الفصل التاسع والعشرون
كنت أشعر بالضياع سنين حياتي الماضية بلا والدين ولا طفولة
ولا شيء ولا حتى رائد أما الآن فأشعر أن حتى الآ شعور غاب
عني رغم أني صرت زوجة رائد ووجدت والدي إلا أن تلك الهوة
عادت تعيش في داخلي , عندما استيقظت صباح اليوم ووجدت نفسي
في حضنه مجردة من كل شيء حتى ثيابي عادت بي الذكرى لمعاملته
لي كجارية كشيء يطفئ شهوته فيه , استغل تلك اللحظة ليثبت لي أكثر
أني مجرد وسيلة لغاية ما , كنت أعي كل ما حدت بيننا لكن حواسي
ترفض الابتعاد , الخوف يسيطر عليها والضعف أيضاً ... نعم لا أنكر
أن لمساته لازالت تشعلني همسه قبلاته حضنه أشياء لازلت أحتاج لوقت
طويل كي أقاومها وأنساها فلحظة استيقاظي صباحاً رفض عقلي تصديق
الواقع الذي عاشه وكان يدركه فخرجت من عنده وصعدت لغرفتي جمعت
أغراضي وثيابي خرجت من الغرفة وسمعت صوت أحد رجال والدي
يهدد أحدهم بالقتل فركضت مسرعة جهة السلالم وقلت صارخة بأمر
" توقف "
نظر باتجاهي وقال " عذرا سيدتي الأوامر أن أزيل كل
من يعترض تنفيذ أي أمر "
توجه رائد جهة السلالم وقال بصراخ
" عليك قتلي أولاً قبل أخذها من هنا "
قلت بغضب " مجنون أنا من طلب هذا فابتعد عنهم يا رائد "
نظر لي وقال " أين ستذهبين ولا أحد لك غير هنا أين "
قلت بألم " للجحيم فيما سيعنيك "
شد قميصه عند صدره بقبضته وقال بألم " كم أتمنى مرة مرة واحدة
يا قمر لا تندمي على ذلك صباحاً , لما تعشقين جرحي بعنف "
قلت ببكاء " لست جارية تعاملني كذلك ... فهمت لما "
قال باستنكار " كيف سأشرح لك كيف , لم أرك يوماً جارية
أنتي من سمم عقل نفسك بهذه الأفكار "
اتكأت على جدار السلالم وقلت بهدوء حزين
" بل هي أفضل مني وها قد أخذت ما تريد "
تخطينا الحدود ونسينا الأذان الكثيرة التي تسمعنا , الجدة وثلاث
رجال من الحراس ومريم عند باب المطبخ وأيوب الذي لازال في
غرفتها بل وتخطينا حدودا وضعناها لأنفسنا
مسح وجهه بيده وكأنه يهدئ نفسه ثم نظر لي وقال بهدوء " سأخرج أنا
من هنا وابقي أنتي فسوف يجن جنوني إن أخذوك لمكان لا أعرفه "
لذت بصمت فقال " اعتبريه الطلب الأخير "
مسحت دمعة تسللت من عيني وقلت موجهة كلامي لهم " غادروا "
خرجوا في الفور وتوجه هوا لغرفته وعدت لغرفتي راكضة
أغلقت الباب خلفي وارتميت على السرير أبكي بمرارة , من لي
حتى عمتي لا يمكنني حتى الاتصال بها لا نوران ولا والدي ولا
أحد و حتى مريم باتت لا تفهمني وعاطفتها تجرها جهة شقيقها
وأصبحت في صفه , مع من سأتحدث وأبث همومي وما أشعر به
أنا حقا ضائعة أشعر بالألم هنا في قلبي يتجسد في حب اسمه رائد
وفي جرح اسمه رائد وفي حزن اسمه أنا فلم أعد سوى جثة لفتاة
ماتت منذ شهور وفقدت كل شيء كان في حياتها وحتى الحزن
بعد مسيرة طويلة من البكاء جلست وأخذت هاتفي واتصلت برئيسهم
وطلبت منه أن لا يخبر والدي عما حدث ووعدني بذلك
بعد يومين غادرت مريم أيضاً فأنا لم أرها بعد ذاك الصباح ولم
أرى أحداً وبث شبه مسجونة لا أرى أو أعلم شيئاً خارج حدود غرفتي
فهذه هي أنا لم أتغير ولا شيء لي سوى الوحدة والألم لا أحد لي سوى
الكوابيس والذكريات المؤلمة
ومر الآن أكثر من شهر على ذلك وجاء رائد إلى هنا مرة واحدة قبل
أسبوعين ولم يصعد لي أو يصر على رؤيتي واكتفى بالسؤال عني
وإيصال سلامه لي وغادر ولم أخرج أنا من غرفتي فترة وجوده هنا
كم عجيبة هي حياتنا وكم ضائعون نحن فيها لا فهمناها ولا أخذنا منها
ما نريد , مسحت دمعتي المتسللة ببطء في غطاء السرير وتنهدت بأسى
سمعت طرقات خفيفة على الباب فرفعت رأسي من تحت الوسادة ثم
جلست ومسحت بقايا دموعي وقلت " تفضل "
انفتح الباب ببطء ودخلت الجدة مبتسمة واقتربت وجلست بجواري , مسحت
على شعري وقالت بحنان " متى ستتوقفين عن البكاء وستجف هذه الدموع "
أمسكت طرف اللحاف ووضعته ويداي في حجري بقوة وقلت بحزن
" لست بخير جدتي أشعر أنني أختنق "
مسحت على وجهي وقالت بحنان " هل يؤلمك شيء قمر هل تشعرين بشيء
وجهك مصفر ومُتعب وجسمك في نحول مستمر "
قلت بشهقة باكية " قلبي يؤلمني إنه يتمزق لما لا أموت "
قالت بخوف " قمر لما هذا الكلام الآن هل تشعرين بشيء هل نأخذك للمستشفى "
هززت رأسي بلا ومسحت دموعي وقلت " لن يفعل لي الطبيب شيئاً "
تنهدت وقالت " رائد يتصل بي يومياً وأنا أخبره أنك تأكلين جيداً
وتخرجين من الغرفة وأن صحتك جيدة وكله غير صحيح , لن
أكذب عليه مجدداً يا قمر وسأقول الحقيقة "
اكتفيت بالصمت فمدت لي يدها تحمل شيئاً فنظرت له ثم نظرت
لها بحيرة وقلت " ما هذا !! "
قالت " أحضره رائد لأعطيه لك "
قلت بهمس " هل كان هنا "
هزت رأسها بنعم وخرجت بعدما وضعته على السرير فحملته
وأزلت الغلاف الورقي , كان كتاباً وغلافه صورتي التي رسمتها
لي أنوار في تلك اللوحة والعنوان ( اكتمال القمر ) وتحته
( كيف تفشل العلاقات العاطفية ) هذا كتابه العنوان ذاته لكن الكلام
تحته لم يكن هكذا بل كان ( كيف تنجح العلاقات العاطفية )
فتحت أولى فصوله ثم عدت لأوله فكانت صفحة الإهداء ومكتوب فيها
سطر واحد فقط ( أهدي هذا الكتاب لزوجتي الحبيبة قمر ) مسحت دمعة
تسللت من عيني وذهبت لآخره حيث الخاتمة وكانت كما كتبتها أنا وقد
ذكر أني من كتبها , انتقلت لنهايتها وكان مكتوب بخط مميز (لا تقتل
الورد يا من زرعت الورد في قلب طفولتي كم أخشى أن تقتل حبا في
قلب نبضاته تموت كل يوم فليمت الورد بدلاً عنه مئة مرة )
كانت مأخوذة من الكلمات التي كتبتها في طرف اللوحة مع تغيير
بسيط وكأنه يذكرني أن لا أفعل كما فعل هوا بي , أغلقت الكتاب
ولمحت بطاقة في حجري يبدوا سقطت منه فرفعتها فكانت دعوى
لحفل كتابه ويبدوا أنه لم ينشره بعد والحفل سيكون نهاية الأسبوع
قلبت البطاقة فكان مكتوبا خلفها ( لا تنسي موعدك مع طبيب القلب
يوم 9/2...... وسأتصل به بنفسي لأتأكد من ذهابك أو سوف آخذك
بنفسي مجبرة ) تنهدت ووضعت البطاقة في الكتاب
بعد أسبوع استيقظت مبكراً استحممت وارتديت بذله تليق بالمكان
ارتديت حجابي ومعطفاً شتويا ونظارة سوداء وخرجت , ودعت الجدة
وركبت السيارة السوداء المظلمة المتجهة بي فوراً للعاصمة تتبعها ثلاث
أخريات من نفس النوع واللون , وصلت للمكان المقصود
فتحت باب السيارة ونزلت ونظرت للقاعة من الخارج وتنهدت
يبدوا وجودي هنا غير مقنع ولكني اعلم جيدا ما سيتعرض له
رائد من إحراج في وسط الكُتاب والأدباء حيث الجميع يعرف
نورسين وأنها زوجته والكتاب مهدي لها فسيسأل الجميع عن
الزوجة الغائبة ففي الماضي لم يضعني رائد قط في موقف محرج
أمام عائلتي رغم ما كان بيننا وها هوا وقت رد الدين
دخلت بخطوات ثابتة ودخل خلفي الحراس وتوزعوا كي لا يشك
أحد في وجودهم من أجلي , نزعت نظارتي وتجولت بنظري في
المكان حتى وقع علي رائد يقف مع اثنين يتحدثان معه ولا يظهر
لي سوي جانب من وجهه , كان يرتدي معطفاً شتويا رصاصي غامق
يصل طوله عند ركبتيه وحداء من نفس اللون وبنطلون أسود ويضع
يديه في جيوبه ويتحدث بحرية مبتسماً فاقتربت ناحيتهم قليلا فالتفت
حينها رائد نحوي بسرعة ونظر لي بصمت نظرة بدون أي تعبير ثم
اقترب مني وقف بجانبي ووضع يده علي كتفي وسار بي لحيت تجمع
كبير ووقفنا بينهم وقال رائد " أقدم لكم زوجتي قمر صاحبة الإهداء
والخاتمة في الكتاب هل سترحمونني الآن "
نظروا لي وبدؤوا في مصافحتي مهنئين لي علي صدور كتابه
وبعضهم يبدي إعجابه بالخاتمة والبعض تحدث عن كتابي الوحيد
بعد وقت تفرق تجمعهم وبدأ عدد الحاضرين يقل , كنت أقف بجانبه
حين تحدث وعيناه على الباب بعيداً وقال بجدية " هل ستذهبين للطبيب "
نظرت للأرض وقلت بهدوء " الموعد بعد يومين تحدثت معه وسأزوره اليوم "
قال " يبدوا تفقدين وزنك بسرعة , جدتي قالت أنك تتناولين طعامك جيداً "
لذت بالصمت ولم اعلق فقال " قمر هل لي أن أعرف ما الخطأ
بي لتكرهي النوم معي هكذا "
نظرت له بصدمة وعيناه لازالت معلقتان جهة الباب ثم نظر لي وقال
ببرود " هل أفعل شيئاً لا أعي به ؟ هل بي ما ينفرك هل أنا
مقرف ومقزز ولا يمكنك استحمالي "
بقى نظري معلق بعينيه ثم ابتسمت ابتسامة حزينة وقلت
" تبقى لا تفهمني يا رائد مهما طال الزمن "
نظر لي باستغراب فنظرت للبعيد وقلت ببرود
" كنا في وضع لا يسمح بفعل ذلك أم نسيت "
قال " لما تهربي من جواب السؤال "
نظرت للأرض وقلت " أنا لم أهرب من الإجابة أنت ترى أني
لا أنفع سوى لتلك الأمور ولا تحتاجني إلا ذاك الوقت "
ثم نظرت له وابتسمت بسخرية وقلت " سبق وقلتها لي يا
رائد ليست الزوجة فتنة وجمال وجسد متناسق "
هز رأسه وقال " هكذا إذا لم تتخطي الماضي ولم تنسي كل ما قلته فيه "
نظرت حيث ينظر جهة الباب وقلت بحزن " ليثني أستطيع نسيانه "
وضع يده على كتفي وهمس في أذني " أقسم لو ذبحتني
ولو قطع والدك لحمي بيديه فلن أتوقف عن حبك "
ثم غادر بعيداً عني وعيناي تتبعانه وشعرت حينها بيد سحبتني للبعيد
نظرت لصاحبتها فكانت فتاة ترتدي نظارة سوداء كبيرة وتضع أحمر
شفاه غامق يكاد يكون باللون الأسود وملابس سوداء وكأنها خرجت
من فيلم خاص بالإيموا ولولا أنه لا وجود لهم في بلادنا لقلت أنها منهم
سمعت صوت سلاح يفتح خلفي فأزالت النظارة صارخة ورافعة يديها
" هيه لا تقتلوني "
نظرت لها بصدمة ثم قلت " نوران !! "
احتضنتني وقالت " قمر كم اشتقت لك "
احتضنتها أكثر وقلت " نوران لا أصدق أنك هنا "
ابتعدت عني وقالت " عدنا لأيام معدودة وسنغادر فهربت إلى هنا
دون علمهم , قمر هل أنتي غاضبة مني ؟ هل سامحتني ؟ "
احتضنتها مجدداً وقلت بحزن " لست غاضبة كان قصدك
إصلاح الأمور وهكذا شاءت أقدار الله "
تنهدت وقالت بحزن " ما كنت سأسامح نفسي لو فقدتِ
حياتك يومها أنا آسفة يا قمر "
ابتعدت عنها وقلت بابتسامة صغيرة " إنسي الأمر وأخبريني
عن أخباركم وكيف علمتِ أنني سأكون هنا "
ضحكت وقالت " مخابرات سرية , علمت بموعد حفل الكتاب
وخمنت أنك قد تكونين هنا رغم أني كنت أستبعد ذلك لكن حين
رأيت زوجك المصون يراقب الباب كل حين علمت أنك قد تأتي "
ضحكت وقلت " مخابرات وتحليلات ومراقبة ما كل هذه التطورات "
ضحكت وقالت " للضرورة أحكام "
قلت " كيف دخلتي دون دعوى "
رفعت كتفيها وقالت " لا أعلم لم يمنعني أحد تبدوا الدعوة عامة ولو
كانوا منعوني لدمرت لهم الدنيا حتى دخلت "
ضحكت وقلت " ابنة عمتي وأعرفك تفعلينها "
نظرت لشيء خلفي مستاءة فجاء صوت رائد قائلا من خلفي
" رُب صدفة "
لوت شفتيها وقالت بضيق
" ليس من أجلك ولا من أجل كتابك أتيت تفهم "
وقف بجانبي وضع يده على كتفي وقال ببرود
" وليس من أجلك أنا هنا "
لبست نظارتها وقالت مغادرة
" وداعاً يا قمر واعتني بنفسك كي لا تأكلك الذئاب "
كنت سأغادر خلفها فأمسك يدي وقال " علينا أن نتحدث "
نظرت لعينيه وقلت " رائد أرجوك لن نصل لحل فكم مرة
تحدثنا وانتهى الأمر أسوء مما بدأ "
ضغط على يدي بقوة حتى آلمتني ثم رفعها وأدخلها في معطفه
ووضعها على قلبه وعيناه في عيناي في صمت تام وبقينا على
هذا الحال لوقت ونبض قلبه يتسلل من يدي لكل جسدي حتى
بث أشعر بقلبه ينبض في قلبي ثم أخرجها قبل كفها بعمق وتركني
وابتعد فغادرت القاعة راكضة وركبت السيارة متجهة للمستشفى
كنت أفرك كف يدي محاولة إبعاد الشعور الذي سكنها ولازال فيها
حتى الآن وكأنها لازالت على قلبه , فركت وفركت وبلا فائدة
كنت أشعر بنبضه فيها ومكان شفتيه لازال عالقاً عليها وشعرت
بالعبرة تخنقني فوضعتها على قلبي وسافرت في بكاء طويل لم
ينتهي إلا حين وصلت للمستشفى ونزلت أسير ببطء ورأسي
للأرض وحزن كل العالم يعيش فيني , زرت الطبيب منصور
وحين خروجي مد لي بورقة وقال " عليك بالتغذية الجيدة وضعك
صعب وسيحتاج لمراقبة فنبضك ضعيف ونتائج التخطيط غير
مرضية لحد كبير "
أخذت منه الورقة واكتفيت بابتسامة وخرجت , قد أموت هذه
المرة موته أخيرة فحتى قلبي يبدوا مل من هذه اللعبة , غادرت
المستشفى للمزرعة فوراً وصلت وصعدت لغرفتي وأغلقتها خلفي
واتصلت بوالدي فأجاب من فوره وقال قلقا " قمر ما بك يا ابنتي "
قلت ببكاء " أبي أحتاج إليك متى ستعود "
قال بهدوء " لقد أفزعتني أخبرتك أن لا تتصلي إلا للضرورة "
قلت ببكاء أشد " لا أريد ولا يهم ما سيحدث لي , أبي أرجوك
تعال خذني معك أريد أن أكون معك "
قال " ما بك بنيتي هل ضايقك أحد ! هل زوجك قال لك شيئاً هناك ؟ "
قلت بعبرة " لا شيء لا أحد يضايقني "
قال " حسناً بنيتي كلها مدة قصيرة وتنتهي هذه الأزمة "
قلت بتشكك " هل تكذب علي قل أنها حقيقة "
قال بصوت مبتسم " أقسم أنها الحقيقة فاعتني بنفسك وبصحتك
قمر الطبيب قال أنك تحتاجين لعناية أكبر "
قلت بهمس " هل تحدث إليك اليوم وأخبرك "
قال " نعم سنتحدث عن كل شيء لاحقاً حسناً "
قلت بهدوء " حسناً اعتني بنفسك أبي من أجلي أرجوك "
قال " وداعاً حبيبتي الجميلة وبلغي الجدة وابنها سلامي "
قلت بهمس " وداعاً "
أغلقت الهاتف ومسحت دموعي وأحسست أن جزئا من نفسي
التائهة عاد إلي بسماعي لصوته , في اليوم التالي اقترحت عليا
الجدة أن نزور مزرعة ابنة خالتها التي تكون شقيقتها من الرضاعة
وهي والدة أنوار فوافقت بعد إصرار منها وقضينا لديهم ثلاثة أيام
كانوا عائلة مرحة وطيبة وكم سررت بزيارتهم والتعرف عليهم
وبعد أسبوع طرقت عليا الجدة الباب فقلت بهدوء " تفضلي جدتي "
فتحت الباب مبتسمة وقالت " كيف تعرفين أنها أنا "
قلت بذات الابتسامة " من طرقتك للباب ... تفضلي "
اقتربت وقالت بشيء من التردد في ملامحها " قمر بنيتي لدي
ضيوف يريدون زيارتي إن اعترضتِ أنتي عنهم اعتذرت لهم "
قلت بحيرة " ولما سأعترض عنهم !! "
قالت " إنها شقيقتي وابنتها سوزان لقد سبق وقالت أنهما تودان زيارتي
واعتذرتا وقتها وقد حدثت مشادة بيني وبين مريم ترفض زيارتهم
وأنتي هنا , إن كنتي لا توافقي تصرفت في الأمر "
قلت " حسناً سأبقى في غرفتي حتى ذهابهم فما ألمانع "
قالت " سيبقيان لأيام "
قلت بعد صمت " ليأتوا أنا لن أمانع وجود ضيوفك في منزلك "
قالت " أخشى من سوزان , قمر هي أكبر منك لكن عقلها أصغر
من عقلك فهل ستستحملين أي كلمة طائشة , أنا لن أسمح أن تهينك
أبداً ولكن لا أريد قول شيء قبل أن يصدر عنها تصرف سيء "
قلت بابتسامة " لا تقلقي جدتي واستقبليهم متى أردتي وإن أرادت
شيئاً فلتأخذه من يمنعها وإن لم تحصل على شيء فليس ذنبنا "
ضحكت وقالت " صدقتي ولكن بعض البشر يلقون باللوم على
غيرهم ومادام رائد غير موجود فلا خوف "
قلت " ولما الخوف من وجوده !! "
تنهدت وقالت " لا مأمن من مكائد النساء ومن غضب الرجال
مريم ستكون هنا فما أن علمت حتى قالت أنها ستكون معنا "
ضحكت وقلت " ولما تريد الحضور هل تتوقع حرباً ستقوم بيننا "
قالت ضاحكة " بل أقسمتْ أن تطردها إن ضايقتك ويبدوا لن نواجه
مشكلة غيرتها منك بسبب رائد بل بسبب حبنا لك ودفاعنا عنك "
قلت بامتنان " شكراً لك جدتي أنتم فعلا نعم الأهل "
مسحت على شعري وقالت بحنان " كم أتمنى طرد هذا الحزن
عنك لقد أحبك قلبي من يوم رأتك عيني أول مرة وكأنك جزء مني
ولستِ زوجة حفيدي المستهتر المجنون ولكنه تعلم درساً جيداً وبات
يهدي باسمك في الليل "
ضحكت وقلت " ومتى نمتِ معه "
قالت مغادرة " هناك من سمعه "
بقيت أنظر لمكان خروجها بحيرة ثم تنهدت وغادرت السرير
عليا أن أكون أقوى منها ومن ضعفي فلم يعد لدي شيء أخسره
وقفت أمام المرآة ونظرت لنفسي نظرة شاملة , لقد عاد لون وجهي
لطبيعته خلال هذان الأسبوعان وحتى جسمي بات يمتلئ شيئاً فشيئاً
عند المساء اتصلت مريم تتذمر لأن أيوب لا يمكنه المجيء هههههه
تبدوا مستعجلة على لقائهم , كم اشتاق لها فأنا لم أرها منذ ذلك اليوم
ويعز على قلبي أن أفارقها والجدة وأنوار فقد كن عائلتي في غياب أهلي
لم أستطع النوم هذه الليلة وكل الأفكار تأخذني وتعيدني تحسبا للأيام
القادمة فلا أريد أن أحرج نفسي مع الجدة ولا أن أحرجها أمام أقاربها
وكم أخشى من تقلبات مزاجي الذي بات يسوء يوماً بعد يوم
عند الصباح الباكر سمعت طرقات متتالية على الباب فأخرجت رأسي
من تحت اللحاف وقلت بعينان مغمضتان " نعم تفضل "
دخلت الخادمة وقالت " صباح الخير سيدتي , السيدة الكبيرة تطلبك
في المجلس الداخلي "
نظرت لها بعين واحدة مفتوحة وقلت " من معها "
قالت " السيدة رجاء وابنتها "
تنهدت وقلت " حسناً أحضري لي كوب حليب وخبز محمص "
قالت مغادرة " في الحال "
دخلت الحمام أخذت حماما سريعاً وساخنا وخرجت , جففت
شعري وارتديت فستاناً شتويا قصيراً وأنيقا ووضعت كحلا
لعيناي وأحمر شفاه باللون الزهري ومشطت شعري وجمعته
كله للأمام عند كتفي الأيمن وارتديت بعض الإكسسوارات بلون
الفستان , تناولت الخبز والحليب حسب وصايا الطبيب أن لا يخلوا
إفطاري منهما فجعلتهما إفطاري الوحيد وخرجت بعدها من غرفتي
قاصدة مكان وجودهم , وقفت عند الباب وتنفست بقوة فلست بمزاج
مشاكل مع أحد فمنذ فترة أصبح مزاجي سيئاً ولا يتقبل حتى المزاح
دخلت ملقية التحية فكانت هناك سيدة كبيرة في السن شيئاً ما ببشرة
بيضاء وعينان زرقاء واسعة وملامح
عادية وتبدوا على وجهها البساطة والطيبة وفتاة تجلس بجوارها
قمحية البشرة وزرقاء العينان كعيني والدتها , تداخل غريب في
الألوان ولطالما هذا النوع من البشر أشعرني بالغرابة وكأني أمام
صنف هجين منهم , بشرة ليست بيضاء مع عينان زرقاء , صادفت
غيرها الكثير بهذه الصفة وتبدوا أخذت لون هذه البشرة من والدها
أو أن والدها له عينان كعيناها فقد لاحظت هذا اللون الأزرق في
بعض أفراد عائلتهم حتى من أهل أنوار وعينا رائد من قرب باللون
الأزرق الغامق ووالدته بعينان زرقاء فاتحة وابنة مريم الصغرى
كذلك , ما أن رأتاني حتى نظرت لي السيدة بابتسامة أما الفتاة بصدمة
أو دهشة أو لا أعلم ما يكون , كانت تحدق بي حتى جلست بجوار
الجدة التي مسحت على شعري وقالت " هذه قمر زوجة رائد "
قالت السيدة رجاء بابتسامة " اسم على مسمى تشرفنا بمعرفتك "
قلت بابتسامة مماثلة " وأنا كذلك شكراً لك يا خالة "
أما العينان الأخرى فلازالت تحدق بي دون أن ترمش , كان لها
شعرا أسوداً ناعماً قصيراً وترتدي بنطلون من الجينز وكنزه شتوية
سوداء تمضغ العلكة وتفرقعها كل حين , تطرقت الجدة والسيدة
رجاء لمواضيع شتى وكنت أشاركهم الرأي فيها ويبديان إعجابهما
بأفكاري وطريقة طرحي لرأيي , تبدوا هذه السيدة متعلمة ونالت
شهادة عالية فيستحيل أن تكون غير ذلك أما الحجر الصامت فقد
نطق أخيراً وقال " لا أرى رائد هنا سمعت أنه مقيم في العاصمة "
بدأت أولى جولاتها إذاً , قالت الجدة " نعم "
قالت بابتسامة جانبية " ولما يترك زوجته تارة عند شقيقته وتارة
عند جدته !! هل هما متشاجران "
قالت الجدة ببرود فهي تفهم مصابها " قمر تعب قلبها وهي هنا
للراحة الطبية ورائد منشغل مع كتابه , لو كانا متشاجران
لذهبت لأهلها وليس أهله "
قالت بنظرة ساخرة ولهجت الغير مصدق " آه فهمت "
اكتفيت بالصمت فهذا الأسلوب الاستفزازي لا ينجح معي فليس
هناك من تحملت مثلي في حياتها ولم تتكلم , قالت بعد وقت
" ألازال رائد يعشق غرفته السفلية ؟ غريب رغم أن زوجته
في الأعلى تحجباً عن مروان !! "
تأففت الجدة وقالت " سوزان تسكتين دهرا وتنطقين شيئاً لا
علاقة له بما نتحدث فيه , ما الذي تريدين الوصول إليه "
كانت جملتها تلك أقسى من السابقة ويبدوا تعلم الكثير عما يجري
هنا , وضعتْ ساق على الأخرى وقالت ببرود
" من هوا زوجها لم تتحدث فلما انزعجتِ يا خالتي "
تم قالت بابتسامة سخرية
" أم كما علمت لا تتحملين فيها شيئاً مدللتك الجديدة "
قالت الجدة ماسحة على شعري " بل مدللة العائلة كلها وأولهم رائد "
نظرت لي نظرة استهزاء وهمست شيئاً لم أفهمه ولم أهتم لفهمه
لتحمد الله أني التزم الصمت عنها فلو فارت الكلمات في عقلي
أعرف نفسي جيداً سأجرحها بعنف ولكن الجدة بردت على قلبي
في كل مرة فما حاجتي لإظهار نفسي بمظهر سيء مثلها , نطقت
والدتها أخيراً التي على ما يبدوا لا شخصية لها مع ابنتها المتغطرسة
وقالت " سوزان هناك مواضيع كثيرة غير رائد تتحدثين فيها "
رمت شعرها للخلف وقالت ببرود
" رائد صديق طفولتي وحديثي عنه شيء عادي جداً "
ضحكت الجدة وقالت " لا صديقة طفولة لرائد أكثر من قمر
ثم مروان صديق طفولتك أكثر منه لما نسيته من حديثك "
تغير وجهها دليل الضيق ثم قالت بانزعاج
" وما بكم أنتم هل الحقيقة تجرح لهذا الحد "
فاض بي منها وذقت ذرعا من تماديها كنت أود المغادرة , كيف
سأستحملها لأيام ما أن فتحت فمي لأتحدث حتى استوقفني من رأيته
ظهر فجأة أمام الباب يرتدي معطفه الأسود ويداه يدسهما في جيوبه
ألقى التحية واقترب مني دون أن يسلم على أي أحد منهم ودون أن
تتحجب تلك المتوحشة أو تهتم لوجود رجل غريب عنها
جلس بجواري ورفع ذراعه وضمني بها مطبقا بها على كتفاي
وصدري وقبل خدي وهمس لي " اشتقت إليك "
أنزلت رأسي للأسفل أبعد شعري خلف أذني وابتسمت ابتسامة
صغيرة من أجل تلك المغرورة , ابتعد عني ويده لازالت على
كتفي وقال بهدوء " كيف أنتما "
قالت والدتها مبتسمة " بخير كيف حالك أنت فلم نعد نراك "
أما ابنتها فكانت الدماء ستخرج من وجهها من كتمها غيظها
أمسك يدي ولعب بأصابعي قليلاً وقبل خاتم زواجنا ثم همس
لي " كيف كانت زيارة الطبيب "
ابتسمت ونظري للأرض ثم قلت بهمس " جيدة بعض الشيء "
قال بصوت منخفض " يعني النتائج غير مرضية "
اكتفيت بالصمت فقبل رأسي ووقف وسحبني معه لخارج المجلس
خرج بي للمجلس الخارجي وأوقفني مقابلة له فتحرك هواء بارد
فحضنت ذراعاي وارتجفت قليلاً فنزع معطفه ووضع على أكتافي
وقال " كيف جيدة بعض الشيء ما الذي قاله لك "
قلت بهدوء ونظري للأرض " قال أن النبض ضعيف وطلب
مني أن أحسن تغذيتي وغير لي العلاج "
قال بهدوء ممزوج ببعض الضيق " قمر لما لا تهتمين بصحتك "
نظرت لعينيه وقلت " ولما لا تفعل أنت ذلك لنفسك "
تنهد وقال " أنا شيء وأنتي شيء آخر "
تم ابتسم بحزن ونظر جانباً جهة المزرعة وقال " أنتي الآن لك
والدك الذي حُرم منك كل حياته وانتظرته كل عمرك وعليك
البقاء من أجله أما أنا فلا أحد لي "
نظر لعيناي فنزلت دموعي فشدني لحظنه وقال بحنان " عاقبني الله
يا قمر , بث أشعر بكل ما كنتي تشعرين به ... الوحدة الضياع إحساسك
أن لا أحد لك ولا أحد تتمسكين في الحياة لأجله , علمت الآن أي معاناة
كنتي تعيشينها معي في الماضي كما أني في الماضي شعرت بما تشعرين
به الآن أن ملاذك الوحيد أكثر شخص جرحك والحضن الذي تحتاج
لأمانه هوا آخر من تفكر في اللجوء إليه ودوائك هوا سبب جراحك
أنا أعذرك يا قمر وأعلم بما تشعرين الآن "
اكتفيت بالبكاء وأنا أمسك قميصه بقوة وأدفن وجهي فيه وهوا يشدني
لحظنه أكثر ولا شيء يشهد على مأساتنا سوى برد الشتاء ولا شيء
دافئ هنا إلا هذا الحضن الذي يحتويني فلا لجوء إلا إليه ولا ضياع إلا
فيه أبعدني عنه ومسح دموعي وعدل المعطف على جسدي ثم أمسك
وجهي وقال " قمر يوم تشعرين باحتياجك لي إن كنت ضمن الأحياء
فلا تترددي لحظة وإن كنت ميت فأكون قد يئست من انتظارك "
تم وضع يداه على كتفاي وقال ونظره للأرض مطأطأ برأسه للأسفل
" ليلة البارحة كانت آخر عمليات التمشيط العسكري لكافة الأجهزة الأمنية
في البلاد لقد بتروا بؤرة الشر وأصيب والدك في ذراعه لكنه بخير , الليلة
سيظهر ومجموعة من الضباط في القناة الأرضية "
نظر بعدها لعيناي وقبل شفتي وقال بحزن " اعتني بنفسك جيداً يا قمر "
وغادر بعدها على الفور وتركني واقفة مكاني لا شيء معي سوى
معطفه الذي تحركه الريح وأشده حول جسدي بقوة , دخلت راكضة
وتوجهت لغرفتي وأخذت هاتفي اتصلت بوالدي كثيراً ولم يجب ثم
وصلتني رسالة فتحتها فكانت منه وكان فيها ( قمر اعذريني أنا مشغول
الآن عند المساء سأتصل بك .... أحبك بنيتي )
مسحت دموعي وخرجت راكضة للمجلس الداخلي ونظرت بصدمة
وقلت " جدتي لما أنتي وحدك أين ضيفتاك !! "
ضحكت وقالت " غادرتا "
قلت بحيرة " ولما أليستا ستبقيان لأيام ! "
قالت رافعة كتفيها " هكذا حكمت سوزان وأخذت والدتها وغادرت "
قلت بصدمة " لماذا !! "
قالت ببرود " لحقت برائد وهوا يغادر , غابت لوقت ثم عادت غاضبة
وأمرت والدتها بالرحيل وقالت أنها لن تأتي هنا ثانيتاً لأنه أهانها "
قلت بحزن وعيناي للأرض " أنا آسفة يا جدتي كل هذا بسببي "
قالت بابتسامة " جنت على نفسها ما دخلك أنتي , ها أخبريني ما
الشيء الذي كنتي قادمة ركضاً لقوله "
قلت بابتسامة " والدي انتهت مهمته أخيراً وسيعود إلي "
وقفت وحضنتني مباركة لي وقالت " حمدا لله يا ابنتي "
وعند المساء كنت أمام التلفاز ولم أفارقه لحظة حتى عرضوا مجموعة
الضباط الذين قاموا بالعملية ووالدي كان يجلس معهم يده مربوطة لعنقه
تكلموا جميعهم حتى حان دوره وما أن بدأ بإلقاء تحية الإسلام حتى نزلت
دموعي من فورها ثم قال " كلنا فداء للوطن من أجله نحيا فهوا من أجلنا
كان فحتى إن بُترت يدي ما كنت لأتألم لفقدها في سبيله , لقد شهدت البلاد
الأيام الماضية عملية كبيرة لإنقاذها ممن يريدون الفتك بها فأشكر جميع
الضباط والعقداء وضباط الصف وكل من ساهم معنا من المخابرات للجهاز
الأمني الداخلي والخارجي لرئيس البلاد أولاً وأخيراً ولله قبل الجميع
وأعتذر من ابنتي الحبيبة قمر نور عيناي وحياتي المتبقية من خسرت والدتها
وطفولتها بسببهم , هي فخري وعزتي ومَن أنا مِن أجلها أعيش باقي أيامي
وأشكركم على إتاحة ... "
انخرطت في نوبة بكاء شديدة والجدة تهدئني , كانت المرة الثانية في حياتي
أبكي فيها من سعادتي والسبب نفسه عودة والدي لي , بعد قليل رن هاتفي
فكان والدي المتصل أجبت على الفور فقال بصوت مبتسم
" لما البكاء قمر لو فقط أعلم ما الشيء الذي لا يبكيك "
قلت بسعادة وأنا أمسح دموعي
" أبي هل أنت بخير حمداً لله الذي ردك لي سالماً "
قال " بخير بنيتي مجرد خدش بسيط طمئنيني عنك كيف صحتك "
قلت ببحة بسبب كثرة البكاء " بخير متى ستأتي لأخذي معك "
قال بعد ضحكة " لا يسمعك أحد هناك ويضن أنك
متضايقة من وجودك معهم "
قلت بابتسامة " لا أحد سوى الجدة وهي تعلم أني أحبها
وأريدك أن تأتي سريعاً "
قال " يومين فقط حبيبتي لأني مشغول وسآتي لأخذك معي
لمنزلنا ولن نفترق ثانيتا حتى الموت "
قلت بهدوء " لن أعطلك عنهم , اعتني بنفسك أبي وعد سريعاً "
قال بحنان " بالتأكيد بنيتي سأكون لديك ما أن ننتهي من باقي عملنا
وداعاً الآن ولا تنسي أن تبلغيهم سلامي "
بعد يومين قضيتهما في الانتظار ولم أنم فيهما لحظة ولم يكن رائد
موجوداً وغادر منذ كلامه معي في المجلس , جاء أخيراً الوقت الذي
سيأتي فيه والدي دون تخفي ولا تنكر ولا خوف ولا حراس
كنت أقف في الخارج رغم إصرار الجدة أن أدخل عن البرد لكن قلبي
لم يطاوعني ولو كان الأمر بيدي لخرجت للطريق لانتظره
دخلت سيارته بعد وقت فهم تركوا الباب مفتوحاً بطلب مني ليدخل
مباشرة , اقترب بسيارته ونزل منها فركضت نحوه وارتميت في حضنه
باكية وهوا يمسح على رأسي ويقول " اشتقت لك قمر كم اشتقت لك "
كنت أبكي فقط وأتمسك به بقوة وكأنه سيطير مني أو يختفي ثم قلت
بعبرة " أحتاجك والدي أقسم أنني أحتاجك "
أبعدني عن حضنه ومسح دموعي وقال " لن تبقي بلا سند بعد اليوم
لن تنهاني ولن يجرحك أحد ولا بكلمة وسأمسح الأرض بمن يضايقك
يا ابنتي الغالية "
نمت في حضنه بهدوء وقلت " حتى آخر العمر أبي لا تتركني أبداً "
قال بابتسامة " هيا دعيني أدخل وأسلم على الجدة
وابنها وأشكرهما لنغادر "
دخلنا وودعت الجدة بحرارة وكان وداعاً مؤلما فكم اعتدت عليها وكم
أحببتها لتعاملها معي , صافحها والدي وقال بجدية " شكراً لك لما فعلته
من أجل ابنتي فلن أنسى جميلك ما حييت وأي شيء تحتاجانه اتصلا بي
فقط رقم هاتفي مسجل لدى ابنك "
قالت بابتسامة " لا تشكرني على واجبي هي في مقام أحفادي
بل في قلبي أغلى من الجميع , نِعم ما أنجبت وربيت يحفظك الله
لها ويحفظها لك واعتنوا بصحتها جيداً فهي تهملها كثيراً "
قال مبتسماً " لا تخافي أنا لها بالمرصاد , شكراً لكما مجدداً
واعذرينا علينا المغادرة للوصول قبل المساء "
قالت " ألن تتناول العشاء معنا ؟! "
قال " في المرة القادمة سأزوركم وقمر ونتناول الغداء والعشاء "
قالت مبتسمة " مرحباً بكما في أي وقت واعتبرا المزرعة
بيتكما الثاني ولا تنسونا "
خرجنا مغادرين وركبت سيارة والدي للمرة الأولى ويدي في يده
طوال الطريق أنظر له غير مصدقة , أخذني لمكان غريب ومقطوع
وقال " هيا انزلي يا قمر "
قلت باستغراب " أين نحن !! "
قال مبتسماً " والدتك ألا تريدين زيارتها "
نزلت دموعي وقلت بحزن " قبرها هنا ! لما وحيد في مكان مقطوع "
قال بحزن " هكذا حكمت الظروف حينها هيا انزلي "
نزلت معه وكان الريح البارد يعصف بثيابنا بشدة , وصلنا لقبرها
المرتفع قليلاً عن الأرض فنزلت عنده وحضنت ترابه وبكيت بألم
وأنا أقول " أمي حبيبتي كم أشتاق لك لقد أخذ والدي بحقك وحقي
منهم جميعهم , أحبك أمي ونحتاج وجودك معنا "
أمسك كتفي وقال بهدوء " قمر توقفي فهذا لا ينفع في شيء
ادعي لها بالرحمة والمغفرة "
وقفت ومسحت دموعي ورفعت كفاي ودعوت لها كثيراً بكل ما
أعرفه من دعوات ثم نظرت لوالدي وقلت
" لما تبقى هنا وحدها لا تتركها هنا أرجوك أبي "
تنهد وقال " نبش القبور أمر لا يجوز حبيبتي ولا يرضاه الله سنبني
سورا حوله ونجعل المكان مقبرة يدفن فيها باقي أموات المسلمين
لقد اشتريت كل هذه المساحة وسنجعلها مقبرة ثوابها لوالدتك "
حضنته وقلت بحب " شكراً لك أبي رغم أن السور سيمنعني من
زيارتها لأني امرأة لكن سيسعدني أن لا تبقى وحيدة وأن لا يدنسوا
قبرها مع مرور الزمن "
حضنني وقبل رأسي ثم غادرنا المكان وتوجهنا لجسر المدينة
وأوقف السيارة وقال " هنا وعدتك قديماً بشيء وعليا الإيفاء به "
قلت باستغراب " وعدتني هنا !! "
قال مبتسماً " نعم هيا انزلي قد تتذكرينه "
نزلنا معاً وسار بي نحو رجل يبيع المثلجات , يبدوا الأمر جنونياً
ونحن في هذا الشتاء والبرد ولكن الناس تشتري منه دائماً وما أن
اقتربنا منه حتى قلت بدهشة " نعم تذكرت وعدتني أن نعود اليوم التالي
لتشتري لي لأن الجو حينها كان بارداً جداً فبكيت كثيراً في الطريق
ووالدتي تحاول إسكاتي ... نعم أذكره جيداً "
قال بابتسامة حزينة " نعم وفي اليوم التالي كانت والدتك ميتة وأنا في
السجن وأنتي في منزلنا وحيدة "
ابتسمت ومسحت عيناي كي لا أبكي , اشترى لي واحدة كبيرة أكلت منها
حتى شبعت وأنا أسعل من برودتها وهوا يضحك علي وأنا أضحك معه ثم
أخدها مني وقال " يكفي لا تنسي نفسك "
ضحكت وقلت " لا لم أنسى سأشرب شيئاً حاراً جداً لتتعادل الأمور "
ضحك وضمني بذراعه وسار بي على الجسر , كنت أتمسك بمعطفه
مثل عاشقان وليس ابنة ووالدها , نعم هذا ما كنت أحتاجه حنان والدي
ليملأ نصف الهوة في داخلي وقد أجد يوماً ما بعيداً جداً شخصاً مثله يملأ
الجزء الآخر منها , كنا نسير وهوا يحكي لي عن طفولتي ووالدتي وأنا
أضحك من تصرفاتي عندما كنت طفلة وأشعر أنني ملكت الدنيا بما فيها
حتى استوقفنا صوت رجولي مرتفع ينادي " قمر "
التفتنا كلينا لصاحب الصوت فكان ... حيدر
تنفس بقوة وكأنه كان يركض لمسافات كبيرة , نظر لي ثم لوالدي ثم لي
وقال بهدوء " قمر رائد في المستشفى "
وعند هنا كانت نهاية الفصل وأتمنى يكون نال ولو جزء من إعجابكم
وأعتذر على تأخري لظروف خارجة إرادتي لاني عن نفسي أكره توقف الروايات
الفصل القادم الأخير إن شاء الله طويل ويعجبكم وتقرأوا لين تشبعوا
أحبكم في الله وشكرا لسؤالكم عني