كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
قراءة ممتعة للجميع، وللي ما يحب يقرأ التعليقات اللي مني أو من أي قارئ ، بارت اليوم قصير بعض الشيء، والسبب إني كنت طيلة الثلاث الأيام السابقة تعبانة فهذا اللي طلع معاي - عشان محد يسألني بعدين ويقول ليه قصير! - ..
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(50)
ديما تحاول دفعه : وخـر عني بروح أنـام
سيف : وين؟
بالرغمِ من انتشارِ ذراتِ البرودةِ في الغرفة، وموجاتُ السكونِ في كل زاويةٍ تحتويهما، إلا أن نارًا حارقةً كانت تشتدُّ في عينيها، نارًا اشتدَّ بها الاشتعال ما بين قهرٍ منهُ هو بعينهِ وما بين غيرةٍ تغرس جذورها في صدرها وتبعث الضبابَ أمامَ عينيها وفمها لتتشوّش رؤياها وكلماتها، تخلق في صدرها ألفَ غضبٍ وآخر، لذا خرجَ صوتها المهتزّ مشبعًا بنبرةٍ متمردةٍ مستفزة : وين؟ أعتقد هالسؤال ماهو جاي بمكانه، لا تكون نسيت إني عشت بهذيك الغرفة شهرين ونص تقريبًا ، يعني ببساطة * ابتسمت * أكيد بغرفتي
انقبضَتْ عضلةٌ في فكهِ الصلب، وتضايقَت حدقتيه بين حنايا عينيه القاسيَة، فقدت شفاههُ البسمةَ المتسليَة وهو الذي يُدرك أنها تتعمّد ذكر هذا الموضوعِ الذي يستفزّه، هذا الموضوع الذي سيبقى نكتةً سوداءَ نُكتت في قلبِ علاقتهما ... شعَرت بذراعيه ترتخيان حولها، فالتمعت عيناها بانتصارٍ وهي تضعُ كفيها على صدره لتدفعَ جسدها للخلفِ وتبتعد عن نطاقِ الدفءِ في جسدِه، عن صوتِ صدرِه الذي يتنفس الأكسجين بحرارةِ انفعالـه وتشاركُه هي في ذلك. رمَت خصلاتِ شعرها التي انتثرت على ملامحها للخلفِ بكفِّها الحانقة، واحتفظَت بابتسامةٍ باردةٍ وهي تتراجعُ وتلفظ بنبرةٍ ناعمـة : تصبح على خير زوجي العزيز
استدارَت قبل أن تلمح ردّة فعل نظراتِه، وتحرّكت بسرعةٍ وكأنّها فريسةٌ يركض خلفها أسدُ الغابِ وإدراكها المتينُ له يجعلها تتوقعُ خطوتهُ التاليـة، وصلَت للبابِ لتفتحَه، وكما توقّعت كان هو قد تحرّك خلفها بانفعالٍ ليصل إليها قبلًا ويضع كفهُ على البابِ مُغلقًا لهُ ما إن فتحته، ودوَى صوتُ غضبِه في البابِ لتغمض عينيه بقوةٍ وتتمررَ انتفاضةٌ خافتةٌ على جسدِها.
بقيَ ساكنًا من خلفها للحظة، يدها التي كانت تمسك بالمقبضِ انخفضت قليلًا، وبقيَت ذراعهُ من فوقها تمتدُّ لتترك كفّه ملامسةً البابَ بحرارةٍ تخشى أن تكون سببًا في اهترائه! أوَليسَ هو من أصابَ روحها بالإهتراء؟ هي الحيُّ والبابُ جماد، وإن طال شرّهُ لها فليسَ صعبًا أن يطولَ البـاب .. تملك من قسوةِ اليدين ما يملكُ فمكْ، توارثَت أعضاؤك كلّها صوتَ الإسـاءةِ إلى قلبِ من يُحبك، هذهِ العلاقةُ أصبحت موبوءةٌ بأكسدتِك لي، احتكرتني لنفسك، ولم تُبقي لنفسي شيئًا. تملك من قسوةِ اليدين ما يملكُ قلبك، كيف أغلقت بابه؟ وشرّعت صدّه؟ كيف أطرقتَ النوافذَ على قدسيةِ دمِك؟ ليسَ إنصافًا لي أن تجري في دمي ولا أجري في دمك، ليس إنصافًا لي أن تتجاور أحرف اسمك مع - حبيبي - وتتجاور أحرف اسمي مع - زوجة -! فقط زوجة! .. إلهي كم أبغضت هذا المُسمى! أبغضت تسميةَ العلاقة التي أقامت حبي لك، كم مرةً حاولتُ إزهاق الباطلِ في علاقتنا، لكنني في كل مرةٍ أدرك أن الباطلَ أنت، وإزهاقكَ يعني انتهاء هذهِ العلاقـة . . صدقني ، ستنتهي وأنت من ستكتب خاتمتها.
اجتذبَت الهواءَ إلى صدرها ليصتدم الأكسجين بجدار حنجرتها المجروحة، لتخرّ الكلمات مدميةً على بساطِ وقوفِه خلفها، يكاد يلامسها. أغمضَت عينيها بقوةٍ وهي تشعر بهِ يخفض رأسها قليلًا حتى لامست أنفاسه عنقها من الخلف، ونبرتهُ المشدودةُ بُعثت من أعمقِ هاويـةٍ في قبرِ الكلام، ليأتي باردًا محملًا برائحةِ البرزخْ : هي كلمتين ، وما ودي أكررها ، الحين تلفّين وتتجهين ناحية السرير ومبزرتك هذي تخلينها لنفسك
زمّت شفتيها بقوةٍ وهي تفتح عينيها كاشفةً عن حدقتين يتماوجُ فيها الخذلان، عن بؤبؤيْن يضيقان بحزنها وموجةُ العتاب ترتفعُ بقافيتها في قصيدةٍ لم تُرتّل، رفَعت كفّها لتمسح على أرنبةِ أنفها ويبقى جسدها مجمدًا في مكانه يُذيبه حرارةُ أنفاسِ الذي خلفها وكأنهُ سَمومٌ سُلّطَت نفحاتها على جبلٍ جليديٍ سيذوب، وسينصبُّ ماؤه الباردُ على قلبها ليغسل حرارةَ الوجعِ فيها.
أدارتْ رأسها قليلًا إليه، لتلمح بطرفِ عينيها ملامحهُ الصلبَة، وبنبرةٍ تستنشق من صلابةِ ملامحه القليل هتفت بتمرد : وإذا كنت أبي أخلي مبزرتي لنا؟
شدّ على أسنانهِ وهو يخفض يدهُ عن البابِ ليُمسك بكتفها بشدةٍ ويُدير جسدها إليه بعنفٍ جعلها تترنّحُ قليلًا لولا يده التي منعَت سقوطها، والتقى الشرر في عينيه بعينيها اللتين مهما تصاعد تمرّدهما تبقى ظلال الخوفِ تخطو مع كل خطوةِ تمردٍ تخطوها . . لفظَ صوتهُ بحدةٍ وهو يشدُّ على كتفها بقوّة : قلت ما أبي أكرر كلامي
ديما تُغمض إحدى عينيها ألمًا من شدِّه على كتفها، وبصوتٍ يتعالى فيهِ نطاق الوجعِ ليدفها للصراخِ دفاعًا عن ثباتها : أنـا أبيك تكرر ، أبييييك تكرر لأني ما أفهم ، لأني غبية وأحب التكرار
سيف بصراخ : انخرسي
شدّت على أسنانها بقهرٍ وهي ترفعُ يدها إلى يدهِ تحاول تخليص حصارِه الذي يصبُّ جامَ غضبه على عظامها الرقيق، وبنبرةٍ مستوجعَة : وخر يدك .. عورتني!
ارتخَت يدهُ عن كتفها دون أن يتركها .. عضّ زاويةَ شفتهِ السُفلى وهو يهذِّب الحدّة في صوتِه، وبصوتٍ حازمٍ يُشير برأسه ناحيَة السرير : روحي نامي
ديما تعقد حاجبيها بقهرٍ من نبرتهِ الآمرة : بنام بالمكان اللي أبيه
سيف بنبرةٍ مُحذرة : أنا أبيك جنبي
ضربَت بقدمها على الأرضِ وهي تلفظ من بين أسنانها : أنا ما أبيك
بدأت يدهُ دون شعورٍ منه تدلّك كتفها برقّة، ليرتعشَ جسدها وتزدردَ ريقها وهي تحاول الإفلات من يدهِ دون جدوى، بينما لفظَ صوتهُ مناقضًا لرقّة يدِه وبنبرةِ وعيد : إذا سمعت منك هالكلمتين مرة ثانية ما تلومين إلا نفسك
كانت تشعر بالتوترِ من حركةِ يدهِ المُضمِّدةِ للألمِ الذي كان قبلًا منها، لكنّها بالرغم من توترها لفظت بصوتٍ يرتعش : ما أبـ ..
توقفَت كلماتها ما إن انحدرت يدهُ الرقيقة عن كتفها إلى فمها بقوّةٍ تناقض تلك الرقّة، غطّى فمها يمنع بقيّة تلك الكلمةِ من البعْث، وإبهامهُ يشتدُّ على فكّها الأيمن في صورةِ غضبٍ يتماوجُ في عينيه وصوته الذي هدَر : مو من مصلحتك تعاندين ، أحذرك
قال كلماته تلكَ وأسقطَ كفّهُ عن فمها، لم يترك لها الفرصة كي ترد عليه بحدّة قهرها بينما دموعها تقاومُ ببأسٍ الخروجَ أمـامه ، انحنى قليلًا ليحملها بين ذراعيه وتتسع عيناها شاهقةً ليحاولَ جسدها بتمردٍ وقهرٍ أن ينفرَ منه، إلا أنه لم يسمح لها وهو يبتسم بخفوتٍ لملامحها المقهورة والتي تقاومُ البكاء، هاتفًا بصوتٍ خافت : أولًا ، بما أنك حامل فمسألة ضرب رجلك كل ما عصبتي بالأرض ماهي زينة لك خصوصًا إن جسمك تعبان .. ثانيًا ، نفسية الحامل مهمة واسأليني أنا .. ثالثًا ، تخيلي الحين لو أتركك وش تتوقعين بيصير لك ولبنتي؟ عشان كذا بطّلي مقاومة وعناد
ارتفعَ غليَان الغضبِ في ملامحها واختفى أثر البـكاءِ في غمضةِ كلمَة، كانت كل كلماتهِ تعبرها بهدوءٍ ما عدا " واسأليني أنا " التي اخترقت أذناها بحدّةِ سيفٍ واندفاعِ سهمٍ حارقٍ أشعل نارَ الغيرةِ في قلبها، أما يدرِي أنهُ حتى في كلماتِه الغيرِ مقصودةٍ يقصدُ جرحها؟ هل باتَت فطرتهُ قتلها بغيرتها وبحبها وبكل شعورٍ تجاهه؟ . . لفظَت بحدةٍ وقهرٍ وصوتها يرتفعُ بنارِ ما قال : ايه صح نسيت إنك كنت متزوج وزوجتك جابت لك قرد يشبهك ، ما شاء الله خبيييير يبيلي آخذ كورس منك
توقفَ مكانهُ بصدمةٍ وأجفلت نظراته، كان الأحرى لهُ أن يغضبَ للفظِ " قرد " الذي طالهُ وطال ابنه، لكنّه وجد نفسهُ يضحكُ بقوةٍ ويغرقُ في ضحكاتٍ أثارت المزيد من حنقها لتصرخ في وجهه : أيه اضحك ، اضحك أنت ووجهك عاجبك اللي تسويه فيني
حاولت النزول بعدما ضعفَت ذراعيه بضحكه، لينزلها هو بنفسه خوفًا من أن يسقطها في الموجةِ التي أطلقتها إليه، بينما وقفَت تقابلهُ ومن خلفها السرير وهي تنظر لهُ بشرٍ يتصاعد مع كل رنّةِ ضحكةٍ تخرج من فمه، وبقهر : تضحك عليْ هاه؟ تبي تحرني؟ ايه هذا اللي يقول نفسية الحامل مهمة ناسي إنّك السبب في تردي نفسيتي!! يا شيخ عسى هذيك الغوريلا طليقتك تمطّ لسانك المعفن وتقطعه لك وتكون هذي هديَة رجعتها لك
سيف : هههههههههههههههههههه وش هالدعاوي والشتائِم بس بس
عضَت شفتها بغضبٍ من ضحكهِ بينما هي تشتعل هنا، هو يضحكُ هناك، وهي تشتعل هنا!! لم تشعر بنفسها ودمعةٌ تسقطُ من عينها اليُسرى بضعف، بغيمةٍ هكلى تُظلل السعادةَ في صدرها وكان هو تلك الغيمةَ الفارغـة، ارتفعَ صوتها الغاصُّ في عبراتها ليلفظ بألم : اضحك ، أصلًا أنت دايم مبسوط وأنا مقهووورة .. الله يقهرك مثل ما زرعت بقلبي شوكَة قهر للحين توخزني بوجَع
سكَنت ضحكتهُ فجأةً لنبرتها المتألمة، والتقت نظراتهُ بعينيها الغارقتين في الدمع . . لم يُمطر عليها يومًا بوابلِ ضحكِة ، أو ديم! كنتُ لأرتضِي منك الديم دونًا عن أي وابل، لمَ بخلتْ؟ والله كنت لأرضى بالقليلِ الدائِم، القليل الذي يسدُّ حاجتي ويُبقي فراغًا لا تسعهُ الريح .. تركتني فراغًا كاملًا، تُنشدُ فيهِ الريح جلَّ أغانيها، جسدِي يفتقرُ لديمك، جسدي الذي اشتكى منكَ فتداعى سائرهُ بالسهرِ والحمى. ليتك لم تكُن الغيمةَ الفارغة التي ظللتني لتبعثَ لي بظلامٍ دونَ مطرْ.
وكأنّه كان يقرأها ويقرأ خلجاتها، انحنى حاجباه بوجعٍ لما يموجُ في عينيها الدامعتين، وزفَر صدرهُ هواءً ملوثًا بأُكسيد الأسى .. مدّ كلتا يديه وتغاضى عن دعائها المقهور، أمسك بكتفيها ليجلسها على السرير وهو يركّز بعينيها الدامعتين والناظرتين إليه بوهن، ثمّ تحرّكت يدهُ اليُمنى ليُمرر سبابتها تحت عينيها ماسحًا دموعها ومن ثمّ ترتفع ليمرر طرفها على رموشها المُبللة، وصوتُه لفظ بخفوتٍ بعد أن أغمضت عينيها كردّة فعلٍ على ملامستهِ لرموشها : آسف على وجعك ودموع عيونِك
فتحت عينيها الباهتتين تنظر إليه دون استيعاب، أيعتذر لها؟ يعتذر!! ، أحـاط وجهها بكفيه وهو يردفُ بهمسٍ واهِن وابتسامةُ أسى تغتال شفتيه : من النادر أعتذر صح؟ عمومًا أنا ما أبي أضايقك أكثر وأضايق بنتي ، أنتِ الحين بفترة ما تسمح لرداءة نفسيتك فبحاول ما أضايقك مني ، بس كوني متعاونة
عقدَت حاجبيها وهي تفغر فمها، وبصوتٍ مشدود : بهالبساطة؟ أنت عارف وش تقول؟؟! الصبح تعلمني إنك تبي ترجع زوجتك والحين تقولي ما أبي أضايقك وكوني متعاونـة؟ ، هه! متعاونة كيف بالله عليك؟!!
سيف يقطّب جبينه بضيق : ممكن تنسين هالسالفة شوي ، عشانك بس!
ديما بحدة : أنساها!! سيف حرام عليك اللي تسويه فيني! كل شيء عندك بسيط! كل شيء !! أصلًا أنا ليه أحكي معك؟ روح بالطقاق لزوجتك وولدك، صح نسيت وبكررها مرة ثانية ؛ قديمك نديمك لو الجديد أغناك ، الله يهنيك بقديمك ويعوض على جديدك
استدارت عنه بانفعالٍ لتتمدد وتُغطي جسدها باللحاف وأسنانها تقضمُ شفتها السُفلى بقهر، بينما بقيَ هو من خلفها يتأمل استدارتها عنهُ ويستمعُ لأنفاسها المجنونـة، الوجعُ متبـادل، كل منا يوجع الآخر بعد أن كان الوجعُ مني وحدي، في كلِّ مرةٍ كنت أوجعك فيها كان صدري يريد منكِ النومَ بين أضلعه، كانت نيتي عدم ابتعادِك، أنا أناني، لكنّ أنانيتي كانت بكِ، وليس من أجلِ نفسي وحسب، لم أرد للمسافات أن تباعدَ بيننا في طريقٍ غيرِ معبَّدٍ يمتلئ بالشوكِ والعرقلَات، طريقٌ نسقط فيه ولا يطولنا ارتفـاع .. قد أكون مخطئًا، أو على حق! لكن يكفي أنّ نيتي هي أنتِ، يا من تشغرُ النوايا بحُسنها.
تقلّبت فوق السريرِ وواجهتهُ بنظراتٍ ساخنـة، وبنبرةٍ حاقدة : أيه ولا عاد تقول بنتي سامع! هذا ولد ، و لـ د .. حطّ هالكلمة براسك
أخفى شبَح ابتسامةٍ وهو يؤمئ برأسهِ ليُجاريها، حينها تأفأفت بقهرٍ وهي تعود للصّد والجمودِ على وضعيتها لدقائق تبحث عن النوم، لكنّ النومَ طارَ في سماءِ الصباحِ أسفلَ شمسِ مراقبتِه لها، توتّرت أجنحَة النومِ وطار، وبقيَ هو يظللها بالنظر إلى هيئتها دون أن تتعب قدماه من الوقوف، لكنّه تحرّك في النهاية وهو يستشعر أنفاسها المضطربَة والتي تدل على صحوتها، دارَ حولَ السرير ليتعرقل بملابسها المرميَة على الأرض قبل أن يستوي واقفًا ويُكمل طريقه، وما إن وقفَ على الضِّفةِ الأخرى من السرير حتى توقّف لثوانٍ ينظر لعينيها الناظرتين إليه بصمتٍ وقد أشرقَت حدقتيها بعد أن أرتفعت أجفانها عن نظرةٍ جامدةٍ بلا معنى، ليبتسم وهو يجلس على طرفِ السرير، ومن ثمّ تمدد قبل أن يُحيط خصرها ويجرّها إلى صدرهِ الدافئِ وكفّهُ الأخرى تمسح على شعرها المتناثر على وسادتها، اضطربَ تنفسها للحظَات، وتجمّدت يدها التي كانت على صدرها تمنع تلاحمَها بصدره، أغمضَت عينيها بقوةٍ تقاومُ الرغبةَ في دفعه عنها، فقد أرهقها عنادها في الدقائق الماضية، لذا تنهّدت باستسلامٍ وهي تشعر بشفاههِ على جبينها قبل أن تستسلمَ للنومِ الذي سرقَها.
،
كان جسدها قد استرخى على السريرِ وظهرها الذي يؤلمها أُزيحَ ألمُه، لم يأتي فواز منذ ما حدث، وكان آخر ما قالهُ لها " ادخـلي داخل وأنا بتفاهم معاه "، بنبرةٍ حادة! بصوتٍ جاف، لكنّ جفافهُ لم يكن أبدًا كجفافِ كفِّه التي استقرّت على وجنتها وحطّمتها، تشعر بحرارةِ كفِّه لازالت تتجدد على وجنتها كجحيمٍ لا تتلاشى حرارته، وجعها لا ينضب، وألم شعورها في تلك اللحظةِ نثرَ بذورهُ في النهارِ ليُزهر الآن بشدةٍ وبماءِ الذكرى، تقوّست شفتاها وجسدها يتقوّس كجنينٍ في رحمِ امه، ضمّت جسدها بذراعيها وهي تغمض عينيها استعدادًا للنوم، لكنّها انتفضت فجأة على صوت البابِ الذي فُتح بعنفٍ ليدخل فواز بمزاجٍ سيء، فتحت عينيها بضعفٍ لتنظر إليه وقد تحاشى النظر إليها واتّجه مباشرةً ليتناول ملابسَ نومِه ومن ثمّ ولجَ للحمامِ فورًا، انتفضَت مرةً أخرى على صوتِ إغلاقِ بابِ الحمام وتأوّهت دونَ شعورٍ بينما التوت أحشاؤها وعاد ألم صفعتهِ يترسّبُ على وجهها، صفعتهِ التي احتكرَتهُ في زاويـةٍ ضيّقةٍ بعد أن كان يشغر كلّ حنايا صدرها.
ومن الجهةِ الأخرى ، كان قد تركَ للماء البارد حقّ السقوطِ على جسده كشلالٍ في ليلةٍ باردةٍ علّهُ يطفئ القليلَ من فورانِ دمِه، لازال يستذكر كيف أنّه راقبها نهارًا بعد أن انسحبَت لتدخل المنزل بصمتٍ بارد، ومن ثمَّ نظراتُ ذياب التي سلّطها عليه بوعيدٍ عميقٍ يُقرئِه بأنه سينتشلها منه ، عاجلًا أم آجلًا ، لكن " بلَّ تهديدك واشرب مويتها "، هذهِ هي الفكرةُ التي طرأت عليه وهو ينظر إليه بتحدي قبل أن ينسحب ذياب ويركبَ سيارته ليبتعد عن أنظاره، وبقيَ هو لثوانٍ طويلةٍ ينظر للأثر الذي خلفته سيّارتهُ وأفكاره تتّجه لتلكَ الأنثى التي زرعَت في صدره ألف بابٍ لتدخل من كل واحدٍ بعنفوانٍ وذقنٍ يرتفعُ ليتجاوز الغرورَ كِبرًا ، وهو من سيُحطمُ تكبّرها هذا، لن يقول بأنّ حالتها النفسيَة اقتضَت عليها هذا الكِبر، سيكون أكثر من مرحبٍ بمداواتها، لكنّه لن يسمح لتعاليها أن يؤذي غيرهُ وهو الذي يدرك أنها في كلا الحالاتِ كانت لتتعامل مع امه بتلك الطريقةِ النتنة، فالأمر ليسَ متعلقًا بحالتها النفسيَة بحجم ماهو متعلقٌ بحقدها.
مرّت نصفُ ساعةٍ والمـاء يستغرقُ على جسدهِ دونَ أن تطفئ برودته لهيب مشاعره، أغلقهُ ليتناول المنشفة ويجفف جسدهُ ومن ثمّ ارتدى بنطال بجامته دونَ القميص ليخرجَ من الحمامِ مصتدمًا ببرودةِ التكييف الذي تخلخل شعره المبلول، عقدَ حاجبيه وهو يتّجه للكومدينةِ ليتناولَ جهاز التحكّم ويخفض برودة المكيف، متجاهلًا صوت أنفاسها المضطربة التي تدلُّ على صحوتها حتى الآن، وقد كانت في الثلاثين دقيقةً الماضيـة تستمع لصوتِ انهمارِ الماء، صوتُه عكّر نومها الذي غادرها لتبقى حواسها مستيقظةً إليه، وما إن شعرت بهِ يفتح الباب حتى أغمضَت عينيها بقوةٍ محاولةً التظاهر بالنوم.
تحرّك فواز مبتعدًا عن السريرِ باتّجاه إحدى الأرائك التي رمى عليها قميصهُ قبل أن يدخل للحمام، ارتداهُ ومن ثمّ عاد ليتّجه إليها ويجلس على الطرفِ الآخر من السرير، وبصوتٍ فاترٍ وهو يمعن النظر بوجهها : عارف إنك صاحية ، اجلسي بحكي معك
توتّرت عضلاتها وشدّت على جفنيها العلويين تلقائيًا دونَ شعورٍ منها، حينها رفعَ إحدى حاجبيه وهو يركّز بملامحها، وبنبرةٍ آمرة : قلت اجلسي
ارتعشَت شفاهها لتفتح عينيها بهدوء، وارتكزَت حدقتاها ناظرةً للأسفل دونَ أن تتجها إليه، لكنّها بقيَت متمددةً في مكانها ولم تجلس، ليزفرَ بقلّة صبرٍ ويُعيد أمرهُ ببطء : اجلسي
تحرّكت بهدوءٍ وانصياعٍ لتجلسَ وكفّها تشدُّ بنطالِ بجامتها الزهريةِ للأسفلِ بانكسار، تعلّقت نظراتها بحجرها وهو يجلس جانبها يتطلعُ لكلِّ انكسارٍ تنتشر رائحتهُ حولهما، لكنّهُ غيّب عطفهُ عليها خلف قضبانِ القسوةِ وقيّد فكهُ بكلماتٍ قارسـة : تدرين إني بغيت أكسر راسك لما شفتك قدامي وقدام خالك؟ في كل الأحوال ما كنت بخليك تروحين ويّاه حتى لو بغيتي يعني وقتها كان نقدر نقول " جنت على نفسها براقش "، أقدر بكل بساطة أسحبك وأرجعك للبيت وقتها مين بيفكك مني؟
كانت تستمعُ إليهِ بصمتٍ وهي ترفعُ ركبتيها وتُحيطهما بذراعيها ليستريحَ ذقنها عليهما وشفتيها تتقوّسان بوجَع . . أردف ببرود : بس خالفتي توقعاتي! أقدر أسألك ليه بدّلتي رغبتك فجأة؟ اللي أعرفه إن راسك عنيد!
ازدردت غصّتها المُقتبسَةِ من إحدى البراكينِ الخامدة والتي انفجرَت حرارتها فجأةً في حلقها، رفعَت رأسها لتوجّه نظراتها المُنكسرَةَ إليه، وبصوتٍ واهنٍ ونظراتها تشاركهُ الوهن : لأني مؤمنة باللي قلتَه ، تقدر بكل بساطة تسحبني وترجعني البيت ووقتها مين بيفكني منك؟! عاد وش يدريني يمكن يجيني كف ثاني!
قالت كلمتها الأخيرة وهي تبتسم بألمٍ وكفّها اليُمنى ترتفعُ لتمسح على وجنتها الموؤدة، بينما انقبضَت عضلةٌ في فكهِ وهو يغمض عينيه ويزفر، ثمّ فتحهما لينظر إليها بقسوة، وما إن أفرجَ فمه ليتحدّث حتى قاطعهُ صوتها المبتسم بأسى : عاد الرجّال لو مدَّ يده مرة بيمدها مرتين وثلاث ، بتصير عادة صدقني
فواز يعقد حاجبيه بحنق، وبصوتٍ حادٍ لفظ : عمري ما فكرت أمد يدي عليك أو على أي مرَة ، لكن أنتِ اللي حديتيني فلا تطلعين نفسك منها الحين
جيهان تزدردُ ريقها بوجع : للحين كفّك قاعدة توجعني ، لا تزيدها بلسانك
فواز : اللسان ما أظنك تتوجعين منه متعودة عليه ، والا ما كنتِ تلاسنتي مع اللي أكبر منك
جيهان بنبرةٍ مقهورةٍ ضعيفة : هي ليه جات لعندي؟ أنا متجاهلتها عشان ما أغلط ، مين قالها تجيني؟
فواز بحدةٍ يوجّه نظراتٍ قاتلةً إلى عينيها مباشرة : مهما كان ، لسانك ذا لا يتطاول عليها .. عمري ما توقعتك بقلّة الأدب ذي!
دفنَت وجهها بين ركبتيها وهي تصرخُ بقهر : أكرهها ، أكرهها فلا تلومني على اللي أسويه ضدّها
قاومَ رغبةَ يدهِ في تخلخل شعرها وشدِّ رأسها للأعلى حتى يُقابلها بنظراتٍ كافيةٍ لقسمها نصفين، وبصوتٍ حادٍ زلزلَ كيانها : جـــيـــهــــــان!
دفنَت وجهها أكثر وهي تسمحُ لدموعها بالسقوط، بينما دنا صوتُها في أعمقِ قاعٍ في جوفها لتُخفي نحيبها بين أضلعها، لتُعانق وجعَ صوتها بأوردتها، ليتآكل ألمها بصدأ التحجّر بين رئتيها وينسحب الأكسجين إلى ذاكَ الصدأ.
شعَرت بهِ يقبضُ على كتفها فجأةً ليدفعها للسقوطِ على السرير، ثمَّ دنا منها فوقَ عينيها المتّسعتان بذعرٍ وهو يضعُ كفّه جانبَ رأسها على المفرشِ ويتّصل بحدقتيها بجِسر نظراته الحادة، وبصوتٍ مكتوم : راح يتعبك العنـاد ، صدقيني راح يتعبك . . أنتِ تأذين نفسك لما تتصنعين القوّة، بس أنا أكثر شخص يدري إنّك تستندين علي وتثقين فيني، وما أبي أفقد ثقتك بقلِة أدبك أو تمردك، عشان كذا امسكي لسانك، ما أبي أغلط عليك صدقيني
ارتعشَت شفاهها وهي تنظر إلى عينيه من هذا القُرب، يكادُ أنفهُ أن يُلامسَ أنفها، وأنفاسهُ تحرقُ شفتيها الرقيقتين .. ازدردَت ريقها وهي تفتحُ فمها وتطلقُ من حنجرتها نبرةً متألمة : ليه متأكد إنك ما خسرت ثقتي من أول صفعة؟!
صمتَ للحظاتٍ وملامحه تتجمّد فوقَ ملامحها، إلا أنهُ لفظَ بعد ثوانٍ من الصمت : يمكن خسرتها ، ما أدري . . بس كل اللي أبيه إني ما أضطر أأذيك ، انتبهي مني
جيهان تُغمض عينيها وتهمس ببحة : ما أعرف انتبه مني ، علمني
توتّر فكّهُ وبؤبؤيه يتّسع قطرهما، تشنّجت شفتاهُ بينما تنهّد صدرهُ بقلّةِ صبرٍ وهو يخفض رأسهُ ليلثم وجنتها مراتٍ يتذوّق ثلجية ملامحها، بينما ارتفعَ صدرها باضطرابٍ وهي تفغر فمها قليلًا، تشعر بشفاهه تتمرر على وجنتها حتى وصلَ لأذنها، ليهمسَ في تجويفهِ بنبرةٍ ذاهبَة : حتى غزلك غير مباشر! ، كل اللي صرت متأكد منه إنّي أعني لك شيء كبير ، علميني أنتِ كيف أفهمك؟
فتحت عينيها بوهنٍ وهي ترفعُ إحدى ذراعيها وتحيطُ كتفه، وبهمس : علمني أنت كيف تقدر تقرب مني وأتجاهلك؟ علمني كيف تضربني وأكرهك؟ تدري إنك كسرت شيء كبير جواتي ، بس ما كرهتك! كرامتي فكّرت أبتعد عنّك وأطلع، صدقني للحين أبي أتركك لأنّ الرجال اللي يضرب مرته ما يستحقها . . بس كيف أكرهك؟!
فواز يتجاهل أسئلتها ويهمس بصوتٍ غارقٍ بين خصلات شعرها : أفهم إنك تحبيني؟
صمتت! وضاعَت الكلمات في حنجرتها، ارتفعَ صدرها بشهيقٍ مضطربٍ بينما سقطَ بزفيرٍ تعرقَل فوقَ بساطِ سؤالهِ الشريد، أسقطَت ذراعيها عن إحاطةِ كتفهِ وهي تغمضُ عينيها بضعف، بينما اضطربَ قلبهُ فوقَ قلبها، وأغمضَ عينيه ينعمُ بمقولةٍ تقتضي بأن الصمت يعني الإجابـة بالإيجاب، نسيَ نصَّ تلك المقولة! وماذا يُريد من النصوص! إن كانت الكلمات لا تكفي للإجابةِ فالصمتُ أبلغ، الصمتُ يكفي لهذا التوترِ الذي أصابَ جسده/قلبه/أنفاسه/كلماته التي تاهت بين شفتيه لتُبتر دونَ أن تعبر تجويفَ أذنها، كم عشقَ قلبهُ الصمتَ في هذهِ الأثناء، صمتٌ رافقَ شهيقًا من صدرها يكاد يكون تنهيدةً ناعمة، تنهيدةً تكفي عن ألفِ " نعم! ".
وجَد نفسهُ ينسى كل اتفاقيَات حياتهما، الوعودَ التي أطلقها على نفسهِ وعليها، حقّها بحفلةِ زواجٍ وفستانٍ أبيضَ تجيئه من بعدها كأي أنثى في ليلةِ زواجها، ومارسَت شفاهه العشقَ وقد أطاحَ بهِ الصمت الذي جاءهُ منها، من كان يظن أن الصمتَ يغوي أكثر من الكلمات؟ من كان يظنُّ أن تعبيرًا عن كلمةِ " أحبك " قد تأتي بهذهِ البلاغةِ التي افتقر إليها العديدُ من الكُتاب.
ارتفعَ معدّل أنفاسها وهي تُطيح برأسها جانبًا بينما أنفاسه تصتدمُ بنحرها، التوت معدتها بتوترٍ وهي تستسلم بضعفٍ لهذا الإقترابِ المُبـاح.
لكن فجأة، شعرت بهِ ينتشل نفسهُ عنها وهو يقطّب جبينه، تراجعَ وهو يلفظ شتيمةً ما من بين شفتيه لتتسع عيناها باستنكارٍ مذهولٍ وتنظر إليه، بينما وقفَ هو مبتعدًا عنها قبل أن يعودَ ويستدير إليها، وبحدة : اسمعي ، اليوم اتّصلت على عمي يوسف وعلمته بشرطك ، حفلة زواجنا راح تكون خلال أسبوعين ، وببلّغ ديما وأسيل عشان يساعدونك في التجهيز
استدارَ عنها ليتحرّك مبتعدًا ويخرج، لكنّه عاد ليقفَ وهو يستوعب موقفه المُبهم بالنسبةِ إليها، وبصوتٍ يحتفظ بحدتِه لفظ دون أن يوجه نظراته لها : نامي أنتِ ، وأنا بنام برى
اتّسعت عيناها باستنكارٍ أكبر، وبقيَت تتابعه بعد خروجه حتى أغلق الباب من خلفه، بينما جعلها الذهول تتجمّد في مكانها دونَ فهمٍ لكل ما حدث، ومضَت ثوانٍ طويلةً وهي تجلس حتى تسلل إليها الاستيعاب رويدًا رويدًا، وانعقدَ حاجباها بينما ابتسمت شفتاها ابتسامةً تكاد لا تُرى وقد فمهت سبب حدّته وقهره، لا يُريد أن يخلَّ بوعدهِ لها!! ارتفعت كفاها لتضعهما على وجنتيها الملتهبتين باحمرارِ الخجلِ وهي لا تتخيل كيف أنها استسلمت له، وكيف أنه كان قريبًا منها بتلك الدرجة حدّ أنها نسيَت ما حدثَ بينهما قبلًا.
،
تحبسُ نفسها في غرفتها منذ ساعات طوال، ساعةً تبكي وساعةً يلتهما الإجفال، كان لقاءها بهِ موجعًا، استثار كلَّ نقطةٍ حزينةٍ في صدرها ليُبثُّ في كامل جسدها مقطوعةً موسيقيةً انقطعت الأوتارُ قبل اكتمالها، في ليلةِ بدرٍ انتشرَ فيها الضبابُ ليُخفي معالمِ اكتمالِ القمر، وكلُّ نقصٍ لابد من أن تمتلكهُ هي، لا تحب أنصافَ الأمور، فلمَ التهمتها؟ نصف عائلة، نصفُ زوج، نصفُ حيـاة، يا الله لمَ ذلك؟! لمَ كل ذلك يصيبها ويُمحق عزيمةَ الحياةِ فيها؟!!
عضّت شفتها وهي تُغمض عينيها بقوةٍ وتخلخل شعرها بأناملها لتشدّهُ أخيرًا، تسترجعُ بشاشةَ ملامحه، وسامتهُ التي لم يحملها أي رجل، كل أبٍ يكون في عيني ابنته أوسم الرجـال، ولطالما كنت وسيمًا، وحبيبي يا أبي.
*
أعصابها تتآكل تحت وطأةِ الانتظار، بدأت تهزُّ ساقيها في السيارةِ وصوتُ اخوتها في الخلفِ يُضاعف توترها، ولم تشعر بنفسها إلا وهي تُدير رأسها إليهم وتهتف بحدة : أنتم ما ودكم تسكتون؟ خلاص وجّعتوا راسي!
غطاهم الصمت فجأةً بعد نبرتها الحادة، لتتأفأف بمزاجٍ متعكرٍ وهي تعود للنظر إلى الأمامِ عاقدةً حاجبيها، كيف سيكون لقاؤها بهِ وهي التي لم تتجاوز جرحها منه؟ لم تتجاوز ألمها منه! . . أغمضَت عينيها بقوةٍ وهي تتنهّد، ومضَت الدقائِق قبل أن يرتفعَ صُراخ اخوتها من الخلفِ بعد موجةِ الصمتِ التي أصابتهم : بابا جاء ، بابا جاء
فتحت عينيها بسرعةٍ لتوجّه نظراتها ناحيـة باب المشفى وينقبضَ صدرها برؤيتِه، ازدردت ريقها وصوتُ اخوتها في الخلفِ يتصاعدُ دون أن تدركه، فقط بقيَت تنظر للرجل الوسيمِ الأول في حياتها، الذي جرحها بسكينٍ لم يحمل حدّته سواه، وهي التي لم تتوقع هذا الجرح منه، فكان جرحه استثنائي، وقاتل!
لم تكن قد انتبهت للرجل الذي يمشي بجوارِ كرسيّه المتحرك من جهةٍ وفارس في الجهةِ الأخرى، وما إن انتبهت لهُ حتى فغرت فمها وتوتّر قلبها، كان أمجَد الذي يُحادثُ ناصر ويبتسمُ لهُ ببشاشة، ورؤيتها لهُ دائمًا ما تجلب في صدرها ضيقًا والآن تضاعف هذا الضيقُ من بعد معرفتها للحقيقة، من حقّه أن يكرهها، من حقّه أن يبغضها، فهي ابنةُ من اخترقَت هذه العائلة الصغيرة، وبالرغم من كونها لم تعرف كثيرًا عن الحقيقة إلا أن سؤالًا واحدًا قفز في تلك الأثناءِ إلى عقلها " هل هو خالها فعلًا؟ "، عقدَت حاجبيها عند تلك النقطة، لم يكُن والدها ليسمح بهذا التجاوز إن لم يكُن خالها، لكن ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟!
تضايقَ صدرها، وتوجّست مشاعرها، غابَ إدراكها لثوانٍ وهي تُخفض نظرها للأسفل، ولم يوقضها من هذا الغيـاب سوى صوت ضربات فارس على النافذة، حينها انتفضَت وهي تنظر لملامحه التي كان يُقطّبها، لتمدّ يدها نحو زرّ التحكم وتفتح النافذة، وباستفسار : وش فيك؟
فارس بخفوتٍ آمر : اركبي ورى عشان اركّب أبوي
جنان : آآه نسيت
فتحَت الباب لتنزل، لكنّ أمجد كان قد اقتربَ وقتها منهما ليلفظ بنبرةٍ قاطعةٍ للجدل : ناصر بيركب معاي
عقد فارس حاجبيه برفضٍ وهو ينظر إليه : بس يا خالي ...
قاطعهُ أمجد بحزمٍ وهو يرفع إحدى حاجبيه : هذا اللي عندي لا يجيني اعتراض
تنهّد فارس وابتسم بانصياعٍ له، وبخفوت : اللي تبيه على عيني والله
ابتسم أمجد وتحرّك مبتعدًا دون أن يهدي لوجود جنان أي اهتمام، بينما كانت هي تنظر للأسفل وكفّها اليُمنى تفرك ذراعَ يدها الأخرى، تشعر أنّها كالوباءِ هنا، لا علاج له، يُنفر من حوله . . آهٍ يا قسوةَ هذا الشعور!
استدار فارس إليها دون أن ينتبه لما يختلجُ في صدرها، وبنبرةٍ حازمة : جنان ، سلمي عليه ما يصير!
رفعَت نظراتٍ تائهةً إليه وهي تفغر فمها، ودون أن تشعر كان رأسها يتحرّك بالنفي، بالرفضِ لما يُريده ولا تريد! لن تنكر أنها اشتاقته، بكل قسوةٍ تشعر أن هذا الشوقَ يجرفها نحوَ محيطٍ لاذِع، تريد أن ترتمي في أحضانِه وتبكي لياليها الحزينة، أن يمسح على شعرها بكلماتِه الرقيقة، أن تسمح للحزنِ بالنفاذِ من صدرها عبرَ شكوى وأخرى وفضفضةٍ وبكاء، لطالما كان دواءها من كل آفة، مسندها حين تتعثّر، لكن كيف يصبح دواءً على حزنها الذي جاء منه؟!!
أمسكَ فارس بكفِّها وهو يقطّب جبينه ونبرته تسللت عبر شفتيه برجـاء : عشاني ، لا ترديني! وش تتوقعين بيكون شعوره لما تتجاهلينه وأخوانك كلهم نزلوا وراكضوا حوله وسلّموا عليه؟ شايفتهم كيف مبسوط فيهم ويضحك معاهم؟
وجّهت نظراتها إليه، لم تكن قد انتبهت إلى اخوتها اللذين ترجّلوا عن السيارةِ وطاروا إليه بشقاء، لكنّها لا تقدر! قدماها الواهنان لا يستطيعان التحرّك نحوَ جسدهِ الجاثِمِ على ذلك المقعد، لا تستطيع، لا تستطيييع!
شعرت بيدِ فارس تشتدُّ على يدها بقوّة بعد صمتها، سحبها معهُ دونَ كلمةٍ لتتسع عيناها بذهولٍ وهي تحاول الفكاكَ منه، بينما هتفَ صوتها برجاء : فارس لا ، الله يخليك ما أقوى أشوفه وما أبكي ، الله يخليك لااا
لكنّ فارس تجاهلها وهو يزرع الإصرار على ملامحه، وما إن وجد نفسه خلفَ والده حتى تركَ يدها وهو يهتف بهدوء : يبه
أدارَ ناصر رأسه إليهم مبتسمًا، لكنّ ابتسامتهُ تلاشت فجأةً ما إن رأى جنان التي كانت تنظر للأرضِ تحاول مقاومـةَ دموعها . . عقدَ حاجبيه وهو يعود للإبتسـامِ بشوق إلى مدللته، وبنبرةٍ حنونة : حبيبة أبوها للحين تتغلى؟!
اهتزّت شفاهها بوجعٍ وهي ترفعُ رأسها إليه، تقوّس فمها مع تقوّس حاجباها، والتمعَت عيناها بدموعٍ حبيسةٍ تزأرُ بألمها، باشتياقاها الذي تصدّهُ الجراحُ عن الظهور . . بينما انحدَر صوتها هامسًا بشوق رغمًا عنها : الحمدلله على سلامتك
ناصر بعتابٍ وهو يقطِّب حبينه : بس كذا؟!
ارتعَشت أطرافها كلُّها، ورغمًا عنها وجَدت نفسها ترتمي في أحضانه، تُحيطُ عنقه بذراعيها، تبكي على صدرِهِ وتُغرقُ ملابسهُ بدموعها المالحـة، تشتكي منهُ إليه، إلى الفؤادِ الذي حملها منذ كانت صغيرةً حتى كبرَت أمامَ عينيه والسنِين، إلى الشراعِ الذي كان يستقبل الريحَ ويحرّكها في أوسعِ البحارِ على مرِّ الأعوامِ التي هروَلت بنشاطٍ وطوَت ماضيها.
ابتسَم ناصر وهو يرفعُ كفّه الثقيلةَ المرتعشة لتستقرّ على ظهرها، وبصوتٍ حنونٍ وهو ينظر لفارس الذي يبتسم ابتسامةً تكادُ لا تُرى : كم مرة لازم أقولك دموعك غاليـة والدنيا ما تستاهلها؟ لا تبكين ، لا تبكين ، يا عين أبوك لا تبكين
*
لا تبكين ، لا تبكين ، يا عين أبوك لا تبكين
- يا عينَ ابنتِك، أنتَ واللهِ من أبكيتها! - . . مضَى النهار، وانتَهى احتضانها لهُ بعد ثوانٍ وبكاؤها خفتَ للكلماتِ الحنونَة التي كان يلفظها، ابتعدَت عنهُ وهي تمسحُ وجهها الذي احمرّ فوق احمرارِه، ومضَت الثواني قبل أن يساعدهُ أمجد وفارس للجلوس في السيـارةِ، كان عقلها يتنبأ بكونِ والدها سيطلب منها أن تصعد معهم، لذا تحرّكت بسرعةٍ لتصعدَ في سيارةِ فارس، وانتهى ذاك النهار بأن عادوا، وتهرّبت هي من الجلوس معهم حتى الآن، تبكي ومن أبكاها هو من أسماها " عينُه ".
،
جرَت الأيـام كنهرٍ جارٍ يتجدد ماؤه، وينفض عنه التلوثَ في كل تجديد، الحيـاةُ زرقاء، كما البحرُ والسماء، عميقة، لكنها لا تهبُ شيئًا، من قال أصلًا أن السمـاءَ تهِب؟ وحدهُ اللهُ من يهبُ عبادهِ مطرًا وحيـاة، والسماء وسيلةٌ ليسَ إلا، لذا من قال أنها تهبُ الحيـاة بذاتها؟ هي فقط تُحيي، بعد أمرِ اللهِ لها.
أنشَد الصباحُ في أذنِه تغريدة عصافيرَ تملك من النشاط ماهو أشدُّ من العديدِ من البشر، اغتسَل بعطرِه قبل أن يتناولَ مفاتيحَ سيّارتِه وهاتفَه، ومن ثمّ اتجه نحوَ بابِ غرفته ليخرج، ودونَ أن يتّجه لعتباتِ الدرجِ كانت قدماهُ تتحرّك باتِّجاهِ غرفتها، مضَى أسبوعًا كاملًا وهو يحاولُ إحيـاءَ عاطفتها نحوه، لكنّها كانت مختلفةً عن كل مرةٍ يجرحها فيها، وتجاهلت محاولتهُ وتصنّعت أنها لا تفهم تلك المحاولات.
وقف عند بابِ غرفتها، ورفعَ يدهُ ليطرق الباب بهدوء، وحين طال تجاهلها لهُ أدارَ مقبضَ البابِ ليجدهُ مفتوحًا، وبصوتٍ مشرقٍ مبتسم : عمتي
توقفَ حين وجدها تقف أمام المرآةِ وقد وضعَت فرشاة الشعر على التسريحةِ بحدة، ونظراتها الغاضبة كانت تتجه إليه مباشرةً عبرَ المرآة، لتلفظ بغضب : أعتقد من الأدب ما تدخل إلا وقت ما أأذن لك ، فرضًا كنت ألبس وش بيكون وضعي وقتها؟
توترَ وغزى ملامحه الإحراج، بالرغم من كونه يدرك جيدًا أنها من المستحيل أن ترتدي ملابسها والبابُ غير مغلقٍ بالمفتاح، لكنها برعَت في إحرجـه.
تنحنحَ بإحراجٍ وعيناه لم تنتبها لانعقاد حاجبيها عطفًا على هذا الطفل الذي أصبحت تقرأهُ في ملامحه بكلِّ مرةٍ يجيء إليها محاولًا تلطيف أجوائهما، لكنّ العطفَ تلاشى عن ملامحها ما إن وجّه نظراته إليها وهو يلفظ بصوتٍ مُحرَج : معليش على دفاشتي ، كنت جاي أقولك إني مداوم
قاومَت ارتفاعَ حاجىبيها بتعجب، ومن ثمّ السعادة التي أرادت بقوّةٍ أن ترسو على ملامحها لهذا التغيّر العظيم، وامتلكت من البراعةِ الكثير مما جعلها تهتف بجمود : سبحان الله، وش صاير بهالدنيا أدهم تنازل لشغله!!
أدهم بحرجٍ بالغٍ رفعَ كفّهُ اليمنى ليحكّ عنقه : انتهت إجازتي من فترة ، لازم أداوم والا بنفصِل
رفعَت فرشاة الشعر لتُمررها على خصلاتِ شعرها وهي ترفعُ كفّها الأخرى ملوحةً لهُ دون مبالاة : روح بس أنا وش علي منك؟
ابتسمَ بأسى وهو يطرقُ برأسه، وتنهّد ليدخل للغرفةِ ويقترب منها، وما إن وصلَ إليها حتى انحنى قليلًا ليُقبل رأسها ومن ثمّ يلفظ بخفوت : مع السلامة ، انتبهي لنفسك
ومن ثمَّ تحرّك مبتعدًا ليخرج من الغرفـةِ تاركًا لها تتنهّد من خلفهِ بحسرة، لكنّها لن تلين بسرعة! كل هذا لأجله، لأجل أن يعلم ما قيمتها، يكفي عمق جرحه الأخير لها، ولم يجعله يتمادى سوى مسامحاتها لهُ بكل بساطة.
.
.
.
انــتــهــى
وموعدنا الجاي يوم الخميس ، قراءة ممتعة ()
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|