كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةُ من الله عليكم :)
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الله
كيف الأجواء معكم في رمضان؟
إن شاء الله كويسة وربي يسهل عليكم ويمدكم بالطاقة لطاعته
مثل ماقلت في المرة السابقة، هذا الاسبوع راح يحدد انتظامي في رمضان
وللأسف كان وقتي ضيق جدًا وبالغصب لقيت وقت أكتب فيه
لذا سيكون هذا البارت هو آخر ما سأعرضه في رمضان ونكمل بعده بإذن الواحد الأحد
ولأنه الأخير قبل ثلاث أسابيع وأكثر من الإنقطاع عن الرواية خليته طويل جدًا وإن شاء الله يكون في نظركم بنفس الطول اللي شفته
ومنها نقلة كبيرة في بعض الشخصيات
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلا عانقت القدر
للكاتبة : كَيــدْ !
قراءة مُمتعة
+ لا تشغلكم عن العبادات
(7)
يرى النيران تتقد أمام عينيه، وهو يقف بعجزٍ لا حيلة له في إخمادها، فعلتها يا سلطان لكن لا بأس، هذا لا شيء، لا شيء
ضرب ضربته بذكاء، فهما بعد كل ما حدث بينهما كانا قد ابتعدا وابتعد عملهما عن بعضهما، وأصبح لكل شخصٍ جزءه الخاص بينما هذا المخزن كان يخصه هو دون سلطان، لذا قام بإحراقه وإحراق كل ما فيه، وسيخسر سلمان الكثير والكثير بعد ما حصل. لكن لا بأس، لا بأس
بينما من حوله كان رجال الإطفاء يحاولون إطفاء النيران، وهو صامدٌ في مكانه يتأمل بصمت، فليحترق هذا المخزن، وليحترق بيته، وليحترق قلبه، وليحترق جسده بالكامل ... لكن أمرًا واحدًا لن يحترق لا بالنيران ولا بما فوقها، لن يحترق بانتقام سلطان أو غضبه، لن يحترق بشيءٍ وُجد في هذه الدنيا. لن يحرقه شيءٌ بتاتًا، هو حقده هذا الذي تولد منذ خمسة عشر عامًا، ولد لينمو وينمو حتى أصبح خالدًا لن تفنيه لا النيران ولا غيرها.
,
هذه المرة تشجعت، ستحاول إعادة الثقة والحُب من قبل أمها، ستحاول تبرئـة نفسها فهي لم تفعل شيئًا. تنحنت عندما أصبحت واقفةً أمام باب الغرفة وقد شعرت بالخجل، كيف ستُحدثها في غرفة نومها من والد ياسر! لكنها تشجعت وطرقت الباب، هي وحدها الآن وياسر ووالده كلٌّ ذهب إلى عمله. بعد ثواني من الطرق فُتح الباب لتظهر لها أم ياسر فابتلعت ريقها
وتلك وجهها تجهم بازدراء لتدفع البابَ بنيةِ إغلاقه، لكن إلين كانت أسرع فأوقفته بقدمها، وبرجاء : تكفين يمه بتكلم معك شوي
نظرت إليها أم ياسر بحدة ثم دخلت بصمت، فتبعتها إلين بصمتٍ أيضًا. وبعد لحظاتٍ كانت أم ياسر جالسةً على إحدى الأرائـكِ وإلين واقفةٌ على بُعد ثلاثِ خطواتٍ أمامها، ونظرها موجهٌ للأرض الرخامية الباردةِ بخزي، إلهي لمَ كل هذا الخزي الذي تشعر بها رغم أنها لم تفعل شيئًا؟؟
أغمضت عينيها بقوةٍ ثم فتحتها لترفع رأسها : يمه ... تكفين اسمعيني للنهاية ... انتِ فاهمة الموضوع غلط، أنا وياسر ما بيننا شيء، وأمس وقت دخلتي علينا كنتِ فاهمة غلط .... * ابتلعت ريقها وهي لا تدري حقًا ماذا تقول أو كيفَ تتكلم * اسمعــ ...
انقطع حديثها حين رفعت أم ياسر كفها لتُخرسها، فانصاعت وهي تزم شفتيها تنظر للأسفل
أم ياسر وهي تنتفض بانفعال، تزمّ شفتيها بغضب : ما أبي أسمع كلمة منك ... اللي تسوينه حرام حرام
إلين بضعف : ما سويت شيء
وقفت أم ياسر أمامها بعنف : وبصدقك يعني؟ شفتك بعيوني اللي مستحيل أكذبها، حسافة ثقتي فيك بس! .... انتو ما تدرون إنّ فعلتكم هذي راح ... * عضت شفتها بقوة * آه بس
لم تعلم إلين ماذا تقول، دائمًا البريء يدافع عن نفسه ببساله، فلمَ لا تُدافع الآن؟ هي لم تفعل شيئًا لتدان، لكنّ صوتًا داخلها يأمرها بالصمت، فلمَ ذلك؟ لمَ وهي لم تُخطئ؟
أم ياسر بتهديد : اسمعيني زين ... ياسر هنا أخوك فاهمة، يعني حبك له غلط، دامك عايشة في بيت هو فيه فحبك له غلط
فغرت إلين شفتيها، كيف عرفت بحبها له، كيف وهديل لا تعرف حتى؟ ... بالتأكيد هي، رانيا، هي الوحيدة التي تعرف ذلك، وهي الوحيدة التي هددتها قبلًا، غير مُمكن، لمَ تفعل بها ذلك لمَ؟
لم تسمع ما الذي قالته لها أم ياسر بعد حديثها ذاك وهي تغرق في دوامة أفكارها، ألهذه الدرجة تستحقرها؟ لترفض حبها لابن خالتها، المسألة لم تتعدى كونها حُبًا، حبٌ خفيٌّ لم يتعدى جدران غرفتها والعالم " الكيبوردي " .. إذن لمَ كل هذا التحسس والنفور؟
استدارت بيهوتٍ غير مُنتبهةٍ لبقيةِ حديث أم ياسر، لن تهتم أصلًا إن كان هُناكَ بقية، تريد أن تخرج من هذا المكان فقط، وهذه هي المرة الأولى التي تسدير فيها وأم ياسر تتحدث معها!
تنهدت أم ياسر ما إن أُطبق الباب، فجلست وهي تمسح جبينها الغير مُتعرق بتوتر ونظرها توجه للأسفل بتفكيرٍ عقيم!
هاهي أول مُشكلةٍ تظهر أمامها من حُبها الكبيرِ الذي زُرع في قلبها حين رأت تلك الطفلة ذو الستة أشهرٍ في الميتم، لم تكن يومها أمًا إلا لفتى، أرادت فتاةً بأي ثمن، وقد كانت لها مُشكلات في أيّ حملٍ آخر بعد ياسر، والذي كان وقتها ذو السبعةِ أعوام، فتكفلوا بتلك الصغيرةِ الفاتنة، ذات المنشفةِ الزرقاء الملتفة حول جسدها، وقد كان حينها والد ياسر غير مقتنعٍ بها بتاتًا، لكن وبعد أن تكفلوا بها بشهرٍ فقط، اكتشفت أنها حامل في شهرها الأول، ولإرادةٍ من الله ثبت حملها وأنجبت هديل بعد ستةِ أشهرٍ من الإرهاق والتعب، ولدت دون ان تتم شهورها التسع. ومع تعاقب السنين انزرع حُبها في قلب والد ياسر بعد نفورٍ ورفضٍ شديدٍ لها، وبعد جُهدٍ كبيرٍ منها لزرع ذاك الحُب.
والآن هاهي تقف عاجزةً عند أول عقبةٍ كبيرة تقف في وجهها مع تربيتها، فما الذي ستفعله وهي تخفي الكثير والكثير عن زوجها!
,
بصمتٍ مملٍّ كانَ كل منهما يمشي بجانب الآخر، وبينهما تقع مسافة خطوة اختارتها هي، فما كان منه إلا أن يبتسمَ ساخرًا ويجتذب كفها الناعمة إلى يدهِ الخشنة هاتفًا : اتركي عنك حركات المُسلسلات
عبست وهي تحاول نزع يدها من يده، لتهمس بضعفٍ ورجاء : فواز
لا تستطيع في نفسها نُكران الضعف الشديد الذي يعتريها ما إن تكون معه، لكنها لن تعترف به أمامه. والآن رغمًا عنها خرج صوتها ضعيفًا مترجيًا.
فواز ونظره موجهٌ للبشر المُتحركين على سطح الرصيف الواسع، كلٌ يغرق في ما يفعل، منهم من كان مع فتاته سعيدًا، ومنهم من كان يضحك مع رفاقه، ومنهم اللاهي بهاتفه ومنهم الصامت والمُتحرك وحده دون رفيق. وهو! ليس من أيٍّ منهم بالتأكيد، هو مع فتاته لكنه ليس سعيدًا لعدم سعادتها معه. هدر بهدوء : شوفيهم قدامنا
تقطب حاجبيها لتنظر بآليةٍ أمامها، لكنها لم ترى شيئًا يستحق الإهتمام، فقط بشرٌ مثلهم يمشون
جيهان بعبوس : وشو؟
أشار بعينيه دون أن ينظر إليها لرجلٍ يمشي وذراعه تعانق عضد مُتحجبةٍ بجانبه، ينظر إليها ليتحدث فتبتسم له بنعومة، والسعادةُ ترتسم على محياهما
جيهان وهي تضيق عينيها بملل : وش فيهم؟
فواز بجدية : ليه ما نكون مثلهم؟
ازداد عبوسها لتسحب كفها حين ارتخت قبضته قليلًا، فاستدار حين هتفت : غبي
رفع حاجبيه بوعيد لكنها تجاهلت نظراته لتُكمل : وش اللي مخليك متأكد من سعادتهم كذا؟
ابتسم : عيونهم
جيهان بملل : لا تتفلسف على راسي
ثم أسرعت بخطواتها مبتعدةً عنه لتتسع عينيه وينادي باسمها بصوتٍ مسموع، لكنها تجاهلته وتابعت هرولتها إلى أن وصلت للفتاة وزوجها، وبتعمدٍ اصطدمت بكتفها. لا تعلم تحديدًا لمَ قامت بهذه الحماقة، رُبما لأنها غبطتها حقًا لأنها سعيدةٌ مع زوجها كما قال فواز، وهي بكل غباءٍ أرادت الإنتقام من سعادتها بالإصطدام بكتفها.
استدارت الفتاة الفاتنةُ إليها لتتراجع جيهان بارتباك وقد احمر وجهها، وقد أدركت مدى حماقتها : آ آ ... - تداركت لسانها المُتلعثم لتهمس بخجل - I'm sorry
الفتاة بنعومة صوتها وابتسامةٌ هادئة تجلت على شفتيها : لا بأس
لفت نظر جيهان فجأةً ذقنها المُميز، والذي كان بارزًا بشكلٍ مُثير ومقسومًا رأسيًا من المُنتصف، وجهها كان دائريًا صغيرًا يتناسب مع ذقنها الذي أكمل لوحة جمالها، جميلةٌ جدًا، ليست مثلها، فهي ذات ملامحَ عاديةٍ زيّنها البياض فاكتملت بالشعر، لا معالم جمال فيها سواهما، وربما لو أنها كانت سمراء قليلًا أو بشعرٍ أجعد أو قصير لما نظر إليها فواز حتى، هاهي تبدأ بالمقارنة العقيمة التي تتجول في عقلها ما إن ترى أنثى، عضت شفتها باحباط، حتى أرجوان لها ملامح تجعل الناظر فيها يُسبّح دون وعيٍ لما تحمله من جمالٍ أخآذ، ويطول النظر عند عينيها لتجد العيون الناظرة لها صعوبةً في الإبتعاد عن مرمى حدقتيها السوداوتين كما هي تحدق بذقن الواقفةِ أمامها. تنحنحت حين انتبهت لنفسها متجمدةً تحدق بتلك الفتاة التي احمر وجهها خجلًا، وفواز يقف بجانبها وذراعه تحيط بكتفها. رمشت مرارًا وتكرارًا بعدم استيعاب وهي تستمع لكلمات فواز ردًا على ذاك الشاب الذي قال " ما عليه .. ليه الإعتذار "
فواز بابتسامةٍ ودودة وهو يسحب كفه اليُمنى التي كانت تصافحه : عالعموم شلونك؟ يعني سافرت لا تتصل ولا تشوف أحوالي؟
الشاب بعد ضحكةٍ خافتة : وش نقول عنك انت أجل؟
فواز بابتسامة : ما عليه
ثم استدار لجيهان الواقفة بانشداهٍ متفاجئة، إذن ففواز يعرفه! وهم عربٌ مثلهم!
أردف بجدية وخفوت : وش صار عليك انتِ؟
تلعثمت جيهان بارتباك لتعيد نظرها إلى تلك الفاتنة معتذرة : معليش، ما كنت أقصد
هي برقة : لا تعتذري ما صار شيء
ابتسمت باقتضابٍ لتهمس لها : معك جيهان
الفتاة بابتسامة : تشرفنا وأنا جنان
" جنة، بالفعل هي جنة في جمالها " ... هذا ما فكرت به جيهان قبل أن تبتسم لها وتنظر لفواز الذي ضاع بالحديث مع ذاك الشاب، ثم بفضولٍ تساءلت : وش اسمه زوجك؟
جنان بابتسامة : أخوي! .. اسمه فارس
بهتت جيهان ثم سرعان ما استوعبت لترمش وحمرةٌ اعتلت وجهها من ظهورها بهذا الشكل الغبي لأول مرةٍ أمام هذه الجنان .. " فواااااز " .. أرادت الصراخ باسمه فهو من وضعها في هذا الموقف الحرج، خدعها!!
" حمار " .. حركت شفتيها بها دون صوتٍ لتعيد توجيه نظراتها الحمقاء لجنان التي كانت تبتسم بخجل، يبدو أنها غير اجتماعية لكن ملامحها تبعث الطمأنينة والراحة من قِبلها.
تحدثتا معًا قليلًا بمواضيع رسميّة إلى أن هتف فواز : بشوفك بعدين ... الحين عندي شغل
نظرت إليه جيهان بسرعة، أي عمل أيها الكاذب! فهم فواز نظراتها وابتسم وهو يودع فارس ليمسك يدها ويجتذبها معه وصوت جنان الرقيق داعب سمعهما مودعةً لجيهان.
ما إن ابتعدا حتى سحبت يدها بعنفٍ لتهدر من بين أسنانها : ليه عرضتني لهالموقف السخيف؟
فواز ببراءة مُتفاجئة : أنا؟؟ وش سويت بالله عليك؟ مو انتِ اللي رحتي لعندها ودفعتيها بكتفك، مو أنا اللي دفعتك لها!
قال جملته الأخيرة وهو يرفع كفيّه في وضعية الدفاع، فزمت شفتيها بغيظٍ لتهمس بغلّ : طول عمرك سخيف
فواز بجديةٍ أنزل يديه ليشبك أنامله بأناملها ويهمس : ما كان هذا رأيك قبل سنين
ضعفت نظراتها لتهمس من بين أسنانها بقهر : كنت مراهقة وقتها ... أشوفك أخوي اللي أتسلى معه
فواز بقسوة : وكمان كنتِ مراهقة قبل سبع شهور؟
ابتلعت ريقها لتلتمع عيناها بدمعٍ لم ينضب ولن ينضب طالما كان هو زوجها! طالما كان ذاك الحادث يتكرر في رأسها ... ظُلمت، ظُلمت!
ارتجفت شفتيها بهمسٍ ضعيف : حتى انت مو راضي تصدقني؟
يعلم أنها بريئةٌ من ظنون والدته كما هو، لكنه الآن لا يعلم لمَ قال ذلك، لمَ فتح هذا الموضوع العقيم والمجهد لكليهما، لمَ جرحها الآن وأبكاها! هو فقط أخطأ التعبير، ورُبما ضغوطه المترسبة والمتراكمة بازديادٍ تعمل عملها الآن لتجعل لسانه ينطق بالسـوء.
عض طرف شفته السُفلى ليهمس : أصدقك .. أكيد أصدقك
جيهان بألم : لأنك كنت ضحية مثلي بس، والا لو انك غير كذا كنت ظنيت فيني السوء
فواز : ضحية؟ * هزّ رأسه رافضًا لتلك الفكرةِ ليهمس بصوتٍ عاشقٍ مُبتسم * ما كنت إلّا مُستفيد
,
رفع الضمادة عن عيني ذاك الفتى الصغير، والذي يبدو بجسده وملامحه أنه لم يعتب العشرين بعد، المعطف الأبيض يغطي نصف جسده فوق بنطاله، وقفازٌ يُعانق كفيه مع نظارةٍ طبية أكملت صورة الطبيب الفذّ. همس ببضع كلماتٍ للفتى وهو يحرك كفه أمام عينيه، فما كان لذاك الفتى إلا أن تتسع ابتسامته وهو يتابع حركه أنامله وصوته يصدر جملةً واحدة بتكرار " صرت أشوف ... أشوف "، وما لبث لحظاتٍ إلا وصوت عويل أمه يرتفع ويرتفع، ووالده يمسح دمعاته ويقبل رأس ابنه ومن ثم يصافح الطبيب المُبتسم والذي كانَ شاهين.
شاهين بابتسامةٍ ودودة : الحمدلله على سلامتك يا وليد ... الله يكتب لك الخير برجعة نظرك
وليد بسعادةٍ كبيرة لا تصفها الدموع : شكرًا دكتور ... شكرًا
شاهين بابتسامة : الشكر لله وحده
تمتم الفتى بالحمد بينما الأم كانت قد سجدت سجود الشكر، كيف لا تسعد وهو ولدها الذي عانى العمى أشهرًا بعد حادثٍ وقع به، والآن هاهو يرى مجددًا، وبفضل الله وحده على يديّ هذا الطبيب.
سلّم شاهين للوالد وصفةً لبعض أدويةٍ يجب على وليد استخدامها حاليًا، ثم ودعهم بعد أن قرر لهم موعدًا في الأسبوع القادم. جلس على مكتبه وهو يتنهد، رغم كل تلك الفرحة التي ارتسمت على محيا تلك العائلة إلا أنه لم يشعر بأيّ فخرٍ أو سعادة، غابت عنه تلك الأحاسيس التي كانت تعتريه لفرح عائلةٍ فقد ابنها البصر وعاد على يديه بقدرة الله، فقد كلّ تلك الأحاسيس السعيدة والمفرحة لقلبه، بعد أن رحل هو، بعد أن غاب أخاه عن العالم لينتزع معه الفرح والبهجة دهرًا، كم يتمنى لو أنّ مُعجزةً تعيده إليه، كم يتمنى لو أنه لم يمت، كم يتمنى لو يستطيع معرفة ذاك الشخص الذي أرهقه قبل وفاته، متعب كان مريضًا لذا كان زواجه بحبيبته يُأجل ويُأجل وهي تنتظره دون ملل. آه ليته كان مكانه في تعبه، وليته مات بدلًا عنه.
تمتم مستغفرًا وهو يمسح وجهه بكفه ليتناول هاتفه الذي صدح صوته من على مكتبه، ويبتسم لإسم المتصل الغالي على قلبه وهو يضع نظارته على سطح المكتب : يا هلا بأم شاهين الجميلة عُلا
ابتسمت والدته لكلماته : هلا حبيبي وينك؟
ضحك شاهين كطفل يستمع لغزلٍ من فتاته الصغيرة : يمـه ترى كبرت
عُلا بحب : بتظل طول عمرك في نظري صغير
شاهين : اعتبرها اهانة
علا : اعتبرها اللي تبي ... المهم، أبيك تترك اللي في يدك وتجيني الحين
نظر شاهين لجدول المرضى اليوم وابتسم : بجيك يالغالية بس لازم عالساعة 11 ونص أكون في شغلي
علا بهدوء : ماراح أأخرك
قطب شاهين حاجبيه ما إن أغلقت بعد قولها " فمان الله " دون أن تستمع لرده، فوقف قلقًا من فكرة أنها ليست بخير، وفي خلال لحظاتٍ كان يحرك سيارته باتجاه المنزل. وفور وصوله ترجّل ليتجه للباب، فكرة أن تكون أمه غير بخير أخافته، لن يتحمل إن فقدها هي أيضًا ... هز رأسه وهو يهمس : بعيد الشرّ عنها
فتح الباب بالمفتاح الذي لديه، فهو من المستحيل أن يخرج دون أن تغلق أمه الباب خلفه، ولكون المنزل لا يحوي خادمة فلابد من وجود مفتاحٍ آخر معه، وتلك الممرضة التي تساعد أمه لم يرى مثل بلادتها يومًا، فهي تحصر عملها على الإعتناء بوالدته وخدمتها هي فقط، وإن احتاج هو خدمةً صغيرةً منها كفتح الباب له إن ضرب الجرس ترفض، وكم من مرةٍ قبل أن يأخذ له نسخة من المفتاح تعفن في الشمس بسبب تجاهلها له، في وقتٍ كانت أمه نائمةً ولا أحد في المنزل سواهما.
ولج للداخل بهرولةٍ ليجد أمه جالسةً في الصالة والممرضة تناولها الحليب، والتي ما إن رأته حتى أخفضت الخمار على وجهها ذو الملامحِ الشاميّة الجميلة بسرعةٍ لدرجة انه لم يلمح منها شيئًا... سحقًا! يقسم أنها لو لم تكن بكل تلك الأخلاق والإلتزام لكان قتلها، لو تترك غرورها فقط. كشر بملامحه حين غادرت فهي لا تحب الإصطدام بالحديث معه، وهو باستفزازه لها يدفعها لرفع صوتها عليه ونسيان إخفاضه كما هو واجبٌ عليها أمام الرجال الأجانب.
همس بغلّ : من زين الوجه عاد ... ميت عليك أنا!
اتجه لأمه براحةٍ وهو يرى أنها بخير ليجلس بجانبها ويتناول يدها مُقبلًا لها : الله يسامحك على الفجعة اللي جتني بسببك
أمه بجدية : خلك ساكت بس
شاهين بقلقٍ أمال رأسه جانبًا : يمه لا تختبرين الضغط عندي ترى ممكن يهبط فجأة بسببك
عُلا بضيقٍ ضربت كتفه : بعيد الشر .. لا تتفاول على نفسك
شاهين بابتسامة : أجل وش الداعي لكل هالإنذارات المُفاجئة
نظرت إليه عُلا بجدية لتهتف : اتصلت اليوم على أم فواز
عبس شاهين بعتاب : ويعني كل هذا بسبب اتصالك لأم العروس؟
عُلا بجدية : ماهي أي عروس
ابتسم وهو متعجبٌ من أسلوبها : طيب وش المطلوب مني يا أم شاهين؟
علا : تكلمت معها عن الزواج .. هي ما عندها مانع بس تبي تتكلم مع بنتها وتشوف رأيها
شاهين: أوكي ما عندي أي مشكلة إذا كان عالسريع برضاها
علا : واليوم أبيك تروح للسوق معاها وتشتري شبكتها
قطب شاهين حاجبيه، هو لا يمانع لكنه مع كل الضغوطات والمشاكل التي تقع عليه بسبب سند والتفكير في ذاك المجهول المتعلق بمتعب أصبح لا رغبة له بأي شيءٍ حاليًا، وليس من اللائق أن يقابل العروس بنفسٍ - مسدودة -. لذا هتف : أنا بروح بنفسي وأشتري الشبكة ... ماله داعي تكون معي
اعتلت ملامح أمه الغضب، والشيطان يجلب لها أفكارًا سلبية بعدم رضا شاهين الكامل بأسيل، ربما يتحسس أنها أرملة أخيه أو من هذا القبيل، لذا هتفت بغضبٍ وانفعال : قول انك ما تبيها وريح بالك ... ليه طيب طلبتها لك زوجة وفرحتني عشان تزعجني برفضك لها الحين؟؟؟
جُفل شاهين من انفجارها المفاجئ، ما الذي جعلها تفكر بهذا الآن. لكن قلبه انقبض مع انفعالها، وأي انفعالٍ خارجٍ عن المعقول قد يتسبب بارتفاع ضغطها، لذا أمسك بيديها بين كفيه وهو يهتف : آسف آسف ... بآخذها معي بس كل شيء ولا زعلك علي وغضبك
سحبت يدها منه وهي تنادي باسم الممرضة التي جاءت إليها بسرعةٍ مُتحاشية النظر إلى ذاك العملاق المستفز : شو في خالتي
عُلا بتجهم : تعالي حبيبتي سوزان ساعديني عشان أوصل لغرفتي
اقتربت منها سوزان لكن شاهين رفع اصبعه مُحذرًا وعلى وجهه إمارات الغضب : روحي أنا بوصلها
لكنها لم تستمع إليه وهي تمسك بيدي عُلا لتساعدها، فانتفضت حين صرخ غاضبًا : قلت انقلعي من وجهي
تركت يد علا وهي تعود أدراج غُرفتها بغضب، تقسم أنها لولا حُبها لأمه لما جلست دقيقةً واحدة في هذا البيت.
نظرت إليه عُلا بغضبٍ بعد أن اختفت سوزان عن ناظريها : وانت شفيك حاط صوبك من صوب هالبنت
شاهين بملامح مُتضايقة وهو يعتدل ليمسك يديها يريد أخذها لغرفتها : مين قال؟
أبعدت يديه وهي تهتف بغضب : يعني زود عن غضبي لرفضك لأسيل تبيني أغضب عليك عشان سوزان ... * بتحذيرٍ أردفت * شاهين انت تعرف إنها ماهي بحاجة الشغل عشان تذل نفسها بالقعدة، وعارف إنّ أبوها من كباريات بلدها وعملها كطبيبة ماكان إلا حُب لهالمهنة
شاهين بمللٍ من هذه السوزان ومن والد سوزان ومن عمل سوزان، أيعقل أنه بدأ حتى بالغيرة منها كما بدأت غيرته من أسيل بالولادة الآن مع ما حصل؟ : أعرف وأعرف وأعرف ... ومليت منها ومن كل شيء يتعلق فيها * وقف بضيقٍ ليكمل بانفعال * ويمكن تكون نهاية قعدتها على يدي مو برضاها هي
عُلا بحاجبين مُقطبين : نعــــم!!! ...
قاطعها حين قبل رأسها وهو يخشى أن تغضب الآن : أمزح .. وعارف إنها صارت مثل بنتك ووجودها يسليك، فكيف ممكن أطردها * ثم ابتسم مُكملًا * وأسيل بعد على عيني وراسي وأنا أحلفلك بالله إني أبيها .. بس يمكن ما ترضا
علا وقد استرخت برضا : أنا بحكي معها
شاهين : بس مو اليوم عندي أشغال فوق راسي بالعيادة
أومأت برأسها فساعدها ليأخذها لغرفتها ويضعها على سريرها : ارتاحي الحين وتطمني ... مستحيل أخذلك بأسيل
ثم غطاها وهي مُبتسمةٌ له برضا، سيفعل كل شيء يرضيها وإن كتب على ذلك تعاسته، فهي والدته! جنته. ابتسم لها وهو يخرج بعد أن أغلق الباب، كم يشعر برغبةٍ كبيرة في تحطيم رأس تلك الممرضة، أصبحت تفضلها عليه ... زم شفتيه بقهر ... لو لم تكن أمه تحبها وترتاح معها لكان طردها أو دبّر أي حجةٍ ليدعها تخرج برضاها ... زفر بضيق .. أصبح يفكر بسذاجةٍ بل إن السذاجة تكمن في غيرته من كل من حوله على أمه.
تأفأف بقهرٍ من كل تلك الأفكار العقيمة التي تدافعت إلى عقله فجأة ليخرج من البيت عائدًا إلى عمله وهو يتمنى لو يحطم أي شيءٍ أمامه.
,
ينظر إليها ببهوت، لا يصدق ما يسمع، أهذه هي حقًا؟ عادت بعد خمسة عشر عامًا!. بينما هي مُتلحفةٌ بعباءتها، ووجهها الذي لم تنله الكثير من التجاعيد والذي كان مُغطي بخمارٍ رقيق مُوجهًا للأرض.
همست بأسى : بس في النهاية، قلبي يقولي إنه بريء، مستحيل يسويها، مستحيل يكون هو اللي قتل عمي فهد
شعر بقبضاتٍ في قلبه، وجلستهما الآن كجلسته مع عمه يوم حدّثه عن غزل وزواجهما، وفي نفس المجلس العربي. ينظر إليها بألم، بالكثير من الحزن، أوجعه كم ظُلمت، لمَ ظُلمت؟ ولمَ ظُلم زوجها؟ ما ذنبهما؟
تمنى لو يستطيع الإقتراب منها ومعانقتها، هي أمه في النهاية، ليست من حملته وولدته، وليست من أرضعته، بل هي من ربته! يا الله، لمَ كل تلك التعقيدات؟ يريد الشعور بحضنها كما كان طفلًا، يريدها هذه الفترة تحديدًا، بعد كل تلك الضغوطات وبعد كل تلك المآسي التي حلت عليه، يريد دفئًا، يا الله يريد دفئًا قد لا يجده عند سواها.
بينما هي كانت تراقبه وتتابع صمته الذي طال، بشفتين مُقوستين، وكما توقعت هو لن يقبل بها، من هي أصلًا ليقبل بها؟ ليست سوى زوجة قاتل والده كما يظن الجميع، لكنه مظلوم، تريد أن تصرخ بأنه مظلوم، زوجها لم يقتل أحدًا، لم يقتل أجدًا.
بكت دون استعدادٍ لتهتف برجاء : صدقني يا ولدي راضي ماله ذنب، أعرفه، زوجي وأعرفه مثل ما أعرف حبه الشديد لعمي فهد، شلون يقتله وهو اللي سانده بعد يتمه؟ شلون يقتله وهو اللي كرمه في بيته؟ شلون يقتله وهو اللي كان له السند والأب والأخ؟ قولي شلون يا سلطان بعد كل هذا تتهموه بشيء ماله ذنب فيه؟ شلوووووون
تجهم وهو يأخذ كوبًا زجاجيًا من على الطاولة ويصب لها الماء، ثم مد يده لها ليهمس : روقي يمه، ماني متكلم معك لين ما تروقين
قال لها - يمه -! قالــها! قال لها تلك الكلمة التي حُرمت منها من بعد اختفاء زوجها، تلك الكلمة التي لم تسمعها من سواه. رفرف قلبها لتلمع عينيها بالمزيد من الدموع “ آه يا سلطان ... يقولون الأم تحزن وتموت بالحزن يوم تفقد ضناها، وأنا حسيت بهالشعور طول ال 15 سنة اللي فاتوا ... طول هالسنوات اللي كنت فيها بعيد عني وكبرت بعيد عن عيوني “
انتبه لشرودها، فهتف مرةً أخرى يذكرها بكوب الماء، لتنتبه وتتناوله بملامح مبتهجةٍ لم يرها بسبب الخمار، لترفعه قليلًا عن وجهها بعيدًا عن عينيه وتشرب نصف الكوب وتمده له مرةً أخرى، فتناوله ليضعه على الطاولة أمامه.
ثم بحنانٍ نظر إليها، أمازلت كما هي أم أن العمر سرق ملامحها؟ أمازالت تحمل نفس الرائحة أم أن السنوات طمرته بين ثناياها؟ أمازالت تحمل نفس تلك الإبتسامة التي تجعل دماءه تثور لتتفاعل مع الفرح في تفاعلٍ أموميّ تكون ابتسامته هي ناتج هذا التفاعل؟ أمازالت تحفظ تلك الكلمات العاتبة التي حفظها هو عن ظهر غيبٍ من شدة شقائه الذي أهلكها؟ أمازالت تضاريسها هي ذاتها؟ هل تغيرت كما تغيرت نبرة صوتها للعجز؟ يشعر باللهفة إليها كما لم يتلهف لبشرٍ من قبل، سرقتها الحياة منه، وسرقها الظلم منه، ظلمت وجدًا حين أُتهم زوجها الذي اختفى في يوم اغتيال والده لتتوجه أصابع الإتهام نحوه، وهي البائسة التي كان من الواجب عليها دفع ضرائب تلك التهم من خزيٍ وأسى. كم ظلمتِ وظلمتِ يا أماه، وكم سيجني الظالم حصاد ظلمه في حق الجميع ومنهم أنتِ.
ازدادت رغبته في الإنتقام، واشتعل فتيل الحقد عنده، انتظر يا سلمان فالحياة هكذا تريد، جاءت أمي اليوم لتصبح دافعًا أمامي للمتابعة.
هتف بعد ثواني طالت وطالت بالصمت، بينما هي تنظر إليه بعجز : معرفتك أعمق، أعمق بكثير مني ومن غيري وغيري، وثقتك في محلها فتطمني
توجست ولم تفهم معنى ما يقول، لكنها بعينيها كانت تتأمل ملامحه السمراء والتي ورث منها الجاذبية عن والده، تتأمل ثبوت نظرته وثقته، وبأذنها تستمع لنبرته الثابتة، يا الله، إنه فهد يحيا بجسدٍ آخر، هو فهد في حلةٍ أُخرى، لم يمت، من قال أن فهد مات؟ من كذب وقال ذلك؟
أكمل بنفس ثباته وملامحه لم تهتز : أبوي راضي بريء من كل التهم اللي وجهت له بسبب إختفاءه، ربي برّأه من سابع سماء مثل ما برئ عائشة في حادثة الإفك، ربي أظهر الحقيقة في عيوني وبتظهر قريب في عيون الناس
بقيت صامتةً تنظر إليه، ما الذي تسمعه؟ وأخيرًا هناك ما صرح بكلامٍ إيجابي تجاه زوجها بعد كل ما كانت تتناوله من أفواه الناس خمس عشرة سنة، وأخيرًا وجدت من يثبت براءة زوجها المفقود بعد كل تلك المعاناة والخزي الذي غمس بقلبها في أحماضٍ من الحزن والألم
همس بتوثيق وهو يلمح صمتها وشرودها عنه : يمه، زوجك بريء وأنا اللي بثأر له بعد ظلمه مثل ما بثأر لأبوي المغدور .... تسمعيني، أبوي راضي بريء .... بريء
انفجرت باكيةً لتسقط رأسها على كفيها وتبدأ بنحيبها، يا الله نال مني الوجع حتى كدت أموت منه، نال مني حتى بت لا أنطق بسواه ... أنصفني يا الله فلا منصف سواك.
هتفت بصوتٍ عالٍ ونحيبها يزداد : ظنيت إني بموت ولا بسمع أحد يتكلم عن راضي بالحسنى، ظنيت إني بطلع من الدنيا بدون دموع فرح ..... آآآآآه يا ولدي متت، أمك ماتت من موت صيت زوجها على كل لسان
يزداد حقده ويزداد، هذه الدموع، وهذا النحيب، هذا الأسى وكل تلك الآلآم سببها هو وحده، سببها سلمان دون سواه، سببها ظلمه دون ظلم سواه. آه كم بدأ في عقله بكرهه، وسيبدأ فعليًا بكرهه.
اقترب منها وهو يتمنى لو يستطيع تلقف يديها ليُشبعهما قبلًا، اشتاق لها وجدًا. همس بحنانٍ وبه بعض الدعابة : لو أدري إن بكاك بيزيد ما كنت بقول اللي قلته .... خلاص زوجك مذنب
رفعت رأسها تنظر إليه بحزنٍ وألم، ثم همست :انكسر ظهري يا ولدي من بعد راضي
زمَ شفتيه وملامحه تقلبت بألمٍ على حالها قبل حاله : ربي بيحفظه
هي بألم : ما ادري وين أراضيه، عايش واللي ميت، ياكل، يشرب ... قلبي قابضني عليه من 15 سنة ... وفي نفس الوقت ماهو مقتنع بالطلاق
التمعت عيناها بالدموع لتتابع بينما هو ينظر إليها بأسى : الناس أكلت مني ومنه ... زوجك قاتل، زوجك هارب ..... والخبيثون للخبيثات، والا ما كنتِ بتنتظريه كل هالسنين ... ليه ما تفسخي العقد في المحاكم؟ غايب 15 سنة وبمقدورك تتطلقين منه، والا عاجبك هالإرتباط الغبي بشخص مثله؟ ... آآآه ياقلبي ليتهم يحسون باللي أحس فيه، ليتهم يحسون بالألم لكلامهم، وليتهم يحسون بثقتي الكبيرة فيه .... زوجي بريء يا سلطان، ورب العزة بريء
أومأ يُؤكد لها كل ما تقوله، هو بريء، يعلم ذلك، لا ذنب له وكل الذنب لا يتجه إلا لسلمان فقط، سلمان ولا أحد سواه.
,
تجلس معها وهي شاردةٌ في كوب القهوة أمامها، وأمها تتحدث معها وهي غير منتبهةٍ بتاتًا. تريد الطلاق، أصبح كل تفكيرها في الطلاق وحده، سابقًا وافقت لأجل أمها وفواز فقط، والآن ندمت فياليتها لم تفكر في الموافقة قط، شاهين لا يناسبها من وجهة نظرها هي، فهو قبل كل شيءٍ أخ زوجها الراحل.
ام فواز بملامح مستاءة : أسيــــــــــل
انتبهت لتنظر إليها ببلاهة : هاه
ام فواز : وين رحتي يا بنتي من ساعة أكلمك
ابتسمت ببهوت : معليش شردت شوي
ام فواز بحنان : ما عليه ... بس كنت أكلمك عن زواجك
ابتلعت ريقها وبدأت بفرك يديها بتوتر : هاه! وش فيه زواجي؟
ام فواز بابتسامة : كلمت اليوم ام شاهين ... ودها تحدد الزواج
عضت طرف شفتها لتخفض رأسها، لتكمل أمها : وش قلتي حبيبتي ... بعد شهر؟
رفعت رأسها بسرعةٍ وفغرت شفتيها : شهــــر!!
قطبت أم فوار حاجبيها بأسى : ما تبين؟
أسيل بعبرة : ما أبي يمه تكفين ... أنا أصلًا غيرت رأيي وشاهين ما أبيه
جُفلت امها وهي تستمع لكلماتها، لتنظر إليها بعينين مُتسعتين : كيــــــــف!! لعبة هو؟
وقفت وهي تشد قبضتيها بتوتر، قالت ما قالت فلتتابع، جاءتها الفرصة ولن تتراجع الآن، يجب أن تكمل ما بدأته ولربما هذه هي فرصتها الوحيدة. هتفت بحدة : ايوا ما أبيه، أصلًا أنا كنت غلطانة من البداية وشاهين ما يناسبني أبدًا
تسلل الغضب لأمها، ورغمًا عنها ارتفع صوتها بحدةٍ وهي التي كانت تريد السيطرة عليه : أسيــــــل ... هالكلام ما أبي أسمعه مرة ثانية ... ليه وافقتي من البداية وبخاطرك تتراجعين؟ بما إن الموضوع تم فماهو ممكن نتراجع الحين ... الزواج ماهو لعبة
ارتعشت شفتيها وهي تهدر بينما بدأت دموعها بالتجلي : ما أبيه ما أبيه ... أنا بنفسي بتصل عليه وبقوله يطلقني ... أصلًا أنا كنت غلطانة يوم وافقت .... وانتم السبب
اندفعت لغرفتها ودموعها تساقطت، بينما كانت أمها تنظر إليها بصدمة، مستحيل! أبعد أن تم الزواج تقول هذا؟ ابنتها جنت، بالتأكيد جنت، وهي لن تسمح لهذا الجنون بالتمادي.
,
صوتُ الإذاعة يصدحُ بقوةٍ مُطلقًا تراتيل القرآن الباعثة للسكينة، فقط القرآن ما سيريح روحها النازفة وقلبها الغاضب، أما جسدها فلن يشغله عن التوجع إلا الإرهاق والإرهاق فقط.
بملابس تعكس مزاجها السيء كانت تمشي ذهابًا وإيابًا تمسح الأرض وتنظف الخزائن وترتب الملابس المُرتبة من جديد وتكوي أثوابه المكوية من جديد، ثوبُ احترق عمدًا فليت قلبها احترق مع تلك القطعة، وآخرٌ احترق حين غادرها عقلها مُسافرًا إليه، حتى يدها احترقت دون أن تنتبه لتسقط دموعها لألم قلبها حقيقةً وليس لألمِ يدها.
وهاهي الآن تُنظف المطبخ بيدٍ مُحترقةٍ غير آبهةٍ بالألم، وبنطالها الرصاصي الفضفاض قد اتسخ بفعل غُبارٍ لا تعلم كيف تواجد وهي التي تنظف الجناح باستمرار.
تأفأفت وهي تنفض الغبار عن بنطالها ثم اتجهت للمغسلةِ لتغسل يدها السليمة، وأذنيها تستمعان للقرآن بينما شفتيها تتحركان مرددتان للآيات التي تحفظها.
" قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون "
عند هذه الآية تحديدًا سقطت دموعها، لكنها مسحتها وأغلقت الصنبور لتتوجه نحو الراديو وتجلس على أريكةٍ مُفردة بلونٍ عنابي كانت بجانب الراديو. أغمضت عينيها وهي تُعيد رأسها للخلف تسنده على الأريكة، وآيات القُرآن تبعث لها السكينةَ والراحة ... حتى أنها لم تشعر بنفسها حين غابت لعالم الأحلامِ نائمة.
استيقظت على صوتٍ يناديها باسمٍ لم تُسمى به، ولم تعرف شخصًا يومًا يحمله ليصبح بنفس مواصافاته ... قبيح / مُزعج : مي .. مي
تأفأفت وهي غير واعيةٍ تمامًا لتدير رأسها مُريحةً وجنتها اليمنى على الأريكة، فابتسم وهو يعيد خصلات شعرها خلف أذنها الذي اقترب منه وهمس ممرًا لأنفاسه في تجويفه : حالتك الحين ... يُرثى لها
قطبت جبينها لتفتح عينيها وتُغلقها مرارًا وتكرارًا، لكنها عادت لإغلاقهما وهي تهمس دون وعي : جسمي مكسر .... أبي أنــام
ابتسم ليُمسك يدها وهو ينوي أخذها للسرير، لكنه وما إن أمسك بها حتى تأوهت بألم فأبعد يده بسرعةٍ كردة فعل، ثم نظر ليدها ليرى حرقًا وضع في يدها اليُسرى في المنطقة تحت إبهامها.
سيف بتساؤل : وش ذا! ... * ثم رفع نظراته لوجهها النائم * من وش انحرقتي؟
كانت نصف واعيةٍ ونصف نائمة، تمتمت بصوتٍ مبحوحٍ من النوم دون أن تفتح عينيها : المكوى
أغمض عينيه وهو يمرر الهواء من بين أسنانه بصوتٍ مسموع : غبية
ثم اعتدل ليضع ذراعًا تحت رأسها والأخرى تحت ركبتيها، ليحملها إلى الغرفة وهي قد غرقت في نومها تمامًا. دفع الباب بقدمه ليتجه نحو السرير وينزلها عليه ... ثم اتجه لإحدى الأدراج التي تحمل علبة الإسعافات الأولية ليأخذ مرهمًا للحروق وضمادًا ويعود إليها جالسًا بجانبها على طرف السرير.
تناول كفها ليضع عليه المرهم وبدأ في توزيعه بسبابته، ليطول توزيعه بسبب ذهاب عقله مع ملامحها وذهاب بشرته مع ملمس بشرتها الناعمة.
" جذابة " همس بها وهو يميل برأسه يتأملها بامعان، تثيره بكل معالمها الضعيفة. سيكون غير عادلٍ إن قارنها بأنثى أخرى أو فكر بمجرد المحاولة في ذلك، لطالما كان يقرن الأنوثة بالضعف، وهي مع الضعف كالإنسان وظله لا يغادرها إلا قليلًا، بامكانه الآن حساب عدد المرات التي غادرها فيها الضعف.
انحنى قليلًا ليقترب منها، يقبل وجنتها برقةٍ مرارًا ومرارًا، حتى اتجه إلى أذنها ليقبله ويهمس بكلماتٍ لن يفكر حتى بنطقها في وعيها، ثم رفع يده التي كانت تُمسك بيدها المحترقة ليخلخل بها شعرها الحريري، وفي غمرةِ جنونه همس لها : انتِ مختلفة .. اي أكيد مختلفة ... جاوبيني يا ديما انتِ مختلفة والا من نفس الجنس؟ ريحي بالي هالمرة وأنا أوعدك براحة البال
أغمض عينيه بقوة وشد على شفتيه بأسنانه وهو يحرك رأسه بالنفي، لا ليست مُختلفة، كم مرةً حاول إقناع عقله بهذه الفكرة ولم ينجح، فكيف سيُقنع عقله بسؤالٍ كُتب الجوابُ بجانبه ... لمَ لم تكوني مختلفةً يا ديما لمَ؟؟
,
الساعةُ الآن هي الثامنة، وهو يجلس بطوله وجسده الضخم على جلسةٍ عربية في إحدى مجالس هذا البيت، يتمنى لو يستطيع أن يتنفس غير هذا الهواء الملوث، لو يستطيع الهروب من هذا المكان القذر لكنه ليس ممن يحبذون الهروب. زفر بغلّ وهو ينظر للباب الذي طال غلقه وهو بانتظار هذا الأحمد الذي هو عمه الآن، يبدو أنه ورط نفسه بشيءٍ كبير حين تزوج إحدى بناته، لكن ماذنبها هي إن كان لها أبٌ تجري الخسة في عروقه، وكيف سيكون واثقًا أنها لم تورث هذه الخسة منه! .. سؤالٌ بديهي تكرر كثيرًا في عقله ولم يجد له جواب، أيعقل أنها مثل والدها؟ لكنه جلس وتسامر معها كثيرًا وكان يرتاح لها حتى وإن لم يحبها، لكنه يحترمها وهذا يكفي حتى يأتي الحُب بعد الزواج ... زفر بحيرة ... لن يتخذ أي إجراءٍ معها حاليًا حتى انقضاء العام الذي ستكون به في بيته، بعدها سيُحررها وليحدث ما يحدث، فهو يستصعب حياةً مع أنثى كان لوالدها يدٌ في مقتل والده.
استدار بسرعةٍ حين فُتح الباب، لتتجمد نظراته على أحمد الذي دخل وفي يده صينية القهوة، ينظر إليه بعينين ماكرتين، في الصبح علم باحتراق إحدى مخازن سلمان، وبالتأكيد سلطان يُدرك أنه يعلم، ومن مصلحته عدم التلميح لما حصل، فالفائدة قبل كل شيء.
أحمد بابتسامة : حيا الله من جانا .. تو ما نور البيت
رفع سلطان حاجبه بسخرية، منذ متى كان عمه المغرور يحضر القهوة بنفسه، اعتاد عليه دائمًا جالسًا معه وغزل هي من تُحضر القهوة والشاي، فما الذي اختلف الآن؟
سلطان بجمود ودون مقدمات : ما جيت للترحيب وانت عارف هالشيء
ابتسم أحمد بثقة : اي عارف ... بس تدري .. كبرت في عيني كثير لأنك ما تركت بنتي
سلطان دون مبالاة : مؤقتًا
لم تختفي ابتسامةُ أحمد ولم يظهر الغضب أو الإستياء، وهذا ما أثار تعجب سلطان، فكيف لأبٍ أن يقبل بأن تكون ابنته عرضةً لزواجٍ مؤقت!
زمّ سلطان شفتيه قبل أن ينطق : ما أبي زواج ولا قاعة وكل هالإشكاليات المُملة ... لو كنت راضي عن بنتك كامل الرضا صدقني كنت بسوي لها كل اللي تتمناه كل عروس ... بس الحين للأسف ما أفكر حتى بهالشيء
بهدوءٍ صبّ أحمد القهوة ورفع فنجانًا لسلطان، لكنه لم يمد يده فأنزله دون كلمة، ليعيد جسده للخلف : وأنا ما يهمني لا عرس ولا فستان ولا قاعة ولا شيء غير سعادة بنتي، اللي بتنكسر يوم ترفضها قبل لا توصل بيتك
سلطان بسخرية : يعني انت مالك أي يد في كسرها؟
لم ينطق أحمد وهو يثبت نظراته التي لم تنكسر للآن أو يظهر بها الذنب، فأردف بازدراء : صدقني لو ما شفقتي عليها من كلام الناس كنت تركتها لك
وقف بقوةٍ ليُكمل : بكرة بمر عليها وآخذها لبيتي، ما يهمني كانت جاهزة أو لا ... يمديها تضبّ أغراضها المهمة اليوم وبعد ما آخذها بوفر لها كل اللي تحتاجه
اتسعت ابتسامة أحمد، هذ ما يريده، المهم أن يأخذها وليحصل بعدها ما يحصل، تكفيها سنةٌ واحدة دون أن يعلم الحقيقة، وبعد هذا السنة وطلاقها منه بإمكانها الزواج بآخر دون أن يعلم سلطان الحقيقة ويُفضح هو.
وقف أحمد ليقابل سلطان ويمسك بكفه مصافحًا له، وابتسامةٌ ماكرة تجلت على شفتيه ليهمس : لك اللي تبيه ... كلّ اللي تبيه
كانت تستمع لهم وهي واقفةٌ عند باب المجلس، يدها على صدرها الذي كان يرتفع ويهبط بجنون، وملامحها السمراء باهتةٌ بشكل مُرعبٍ، وشفتيها الممتلئتين متسعتان تجتذب أنفاسها بصعوبة. سيدمرها والدها، سيدمرها بهذه الزيجة ... لا لا .. لا يُمكنها متابعة هذا الزواج، ستنتهي إن أصبحت في بيته.
أنزلت يدها المُرتجفة لتضعها على بطنها الذي آلمها وبدأ بالتقلص خوفًا، انتهت الغزل منذ اليوم ... انتهت!
,
تُحركُ ملعقتها على صحن المعكرونة التي لم تأكل منها إطلاقًا، وهي شاردةٌ تمامًا عدا عينيها اللتين كانتا ترتفعان في نظرةٍ خاطفةٍ لأم ياسر التي كانت تتجاهلهاً حرفيًا، تشعر بالعبرةِ تخنقها، لم تتمنى يومًا أن تعيش بهذا الشكل وكل تلك الأحاسيس المجروحة بنبذها. ياسر لم يأكل معهم لا في الغداء والآن أيضًا اعتذر، بالتأكيد هو يشعر بالذنب، تراه يتفرد بأمه كثيرًا وهي ترتسم على ملامحها الغضب من حوارٍ يتكرر كثيرًا بينهما.
رباه! أظهر براءتي فلم أعد أطيقُ صبرًا على نبذٍ وازدراءٍ ظالمين.
رباه! أثق أنك ستكون الحاكم العادل الذي لم يكونوا هم متلبسين بهِ فلا تخذلني، أثق أنك من خلق العدل في نفوس خلقكَ فلا تخذلني إن هُم نسَوه
رباه! أنت تعلم أنني لا أريد من هذه العائلةِ إلا الخير .. فإن لم يكُن لي خيرٌ معهم فأبعدني عنهم
ابتلعت ريقها وأغمضت عينيها ... أبعدني عنهم إن كان في بقائي معصية، أبعدني إن كان في بقائي حزنٌ لهم. إلهي رجوتك ... لا تربط بيني وبينهم لو كان في هذا الإرتباط اغتيالًا لأفراحهم.
زمّت شفتيها وهي تشعر بعينيها تحرقانها من دموعٍ أبت إخراجها، موقتًا فقط، إلى أن تذهب لغرفتها وتطلق سراحها من كلّ تلك القيود التي تمثلت بهم. لكنها فجأةً شعرت بدوارٍ يعتريها، فهي لم تأكل منذ البارحة شيئًا.
ابتلعت ريقها الجاف وهي تقف متمتمةً بالحمد، تريد الهرب لغرفتها. لكنها قبل أن تتحركَ خطوة، كانت يدها تتشبث في الطاولة لثقلٍ أصاب جسدها وضبابٍ غشى عينيها، لتطلق تأوهًا قبل أن تصل إليها هديل وتسندها بخوفٍ كي لا تقع : إلين!!!
وقف أبو ياسر بسرعةٍ كردة فعل، حتى أنه كان سيتوجه إليها غافلًا عن حرمتها عليه، في حين توجهت نظرات أم ياسر إليهما بقلق
إلين بهمسٍ مُرهق وهي تتمسك بها : مافي شيء بس مُجرد إرهاق ... وصليني غُرفتي
هديل بقلق : أوكي بوصلك
لكن صوت أم ياسر أوقفهما : لحظة
إستدارت هديل بتساؤل بينما أغمضت إلين عينيها بغصة، تدرك ما ستقوله لها، ستأمرها بتركها، عضت شفتها لكنها أرخت عضتها ما إن سمعت أم ياسر : الدوخة من قلت الأكل، جلسيها تاكل شيء
ابتسمت إلين ببهوت لتهمس دون أن تنظر إليها : أكلت
أم ياسر بحزم : على بالك ما شفت وش أكلك ... أقول اجلسي اجلسي واكلي زين عشان صحتك
هل من حقها أن ترفض هذا الأمر؟ مستحيل، هو أمرٌ منها هي، من أمها، فكيف لها أن تتجرأ بوقاحةٍ على رفضه. اتسعت ابتسامتها وهي تجلس بمساعدةِ هديل دون أن تتكلم، وأم ياسر أخفضت نظراتها في الصحن في حين جلس أبو ياسر هاتفًا : حتى أنا ملاحظك ماعاد تاكلين معانا مثل قبل ... لا يكون الأكل ماهو عاجبك بس
إلين بابتسامةٍ بريئة مُرهقة وهي تلفّ المعكرونة الطويلة بالشوكة : أفا عليك يبه وأنا أقدر أعوفه؟
أبو ياسر بحنان : على كذا إذا ما شفتك بوجبة من الوجبات ماني مكلمك لأسبوع كامل عقاب
إلين بغنجٍ وهي بحديثها مع أبو ياسر دائمًا ما تنسى نفسها وألمها باستشعارها بوالدها لا بشخصٍ غريبٍ تكفل بها : وأهون عليك
أومأ بجدية : لأنك ما تهونين أبيك تاكلين
,
قبل ذلك بوقت - الثالثة عصرًا
كفه تعانق سماعة الهاتف الأرضي على أذنه اليُمنى، يهتف بقلقٍ بينما عينيه ترتفعان كل ثانيتين للأعلى ناحية الدرج، قلقٌ عليها، فهي صغيرته ووحيدته، ومن جهةٍ أخرى يشعر بالقلق على الكبير الصغير الذي يتحدث معه على الهاتف الآن : احلف إن مالك شغل بالحريق
عبس سلطان من هذا السؤال الذي تكرر عليه مرارًا ومرارًا : كيفك ياخي لا تصدق ... مو ضروري أحلف لك وانت تكذبني ... تراك بكذا تنقص مني
زم شفتيه وهو يستشعر الكذب في صوته، هو، يكاد يقسم أنه السبب الأول والأخير في ما حدث، هو لا يلومه، لكن كل ما يخشاه هو أن يتورط في أمرٍ يودي به للسجن، كما انه الآن من جهةٍ أخرى يحاول كشف كل ما حدث في الماضي بين سلمان وأخيه دون أن يشعر سلطان، ويخشى أن يشوه عليه تخطيطه.
هتف بحدةٍ حازمة : ألاقيها منك والا من اللي عندي! ... يا الله صبرني
صمت سلطان قليلًا ولم يحتج لذكاءٍ حتى يدرك من يقصد : وش فيها غيداء؟
تنهد عناد بجزعٍ ليهمس : مافيها الا العافية إن شاء الله ... الا وش الأمور اللي استجدت في سالفة زواجك؟
صمت سلطان لثواني، لمَ تطرق الآن لهذا الموضوع الذي عكر مزاجه؟ ... هتف بتكشير : اليوم بروح أتفاهم مع أبوها
عناد : ما تبي تعدل في رأيك
سلطان بضجر : صبرًا جميل وبالله المُستعان
عناد بشك : سلطان انت ليه مصر على هالزواج؟
قطب سلطان حاجبيه مستنكرًا : وش قصدك؟
تنهد وهو لا يريد أن يظن سوءً به : ولا شيء ... المهم وش كان موضوعك اللي كنت تبي تقوله لي؟
طغى على ملامحه الجدية، وهو يتذكر زوجة راضي ليلى : بجيك اليوم أو بكرة وبكلمك عنه ... الحين مشغول شوي
لم يهتم كثيرًا وهو منشغلٌ عقلًا بمن في الأعلى : أوكي أشوفك على خير
في جهةٍ أخرى
كانت تنظر للفراغ تضم ركبتيها إلى صدرها حين سمعت طرقًا على الباب، نظرت ببهوت ناحيته لترى عناد يدخل بعد أن طرق مباشرةً، لتصد عنه، بينما هو لم يرسم غير الجمود والجدية على ملامحه.
أغلق الباب خلفه ليتقدم مقتربًا منها، ثم جلس بجانبها على السرير بينما هي ارتبكت لتبتعد راسمةً مسافةً بينهما.
عناد بجدية : اعتقد لازم نتكلم الحين
هزت رأسها بالنفي وهي تغمض عينيها بقوة، لا كلام بينها وبين شخصٍ يُبغضها وإن كان أخاها الأكبر. تنهد ليهتف وهو يتجاهل صدها :كيف المدرسة وياك؟
ازداد ارتباكها، أجاء من أجل انفعالها صباحًا أم من أجل المدرسة؟ .. لا شعوريًا استدارت إليه لتهمس باستغرابٍ وهي تنظر لعينيه الساكنتين بهدوء، لا نفور فيهما ولا غضب : كويسة
أمال جذعه قليلًا ليستند على مرفقه بأريحية بينما أنامله تلامس شعيرات ذقنه : وصديقاتك مثل ما أنا على خبرهم والا تغيروا؟
ما الذي يريد الوصول إليه بأسئلته المعتادة من قبلها؟ فهو مع كل أسبوعٍ أو اسبوعين يسألها عن علاقاتها وهي تجيبه بشيءٍ من الملل، فما معنى أن يسألها الآن وهو بالتأكيد لا يهتم أو غاضبٌ من تصرفها صباحًا؟ ... هذا يعني أنه ليس غاضبًا كما أنه يتكلم معها باعتياديةٍ عكس ما سردته لها سارة بردة فعل الأهل والأقارب والناس كافة بعد الإعتداءات، أم أنه الآن يتصنع؟
أجابته بفتورٍ وحيرة : نفسهم ما تغيروا
عناد : وامتحاناتك؟
غيداء : كويسة
اعتدل في جلسته لينظر إليها بجدية، ليهتف : وكيف صارت الأحوال بينك وبين الأبلة هدى
قطبت جبينها فجأةً حين تذكرت تلك المعلمة، لطالما كانت بينهما مشاحناتٌ لا تنتهي : على ماهي
ارتفع حاجباه ليهتف بحزم : أنا مو قلت لك كوني معاها أوكي ... هي في النهاية مثل أمك وسالفة عدم احترامك لها فيها عدم احترام لذاتك وتنقيص من قدرك وقدر أهلك
عبست فجأةً لتهتف بجزع : ما رجعت أتطاول عليها ... بس أتجاهلها
عناد : حتى التجاهل غلط ... هي ماهي من عمرك عشان تعتبرين التجاهل شيء هيّن والسلام .. تجاهلك لها وهي بعمر أمك يعني تنقيص منها
غيداء : بس هي ما تحترمني ودايمًا تهاوشني
ابتسم ليمد يده يمسح على شعرها : لأنك مثل ما أعرفك شقية وما تتركين حركات الهبالة تبعك ... أجل تستاهلين اللي يجيك منها
اقترب حاجباها من بعضهما بينما زمت شفتيها بعبرة، بالتأكيد سيقول " تستاهلين "، أليست أخته التي بات يزدرئها! أليست المُغتصبة المنبوذة؟ بالرغم من أن كل شيءٍ لازال مُبهمًا في نظرها إلا أنه يكفي أن تدرك مدى بغضهم لها، سيرى أنها تستحق أي تصرفٍ سلبي تجاهها من أي مخلوقٍ لأنها تستحق، أوليس كل البشر يغطون أنوفهم حين يمرون بجانب القمامة!!!
تساقطت دموعها فجأةً، ليجفل عناد للحظات، لكنه أخيرًا قربها منه ليحتضنها بحنان : وش مبكيك الحين؟
غيداء بغصة : عناد انت تحبني؟
ابتسم عناد بتعجب : أكيد مين قال غير كذا؟
غيداء بألم : حتى بعد اللي صار!
صمت للحظات، وكما توقع لقد أدركت ما حصل معها، لكن كيف؟ وبماذا تم حشو عقلها؟
تنهد وهو يبعدها عنه قليلًا، لينظر لوجهها الطفولي بحنان وكفاه تقعان على وجنتيها، ليهمس : وش صار أصلًا؟
غيداء بحزنٍ وبعض الخجل : اللي في بيت ...
قاطعها وهو يضع إبهامه على فمها، ثم همس : الحين برمي سالفة معرفتك على جنب، ومسألة الصديقات وهالخرابيط بحاسبك عليها بعدين .... سؤال واحد بس، بوشو انترس راسك؟
صمتت للحظات وهي تُزيح ناظريها عنه، ثم بعد ثوانٍ قليلة عادت لمرمى عينيه : الكل بيكرهني ويتقرف مني ... طيب أنا وش ذنبي؟ الحين انت وماما تستحون لأني بنتكم وتكرهوني مو؟
هز رأسه بأسى على ما تفكر به، المشكلة أنها لا تدرك أن اعتداء ذلك الرجل عليها لم يتم، وهي لازالت كما هي. مسح دموعها بطرف إبهاميه ليقبل جبينها، ثم هتف : مين قال إننا نكرهك؟ مين اصلًا يقدر يكره غدوي؟
غيداء بجزع : لا تتصنع
عناد بجدية : تعرفيني ما أحب التصنع ... وهالموضوع بكبره ما أتحسس منه لأنه ما يعني شيء لا بالنسبة لي ولا بالنسبة لأمي ولا بالنسبة لسلطان، وكل اللي تفكرين فيه غلط لأنه ماله أساس، انتِ أختي ولو كان صار لك شيء جد كنت بوقف معك مو أتقرف منك .... واللي ترس عقلك بهالخرابيط غبي وانتِ أغبى لأنك لجأتي له .... وحسابك بعدين
التمعت عيناها بدموع جديدة، أما يقوله هو الصحيح ام كلام سارة؟ تشعر بتشتت ولا تدري من تصدق، لكنه أخاها قبل كل شيء، كيف تصدق الغريب وتكذبه؟
عناد بحنان : والحين يلا انزلي عشان تاكلين شيء، واضح إنك في الفطور والغداء تلعبين بالصحن بس ومادخلتي لبطنك شيء ..... وإذا للحين ما اقتنعتي بكلامي بعطيك كف هالمرة
ابتسمت لعينيه، إذن كل ما قالته لها سارة كذب، هي بالفعل ترى صدق عناد وحبه لها، لا يكرهها ولا يتقرف منها، كلامه يعني الكثير إذ أنهم لا يتحسسون لما حصل. بالفعل لقد كانت غبيةً حين لجأت لتلك الفتاة.
أكمل عناد بحدةٍ هذه المرة : وعقابًا لك على كل اللي سويتيه وعلى معاشرتك لناس من هالأشكال بحرمك من السوق والملاهي لشهر كامل
أومأت بطاعة ولم تهتم مع أن هذان الإثنان هما حياتها، لكنها الآن لن تهتم، الأهم هو أنهم لا يبغضونها ولا يتقرفون منها، الأهم انها لازالت مدللتهم وصغيرتهم
ابتعد عناد عن السرير واقفًا : برجع لك في وقت ثاني عشان أعرف صديقاتك بالأسماء الكاملة ... والحين بنزل وثواني وانتِ وراي عشان تاكلين
أومأت ليخرج عناد، ثم زفرت بقوةٍ لتُسقط جسدها الصغير على السرير، ودون شعورٍ بدأت في فرك ذراعها وهي تتذكر ذلك الرجل ولماسته، من بين كلام سارة أنها لن تتزوج أبدًا بعد ما حصل، ومن الطبيعي أن فتاةً في عمرها ستتحسس من هذا الأمر، لكن لمَ تهتم بهذا القدر؟ الأهم هو أن عناد لازال يحبها كما هي ولا يتحسس كونها أخته المُغتصبة!
ابتسمت بحبٍ وهي تهمس : الله يخليك لي
,
فتحت عينيها ببطءٍ وهي ترى الغرفة تغرق في الظلام، تحركت قليلًا ورفعت يدها لتضع ظاهر كفها على جبينها وتضغط به، لكنها تأوهت حين شعرت بالألم فتذكرت أنها قد احترقت بالمكواة، لكن الغريب الآن أنها تشعر بقماشٍ يعانق كفها. رفعت يدها لترى الضماد مع النور الضئيل المتسلسل من باب الحمام. ابتلعت ريقها حين استوعبت لتوها أنها في غرفتهِ التي لم تتجرأ بعد للعودة إليها بقدميها، غرفته هي الوحيدة التي يقبع فيها الحمام بينما الآخر فلا. لكن كيف وصلت إلى هذه الغرفة؟
جلست وهي تشعر بجسدها مُخدر، ثم مدت يدها لتفتح نور الأبجورة وتضيء الغرفة بنورها الضئيل، ثم وجهت نظرتها للساعة المُعلقة بالجدار لتهمس بجزع : يوووه فاتوني صلاة المغرب والعشاء!
نهضت بإرهاقٍ ومفاصل مُتيبسة لتمط يدها للأعلى وتشد جسدها مُقدمةً لصدرها وبطنها للأمام تُصدر صوتًا من بين شفتيها المُغلقتين. ثم اتجهت للحمام تمسح وجهها وتتوضأ لتصلي صلواتها الفائتة وهي تستغفر ربها.
بعد مُدةٍ كانت تطوي سجادتها وجلالها لتتجه لخزانة غرفتها التي توجهت إليها بعد أن توضت، ثم وضعتها وأغلقت باب الخزانة قبل أن تستمع لنحنحةٍ صدرت من باب الغرفة. فاستدارت بسرعةٍ لتراه يقف مُستندًا على إطار الباب مُكتفًا ذراعيه إلى صدره.
ديما بجمود : معليش راحت علي نومة وما سويت العشاء
سيف بهدوء وهو يقترب منها : ما عليه ... والخدامة ليه موجودة؟
ديما وهي تفرك عضدها بتوترٍ خفيّ تتظاهر أمامه بالهدوء : خالتي ما تحب الا الأكل اللي من يدي
سيف بسخرية : واثقة!
ابتلعت ريقها قبل أن توجه نظراتِ ثقةٍ إليه : وهذي الحقيقة ... مثلك تمامًا
ابتسم سيف : في هذي صدقتي ... * اقترب أكثر إلى أن وصل إليها ثم رفع كفها * شلونها يدك الحين؟
همست بخفوتٍ بعد أن تأكدت أنه هو من ضمد لها : كويسة
قرّبها من شفتيه ليُقبلها برقة وحنان فبقيت جامدةً ولم تتحرك، وهي تنظر لعينيه اللتين شردتا قليلًا وشفتيه لازالتا ملتصقتين بالضماد. هي أيضًا شردت بعينيه، بذاك الحجاب الأسود الذي يحجب قلبه عنها، دائمًا ما تحاول قراءة أفكاره وقلبه من عينيه وغالبًا ما تفشل، عدا بعض المرات القليلة التي تقرأ بها الرغبة وقليلًا من الحنان أو القسوة، فقط! لا شيء آخر.
أفاقت من تفكيرها على شفتيه اللتين تحركتا بجُملةٍ لم تشعر بها من الضماد ثم نطق وقد ركزّ بنظراته الحادة على عينيها : قلت للخدامة تطلع عشاء لك ... روحي اكلي لك شيء
سحبت يدها بسرعةٍ وهي تبتلع ريقها وتشتت نظراتها، ثم هزت رأسها : لا ما ودي بشيء
سيف بحدة : ما عندي شيء اسمه لا
" لا حوووول " ... قالتها في نفسها ثم نظرت له بجدية : حتى الأكل غصب!! شكلك لعبت الدور صح وبديت تقتنع في عقلك بكل معنى يحمله اسم مي ... ماني مي، ماني خدامة مملوكة مثل ما يقول الاسم ... أنا ديما
هرولت بسرعةٍ لتهرب بعد ما قالته لكنه كان سريعًا ليقبض على عضدها حين جاورت جانبه : تعالي هنا
أعادها أمامه لينظر لملامحها بجدية : عساك ما أكلتي وبلاها هالمحاضرة ... آخرتك بتروحين بنفسك للمطبخ .... * بأمرٍ أردف * تلمين أغراضك الحين وتنقليها للغرفة الثانية ... حركتك من الغرفة لهنا عشان أغراضك ماهي عاجبتني!
فغرت شفتيها وهي تنظر لملامحه بنفور، شيءٌ ما يمنعها من العودة للنوم معه في نفس الغرفة، شيءٌ غبي سيرديها للمشاكل معه. هتفت بغباءٍ مُتلعثمة : وش قلت؟
رفع حاجبه : ما تسمعين انتِ؟ ... قلت انقلي اغراضك للغرفة الثانية
تلعثمت وهي تتراجع قليلًا للخلف خوفًا منه وكأنها تعلم عاقبة كلامها : ما ودي
زمّ شفتيه ليتخطى الخطوات القليلة التي صنعتها بينهما ليقبض على ذراعها بقسوة. يشعر بفورها من عينيها ولا يريده، ليست هي من ستقرر الإبتعاد وهو صامت، أجل ليست هي.
همس بغضبٍ وانفاسه تحرقُ بشرتها : حركات المسلسلات هذي ماهي عاجبتني! ... ترجعين للغرفة معي وانتِ ساكتة، الحين مافي عذر يمنعك من النوم معي في نفس الغرفة، حجاب التحريم انرفع خلاص، والحين انتِ مثلك مثل أي زوجة تنام مع زوجها.
نفض يدها بقسوةٍ ليهدر بحدة : لمّي أغراضك يلا
انتفضت وهي تتراجع للخلف وشفتيها تقوستا بعبرة، ثمّ بصمتٍ اتجهت للخزانةِ لتأخذ أغراضها لتلك الغرفة، وصوت باب الجناح دوّى ليُعلن خروجه غاضبًا.
رمت مافي يدها بغضبٍ لتسقط دموعها، لمَ هي ضعيفةٌ بهذا الشكل؟ لمَ يستطيع بكل سهولةٍ أن يُحركها كيفما يشاء، أكرهك يا سيف أكرهك!
جلست على الأرض وهي تغطي وجهها ... لا بل أحبك، أحبك ولا أعلم كيف أحببتك، فلا تقُم بسلخ هذا الحُب عن قلبي بسكينك الذي لا يملّ ولا يكل عن جرحه باستمرار.
بينما هو ... كان قد خرج من الجناح ومن البيت بأكمله، ليقف عند سيارته وصدره يرتفع ويهبط بانفعال، وبقهرٍ مسحَ وجهه بكفه ثم ركلَ سيارته بغضبٍ صارخًا : ما تبيني ... الحمارة ما تبيني!! ... * أردف بحدةٍ وصدره يرتفع ويهبط * مو بكيفك يا ديما مو بكيفك، تبين تشابهين غيرك؟؟ بس ماهو أنا اللي بيطْلِقك على راحتك، ماهو أنا!!!
,
كانت تقابل جُدران غرفتها تهزّ جسدها للأمام والخلف بتفكير، وأرجوان في المطبخِ تُحضر العشاء. الساعةُ الآن هي السابعةُ مساءً بتوقيت بروكسيل، وهي بقيت مع فواز حتى الثانية مساءً.
سمعت صوتَ خطواتٍ فرفعت رأسها لترى أرجوان التي جلست بجانبها على السرير.
جيهان بإيجاز : ما أبي أتعشى
ابتسمت أرجوان : ماجهز للحين
جيهان ببرود : أجل وش تبين
أرجوان ببساطة : غرفتي مثل ماهي غرفتك!
مطت شفتيها وهي تشعر برغبةِ كبيرة في الإبتعاد عن كل شيء، عن كل البشر.
أمسكت أرجوان بكفها لتهمس لها بجزع : ليه تغيرتي؟
وجهت جيهان إليها نظراتٍ باردة، ثم استدارت لتستلقي مديرةً ظهرها إليها، لتهمس لها بجملةٍ واحدة : قفلي النور واتركيني بنام
لم تسمع أي صوت، لا رد! لمَ لم ترد؟ أيعقل أنها ستبتعد كما ابتعدت أمها؟ ستتركها هي أيضًا! من سيبقى لها؟ والدها قد بنى بينهما الحواجز بتسببه في موت أمها! وأرجوان ماذا؟ ... تعترف أنها تتجاهلها حاليًا لكن ليس لشيءٍ سوى أنها تشعر بالضياع والخواء، تحتاج بعض الوقت، فقط بعض الوقت، وقد تعود جيهان السابقة دون أن تكون المُدللة عند والدها. قد! لمَ اقترنت أفكارها بتلك الأداة؟ .. - قد! - .. يعني وجود اكثر من احتمال، أيعقل أنها لن تعود؟ لن تستيقظ من غيبوبتها؟ غير معقول، ستبقى دون حياةٍ هكذا؟
ابتلعت ريقها، ثم استدارت بسرعةٍ حين أُغلق النور، ففتحت فمها تريد أن تناديها وهي ترى يدها تُغلق الباب خلفها، لكنها صمتت، وشيءٌ ما منعها. وحين دوى صوت الباب سقطت دموعها.
بعد أن أغلقت الباب استدارت لوالدها الذي كان يجلس وبحجره تجلس ليان، ينظر إليها بنظراتٍ مُتسائلةٍ قلقه.
هزت رأسها يمينًا وشمالًا لتهمس : رفضت تحكي معي ... تبي تنام
زفر والدها بعجز، وعيناه تحكيان ملحمةً من صراعٍ وألم. حمل ليان ليضعها بجانبه ثم وقف مُتجهًا لباب الشقة، فهتفت بسرعة : يبه والعشاء
يوسف دون أن ينظر إليها : بتأخر لا تنتظروني .... وخرج
,
تحاول أن تزيل عبوس تلك الفتاة بشتى الطرق ككل مرةٍ تتشاجر فيها مع ابنها، وغالبًا ما تنجح لكن بصعوبة
أم شاهين برجاء : عشاني يا بنتي بس ... يرضيك يعني تروحين وتتركيني وأظلّ أنا بروحي مخاوية الجدران!
هتفت سوزان بغل : واللهِ يا خالتي لو مو انتِ ما كنت ظليت هون ثانية وحدة
أم شاهين : عشاني بس
زفرت سوزان دون رضى : بس دخيلك خليه بعيد عني .. الله وكيلك ما صار فيّا نفس يطيقه
أومأت أم شاهين : ولا يهمك حبيبتي ولا يهمك .. بس خليك جنبي والله ماصار عندي شخص يسليني في غياب شاهين غيرك .. صرتِ مثل بنتي وأكثر
ابتسمت سوزان ابتسامةً جميلة وهي تنحني لتقبل وجنة هذه العجوز النقية، لا تنكر أنها تحبها وتعدها أمها أيضًا، لولا ذاك الشاب الوقح لكانت استقرت معها أطول مدةٍ تسطيعها، لكنها الآن تخطط لترك عملها هنا في أقرب فرصة، حتى يتزوج شاهين ويُحضر من ستعتني بها عوضًا عنها.
,
تشعر بكفيها ترتعشان، ستفعلها، ستفعلها وستُحدثه، يجب أن تنتهي كل هذه المهزلة، هي أرملة متعب فقط ويستحيل أن تصبح زوجة شاهين، هي عاشقة متعب ويستحيل أن تخونه، لا مع أخيه ولا حتى مع غريب، ولدت لتكون زوجة متعب، وهاهي الآن أرملته، ولن تتطور الأمور لتصبح غير هاتين، ستبقى على ذكراه فلا رجلًا في نظرها يناسبها سواه، كما انها لا تناسب رجلًا سوى متعب وحده.
رفعت هاتفها بارتباكٍ وهي تنظر لرقم شاهين الذي أخذته من فواز بحجة أنها تريد أن تتفاهم معه في أمور الزواج وتخجل أن تحدثه وجهًا لوجه، وهو رحب بالفكرة فرحًا أنها اقتنعت به أخيرًا. أتتصل؟ تشعر أن أضلعها ترتعش كما أن كل جزءٍ فيها يرتعش، أتعتبر هذه أيضًا خيانةً له؟ أن تترك لرجل غير الراحل فرصة السماع لصوتها والتحدث معها؟ .. ابتلعت ريقها، لكنها مضطرة، تريد أن تُنهي خيانةً أكبر وهو الزواج.
تشجعت أخيرًا وهي تتصل به، بعينين خائفتين تحاول شحذ الطاقة لنفسها ولا حيلة لها، الآن فقط باتت تشعر أن ما يسري في عروقها ليس سوى محلولٍ حمضيّ لتشعر بكل أجزائها تحترق.
من جهةٍ أخرى
يجلس على مكتبه في العيادة يراجع بعض أوراقٍ تخص مرضاه، لا يستطيع التركيز وما حدث صباحًا يقتلع كل تفكيره، كما أن ذاك المُبجل الذي يُدعى سند كان عنده منذ لحظاتٍ وكما العادة كان جوهما مشحونًا. قليلٌ من التهديدات وكثيرٌ من الكلام، إلى أن وافق مُضطرًا أن يترك موعد العملية على ماهو، فقط من أجل متعب.
قطع سلسلة أفكاره صوت هاتفه الذي صدح لينتشله للواقع، ليرفعه على مضض وينظر للرقم الغريب الذي ارتسم على شاشة هاتفه، ودون تفكيرٍ وحيرة رد، فهو طبيبٌ ومن الطبيعي أن تأتيه أرقامٌ غريبة : السلام عليكم
ابتلعت ريقها وازداد ارتعاش يديها مع سماعها لصوته الرجولي، لن تتراجع وستكمل ما بدأت : وعليكم السلام والرحمة
عقد حاجبيه دون شعورٍ فور سماعه لصوتٍ أنثوي : معك الدكتور شاهين ... أي خدمة أختي؟
أسيل وكلمة " أختي " أشعرتها باللذة، ليست زوجته وهذا ما تراه وما تؤمن به، وكلمة أختي أنعشتها ومدت لها بعض الثقة والطاقة. هتفت بشيءٍ من الثقة : ما أبي أتكلم مع الدكتور شاهين .. أبي شاهين
استغرب ليقطب جبينه بانزعاج، وكل ما فكر به أنها من المزعجات اللواتي لا يخفن الله ولا يفكرن بعرضهن. لذا خرج صوته منزعجًا : معليش أختي ماني فاضي لتفاهاتك عندي مرضى ينتظروني
كان سيغلق لكنها اندفعت بثقة : لحظة لازم أكلمك بموضوع يهمني ويهمك
تعجب من كلامها، إذن هي تعرفه! ... هتف بصوتٍ مُتسائل : مين معي بالاول؟
ابتلعت ريقها وتزحزت ثقتها دفعةً واحدة، أهذا وقت الخوف يا أسيل؟ أخذت أكسجينًا لتهمس بضعف، كانت ضعيفةً لتقول له - زوجتك -، لأنها بكل بساطةٍ لا تعترف أنه زوجها، فكيف تصبح زوجته؟، لذا همست : أسيل
انتهى
إلى المُلتقى بإذن الله
والذي سيكون ثالث أو رابع أيام العيد إن كتب الله ذلك
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|