فيه " لا تبكي يا ابنة الغالي، ولكن نمط حياتكِ أنتِ وعليّ لا يروقني، ابنتكما ستنتج من خضم كل هذا معقدة... بدون هوية.... وبدون بيت.... لأجلها تصالحا حبا بالله فكرا بشأنها ولو قليل".....
الضجيج الذي انبثق فجأة في البيت أوقظ كافة العيون.... منها من تبع منبع الجلبة ليشهد ما يجري.... ومنها من اكتفى باستراق السمع في محله...
امورة ركضت طبعا بطبيعتها الفضولية لموضع الجلبة وتدخلت مع قول الجد عليّ وهي تتوسل انجيلا وعلي وتنقل بصرها فيما بينهما وهي متشبثة بلباس من تظنها أمها
" أرجوكم أنصتا لأقوال جدي، أنا فعلا معقدة... وبدون هوية... وبدون بيت... تصالحا حبا بالله لأجلي... أنا لم أؤذيكما في شيء... سأكون طيبة جدا وسأكف عن كوني كثيرة الشكوى مطردة الطلبات، أنتما غايتي الوحيدة، أنا سأكون تلميذة مجتهدة، سأرفع هامتكما لتشق أجواز الفضاء، لن أتذمر من نسيانكم جلب الشوكولا لي يوميا، لن أغالي في رغباتي بأن أَلِف كل عام عدة بقاع من الكرة الأرضية، أنا فتاة طيبة... قنوعة جدا... لا أريد شيء من الدنيا إلا أن تكونا معي بدون حوائل ولا عراقيل.... بابا... انظر ماما أجمل بكثير من كل نسائك الأخريات، ماما... تطلعي نحو بابا هو أوسم رجال الأرض وهو دفقة حنان ومحبة تسير على الأرض"
وناشدتهما استغاثة نابعة من قلبها " لا تكونا هكذا متناحرين.... أنصتا مرة لي أنا.... تصغيان لصوت عقلكما منذ سنين، وهذا هدم استقراري أنا، كل زميلاتي في المدرسة يغيظوني لأنهم يمتلكون أسرة مترابطة أما أنا فلا أملك أدنى شيء"...
تمَّ عقد القران وكان صوت امورة هو آخر صوت يتكلم في تلك الحجرة...
أحضرت ريح الخزامي لانجيلا فستانا زاهيا كي تمثل به أمام المأذون، وحينما سألتها وهي مقطبة الجبين " متى ابتعتيه أو هل كان مملوكا لأحد من قبل؟"
غمزت لها ريح الخزامي وهي توكزها بمرفقها " فقط تمتعي به"
فأشاحت انجيلا عنها متبرمة مما تقول، ولكن ذائقة ريح الخزامي عالية جدا، جسدها كان منحوت من خلال ثنايا الفستان الليلكي الناعم الذي جلبته لها....
ابتسمت ريح الخزامي عن شدقيها الآن قبل أن تستعد للغط في السبات، وكانت آخر فكرة تطرق بالها، لقد ابتاعت هذا الثوب منذ وضعت الخطة مع امورة، إنها ريح الخزامي الواثقة من نفسها جدا، تحظى بكل ما تبتغي من الحياة، لم يخونها التوفيق سوى لمرة واحدة، وانسلت دمعة من أحداقها فأوصدت عيونها بالإجبار وارتحلت في عالم الأحلام المعتمة...
علي سافر ليلتحق بأعماله، وملك لا تلبث هنا، وكأنه لا تود الانضمام إليه....
عموما لا يفر أحد من قدره لأبد الدهر مهما حاول
______________________________________
*سلمان*
ولنا في العمر أمنية
أن يبادلنا من نهوى حبنا
ألا يستخف حبيبنا بجرحنا
أن يمر العمر بنا وهو يرعانا ويحيطنا
لم يثق صالح لوهلة بأعمار زبرجدة، لم يصدق تفانيها في زيارة سلمان يوميا وذرفها الدموع الغزيرة لأن الخالة أسماء تحجمها عن لقياه...
وضع عليها عينا تخبره بتحركاتها وسكناتها....
وفي اليوم المنشود
خرجت أعمار زبرجدة مع جدتها توت في غفلة عن أحداق البلدة.... كان قرص الشمس لم يبزغ بعد
رجال السلطانة ينتظرونها عند مدخل البلدة من على الطريق السريع....
تسيران بحذر وحرص شديدين!!!!
وبغتة وكأن الأرض انشقت وأخرجتهم....
ارتفع صوت من خلفها " عودي أدراجك يا زبرجدة، والزمي بيت زوجك حتى نبِت في أمرك!!!!!"
استدارت زبرجدة بحدة وتلاقت عيونها مع خاصتي سلمان الذي كان خائب الأمل فيها جدا.... ومحبطا في الصميم، كان هو من تفوه بتلك الجملة المنصرمة.... لقد أفضى له صالح بأن زبرجدة قد جهزت عدتها للفرار وهي الآن منطلقة صوب مكان لا يعلمه سوى الإله....
جملة واحدة صدرت من زبرجدة ونحرته في الصميم
قالت وهي تكز على أسنانها والنقمة تشع وهجا حارقا من عيونها
" لمَ دبت فيكَ الحياة من جديد يا لعين؟؟"
|