كاتب الموضوع :
بنت أرض الكنانه
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: حمامة الأرباش البارت الثاني من الفصل الثامن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هو مهدى لاطلالة توليب المرج ونسائم عشق
وكل الشكر والتحية لعرابتي الروحية ميمي
اتمنى يفك شيء من الغموض اميرتي
حاولت انهائه وفشلت البطارية خلصت شحن فعلا
متى سنلتقي ثانية فعلا اتمنى قريبا
ملحوظة لم اراجعه ابدا
التاسع (البارت الاول)
وعدٌ قطعته لكِ
سلمان
أشتاق إليكِ وهذا ليس ذنبي
هذا ذنبكِ أنتِ
أطعمتيني الحب بيديك وغرزتِ خنجر الغدر في ظهري
تغيبين عني ويملأ طيفكِ المكان
تغيبين عني فلا أنسى ولو لبراضةٍ ما كان
يا ظبية البرايا يا أحلى ما خلق رب الأكوان
يا بدرا على الأرضِ يمشي وينشر الإنارة في ربوع الأزمان
على متن شموسِ عيونكِ أسافر عبر الأيام
لأستخلص من الدنيا انفراجة ثغركِ الفتان
المحفوف بالدررِ
والمحاطِ بكرزٍ من الجنان
كل العمر يبدأ من إشراقة مقلتيكِ
وينتهي ببسمة خرجت من وجهكِ موصومة بالعبقِ والجمال
أيامٌ كظل الأسى عبرت عمري في بعادك
فلم تُخْمِد لهيب الشوق ولم ترفع نعش الهوى برغم كل ما كان
ولو مت من داء الصبابة فذلك يسير في سبيل عشقنا الذي عليكِ هان
مسيرة دهر تحت وطأة القيظ المحتر لا تجفف ينبوعَ عشقكِ الذي يتفجر في شراييني
ولا تبدد تعويذة سحركِ التي استقرت في دواخيلي
ريح الحبور ترفرف من حولي حينما تطالعني نظرتك وكأني سقت السحائب إليكِ وصببت بهجة القمر في جوانحك وسطرت حروف الهناء في قلبكِ بمدادٍ من سناء
يا ذات العيون الصاحية... الممطرة..... يا ذات العيون التي تحاكي لآلئ الكهرمان
يا من تلتصق مياسم الشمس بوجنتيها
يا دبيب دم الحياة إلى عروقي
يا حبيبة العمر ويا قساوة الذكريات
لو تلجين لي وفية لعهدنا
لو تطيرين لي سنونوة أهلكها البَيْن والبعاد
لو تتخذيني مرفأكِ لغفرت للدنيا قحطها معي
فيكفيني أن ينقضي عمري محملقا في حدائق عينيكِ
حفرة عميقة مخيم الموت عليها أسكن فيها فمتى منها تنتشليني
وترديني مرة أخرى للحياة؟!!!!!
اقتحمها بصريا وكرر كلماتها " يجب أن تعيشي لتبري بوعد قطعتيه على نفسكِ في زمن سحيق؟!!.... ولمَ دبت الحياة في جسد زوجكِ المغفل من جديد؟!!!..."....
واستطرد وهو يهز رأسه يمنتا ويسارا ويرفع حاجبيه " لا أحسبكِ بارة بعهد يا أعمار، ولا أظنكِ تستحقين الراحة بعد كل ما تكبدته على يديكِ من ذلة وشقاء، ولو كنتِ فعلا لا تذكرين عني شيئا مثلما تدعين، فأنتِ لن تتحصلي على ما وقع بيننا في زمنٍ فات... على الأقل مني أنا، حذرتيني منكِ يوما.... وصفتِ نفسكِ بلحنٍ لم ولن يُعْزَف لي"....
افتر ثغره عن ابتسامة مريرة باهتة وأردف " كنتِ صادقة، مع تعديل بسيط أنتِ لستِ لحنا أنتِ نعيق.... لن تستدري شفقتي بنعتكِ للسجانين بناهشي اللحوم وبالطامعين بجسدكِ، أنتِ لم تكوني يوما غزال دوما كنتِ حرباء، لن تحظي بفرصة البدء من جديد مطلقا فما اقترفتيه مازال صارخا في أعماقي من فرط الخداع والكذبِ الكثير، فقط سأخبركَ بهذا لم يكن زواجنا ورقيا، كنتِ زوجتي بكل ما تحمله الكلمة من معنى!!!!، لربما لهذا لن أتفهمكَ يوما ولن أغفر لكِ البتة، دوما كنتِ تكرهين الظلام والقضبان.... أنتِ أخبرتيني بهذا لذا فمهما زعمتِ بلادة شعوركِ تجاههما، أنا موقن من أن ذلك المكان الذي تقطنيه الآن سيُميتك ببطء شديد وهذا هو جزائكِ العادل، أن تتبدد منكِ الأنفاس رويدا رويدا، سرعة الإجهاز عليكِ لا تحقق مأربي!!!!"
تراجعت أعمار برأسها وأفصحت بملامح متحجرة " ظننتكَ ستلين مع تمثيلي المتقن عليك"...
شخصت ببصرها وتابعت وهي تطلق نفخة تزيح خصلة متمردة تهدلت على وجهها " حسنا أخفقت تلك المرة، دوما كنتُ سديدة الرأي في الآخرين، ظننتكَ أبله يا سلمان ولكن لا بأس، سأحرز النصر في تتمة الطريق كن على يقين، لن أتعفن هنا، لن تدفعني لتمني الموت، ستفشل.... الكثيرون حاولوا وفشلوا، أنا دوما أحقق المفازات، وأنول كل ما أشتهي في تلك الحياة، وأنتَ كاذب، لم تكن بيننا علاقة أزواج، أنا أعرف نفسي جيدا، أتأفف من الرعاع وأنت مهما اكتسبت نقودا ستظل منهم يا سلمان!!!!"
ولوحت بأكتافها وهي تستمر قائلة مكورة شفاهها " لا تخبرني بشيء أنا أعرف عن نفسي كل شيء، وأنتَ دوما وأبدا بالنسبة لي لاشيء، لم أعدك زوجي يوما ليكون ما أفعله بحياتي خيانة لك!!!، لقد أدنيتَ لكَ هامتي فربما تكون غريرا وتطلق سراحي وأستريح منك، ولكنك مصمم على أن تتلقى لدغة الموت مني، وحينما تصبو روح زوج أعمار لشيء ستحققه له!!!"
واستطردت بصدق نازف... وبنبرة متبدلة "لو كنت تعرف أعمار مثلما تزعم لعلمت بأنها أفضل الآن مما كانت عليه منذ أزمان، لقد سايرتكَ فقط حينما قلت خسارة!!!!، السجن طهرني من الأنا، قضيت هناك أروع سنوات عمري، وددت لو تمتد للانهاية إلا أنه لا يوجد شيء جميل يستمر للأبد"... تلفظتها بأسف حقيقي...
واستدارت مبتعدة عنه وكأنها تذكرت التفتت له وأعربت وهي ترفع حاجبيها " آه نسيت... زجاج النوافذ مُهَشَّم.... مُحَطَّم شظايا، الأطفال تجمهروا حول الدار وانهمر وابل الحجارة على النوافذ طوال النهار، أتمنى أن تجلب زجاجا جديدا فالجو هنا سيكون صقيعا لو استمرت الرياح في قصف النوافذ ولم تجد مصدا لها، أنا لا أبالي برداءةِ الهواءِ ولكني أشفق عليك فأنت لم تبِت في العراء مثلي، ولم تفترش الأرضيات المبللة ببرك المياه المثلجة أبدا، ولم تُتَخذ ممسحة أرجل لنعالٍ متلطخةٍ بالطين، بإمكانك أن تغادر البيت فأنتَ لن تتحمل زمهريرية الجو، أنا مُحَصَنة من مثل ذلك هواء ولكنكَ لا.... ارحل اليوم يا سلمان، وحينما تُصْلِح النوافذ عد، لا أريدك أن تمرض بسببي!!!!... أرجوك، وإن لم تَعُد فلا تُرْسِل أحدهم للإصلاح فأنا متكيفة مع أي مناخ، لا يشتد الصقيع من حولي فقلبي أصل برودةِ الأرضِ"....
ازمهر وجهه غضبا منها فهي ولا ريبة تخطط للفرار اليوم وتدفعه للرحيل لتتمكن من تنفيذ مخططها ولا شك في أن النوافذ تهشمت بوسوسة من توت
تمالك نفسه وأعرب متشدقا " أنا سأبيت هنا كل ليلة وسأجلب عروسي الجديدة هنا أيضا وستعملين على خدمتنا معا"....
وأردف بغلظة وهو يتشابك معها بصريا " سأستمتع بقهرك وإذلالك، والآن اغربي عن وجهي، ونامي ولكن على الأرضية وليس على الأريكة!!!، ولو كنتِ حمولة كما تزعمين فصبي ألواح الثلج بركةً ونامي فيها، أنتِ تختلقين عن نفسكِ ترهات وتصدقيها!!!!" كان يتحداها بقساوة ويزدريها بفظاظة....
وأوصد باب الحجرة خلفه بعنف ممتهنا وجهها الذي كان يحدق به.... للدار غرفة واحدة وهو يشغلها الآن... والباب والنوافذ مصاغون من الزَّبْرِ والحديد، لن تتمكن من الفكاك ولو حاولت، اضطجع على السرير وأسند رأسه على الوسادة وانطلقت كلماتها تئن فيه
"أنتَ قلتها كنت أفضل وأرقى من ذلك، ولكني لم أعد كذلك، أماتوني في السجن، وكان يجب أن أموت لأتمكن من الحياة هناك، أنتَ لا تعرف مدى قساوة الزنزانة، ليت الأمر يقتصر عليها، من يشاطرنك العيشة فيها يشبهون الذئاب، لا ينتعشوا سوى بامتصاص دماء الغزلان، أسوأ ما في الأمر حينما تستحيل مثلهم، لا يمكنك المقاومة في ذلك المعترك والنجاة، لو لم تتطبع بخصالهم يُكْتَب عليكَ الفناء، وأنا يجب أن أعيش، لأبر بوعد قطعته على نفسي في زمنٍ سحيق، حتى السجانين قساة وفظين، وهناك من يطمع بجسدك.... وهناك من ينهش في لحمك، وهناك من يفجر دماء قلبك، أنت لن تستفيد شيء لو وأدت آخر بارقة أمل تلوح في أفق رؤياي، أن أحيى أنا وتوت خارج البلاد، نحظى بفرصة البدء من جديد.... نحظى بفرصة أخيرة مع الحياة"
هل انتهك السجانون جسدها وهو زوجها كان غارقا في صومعة شقائه ولا يحفل بأنينها، ولا يهتم بمعرفة ما دهاها في بعاده وما أحلَّ بها، هز رأسه مبعدا تلك الخواطر عن التسابق على خلده، وانتصب واقفا وطوى الأرض ليشرع الباب ليرى هل نفذت أعمار زبرجدة أمره لها بافتراش الأرضية أم لا...
صار واجما.... مشدوها.... ساهما وهو يحملق بما فعلته بنفسها....
كانت متكومة على الأرضية وأكداس الثلج متناثرة من حولها... بعضها سال وبعضها تشبث بهيئته كجماد...
إنها مجنونة تماما.... لا وصف لما تفعله بنفسها سوى أنها مفككة العقل... أو يائسة تماما
لسعه الذنب فهو من تهكم على ما ذاقته في حياتها من عذاب وامتهان....
انحنى بجوارها ومرر يديه على جسدها كان باردا وكأنه لجثةٍ هامدة، وكان شحوبه بياضا مفزعا....... طفرت دمعة من أحداقه.... وأوصد عيونه وهو يتذكر قولها
" أنا عنيدة جدا.... لا أخسر سباقا مع الحياة، لأني قد أفعل بنفسي ما لا يرتضيه لي عدوي، أنا مجنونة حينما يتعلق الأمر بالتحدي، سأنتصر في النهاية.... ستعترف هي حتى بفوزي العظيم عليها، لا تكن مثلهم، يحبوني بشروطهم!!!!، يجلدوني لو أخطأت للحظةٍ واحدة، لكل إنسان الحق في ارتكاب جريمةٍ واحدة.... الحق في التفهم والصفح والمغفرة"....
حملها للسرير وأدفأها جيدا، مكث بجوارها طوال الليل يضع الكمادات الباردة على جبهتها الساخنة، فلقد اشتعلت الحمى نيرانا في جسدها.... هي غارقة عميقا في الحفرة الغائرة المتقيحة لمشاعرها....
كانت تهذي بكلمات مدغمة وأخرى واضحة ولكنها كلها تُصَب عليها هي.... على قيثارة
" هي السبب.. هي المذنبة أبتي.. هي من أحالتكَ طريح الفراش، هي من لا تستحي باتهامي أني من ألحقت بكَ ذلك الضير، أبتي اغفر لي، هي السبب في كل ما تعانيه وأعانيه، هي حقودة وتكرهني، دفعتكَ لكي لا تنصفني حينما طالبتكَ برفع الضيم عن سمعة زبيدة، أنتَ تصدقها دوما ولا تصدقني أبدا... أنتَ تحبها أكثر مني، تحب تلك اللئيمة أكثر مني، أنا أمقتها، هي دوما تستخف بي وتقلل من شأني، هي دبرت قتلي مرارا هي تبغضني، أنتَ لم تصدق يوما أنها كانت المعول وراء الدماء التي سالت مني!!!!، أنتَ من اختارها أبتي، كان يجب أن تختار بيننا وأنتَ آثرتها عليّ!!!، أنا أريد توت.... تعالي يا توت، أنتِ محقة لا أحد يحبني سواكِ، حتى أبتي لا يصدقني، لا.... أبتي صدقني ولذا تهاوى مشلولا.... حينما صدقني تهاوى مشلولا، ليته لم يصدقني!!!!.... لن أغفر لكِ يا قيثارة أنا لن أغفر لكِ، قد أسامحكِ على دمي الذي سال ولكن كيف أغفر لكِ ما فعلتيه بروحي.... أنا.... أنتِ.... أبونا.... أمكِ... أمي.... أمي..... سامحيني يا أمي، أنا لم أتعمد حدوث هذا أبدا، صدقيني.... لم يعد بالإمكان الإبقاء على شكري حيا، يجب أن يموت.... أنا قتلته لأنه......."
هذيان يبوح بفتافيت ولا يُكْمِل الصورة مطلقا....
وغاب عقل سلمان في جب الذكرى....
لم يدري أحد يوما ما الذي وقع للشيخ شمس ليستحيل مشلولا طريح الفراش.... كان على الأمر تعتيم لم ينفرج يوما.... لململت أعمار أشيائها بعد مصابه وغادرت البلدة بغير أوبة، قيل أنها استقرت عند قريبتها أزاهير بالاسكندرية، وآخرون ادعوا بأنها سبب مصاب أبيها وبأنها فرت مع عشيق، الأمر كان مُشَوِشا ومربكا للجميع، فلا أحد يفصح عما جرى كي يطفئ النيران التي اضطرمت في الهشيم.... وزبرجدة لا تبزغ لتدحض أقوال المغرضين...
ومر عامان وأعمار زبرجدة لا تُشرق على قريتها، وتحسن حالة الشيخ شمس محدود جدا.... ابنته قيثارة هي من راعته في مرضه، وسخرت حواسها لتستشعر سكناته قبل حركاته.... برغم كونها امرأة ضريرة إلا أنها جبارة والكل عبر الأحقاب كان يرتعد من مجرد ذكر اسمها... تكاد تكون أعمار الوحيدة التي لم تخشى قيثارة يوما... كانت تُطْلِق عليها المسكينة ثوثو...
قرر سلمان بعد غياب أعمار زبرجدة الذي طال أن يرتحل في إثرها فهي تشارف الانتهاء من دراسة الطب في جامعة الاسكندرية، بالطبع يمكنه التوصل لموضعها هناك من خلال سجلها الدراسي بالجامعة...
لقد سأل جاره محمود عنها فهو يدرس في نفس الجامعة ومن المعروف كفالة الشيخ شمس له بعدما توفى والده - حارس القصر المهجور - ولكنه راوغ وتملص من إجابة شافية.... وكأنه كان يتعمد تمويها!!!!
تصور أن الطريق إليها يسير وسهل ولكنه كان ملغما بالشوك، يأس من العثور عليها بعد رحلة بحث دامت قرابة الأسبوع، لم تكن تَحْضِر محاضرات، لم تكن تظهر في أي مكان بالجامعة، وقرر الأوبة للقرية فلقد أخفق في مبتغاه...
افترش مقعدا بمقهى أمام الجامعة، وطلب كأسا من الليمون البارد، أنزلت النادلة مطلبه فرفع عيونه ممتنا لها بنظرةٍ عابرة فتوسعت مآقيه ذهولا ووجوما، وسقط فكه لبرهة مطولة.... هتف غير مصدقا والفرحة تغرد في دواخيله " أعمار".....
ضيقت أعمار حيز عيونها وأعربت وهي تُعْمِل نظرها " أظن أني أعرفك، لكَ قلب جسور وروحٌ طيبة، توليفة نادرة، أنتَ من أنقذني من براثن الذئب منذ سنوات، لم تخبرني اسمك يوما!!!!"
كانت تحضه ليخبرها
فتلفظ وهو سارح في بحور عيونها الغامضة " اسمي سلمان"....
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة وأعربت " وأنا أفضل اسم زبرجدة... حينما تكون مغتاظ مني أو ناقم علي قل لي أعمار وسأفهم حينها"....
سألها وهو يقلب نظره في المكان "ماذا تفعلين هنا؟؟"
ردت بصوت يزخر زهوا " أنا أملك ذلك المقهى"....
وأردفت بتلقائية " ربما تعرف محمود شحاته أحراس، هو شريكي هنا، نتقاسم الربح والعبء فيما بيننا".
قطب سلمان جبينه، لقد كذب عليه محمود متعمدا!!!!
وكَثُرَت الهتافات من حولها فاستأذنت منه لتلبي كافة الطلبات المتدفقة المتصاعدة، فالنادلة التي تعمل لديها متوعكة اليوم ولم تَحْضُر... وقبل أن تبتعد عنه تناهت لأسماعه غمغمتها الحيية " أريد أن أراك ثانية!!!"
ظهر محمود في محيط إبصاره، وتلاحم معه نظرا لوهلة منحسرة، وبان سخطه جليا لأن سلمان توصل لموضع زبرجدة... إلا أنه سرعان ما كسى سحنته بالترحاب والبشاشة وهرع نحو سلمان ليصافحه ويعانقه ويتبادل الأحاديث معه...
سارا سويا على شاطئ البحر وسأله سلمان عن سر إخفائه موضع زبرجده عنه....
فرفرف محمود بأهدابه تلبكا وبان لبرهة مذنبا وسرعان ما استجمع شتاته وأعرب بصوت متحشرج " زبرجدة لا تصلح لكَ، أقيكَ شر الاحتراق بنارها، ربما تبدو بسيطة وبشوشة ولكنها أبعد لكَ من نجوم السماء كلها، هي حلمٌ لا نطوله يا صديقي!!!!!"
ازدرد سلمان ريقه وأعرب متلعثما فلقد تجلت له الحقيقة ساطعة
" أنتَ مغرم ب...."
وضع محمود يده على فم سلمان وزجره قائلا " فقط لا تنطقها كي لا تهدم أواصر صداقتنا"...
وأردف بضراعة " لأجلي ابتعد عنها، أنا صديقك يا سلمان وزبرجدة نجم موضعه السماء، لا تجعلنا نتنافس على السراب"....
قلص سلمان قسماته وأفصح مستنكرا " أنت أصغر منها يا محمود، زبرجدة لن تلتفت لكَ أبدا"....
رد عليه محمود مزمجرا " مجرد عام.... فارق غير ملحوظ.... أنت تغار مني لأني شريكها وأقرب لها منك...."
وبرقت عيون محمود بوهج الشر الخالص ونفرت عروق رقبته وهو يردف بتهديد لسلمان وقد اعتصر قميصه كرتين في يديه " لو اقتربت منها.... لو حاولت اقتحام أسوارها ستلفظ أنفاسك الأخيرة يا سلمان وأنا لا أمزح، أتفهم؟!!!!"....
آثر سلمان عدم المجادلة معه، وتفادى مجابهة مباشرة وإياه فالشياطين كانت تتراقص أمام عيون محمود وحينما يهدئ سيستأنف ما بدآه....
وقدم له إيماءة تفهم وليست إيماءة إذعان!!!!
لو كانت أي أنثى لما سمح بشقاق بينه وبين جاره الأثير من جرائها، ولكنها زبرجدة وهو لا يتوقعها تميل لمحمود....
إنه فقط يشيد قصورا متداعية ليس لها أساس
في المساء تمشى بجوار مقهاها على أمل أن يلمح سناها وبغتة تناهى لسمعه صوتا يضاهي السليل فالتفت خلفه فأبصرها مشرقة الملامح مقبلة عليه...
علقت أنفاسه على الجمال المدمر لعيونها السوداء... وفاحت الدنيا بعطر الجوري المتمازج مع الخوخ، الذي يشع من طيات ثوبها العصري الأنيق، وسألته بتبكيت " مادمت لم تلج للقرية بعد فلمَ لم تعرج علينا أم أن عصيرنا لا يروقك؟!!!!"
أطرق برأسه وأجابها "لم ترتضي بأن أبذل نقودا في المرة المنصرمة فخفت أن تعيدي الكَرَّة وتصممي على استضافتي مجانا من جديد"....
انكمشت حدقتاها في تفكير وأعربت " يبدو أنكَ بخيل!!!، نحن من نفس الأصل، نحن عضد لبعضنا البعض في الغربة تماما مثل علاقتي بمحمود"...
سألها بغتة وهو متداخل معها بصريا " لمَ لا تقبعي بجوار والدكِ في مرضه... ولمَ أنتِ غير منتظمة في دراستك... ولمَ تبددين وقتكِ في العمل كنادلة... والدك يملك أطنانا مترامية من النقود، وأنتِ تخدمين الزبائن، وتقدمي المشروبات، وتمسحي الطاولات حينما يفرغون من الارتشاف، ويغادرون المكان"....
ردت عليه بتحايل " الحياة ليست مفهومة، ومطلقا لم ولن تكن عادلة، عد لقريتنا فأنت لا تصلح لحياة المدائن، فهي مراوغة مثلي"...
عض على شفته السفلى وأفصح لها " لم آتي لأعيش هنا"
قطبت جبينها وسألته لتستوضح منه "جئت في عمل"....
رد بنبرة أبحة نبعت من أعماقه " بل جئت لأقول لكِ أني أهواكِ.... لست مجذوبا ولكني مشتاقٌ لسناكِ"....
انتقلت ببصرها في كافة الأرجاء وسألته مستهجنة وهي عابسة المحيا بنبرة ترشح عذوبة وصفاء وفي طياتها السرور والابتهاج
" ولم تجد سوى الشارع لتخبرني بهواك؟؟!!!!... تبدو مجذوبا يا ذاك، وكل مجنون يظن نفسه راجح العقل يعرف حقيقة الحياة"...
وأردفت بلهجة متصلدة وبملامح متجهمة " أنا من أطمعتك يا ذاك فلقد انشرحت أساريري للقياك ففسرت الأمر تبعا لهواك"...
واستطردت " فقط رحبت بكَ لأنك من رائحة بلدي ليس لأني معجبة بك أو لأني طمرت عشقا أسررته لكَ لسنوات"....
كان صدرها يعلو ويهبط لهاثا وهو يركز عليها إبصاره ويعقب عليها وابتسامة طفيفة تتشقق منه " قاسية أنتِ... أنتِ متذبذبة يا أعمار... تسعين لشيء وحينما يصبح في يدكِ تقذفينه ليتناثر أشلاء، تبعا لهواي فأنتِ طمرتِ عشقا أسررته لي لسنوات، وذكرى إنقاذي لكِ من الذئب لا تبارح خيالك وتسيطر عليكِ في كل ميقات، وتلك هي حقيقة ما يعتمل بداخلك"....
حينما همت بالاعتراض رفع راحتيه أمام وجهها وقال لها بتقاسيم مشدودة " يكفي لا تزيدي الطين بلة أكثر من ذاك.... سأنصرف الآن"...
بعد مرور يومين
كانت زبرجدة قد عاودت الظهور في نطاق الكلية، وكانت وكأن روحها تصبو للقياه من جديد....
حينما لمحته جالس مستريح على متكأ ظليل في الكلية ركضت نحوه ووقفت أمامه لاهثة وهاجمته بقولها " أنتَ بغيض"....
تطلع نحو يديه وأطال التأمل فيهما وأفصح لها بعدم اكتراث بها " ماذا تريدين؟؟"
جلست بجواره بشيء من الجراءة وجابهته قائلة وهي تتخصر " بل ماذا تريد أنتَ مني؟؟"
رد وكأن ما يقوله من المسلمات " سأتزوجكِ وأعيدك للقرية لتعيشي فيها حتى الممات"....
توهجت عيونها ببريق أنثى مشاكسة وهي تشاغب " ومن أخبرك أني سأوافق"....
ثبت نظره على نقطة في الأرضية وأعرب بصوت أجش غريب " هل قلبكِ متعلق بسواي..... أم أن السؤال بالأحرى ما مدى علاقتكِ بمحمود؟!!!!"
صرت على أسنانها وقالت وقد احتقن وجهها من فرط الغضب " هل أبلغك أحد سابقا بأنك أحمق، لتتعفن في الجحيم بغبائك"....
وهمت بالمغادرة فقوس شفاهه معربا بنغمة ناعمة ملداء " اجلسي يا سليطة اللسان"....
واستطرد وهو يطلق تنهيدة " وأَلْقِي في جعبتي لمَ أنا أحمق"
افترشت المقعد المجاور له بمزاج لبؤة شرسة وانطلقت تقول " أنتَ مجنون وأنا أفوقك جنون، ذلك ثاني لقاء بيننا فحسب فكيف يكون الحوار بيننا مثلما يدور"....
واسترسلت " أنا مستنكرة هذا الجنون، وكيف تُلْصِق بي لقب سليطة اللسان، أنا ثائرة جدا"...
وأردفت بشيء من التلعثم " ومتخبطة الوجهات، أنتَ أحمق لأني لست فتاة أتواصل مع أحدهم وقلبي مع سواه"...
وأقسمت له "محمود مثل أخي الفقيد، هو صغير في السن وطائش قليلا، يُنصب نفسه في منزلة حبيبي وهو فقط سندي وكما شقيقي، أنا مشتتة الذهن بسببك، أنت سبب الشرود الذي ألمَّ بي، انظر.... لو كنت تريد الزواج مني فعلا فعليك أن تبذل كل ما تملك مهرا لي.... وتتحصل على توقيع والدي على وثيقة زواجنا، تلك شروطي لو لبيتها فأنا موافقة عليك!!"
طأطأ برأسه وشبك أنامله وأعرب لها بتمتمة خفيضة منكسرة " لا أملك سوى النذر القليل"....
ردت عليه بثبات وهي متشابكة معه بصريا " أعطه لي... ولن تأخذ ضمانات مني على بري لكَ بوعد الزواج، هما شرطان نقودك كلها الآن وموافقة أبي فأكون لكَ في الحال"...
سألها وقد بدأ يستوعب " تريدين النقود الآن فيم؟!!!"
ردت، وهي تطمر الاضطراب الذي اعتراها، وتصطنع عدم الاكتراث بحاجتها الملحة للنقود " حينما تكون زوجي سيحق لكَ أن تعرف ما الذي بداخلي يدور"...
رد عليها وهو يطلق تنهيدة " حسنا محمود يغار مني فانتقي لنا مكان نلتقي فيه اليوم لأحقق الشطر الأول من طلباتك"....
وتلاحم معها بصريا وهو يستطرد بصوت أجش مثقل بالأحاسيس الصادقة " أنا أثق بكِ يا زبرجدة... أنتِ لن تخذليني يوما"....
في كازينو يطل على البحر التقيا وبذل لها كل ما يملك من عمله الذي يسعى لتوسيعه...
أطرقت برأسها وتمتمت له وهي تسحب نفسا من الهواء " أنت مجنون، هل يمنح أحدهم الثقة لشخص آخر بدون ضمان؟!!!!.... وتدعي أنه نذر ضئيل وهو أطنان؟!!!!.... لا أحتاج كل تلك النقود فقط عُشْر المبلغ وهذا ما سآخذه"....
واعترفت بشيء من التلعثم والإطراق " ابنة جارة لي مريضة بالسرطان وتحتاج عملية تتكلف نقودا طائلة... أنا أسعى لمساعدتها، أمها أخبرتني أن العملية تحتاج عشرين ألف جنيه، الدنيا تضيق بي، حينما وجدتك كنت بارقة أمل تلوح لي، فلربما تملك نقودا تُخلص الصغيرة مما تعانيه"....
واسترسلت ودمعة تطفر من أحداقها " اسمها زبيدة... وهي تذكرني بزبيدة.... يخامرني شعورا مزهرا حينما أراها أفعل أي شيء كي لا ينطفئ سناها"...
وأردفت " فكرت في تصفية عملي بالمقهى لأجمع الأموال لها... ولكنه مؤجر ولن يجلب نذرا يسير"....
سألها باهتمام حقيقي.... وبتفهم عميق " لمَ تعيشي على الكفاف يا زبرجدة، والدكِ يملك فدادينا شاسعة وأموالا طائلة، بإمكانكِ أن تطلبي منه"...
تواصلت معه زبرجدة بصريا وبان عليها الذبول التام " هو مشلول متيبس اللسان، قيثارة من تتحكم بكل الأموال، وأنا لن أطلب شيئا منها ولو لعقت التراب ونمت في العراء"...
سألها وهو يتفرس فيها " لذا تبيعي نفسكِ لي؟!!!!"
ردت عليه وعيونها تتمازج مع خاصتيه " بل كنت أتحداك وأعرف عن بشر هذا الزمان أنهم خبثاء، اعتبرتكَ طامعا بنقود أبي وغضضت الطرف متعمدة عن إنقاذك لي، لم أظن للحظة أنك ستعطيني فعلا كل ما تملك في تلك الحياة، حسبتك سترمي لي نقودا هزيلة وتدعي الفقر والإملاق، ولكنكَ أدهشتني فبرغم زعمك قصر اليد دفعت مهرا حتى في عرف الأثرياء يُعَد ضخما ومهولا"....
أجابها " عملي لا يلبث متواضع، أسعى لتنميته، سأبني لكِ يوما مشفى في قريتنا ستكون لكِ لتديريها، هذا حلمي أنا!!!!!، لم أعطِكِ كل شيء، فأنا لم أبِع البيت الذي أسكن فيه مع أمي وإخواني، ولم أفرط في موضع عملي، أنا فقط جمعت لكِ كل النقود السائلة التي تتواجد بحياذتي، بي قطعة أنانية يا أميرتي اغفريها لي!!!!، لو تريدين المال لأجل زبيدة صغيرة فأنا أعدكِ أن أتكفل بعلاجها حتى تعود صحيحة معافاة"....
تعرف على ابنة جارتها، كانت فتاة كما فلقة القمر، اصطحب أسرتها برفقة زبرجدة لزيارة الطبيب، وساندهم في العملية متمتما للصغيرة النجاة، ومبتهلا لله أن يمن عليها بالحياة، وشعر أنه مضمحل الكيان حينما شكرته الأم بحرارة وهو يعرف في دواخيله أنه لم يبذل النقود إلا لأجل عيون زبرجدة....
في احدى الكازينوهات
حكت زبرجدة فروة رأسها وفركت جبينها ومزقت وجهها بتمرير بربري لأناملها عليه
وقالت وهي تزدرد ريقها " لم يعد يصلح لنا أن نلتقي يا سلمان، لقاؤنا خارج نطاق معرفة الأهل.... وبدون علاقة شرعية معلنة سيجلب علينا الأقوال، سأعطيكَ تلك الرسالة، اذهب بها لأبي، واقرأها عليه، استعن بمنصور فهو كما أخبرتني صديقا لك، هو سيُمَكِنَك من الدلوف لأبتي، والدي يملك تفويضا مني منذ صغري بفعل كل ما يرتأيه بشأني، يمكنه حتى تزويجي بدون أن يُعْلِمَني، لو ارتضاكَ لي ولو بإيماءة استحسان سأكون لكَ، والشاهد على لقائكما سيكون منصور، هو كما شقيقي وسيخبرني حقيقة ما سيقع بينكما، لا أتوقع أبتي شاردا عن الدنيا، أتصوره متخشب البدن متصلب اللسان فحسب"....
واستطردت زبرجدة وهي تسمر بصرها على نقطة وهمية بالطاولة " أخبره أني اشتقت إليه... وأن الشوق الحقيقي لا يعرف قيد الزمان ولا يبرد مع مرور الأيام، واعتذر له نيابة عني لأني اضطررت إلى هجرانه رغما عني"...
وعاجلت مردفة وهي لاهثة الأنفاس " فقط لا تطالبني بإيضاحات الآن، أنا أعاند قدري لأجلكَ يا سلمان!!!"
_____________
في باحة استقبال الضيوف الخاصة بقصر فاروق التبريزي
تنهد منصور وأطرق برأسه وقال " قيثارة لا تسمح بزيارة الغرباء لأبيها، سأمرق له بسهولة ولكنها لن ترتضي دلوفك إليه البتة"....
سأله سلمان بنفاذ صبر " والحل؟؟"
أجاب منصور وهو يزفر نفسا مديدا " قيثارة مصابة بداء الشك، هي تتوجس من الجميع، ولذا فهي من تلاحق أعمالها المترامية، تبتعد عن القرية مسافرة في بعض التارات وعلينا أن نتصيد واحدة بمنتهى الاحتياط!!!"
____________
حكت عائشة رأسها وأعربت بتقلقل وبصرها زائغ والدم يقصف وجناتها من فرط توترها
" لم يكن عليّ مساعدتكما، لو علمت قيثارة....."
ازدردت عائشة ريقها وأردفت بشيء من الارتعاب " الله يستر حينها.... الله يستر حينها"....
وأمسكت بيد سلمان ودمدمت له وهي تغالب ترقرق الدمعات ومحياها ينفرج عن ابتسامة جزل صافية " أحقا زبرجدة موافقة عليك، وستعود لنا بعد زواجكما، بوركت يا ولدي لقد أوجزت المسافات وهدمت العراقيل ونسفت الحواجز التي تُبعد الصغيرة عنا"....
شرعت عائشة الباب وأردفت لسلمان بصوت أجش " اِلَتَقِي كبيرنا وأعطه كل التبجيل، لن يقاطع عليكم أحد خلوتكما، الله يرد لنا ظبيتنا الشاردة بكل خير!!!!"
اتكأ سلمان على مقعد وثير مقابل لسرير الأسد الجريح.... كان منصور معه، ولكنه اكتفى بطبع قبلة على جبهة عمه، وعلى ختم ظهر يديه بآلاف اللثمات.... وعلى التمتمة له بتمني زوال الكرب وأن يتم الله عليه نعمة الشفاء، ثم انتحى قصيا يتابع الحوار الدائر بدون أن يتدخل
شعر سلمان بالحرج من تلاوة كلمات زبرجدة لأبيها على مسامع منصور ففض القصاصة وشهرها في وجه الشيخ القعيد....
غرغرت عيون شمس بالدموع وهي تحتضن سطور ابنته التي انسلخت عنه بتتمة رغبتها
(( تعرف أني قاسية يا أبتي، كنت أنكر قديما ذلك الاتهام عني، إلا أني أعترف لكَ بهِ أخيرا، حبي لكَ يتخطى حيز الكلماتِ.... يتجاوز كل ما يمكن أن أسكبه عليكَ من أبياتِ، معضلتي أني لم أتحمل رؤيتكَ طريح الفراش من جرائي!!!!، أنا قزمة يا أبتي، فطرت قلبكَ لأحرز بعض التفاهاتِ.... لأثبت مجرد ترهاتِ، لم أفهم قبلا لمَ قلبكِ ظل متعلقا بجيهان نور هكذا، ولكني أستوعب الآن يا أبتي، كنت بمحارتي السوداء ماكثة، ضوء الشمس يدميني وعتمة الليل ترضيني، برغم ارتعابي من الظلمة إلا أنها كانت تكتنفني داخليا فلم يعد يفرق معي لو سادت خارجيا، أموت من الارتعاب يا أبتي، ويقشعر بدني من العتمة، وأتكوم على نفسي، وأغرق فيها أكثر وأكثر وألاطم أمواجها وحدي!!!، أنا نجمة عن أفلاكك لا أنفصل، دعني أتخبط وأتوه فإني لكَ عائدة ولغمرتكَ متشوقة، كانت أركاني متقوضة حينما رأيته، ذكرني بكَ يا أبتي، يحمل نقاء روحك وصفائها، أريده أن يظلل عليّ بجناحه، أن يحميني من شر نفسي.... ومن دوامات تُغْرِقَني فيها روحي، أنا أريده يا أبتي، كانت نفسي هائجة بالشجنِ فغمرني بالنور الذي كان شاردا عني، اجعله لي يا أبتي، امنحني تباريكك، فالمعركة ستبدأ بعد موافقتك، سأخوض حروبا ضروسا مع توت، وقيثارة لن يروقها زواجي من شخص عديم الأصل من وجهة نظرها، ولكني لا أكترث لهم، لو ساندت خياري فهذا يكفيني تماما يا أبتي!!!!، يمتد الدجى في بعدي عنك وهو الخيط الذي يصلني بك، فدعه يعيدني إليك يا أبتي))
همهم الشيخ شمس بكلمات غير مفهومة لأن لسانه يعجز عن مجاراة ما يود الإفصاح عنه، وتحركت أنامله بمشقة وعناء وكأنه يكافح ويبذل قصارى جهده ليعيد لهم الحياة....
هرول منصور وسلمان راكعين بجواره.... اعتصر ملاءة السرير بقبضتيه وأومأ برأسه موافقا.... وأشرقت ملامح سلمان
سأل الشيخ شمس " زبرجدة تريد توقيعك على وثيقة زواجنا، نوهت لأنها أعطتك تفويضا لتفعل ما تشتهي بحياتها"....
تواصل منصور مع عمه وتبادلا حركات باليدين وتعبيرات بالوجه سويا.... وتنهد منصور وهو يفصح وبصره يُسَدد تجاه سلمان " يريد أن يكون ولي أمرها في عقد الزواج، قصاصة التفويض قابعة في احدى القوارير هنا سنفتش عنها حتى نعثر عليها وسنجلب بعدها مأذون مؤتَمَن يفضل أن يكون من خارج نطاق البلد، عمي يؤكد على كونه قادرا على ترديد ما سيبتغيه منه المأذون... وعلى منحه توقيعه على الوثيقة، يبدو هذا جنون ولكنها رغبة عمي وسنحققها له"....
إخفاء المأذون عن العيون كان عمل جلل قام به منصور فهو حاذق في التحايل، وتمكن من إدخاله للقصر في غفلة عن العيون، وجلب منصور رفيقا مقربا شاهدا على العقد، لم يتوقع أحدهم أن ينطق الشيخ شمس بثبات ووضوح، ولكنه فعل وأوجمهم كلهم... كان توقيعه مهتزا ولكنه ساطعٌ.... كان سلمان غير مستوعبا لتسارع الأحداث، من طلب خطبة لزواج صحيح تماما... زبرجدة له.... لو تعلم بهمهمات والدها وبعثرات حركاته ستُسَر كثيرا... هو ليس متيبسا تماما كما تظن، هناك أمل....
في مقهى زبرجدة
كانت متلفة الأعصاب، مُمزَقة الجوانح، مدت يدها بغتة لتمسح بها فتحتي أنفها، لمَ زجت بسلمان في تلك الفوضى؟؟، سيواتيها بخبر أن أبيها لم يقوى على إعطائه أية ردة فعل، وربما يُبْلِغَها بأن قيثارة عرقلت سبيل وصوله لأبيها وتعاملت معه باستعلاء وتعجرف، اطلالته نائية عنها كما النجوم ولذا فهي محتدمة المزاج، حتى محمود استشعر توترها وأحَسَّ بأن أعصابها مشدودة جدا...
دنا محمود منها وسألها بجزع حقيقي عليها " ما بكِ؟؟"
ردت بنبرة أجشة تحوي إصرارا وتصميم، وهي تتلاحم معه بصريا "أنا متيمة بسلمان"....
وأردفت وهي مطرقة برأسها " اغفر لي يا محمود، الحب قدر وليس اختيار!!!"
ظهر سلمان في محيط إبصارها فتهللت أساريرها وركضت نحوه بأقصى وسعها....
قال لها بمناوشة حانية، وهو يتمعن النظر فيها " أنفاسك تتمزق لهاثا من أقل عَدْو"....
اكفهرت سحنة زبرجدة، وهي ترد عليه كما اللبؤة الشرسة، وتحيط خصرها بيديها " صحتي محدودة وأبشرك بأنها ستزداد سوءً بمرور الأيام، لا نلبث على البر، يمكنكَ الفكاك لو أحببت، وفتش عن فتاة وافرة الصحة ولكني شريرة وأتمنى أن تصيبها كل العلل بمجرد زواجكما لتستحيل لها ممرضا، ولا تهنأ معها بحياتكَ مطلقا"....
اصطنع سلمان التفكير وأعرب بتمتمة مباغتة لزبرجدة " لا أحسبني لا ألبث على البر، لقد عُقِدَ قراننا يا زبرجدي، ليت كان بإمكاني التراجع، فالزواج بفتاة محدودة الصحة سيشقيني"...
تشبثت به وهي تتيقن مما سمعته " ماذا قلت؟؟... عُقِدَ قراننا؟!!!!"
التفت الأنظار من حولهما فتبسم من الإحراج الذي داهمها وهمس لها وأنفاسه الحارة تدغدغ آذانها " لم تجدي سوى قارعة الطريق لتعلني فيها زواجنا؟!!!!"....
صكت وجهها وتراجعت برأسها وطالبته بشيء من الغنج والدلال وهي تشمخ بأنفها" أرني العقد أولا أيها المزور، لم أكن موجودة فكيف تربطني بكَ؟؟"
كان محمود يراقب من بعيد ما يجري وأعصابه كما المرجل تغلي.... يتميز غيظا جما ويود سحق سلمان بيديه المجردتين....
__________________
دعته زبرجدة " ادخل، هذا كوخي الذي أعيش فيه، صغير ولكنه يسعني ويفيض"....
دلف سلمان لكوخ زبرجدة، كان رث، أثاثه بالي، والشقوق الهائلة منتشرة بحوائطه الباهتة الطلاء، ولكن زبرجدة كانت فخورة جدا ومزهوة به...
افتعل ابتسامة متقنة وهو يعرب لها " منزل رائع حقا"....
كان مجهود زبرجدة جليا فيه، الستائر ذات الرسومات المطبوعة تحجب معظم الحوائط، والأثاث رغم تهالكه إلا أنه منظم باعتناء، والسجاجيد المحدودة المساحة تتداخل مع بعضها بشكل بديع...
افترش مقعدا في الصالة وزبرجدة تقول وهي تتوجه نحو المطبخ " سأعد لكَ لقمة فلا ريبة من أنك تتضور جوعا فلقد سافرت لساعات طوال"....
استشعرت أنفاسه خلفها فسرت قشعريرة في جسدها واستدارت له.... مرر ظهر يده على وجناتها الموردة المكتنزة، وحركهما على عيونها فأغمضتهما له، تمتم لها "يحز في نفسي أني لم أخبر أهلي بعد، أنتِ لا تستحقين ذلك يا زبرجدة، لمَ نلتجأ للظلمة ونحن لم نفعل شيء يُغْضِب الرب؟!!!"
أجفلته زبرجدة بردها المغمغم وهي تحيد ببصرها عنه وكأنها تشرد في شيء ما " لاريبة في أن والدي يخاف علينا ما يُمْكِن أن يُحَاك لنا"....
واستطردت تستوثق منه، وقلبها يقفز بهلوانا من فرط سعادتها وسرورها " حقا همهم لكَ.... ووقع بيده على الوثيقة؟!!!"
أومأ برأسه ثم جذبها من خصرها بإغلاقه ذراعيه حولها " جعلكِ لي بكل صورة ممكنة"...
واستأنف بصوت تتجلى منه الجدية " يجب أن تعودي معي"....
تملصت منه وقد تشنجت عضلة حول عيونها " مازلت أكْمِل دراستي، امنحني فسحة زمنية وسألج إلى هناك بإرادتي"....
قال لها وهو مغلق التقاسيم " حسنا ولكن شراكتكِ بمحمود يجب أن تنتهي، هو يَكِن لكِ مشاعر وذلك لا يروق لي"....
تفرست فيه " أنتَ لا تثق بي!!!!"
رد عليها وهو يزدرد ريقه" هل تلك جملة إقرارية أم أنها سؤال؟!!!!"
هزت رأسها صوبه وطالبته وهي ترتقي بحاجبيها صعودا " أجبني أنت"....
تلاحم معها بصريا وهو يتلفظ بصلابة " أنا أغار عليكِ وذلكَ حقي، ولو لم أثق بكِ لما منحتكِ اسمي وقلبي وعرضي"...
تنهدت زبرجدة وطأطأت رأسها " تريد الحقيقة، كنت أخاف قولها لك كي لا أسقط من عليائي في عينيك"....
وتواصلت معه بصريا وهي تردف ومآقيها مغروقة بالعبرات " أنا قتلت شحاتة أحراس والد محمود"....
ازدردت ريقها بصعوبة وأحادت بناظريها بعيدا عنه وتابعت " كنت طفلة لاهية صغيرة، تناهى لعلمي أن أبتي ابتاع القصر المهجور الذي تسكنه الأرواح الشريرة، والذي يحرسه عم شحاتة، فغلبني الفضول وأردت التجوال فيه فألححت على والدي إلا أنه أبى وقال لي أنه ابتاعه لأجل صديق!!!، وأنه ليس له ليرتع فيه، فتوجهت إلى هناك مع ناصر، وأردنا اقتحامه فلم يسمح لنا العم شحاتة بذلك، فنقمت عليه فأبتي صاحب القصر وهو يعرف ذلك، وصممت على المروق إليه، تسلقنا السور في غفلة عنه، ونفذنا للداخل، استكشفنا المكان، ونحن نركض ونمرح تحطمت مزهرية خزفية عملاقة كانت تملأ الردهة، أنا من دفعتها رغما عني، وتوثب نحونا العم شحاتة والشرر يطل من عينيه، رأيناه عبر النافذة وهو محتقن الوجه فائر الأعصاب، يطوي الأرض ليفتك بنا، فتواردت عليّ فكرة، وسوست لناصر أن نمثل دور شبحين ونرتجل لنلقي الروع في قلب شحاتة، ولنتسلى حينما يستبد الجزع به.... توارينا ببراعة....
زبرجدة تقلد صوت مارد شرير (( قلبي متعطش لدم من يقتحم قصري... هناك عجوز ينتهك حرمة بيتي.... لأفتك به))
ناصر يجاريها (( لا عليكِ يا حبيبة قلبي... لقد أتى لحتفه... اختاري أنطلق عليه جيشا من الفئران أم نلف حوله دائرة من الكلاب المسعورة أم نسلط عليه قبيلة من الأفاعي لتنفت السم الزعاف فيه....))
زبرجدة تتنهد ((سنحشو فمه أولا بحفنة من الصراصير.... وحينما نطرب بما سيحل به سنتخير له مصيرا أسوأ من كل ما اقترحت بكثير))
كنت مختبئة مع ناصر في القبو، وبدون قصد مني أسقطت قارورة ضخمة مجاورة لي فانفرج عنها جيشا من الصراصير فلقد كانت عسل نُسِيَ لردح بعيد.... وتسلل جيش الصراصير نحو فتحة القبو ليعبر للردهة في توافد محموم.... لم يتحمل قلب العم شحاته وتوقف كليا عن الخفقان، أنا قتلته، لم تصدر عنه حركات لوقت مديد، وظللت أنا وناصر قابعين في القبو منتظرين أية إشارة منه تدل على انصرافه، وحينما نفذ صبرنا تسلقنا للردهة من جديد ولكننا كنا حذرين وارتطم بصري بجسد العم مسجى على الأرضية، ظنه ناصر تمثيل متقن من العم ليوقع بنا فود التراجع، ولكن هيئته لم أخطئها كان جيفة، جثوت على ركبتي بجواره وتضرعته بهذيان محموم أن يستفيق ولكنه لم يجبني يوما، اعترفت لأبتي بذنبي، فكفل زوجته وأبنائه، ولذا فأنا لا أقوى على طرد محمود من العمل، محمود مهما أَلْحَق بي أنا أغفر له، فأنا من أحلته يتيم"
تمتم يهدهدها وهو يحتوي وجهها بين أكفه " لم تتعمدي ما وقع"....
ردت بإصرار على جلد ذاتها " بل تعمدت ما وقع"....
استمر في مجادلتها ليقنعها " كنتِ صغيرة"...
ردت عليه والدمع يتدحرج على وجناتها " تظل جريمة"....
دمدم لها سلمان يحثها " أخبري محمود ما بدر منكِ... تطهري من ذنبكِ"....
أجابت بصوت ينضح بالعجز التام " لا أقوى على ذلك"...
واعترفت له " استغللت طيبتك يا سلمان لأستدر منكَ النقود لأجل زبيدة الصغيرة، ولكن حبكَ سلكَ ينابيعا في قلبي، لم أكن صادقة معكَ في البداية فاغفر لي، أنا حقا الآن مغرمة بكَ"....
ورمت بنفسها بين أحضانه وانفطرت في وصلة بكاء حار...
اضطر للاستجابة لرغبتها بالأوبة للقرية وتخليفها وحيدة... كان يهاتفها ويطمئن عليها يوميا... وفي عطلة كل أسبوع كان يوافيها...
أصابها الهزال على حين غرة وكأنه ضربها بغتة، فقدت قدرتها على التركيز، وصارت زائغة النظرات في كل الأوقات....
كان يزورها في بيتها بدون أن يأخذ حقه الشرعي منها منتظر ولوجها للقرية ليعلن الأمر
ولترتدي له الثوب الأبيض
كان وضعها مزري عن كل مرة، كانت الهالات السوداء متبجحة حول عيونها بكثافة، وجسدها استحال ضامرا ببشاعة وكأنه كتلة من العظام، وجهها مفتقر للنضارة تنتشر فيه خيوط تجاعيد وكأنه لعجوزٍ من الغابرين....
حينما دس المفتاح في الباب وأدار المقبض هرولت إليه وضمته بكل قواها وأجهشت في البكاء بمرارة....
تشبثت به وصارت تستجديه أن يغفر لها، لم يفهم ما الذي ينتابها، سألها بارتياب وهو مقطب الجبين " هل تعدى عليكِ أحدهم؟؟"
اضطرب وجهها لبرهة وجيزة جدا وسرعان ما طمرت انفعالها الذي يصطخب فيها وهدرت فيه " تشك في؟؟"
ونفت بضراوة " لم يتطاول أحدهم على بدني لو كان هذا مقصدك"....
وشرعت تسدد الضربات على صدره وثائرتها مشتعلة جدا " أنت بغيض، كيف تجرؤ على التفوه لي بتلك التوجسات، بل كيف تساورك تلك الظنون حيالي؟!!!!"
أردعها عن المزيد من الضربات وهو يصر على أسنانه " أنا الرجل هنا وأنتِ استحلت مجذوبة"....
انهارت على صدره منفطرة في نحيب يقطع نياط القلب.... وأحاطت جسده بذراعيها وتشبثت به بقوة عاتية...
كانت تتمتم بإصرار وتكرار " أنا لا أستحقك... أنا سيئة جدا.... اصفح عني أرجوك"....
رافقها لحجرتها وظل يهدهدها لتهدئ وتيرة انفعالها، لقد أنكرت اعتداء أحدهم عليها ولكن لا يوجد تبرير لحالتها المتدهورة سوى ذلك، لا... هو لن يرتاب فيها، هو يضع كامل الثقة بها، كانت ملتصقة به كما العلقة تخاف انسلاخه عنها، تواترت تلك الفكرة عليه حالتها مدعاة للتوجس والارتياب، وهو مجرد رجل لا يحتمل التصاقها به على ذلك النحو السافر، هي زوجته وقضاء وطره منها ليس محرم عليه، هو لا يرتكب معصية!!!!
استحم وهو يشعر بالاشمئزاز من نفسه، لقد استغل خوارها ولم يبر بوعد قطعه لها، لقد عاهدها على ألا يمسها حتى تلج لبلدتها، مسح البخار الذي يُندي المرآة، وبصق على نفسه بازدراء لذاته، هو أفْسَد كل شيء، لقد وبخته لظنه بها السوء، إلا أن الشيطان ظل يوسوس له، وهي في النهاية كانت عذراء، لا... ما وقع بينهما كان حلال لم يمسه الشيطان، ولكن كيف تشعر الآن بعدما نكث بيمينه لها... هل تنفر من نفسها لأنها استجابت له.... هل وأد فرحتها وكتب عليها ألا ترتدي ثوبا أبيضا لبقية عمرها؟؟
____________________
منصور
لم يلقى السعادة الحقيقية سوى مع ساندي، لقد تزوجها سرا في القاهرة لقرابة العام وهي صابرة ولا تشتكي وتكتفي بزياراته العابرة لها، حتى في غمار حادثه راعت إخفائه الأمر عن أمه وطمرت ارتعابها عليه وارتضت بحوار مقتضب وإياه...
حسنا ساندي ليست ملاك، ولكنها وفرت له كل سبل الراحة والهناء، هي غامضة في دواخيلها تطمر أشياءً في صفحة روحها، ولكنها زوجة سخية بالمشاعر، حينما عرض عليها الزواج مقابل مهرا ضخما جحظت عيونها سعادة ووافقت فورا.... لقد كان ثمنها باهظا جدا، وهي تعشق النقود جما، لقد اعترفت له بأنها عاشت على حافة الكفاف لسنوات عمرها وأنها كانت تنشد زوج ثري ينتشلها من حفرة فقرها....
ربما هي امرأة صريحة جدا ولكن ذلك الاعتراف يكدر عليه صفو عيشته الهانئة معها، فلو نفذت نقوده ستتبدد ساندي منه، هي زوجته لأنه يغدقها بالعطايا فحسب....
|