كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الله
كيفكم؟ عساكم بألف خير وصحة وسلامة
أولًا مبروك لكل شخص بيخلّص اليوم امتحاناته وهذي هدية منّي لكم ، عساكُم تنبسطون بالدرجات الزينة والمعدل المرتفع :$
إضافةً لكُون البارت إهداء للي مخلصين اليوم فهو أيضًا إهداء لإحدى المتابعات وهي " lllo0o0olllo0o0o "
طبعًا راح أذكر سبب الإهداء نهاية البارت بإذن الله :$
بسم الله نبدأ على بركته
قيود بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(33)
تصاعد رنينُ الهاتف في جيبه، ليقطع كل الإنفعال الذي تحمّل في صوتِ سهى والنظرة المبهمة التي كانت عليه، قد جاءهُ هذا الإتصال لينقذه من سؤالٍ لا يعلم كيف عساه يجيب عليه، كيف عساه يمتلك الجرأة ليجيب، بل كيف علمت حتى تسأل؟!!
ابتعد عنها بسرعةٍ بينما بقيت تلاحقهُ بنظراتها التي غلفها الحُزن والأسى، لمَ لم يتغير شيءٌ حتى الآن؟ لمَ لم يتغير شيء؟ الأمر كما هو، تقوقعت هذه الأحداث منذ الماضي لتتكون بصورةٍ أشد الآن، ما الذي فعلته يا أدهم؟ ماهذه الخطيئة التي اقترفتها وسمحت لرائحتها أن تفوح منك؟ ما الذي أقدمت عليه والذي لم تتجاوزه حتى هذه اللحظة؟ تدرك جيدًا أنك أجرمت في حقها قبل نفسك، فكيف استطعت ذلك!
صعد بخطواتٍ واسعةٍ عتبات الدرج، لا ينوي سوى الذهاب لغرفته، نسي إلين ونسي مكوثها هناك تنتظره، نسي كل شيء ومكث عند سؤال سهى له، ذاك السؤال الذي هو ذاته لا يدرك كامل جوابه، ولا يدرك تعليل الجواب، لا يدرك أي شيءٍ يتعلق بالمنطق، لا يدرك سوى شيءٍ واحد لا يريد الإعتراف به الآن، لا يريد التحدث عنه، لا يريد أن يخوض فيهِ ويكفي محاولة عقله لذلك، يا الله! ما الذي يعيشه؟ ماهذا الذي يعيشه وهو الذي انحصرت طاقته في الكامنة وكل الذي من المفترض عليه عيشهُ هو السكون، كل الذي من المفترض عليه خوضهُ لا يتجاوز تلك الطاقة الساكنة فهل حان وقت تحوّلها إلى شكلٍ آخر؟ إن الطاقة لا تُفني لكنّها تتحول من شكلٍ لآخر، فمتى ستتحوّل طاقته الكامنة إلى الحركية؟ ليت الطاقة تفنى لكان الفناءُ يعني موته والراحة، لكان فناؤه يعني الإنتهاء من كل الصومعةِ التي يعيشها والتي تغتاله.
عضّ شفتهُ بقوةٍ وهو يُسرع في خطاه، لا شيء سينقذه مما هو فيه سواه، لا الرياض ولا سهى ولا إلين ولا أحد . . قادمٌ إليكِ يا باريس لتُضمدي لي جراحي فالرياض ترشّ ملحها فوقي وتحرقني، قادمٌ إليكِ جريحًا نازفًا فانقذيني من الموت الذي أهوي فيه.
دخل غرفته ليغلق الباب من خلفه ويتكئ عليْه بظهره وهو يغمض عينيه ويسافر بروحه نحو حياةٍ أخرى لا الموت فيها ولا الحياة، لا الحواس تسكنه فيها حتى غفلت أذناه عن رنين الهاتف الذي لم يتوقف وكل شيءٍ بات كامنًا كما كان الأحرى أن يكون هو على ذلك، يشعر بهواءٍ يعبر صدره الفارغ حتى كاد يجزم أنه يسمع عبور الهواء في فراغ صدره. إلهي! كل ذلك من سؤال؟ كل الذي يلفظني الآن لسؤالٍ نسيت صيغته كما الجواب؟ ألم أترك الماضي ورائي وتحليت بالبلادةِ والجمود؟ ألم أترك كل شيءٍ خلفي وانتهى الماضي خلف - كان -؟ كان يجب على يكُون وسيكون القمع في صدري ومن صوتي فما الذي أستحضرهما الآن؟ لمَ جئتِ؟ لمَ جئتِ لتستثيري كل هذا؟ لمَ جئتِ؟ ألم تدركي أنّ الكوكب حين يصبح في أقصى المجموعةِ الشمسية لا تصله الشمس؟ إذن كيفَ أشرقتِ على أرضي المظلمة؟ كيف نثرتِ ضوئكِ في كل زاويةٍ ولم تنالي مركز ذلك الكوكب الذي ينبعث الظلام منه؟ . . . لـمَ جئتِ؟ حتى يتغلف هذا الوجعُ في صدري ويسكنُ جوفي الآه!
رفع كفه اليُمنى ليمسح بها ملامحه التي شحبت الحياة منها، وعيناه شيءٌ آخر انتفض فيها ضريحٌ تصدع حين استنزفته الدموع الحائرةُ بين زوايا عينيْه دون أن تسقط، وكيف تسقط؟ وكل الذي يسقط يذهب/ينتهي، لذا الدموع لا تسقط حين يُرتجى سقوطها، حتى تُخلد حُرقتها في صورةِ غصّةٍ تقتنص بلعومه.
فتح عينيه أخيرًا وصوتُ الرنين الذي يثبت إصرار صاحبه على الرد يلتهم تفكيره ليستجيب فقط، اخفض كفهُ اليُمنى ليتناول هاتفه من جيبهِ وينظر للرقم للحظات بنظراتٍ خاوية . . . عبدالله.
،
خطت بخطواتٍ واسعة نحو غرفة النوم، وهو من خلفها أغلق باب الجناح ليدخل بصمتٍ دون أن تبتعد عيناه عنها لثوانٍ قبل أن تختفي هي عنه وليست عينيه عنها، لتنجلي عنه بعينيها الحمراوتين إثر البكاء دون أن تنزع نقابها، يدرك جيدًا ما يعانيه وجهها الآن أيضًا من البكاء بعد ما حدث في السيارةِ ورعبها ذاك، وهو من الجهة الأخرى لا يزال يعاتب نفسه على انجرافِ أعصابهِ نحو الهاوية، على فقدانه السيطرة على ذاته حين تقوقع في ذكرى ستدمره وهي معًا، كل شيءٍ حدث في غمضة عينٍ ليُنتشل كل شيء من بين يديه، يريد القول " حمدًا لله على كل حال "، لكنّ كل ما يشعر بهِ وكل الاختناق الذي يواتيه يخنق عنده الكلمات ويُميتها في حنجرته، يقطع حبالهُ الصوتية وينسيه الحمد والرضا. تقدم بخطواتٍ خائرةِ التركيز حتى وصل إلى إحدى أرائكِ الصالةِ ليجلس بصدرٍ غلفه الإرهاق، بعينين أرهقهما أرق الليالي التي كان ينام فيها بجانبها وهو يفكر، ماذا سيفعل بعد الذي حدث؟ بعد زواجه!!
في الداخل.
استلقت على جانبها فوق السرير وعباءتها لازالت تغلفها بسوادها الذي يوازي سواد أفكارها المغلفة لدماغها الذي وهن من شدةِ التفكير، من شدةِ ما تزاوله من أفكار لا تُضاعف الا إرهاقه، ما الذي يحدث له؟ لمَ تغيّر؟ لمَ انسحب عن شاطئي فجأةً ورسم بين عينيه الجمود؟ ألم تدرك أنني عليك أتكِئ وإن أظهرت جزعي بك؟ ألم تدرك أنني منك أستمد القليل من إرادةِ الحياة فلولا قربك لهلكت، والله لهلكت! خذلتني مرةً فلا تخذلني مرةً أخرى وتمحو البقية الباقية من صورتك في ذاكرتي، لا تتغير! أرجوك لا تتغير!
،
حين اقتربت الساعة من الثالثةِ والربعِ صباحًا خرجت من الحمام وهي ترتدي قميصًا حريريًا أبيض ومن فوقه روبٌ بنفس اللون، أحكمت ربط رباطه وهي تمشي بتوترٍ وبطءٍ وكأن الأرض تطوي سطحها وتُعيدها مجعدةً يصعب المشي فوقها، كأنّ كل شيءٍ حولها ينسلخ من طبيعته ويتحلى بمكنونيةٍ أخرى، حتى الأكسجين ما عاد أكسجينًا بين جدران هذا المكان الذي يطِئُ على صدرها ويجثم على أنفاسها، حتى الأكسجين بات يخنقها وكأنها لا تتنفسه بل تتنفس ثاني أوكسيد الكربون وتطلقهُ هو محملًا بودائع رئتيها اللتين تمزقتا همًا ووهنًا ووجعًا.
خطت حتى وصلت لمنتصف الغرفة الواسعةِ لتقف، أين هو؟ هل هو في الخارج؟ أم نام دون أن يشعر! ... وبالرغم من هذا الإحتمال الضئيل إلا أن عقلها حاول إقناعها حين تمنت ذلك، فهي غير مستعدةٍ لتقبل شيءٍ حتى الآن، غير مستعدةٍ وكل اقترابٍ منه يجرحها في قلبها بنصلٍ حادٍ قبل أن يؤثرَ بها، لا ذنب لها يا الله! كل ذلك ليس بيدها، لا الرفض ولا شعورها بالألم حين تكون معه، هي لا ترفضه هو وكم تؤمن بأنه رجلٌ ليس ككل الرجال، لكن الموضوع برمته فوق طاقتها، فوق طاقةِ تحملها.
أكملت طريقها بخطواتٍ مهتزة، تتمنى بإرادةٍ طفولية أن يكون نائمًا، أن تخرج للصالةِ وتراه مستلقيًا على إحدى أرائكها مغمضَ العينين يغيب بعقلهِ عن هذا العالمِ الذي يسرق الضحكات ويلكمها بقبضةِ البُكاءْ.
وصلت أخيرًا لباب الغرفة لتبحث بحدقتيها عنه في أرائك الصالة، إلا أنها لم تجده، توترت وهي تشتت حدقتيها هنا وهناك وكأنّ السكون يلفظ نفسه عنها، حتى استقرت بعينيها على جسدهِ الجالس فوق سجادةٍ فرشها على الأرض وبين كفيه مصحفٌ يتلو منه. ازدردت ريقها وهي تُميل بجسدها النحيل تتكئ بكتفِها الأيمن على إطار الباب، وعينيها تنظران إليه ببريقٍ خفت وهاجمه الإجفال، لا بأس، ليس هنالك ما يُقلق، كثيرًا ما تتزوج الفتيات زواجًا تحت الإكراه وتعِشن، لن تموت، لن يحدث شيءٌ عند هذا الإنحدار الفكري للقاعِ وكأن الدنيا سلبت الحياة منها، هي من وافق في النهاية وإن كان تحت ضغطٍ غيرِ ظاهري، هي من ربطت حياتها بهِ حين وافقت في لحظةِ ضعف، هو زوجها الآن ومن حقهِ احترام ذلك، لن تموت اذا احترمت هذا المُسمى، لن تموت إذا حاولت توقيف ذاكرتها عن فرزِ اسمٍ آخر وصورةٍ أخرى . . وصوته! ذاك الذي قال لها لا تخونيني، ذاك الذي ناجاها مرةً أن ما تفعله خطأٌ لا يُغتفر، وأن ما تمشي إليه طريقٌ مليئٌ بالتعثرات التي لا يتبعها نهوض، لا يتبعها عودةٌ للخلف، أن ما تفعله معصيةٌ لن تستطيع التكفير عنها، تحاول بكل جهدٍ أن تُخرج هذا الصوت خارج جدران ذاكرتها، ستتقدم، وستحاول، فشاهين يستحق، نعم يستحق.
تصلبت في مكانها وقدميها تنسيان التحرك، بقيت تنظر إليْه مطولًا حتى بعد أن استدار إليها وبقي يُشاركها في النظر، ليس وقت الضعف والتردد الآن، تحركِ، تحركِ.
تعلقت نظراته الصامتة بها، يمسحها بعينيه ونظرةٌ تغلفت بمشاعر عديدةٍ كان يوجهها إليها كسهامٍ تقتلها، لا تنظر إلي هكذا، لا تنظر إليّ بتلك العينين ... أغمضت عينيها بقوةٍ وصدرها يتمزق بذنب، ليست غبيةً لتجهل معنى نظراته وإن حاول مراتٍ تغليفها بالجمود، ومن حقهِ أن يقسو بعد الذي جاءهُ منها، من حقهِ أن يجزع في وجهها بعد الذي كان والذي لازال يعتريها حتى الآن.
تغلغل سمعها صوتُه الذي عبر الهواء بنبرةٍ هادئةٍ تتضادُ مع الذي في صدرهِ وصدرها : ما حبيت أفرش السجادة في الغرفة قلت أعطيك راحتك لذلك فرشتها بالصالة
فتحت عينيها ببطءٍ وصوتهُ يعبرها كلحنٍ يبعث الأمان بعد كل شيء، كلحنِ قيثارةٍ سكنَت نبرتها فيها ولن تتغير لتغير عازفها أو ما يُحيطها. صمتت للحظاتٍ وهي تنظر إليهِ قبل أن تفتر شفتيها عن كلماتٍ خافتةٍ متوترة : مشكور
انخفض جفناه ما إن سمع نبرتها الخافتة وكلمة الشُكر المنبعثة من بين شفتيها المُتوترتين، وقف بهدوء والمصحف بكفه، وما إن تحرك حتى تشنجت قدماها وفغرت شفتيها تنظر إليه باضطرابٍ يغلف عمودها الفقري ليرتعش كامل جسدها، ليسكنها الاهتزاز ويتضاعف التوتر مراتٍ في عينيها اللتين ينحصر فيهما النظر نحو الأرض فقط ... لم تنظر إليه حين وضع المصحف على الطاولة، ولم ترى نظراته المفتونةِ بها، لم ترى البريق الذي يزاول عينيه بعفويةٍ ليظهر بكامل إرادته ما إن تتجاوزه عيناها وتتجهان لكل شيءٍ عداه، اقترب منها بخطواتٍ متوازنة وهو يلحظ تشنجها الذي ارتبط بعذراءٍ ولم يتعلق بالنفور، إلهي ما الذي يصيبه! ما الذي تفعله به؟ ما الذي تقدم على فعلهِ بمركزهِ الذي يهتز منها ولها وإليها! إنها كزهرةٍ توخزه بأشواكها، لكنها قبل كل شيءٍ تفتن عيناه ببهائها، وكيف لا تفتنه زهرة اللوتس وهي الجمال الذي ينحدر إلى عيناه ضياءً لا يخفت، نارًا لا تخمد، لوحةً لا تهترئُ زواياها أنتِ، لا يبهت لونها ولا تُبلى، أنتِ الألوان التي رسمَتها فرشاتي وكوّنتُها لوحةً لا يبهت جمالها، لوحةٌ وشمتُها بتوقيعي لذا أنتِ ملكي، وستبقيْن ملكي!
وقف أمامها مباشرةً ليرفع كفّه اليُمنى ويلامس بأنامله ذقنها حتى يرفع ملامحها إليه ويُغرق عيناه بموجها الذي لن ينحصر عن شاطئه، موجها المُحمّل بأصدافِ الفتنة، بصوتِ الحيتان الغارقة بين جزيئاتها بجمالٍ يحصر الطبيعةَ بين حناياه من صوتٍ إلى رؤيا، وكيف لا تكونين جمالًا وأنتِ زهرةٌ مائيةٌ ينحصر عنها القُبح ويتكاثر فيها الفتنة! وأنتِ " لوتس " جمعت عبير الأزهار في عبيرها.
همس لها وهو يتأمل عينيها اللتين ارتفعتا إليْه بضياع : لا عاد تقولين مشكور! ما بين الورد والندى شُكر.
ابتلعت ريقها وهي تشعر أنها تبتلع شيئًا حارًا حارقًا كالحمض يجري في عروقها ويصهرها، شعرت بهِ يرفع كفّه اليُمنى ليُريحها على رأسها، وبصوتٍ خافتٍ ذكر اسم الله ثمّ بدأ يردد دعاءً اتباعًا لسنة رسول الله " اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه"
أنهى الدعاءَ ليخفض كفه ويمسح بهِ على وجنتها، وبهمسٍ وهو يتأمل ملامحها التي يضطرب فيها السكُون ويُلفَظْ : البسي جلالك وخلينا نصلي لنا ركعتين
أومأت بهدوءٍ وهي تنسحب للخلف نحو الغرفة حتى تأخذ رداء الصلاة من حقيبة ملابسها.
،
في وقتٍ سابق
اتساع زوجين من الأعين، توقف قلبها للحظةٍ وهي ترى ما حدث بأمّ عينيها بينما كان الموقف بأكملهِ يُحاكُ من خلف ظهر سلطان الذي يواجهها بجسده، توقف الزمن للحظةٍ عندها وسلطان يستدير بسرعةٍ ليرى تلك السيارة الهوجاء التي اصتدمت بسيارته بقوةٍ وبراعةٍ تاركةً لها تتقلب دون أن يصاب سائق الشاحنة بأذى.
كل شيءٍ مضى أمام عينيْه سريعًا وكأنّ ومضةً سطَعت ومرّت واختفت! لكنه لم يكن من عديمي الإدراك حتى يبقى متطلعًا بسيارته دون أن ينظر للسيارة الأخرى قبل أن تختفي من ناظريه وينسخ رقمها في عقله.
استدار بسرعةٍ نحو غزل التي تشنجت يدها بين كفهِ الضخمة، وصوتها غابَ كليًا خلف صدمتها، إنه هو! هو! لا أحد سواه قد يفعل ذلك، لا أحد غيْره قد يتغلف بجنونٍ كافٍ لقتل شخصٍ آخر، هل وصل بهِ الأمر إلى هذا! هل وصل به الأمر لـ.. لتعريضها للخطر!!
اتسعت عيناها بشدةٍ عند تلك النقطة، وجفّ ريقها وقلبها يتمزق بين أضلعها، كان يريد قتلها! كان ينوي قتلها مع سلطان دونما تردد، ألذاك الحد وصلت عدم مبالاته بها؟ ألتلك الدرجة هي لا تعنيه بشيء!!
ارتعشت خلاياها لتعضّ شفتيها وهي تشعر بالدنيا تزيغ أمام عينيها، لمَ هذه الصدمة الآن؟ ألَم تكفِها الحياةُ عن الصدماتِ وباتت ضدًا لها؟ ألم تتشبع بها حتى بات كل شيء عندها لا يثير صدمتها؟ حتى بات كل شيءٍ - لا شيء -!
لمَ هاجمها الحزن إذن الآن؟ لمَ تشعر أن قلبها تمزق حين أدركت ما أدركته؟ وكأنّ جزءً منها كان يتطلع لشيءٍ ما تدرك جيدًا أنه لن يجيء، فلمَ تتطلع إليه بعد كل شيء؟ هل تنتظر تغيّر معاملة والدها وهي التي تدرك جيدًا أن القدر وشم اسميهما في قائمةِ الأقطاب المختلفة، تدرك أن كل ما بينهما لن يكون أكثر من مجرد نفورٍ فلمَ لازالت تتأمل؟؟
شدّت على معدتها بإحدى ذراعيها بقوةٍ وهي تشعر أن جسدها يرتعش بعنفٍ ينفض عنه السكون والإدراك، يرتعش وهوةٌ سحيقة تلتهمها ولا تدرك إلى أيّ مصيرٍ ستؤول إليْه، كل الجدران التي تُلفظ بين حناياها تُطبق على صدرها الذي تنقبض في داخله أضلعها حتى رئتيها نسيتا العمل الصحيح لتتنفس.
شعرت بكفّ سلطان الدافئة تشدّ على كفها بقوةٍ لتنتقل دفء يدهِ عبر مساماتها إلى جسدها مُحركًا بهِ جزيئات ثاني أوكسيد الكربون لتنطلق مبتعدةً عن رئتيها ويدخل عوضًا عنها الأكسجين، شهقت بقوةٍ ما إن داهمها الإدراك لتنتفض انتفاضةً أعادت استيعابها إلى عقلها حتى ينفجر كل ذلك الرعب والذعر في صورةِ بكاء.
أجفل سلطان قليلًا عند انفجارها ذاك، وعيناها التي ظلت مصدومتان قبل لحظاتٍ ذرفتا دمعًا حتى وإن كان قد أوجع قلبه إلا أنه أراحه أكثر من تجمّدها قبل ثوانٍ. شدّ بقوةٍ على كفِها وهو يهمس لها محاولًا طمأنتها : اهدي خلاص ماصار لنا شيء، هي سيارة وراحت ما عليه أهم شيء احنا بخير
شدّت بيدها التي يتشنج الإحساس فيها على يدِه وصوتها يرتفع بنحيبٍ خافتٍ بينما كان صوت إطارات السيارات المُحتكة بالطريق من حولهما يتخلخل نحيبها، أغمضت عينيها بقوةٍ وهي ترفع يده إلى صدرها وكأنها تحتمي بهِ أو تخشى في قرارةِ نفسها من فكرة لو كان في السيارةِ حين حدث ما حدث، لم تستوعب أنها بالفعل تخشى ذلك! بل كانت يدها المُتشنجة على يديْه خير دليلٍ لم تدركه لا هي ولا هو!
رفع سلطان هاتفه بيده الأخرى المتحررة ليبحث عن رقم عناد، ومن ثم اتصل به ليضع الهاتف على أذنه منتظرًا رده وهو يتشبث بيدها من الجهةِ الأخرى يشعر بارتعاشها وارتفاع صدرها بقوةٍ ليهبط بانفعالٍ واضح، زفرَ بقوةٌ قبل أن يغيّر من وضعيته ويسحب يده من بين كفيها ليُحيط كتفها بذراعهِ وهو يهمس لها بهدوء : خلاص ما صار شيء ، لا تخافين ما صار شيء
وصل إليْه صوت عناد من الجهةِ المُقابلة ليهتف مباشرة : أهلين عناد .. معليش تجي لي! أنا واقف قدام قاعة زواج شاهين مباشرة
قطّب عناد جبينه وهو يجلس بعد أن كان ممدًا على سريره يستعد للنوم، وبقلق : وش صار؟ عسى ماشر!
سلطان بهدوء : تعال وبتفهم كل شيء ، ايه وياليت تجيب امي معاك بعد لو كانت للحين ما نامت
تضاعف قلق عناد الذي نهض مباشرةً ليُبدّل ملابسه، وبعجلة : جايك
،
أعاد الإتصال مرارًا وتكرارًا بإصرارٍ رغم التجاهل التام الذي يُقابَل بهِ من أدهم، وصل الحنق لديه أقصى حدوده، والغضب غلّف جهازهُ العصبي ليندفع الأدرينالين في جسدهِ ممزقًا لإرادته في قتل أدهم، حتى الآن كان صامتًا، كان يُنسِي نفسه كل ما فكر بهِ من قبل ويلفظه إلى المُحال، كان يُقنع ذاته بأن هناك خطأً فيما سمعه من هالة وفيما استنتجه وسيحصل على شعرةٍ رقيقة تصل به نحو ما يُطمئنه، لكن بهذه الحال! بهذه الأفكار وبهذا التشتت ... لن يسمح لإلين أن تكون في عهدةِ أدهم ما دام الأكسجين يصل إلى دماغه ويجري في دمه.
رِفع الخط أخيرًا، وما أن وصله صوت ادهم حتى اندفع بصوتهِ منفعلًا : وينها إلين؟
صمت أدهم قليلًا، والكلمات تحاول الإنبثاق من بين شفتيه بسرعةِ الضوءِ في فراغٍ لا تختلط فيه جزيئاتٌ ما مع موجات صوته فتعيق وصولها صافيةً من أي شائبةٍ إليه، ومن بين موجات صوتهِ السمعيةِ كان من بين أضلعه قلبٌ يُصدر أصواتًا تحت سمعية، انقباضاتٌ تتضاعف سرعتها وكأنّ نسبة الكالسيوم اندفعت بازديادٍ لتسبب الإنزلاق بين أنسجةِ عضلاته وينتهي الأمر بتلك الإنقباضات سريعةِ المدى والتي غلّف صوتها نبرتهُ التي نسيها مع صوته وتأخرت كلماته في البزوغ.
أعاد عبدالله سؤالهُ بحدة : وينها إلين؟
أدهم يجتذب ذرات الهواء حتى يغلف كلماتهُ بالنبرةِ التي لن يُسعف إصرارها الا حدةٌ قاسيةٌ منها، ليهتف بصوتٍ جامد : وينها! يعني طلعت من عندك بدون موافقتك!! . . هه! اعتقد إنّ الأب المثالي اللي قاعد تتصنعه ما نجح في شغلته
عبدالله بحدة : وينها إلين؟
أدهم ببرود : لو ماهي عندي وش بتسوي وقتها؟
زمّ عبدالله شفتيه وهو يدرك بنبرةِ أدهم الجواب الكافي ليُريحه ويُشعل نيرانه في ذات الوقت، همس : قابلتها؟ حكيت معها؟؟
اتكأ أدهم على باب غرفته وهو لا يزال واقفًا بعد أن دخلها بحالتهِ المُتردية، وصوت هاتفه ورقم عبدالله كانا وحدهما اللذين لن ينقذه سواهما : لا للحين، بس لو تأخرت بدخل عندها وعاد وقتها فكر بطريقتك المريضة واللي يروق لك
عضّ عبدالله شفته بقوةْ والدم يغلي في شرايينه، يشعر أنّ أوردته تتضخم بازدياد ضغط الدمِ ورأسه يُصيبه صداعٌ في حينِ أن الأفكار تجيئه من كل جانب : اصحك تدخل عندها سامع! اصحك! أنا من الأساس للحين شاك في سالفة الأخوة ذي
رفع أدهم احدى حاجبيه وهو يبتسم بسخربة، بينما كان للسانه رأيٌ آخر بعيدًا عن العناد وكأنه بذلك يريد طمأنة عبدالله عليها والحفظ على نقاءِ صورتها بأي ثمن : تطمن محنا بروحنا في البيت، عمتي عندي من مدة وهي الحين معها
صمت عبدالله قليلًا، هل يقول أنه اطمئن؟ وأي اطمئنانٍ قد يشعر بهِ فقط لأنّ عمته لديه؟ هل يستأمنها؟ هل يستأمن عائلته بأكملها أصلًا؟؟
لوى أدهم فمهُ بلؤمٍ يجتذب كلماتٍ ونبرةً تكفي لاستفزازه، يجب أن يجيء الآن ويأخذها بأي ثمن، لن تبقى هنا وفي بيته يتشاركان ذات الهواء وتُحيطهما نفس الجدران، هتف بلؤم : ممكن نعرف ليه هربت؟ غريبة مو على أساس انك حنون ومعيشها مثل بنتك! ههههههههههههههه وماهي المرة الأولى اللي تحاول فيها تطلع، كم مرة اتصلت فيني وطلبـ...
قاطعهُ عبدالله صارخًا في أذنه بغضب : انطم وابلع لسانك!، كلمة ثانية ومنت شايف بعدها خير
بلل شفتيه وهو يشتت عينيه هنا وهناك قبل أن يهتف بصوتٍ اتضح بهِ التردد : أنا عارف من الأساس اني ماراح أشوف خير من بعد جيّتها . . تعال خذها!
أجفلت ملامح عبدالله واتسعت عيناه لثانيتين، زفرَ بقوّةٍ قبل أن يغمض عينيه والحنق يصل أعلَاهُ في جوْفه ، وبهمسٍ حاد : ما تجلس عندك ، والله ما تجلس
،
تدفن وجهها في وسادتها التي تتبلل بملوحةٍ تنبع من مقلتيها ذائبةً حارةً يتساقطُ بها رمش السكون، تشعر أنّها تصدأُ بحشرجتها التي تُغلف أعضاءها التنفسية، بضيقها الذي يُعيق انقباضات قلبها ليتباطأ نبضها مرةً بعدَ مرةً بانتظار التوقف التام.
صوتُ أنينٍ خافتٍ صدرَ من بين شفتيها ليصل جدران غرفتها التي تشهد على حزنها ويرتدّ منعكسًا إلى أذنيها بصوتٍ متعذب.
هاهيَ الدنيا تُغلق آخر بابٍ قد تدخل منه الفرحة، هاهي الدنيا تنتهي بها في حفرةٍ ليس لها قاع، لمَ هوَت؟ لمَ هوَت يا الله!
سمعت صوت طرقٍ على بابِ الغرفة، فانتفضت خلاياها لكنها بقيت على حالها ولم تتحرك، وبعد لحظتين سمعت صوتَ الباب يُفتح ومن ثمّ صوتَ خطواتٍ انحدرت بموجاتها نحو الداخل، تُدرك جيدًا من هذا الداخل، لكنها أبقت على سكونها وحالها، عيناها لا تريان الا الظلام الذي انحصر في بؤبؤها حين أبقت على وجهها مدفونًا بين حنايا وسادتها.
انحدَر صوتُ فارس هامسًا متسللًا إلى أذنها مخترقًا متانةَ الوسادة : جنان
همسهُ هذا انبعث إلى أذنها دافئًا حنونًا لتنتفض خلاياها إليْه، إلا أنها بقيت كما حالها لا تريد رفع وجهها والنظر نحوه، لا تريد شيئًا سوى البقاء وحيدة، رغبتها التي لا يُريد فارس تحقيقها لها.
زمّ فارس شفتيه قبل أن يمدّ يده للأبجورة ويفتحها لينقشع الظلام الذي تعيشهُ غرفتها، وعيناه تتجهان نحوها ناظرًا لها بحبٍ أخوي وهو يُدرك جيدًا حجم الحزن الذي يواتي قلبها والضيق الذي يكبت على كل سكونٍ في خلاياها.
همس مرةً أخرى باسمها بقدرٍ كبيرٍ من الرقّةِ ليبدأ صوتُ نحيبها بالظهور رويدًا رويدًا إلى أن بات صراخ اعتراضٍ لكل شيءٍ يحدث من حولها.
جلس بجانبها ووجهه يتمايز ما بين الأسى عليها، وما بين الغضب لما فعله والده، بالرغم من كل شيء إلا أنه لم يتخيل يومًا أن تتزوج اخته بهذه الطريقة، وبمن! بفواز الذي هو له أكثر من صديق، لم يكن ليعترض، لم يكن ليعترض وإن كان فواز متزوجًا، لكن الطريقة وحدها تنخر الفؤاد بمدى النقص الذي ستستشعره أخته لا محال.
رفع كفهُ ليمرره على شعرها وينتقل ارتعاش جسدها إلى كفيه ومن ثمّ إلى قلبه، ثمّ همس بابتسامةٍ حزينة : أبوي مشتاق يشوفك
شعر بجسدها يزداد ارتعاشًا وألم قلبها يتماوج في ارتفاعه، يتنافس مع الانخفاض ليفوز باعتلائه عرش الصدارة، بالرغم من كل شيء، ومن كل الحقيقة، ومن كل الماضي الذي سرده هيثم في مسامعها إلا أن ما حدث في النهاية كان أشد على قلبها، ما معنى ذلك؟ ما معنى أن يطلب من فواز أن يتزوج بها؟ ألأنها لا تعنيه كما يجب حتى يجعلها أميرةً يأتيها الرجال ولا تأتيهم هي؟ ألأنها ليست إلا - ابنة مسيار -!!
ازداد نحيبها عند تلك النقطة، وازداد صوتُ الألم الذي يصرخ في داخلها بشدةٍ تفلق أي شعورٍ آخر، لأول مرةً تكره كونها الإبنة الوحيدة لأبيها والمدللة، لأول مرةٍ تكرهُ ذاك الجرح على زندها والذي لم يكن فعليًا من أمها، ولأول مرةٍ تتدافع عليها ألم تلك الكلمات وذلك الضرب الذي كان يجيئها من " زوجة أبيها " بعد أن كانت تعتبر تلك القسوة الجنة برمتها.
تدافعت كلمات هيثم في عقلها، وتدافع معها الشعور الذي شعرت بهِ يومذاك، اليوم الذي انطبقت فيه جدران الدنيا على صدرها وأدركت فيه من هي ومن - هم -.
*
" كل مافي السالفة إنّ أبوك كان متزوج بالمسيار وجابك من زوجته هذيك اللي محد يعرف أصلها وفصلها، وعاد زوجته هذيك واضح كانت مسكينة وعلى حالها! جابتك وظلت تربي فيك وهو راميك ومتجاهل وجودك وكأنّك مجرد نتيجة لعبة لعبها وانتهى منها "
استمعت لمقدمة كلامه الأشبه بخاتمةٍ تخلعُ كل إدراكٍ في عقلها، عيناها اتسعتا تدريجيًا مع كل كلمةٍ حتى باتت بقية الكلمات لا تعبر أذناها بمرونة، حتى باتت الكلماتُ عدمًا في الغرفةِ التي تتلوّن بالبياض بعكسِ عيني من يقف أمامها ... ظلت تنظر إليْه بعد أن صمت للحظات، بنظراتٍ يهتزّ فيها العقل والتفكير والشعور وكل شيء! وكأنها تحاول تكذيب كلماته التي يقولها، لكنّ نظرته! ابتسامته! ملامحه كلها كانت متلاعبة، لكنّ تلاعبها كان خبيثًا، خبيثًا من غير تحريف! خبيثًا بدرجةٍ لا تسمح لها ولن تسمح لها باستيعاب مدى الألم الذي هاجم صدرها الآن.
شتت عيناها عنه وهي تزدرد ريقها بصعوبة، لُجم لسانها دون أن تشعر، وبالرغم من أن عقلها الذي كان يرى جانبًا صادقًا فيما يقول إلا أنه كان يأمرها أيضًا بقطع كلماته والخروج بسرعة! فما سيُقال تشعر أنه لن يكون سهلًا! لن يكون سهلًا بدرجةٍ ستجعلها لا تتجاوزه بسهولة.
تحركت بسرعةٍ تنوي الذهاب وهي تشعر بقلبها ينقبض بقوةٍ محاولًا طرد ما سمعته أذناها من جسدها كدهونٍ فائضةٍ لن تقوم سوى بأذيّتها، إلا أن صوته الذي تحمل بنبرةٍ شديدةٍ كالمدفع قصف إرادة قدميها في المضي لتتوقف رغمًا عنها : أبوي كان يدري بكل شيء
استدارت تنظر إليهِ ببهوتٍ وعدم استيعابٍ بينما ابتسامته الثقيلة لازالت على شفتيه، ليُردف بلؤمٍ وابتسامته تلتوي نحوَ القسوة : مع إنّه ما كان موافق على اللي يسويه أبوك بس سكت احترامًا للصداقة اللي بينهم، وياليت أبوك احترمها بعد! أبوك أصلًا ما احترم حتى علاقته بزوجته عشان يحترم علاقته بأبوي وبعدين بأمك أنتِ * ابتسم ساخرًا ليُكمل بسخريةٍ أكبر * طبعًا أقصد أمك الحقيقية مو زوجة أبوك!!
التوت معدتها بقوةٍ وتقلّصت جميع عضلات جسدها لتشعرَ بألمٍ ساحقٍ هاجمها، كلماته الأخيرة كان لها التأثير الأكبر على جميع مراكز عقلها لتتلقفها بسمعها ونظرها وإدراكها الذي ما عاد يستوعب شيئًا غير الذي يُقال. لمَ تتجرأ على تصديقه؟ لمَ لم ينطلق لسانها في محق كلماته كما كان يفعل قبل لحظات؟ ألهذه الدرجةِ عقلها يستوعب الذي يُقال ويترجمه إلى الصدق؟ في لحظةٍ واحدةٍ أصبح كلامه فجأةً يُقنعها . . لـمَ؟ ألأنه ترجمةٌ لغموض والدها في الفترة الأخيرة؟ لجفاءِ أمجد معها؟ لشعورها بالوحدةِ في الليالي الباردةِ والذي لا تعلم من أين تجيئها؟
زاغت نظرتها وهي تتنفس الهواءَ باضطراب، حتى صوتها ما عاد صوتها، ما عادت تعرفه! حتى الهواءُ ما عاد يجدها، ورائحةُ السقوطُ تفوحُ في الغرفةِ وتوشمُ سقوطها بعدم النهوض!
اتسعت ابتسامةُ هيثم وهو يرى ردود فعلها الأخيرة، ليردف بما شطر قلبها أجزاءً لا تُرى : ونضيف بعد إنّه ما احترمك كمان واعتبرك مجرد نكرة! ما عرفك إلا يوم توفت أمك وقتها أكيد اضطر يآخذك
تراجعت للخلف وشهقةٌ خافتةٌ تنساب من بين شفتيها، بينما نبع صوتها فجأةً من العدم لتلفظ بارتجافٍ منفعلٍ وعيناها تتوسعان به : كذاب . . كذاب . . كل اللي تقوله كذب، وش اللي يخليني أصدقك؟ وش اللي يخليني أسمعك أصلًا!!
ضحكَ بسخريةٍ وهو يهتف بلؤم : ما يحتاج تقولين هالكلام لأنك بالفعل مصدقتني
انسابت دموعها فجأةً دون شعورٍ ووجهها ترتخي فيه كل معالم الثقة، تراجعت للخلف أكثر وهي تهزّ رأسها بنفيٍ تُحاول بهِ اقناع نفسها أنها لا تسمع سوى كذبًا، لا تسمع إلا تراهاتٍ ستصبح مغفلةً إن صدقتها. لا! لن تصدقه، لن تصدق كلماته التي لن تجيء إلا بالموت البطيء لقلبها، لن تصدقها لتقطع الحبل المتين الذي بينها وبين والدها.
تراجعت للخلف بقوةٍ وهي تستدير خارجةً من الغرفةِ وصوت بُكائها يرتد في صدرها دون أن يبزغ للوجود، تحركت في ممرِ المشفى شبهَ راكضةٍ وعيناها تمتلئآن بغلالةٍ جعلتها لا ترى ما أمامها حتى اصتدمت بجسدٍ سمعت صوت صاحبهِ يعتذر إليها لتتجاهله وتمضي.
لكن ذاك اليومَ مضى، مضى بتصنّعها التعب حتى لا تُقابل والدها وكل ما تخشاه أن ترى فيه ما سمعت من هيثم، كانت تريد الإبتعاد عنه لوقتٍ إلى أن يستطيع عقلها تحليل الكذبِ في ذكرى صوتِ هيثم الذي سافر تلك الليلة بعد قنبلته تلك، وكأنه زرع ألغامًا ليختفي من بعد ذلك وتنفجر هي حين داست عليها.
وفي خضم محاولتها الإبتعاد عن والدها، جاءها فارس بعد يومين بصاعقة تقدّم فواز لها. يومئذٍ وبالرغم من رفضها للأمر في قرارةِ نفسها وسوءِ حالتها النفسية إلا أنها طلبت بعض الوقت حتى تُفكر وهي تدرك أنها لن توافق، فليست هي من ترضى أن تشاركها امرأةٌ في زوجها فكيف تهوّنها لغيرها!
صمت فارس قليلًا بعد ردها بالرفض، والتمست في صمتهِ ما يجلب القلق الكافي لتسأله : فيه شيء؟
تردد للحظاتٍ وهو لا ينظر نحوها، عيناه كانتا تنظران خلف كتفها ليُثبت لعقلها أنّ هناك شيئًا في هذا الموضوع لا يُبشر بخير، همست بقلق : فارس!
زفر فارس بحنقٍ وهو يوجّه نظرته إليها ليهتف بخفوتٍ حمل بين كلماته صدمةً جديدةً لها : أبوي طلب موافقتك الحين . . . لأنه يبي يزوجك اليوم!
شهقت بقوةٍ وعيناها تتوسعان وتُلقيان عليْه نظرةً قتلته، دخل الكلام إلى رأسها بلغةٍ أخرى لا تتقنها لكنّها فهمت معناها من النبرةِ التي تحمّلت بترددٍ كافٍ حتى تُدرك أن ما قيل لا يُوازي احتمال صدرها المستوجع مما حدث ليجيء هذا الآن!
ارتعشت شفتاها وهي تنظر إليه بحيرةٍ حزينة، ما معنى ذلك؟ هل يُريد التخلّص منها أم ماذا؟ هل سيرميها بهذه الطريقة التي تُثبت لها أن الزواج لن يكون اعتياديًا؟ .. ورغمًا عنها هاجمتها كلمات هيثم من جديد، هاجمتها والصدق في جوانبِ ما قال تعود لاستشعاره بصوتِه الذي يدوي في رأسها حتى الآن ويرتد إلى أعمق مراكز الإدراك.
ازدردت ريقها تبتلع غصةً هاجمتها، ثمّ أرخت شفتيها المُنشدّتين منذ البداية ليظهر ارتعاشها مليًا أمام عيني فارس. شتت عيناها بضياعٍ قبل أن تنظر إليْه بألم، لتهمس بنبرةٍ مُتحشرجة : وش يعني هالكلام؟
عضّ فارس شفتهُ السفلى وهو يعمض عينيه بقوةٍ يُمارسها على أجفانه وعلى شفتهِ التي كاد أن يُدميها بوطءِ أسنانه، شدّ على كفيه ثمّ أرخاهما وهو يفتح عينيه ويقترب منها مُقلصًا المسافة التي كانت بينهما حيث كانت تجلس على سريرها وهو يقف على بعد خطواتٍ منها، وقف أمامها مباشرةً وانحنى ليلثم جبينها الأبيض بحنانٍ أسقط دمعةً حائرةً ضائعةً من عينها اليُسرى، ابتعد عنها قليلًا وهو مُخفضٌ رأسه يُقابل وجهها وعيناها اللتين تتغلفان بغلالةٍ شفافةٍ مالحة، وبهمس حانٍ : وش اللي فيك يا عيون فارس؟ منتِ على بعضك من يوم عملية أبوي، تظنيني ماراح أحس فيك؟ ماراح أشوف اللي بعيونك والا تظنين نفسك حطيتي حدْ بينك وبيني؟ أعرفك وأعرف حزنك . . ليه تخفينه عني؟ أنتِ حتى أبوي ما عاد شفتيه من يوم عمليته، بعد ما شفتيه مرة وحدة وكان نايم! لك تقريبًا ثلاث أيام
وهو بالمستشفى سائل عنك ومستنكر انعدام جيتك! وش فيك يا حبيبتي؟ ترى فكرة تعبك اللي تمشيها على أبوي وتقلقينه فيها عليك ما تمشي علي! احكي لي.
اهتزّت خلاياها ومقلتيها تستعدّان للفظِ دموعٍ لا تنوي النضوبَ من عينيها اللتين ما عرفتا الجفاف منذ ذاك اليوم، ما هذه النبرةُ التي تخترق أذناها وتختزن نفسها في عقلها؟ ما هذه النبرةِ التي يتغلف بها صوتهُ لتتدغدغ مقلتيها وتذرفَ دمعًا يوازي بثقلهِ ثقل الجبال العالياتِ وبالرغم من هذا الثقل لا تسقط لشموخها! ما هذه النبرة يا الله والتي تنتشر في أوردتها مع دمها بحرارةٍ تغلي بها كل سوائل جسدها؟؟
أغمضت عينيها بقوةٍ وهي تسمح لدموعها بالسقوطِ محطمةً كل شموخ الجبال راسمةً هضبةً تسطّحت في أعلاها لتحمل همًا لم يحتمله صدرٌ فكيف عساها تحتمل وهي الهشّةُ التي غادرها تكوينها وباتت هُلاميةً لا تستقيم؟ هي الهشة التي تهشّمت أعمدتها فباتَ أعلاها لا شيء!! لا شيء يستند على عمودٍ صدئ، لا شيء يقف فوقَ أساسٍ رخو فما الذي يدفعها للاحتمال حتى الآن؟
تقوّست شفتاها وصوتُ آهةٍ خافتةٍ عبرت من بين شفتيها ليتقطع قلب فارس الذي بقي واقفًا أمامها ولم يقل شيئًا، زمّت شفتيها وهي تحاول منع شهقةٍ مختنقةٍ من الاعتلاءِ فوق بكائها، وبهمسٍ وهي تنظر للأسفل : مافيني شيء! كل اللي في الموضوع إنّي أتوجع! أتوجع لكل اللي صار، لكل اللي خسرناه.
عقَد حاجبيه بحيرةٍ وهو ينظر إلى حُزنها، وباستفسار : قصدك عملية أبوي؟
اهتزت شفتاها لتستنشق الأكسجين وتهزّ رأسها ببطءٍ دون النظر إليه، لتهتف : ما أقدر أقابله بعد اللي صار، صعبان علي يا فارس! صعبان علي.
ارتخت عيناه بألم وصوتها يتسلل إلى أذنيه متألمًا جافًا من كل معالم الحيوية التي كانت بها، تقدمَ خطوةً ليجلس بجانبها على السرير ويضع كفّه الدافئة على رأسها سامحًا لصوته الهامس بدفءٍ لم يتجاوزه يومًا إلا دفءُ والدها : هذا هو السبب بس؟ متأكدة؟
اخفضت رأسها والتوتر يهاجم نظرتها، لا ليس هذا فقط، ليس هذا فقط! فهناك ماهو أعظم وأقسى، هناك ماليس لي طاقةٌ لأقوله.
مسح بكفهِ على شعرها وهو يبتسم ابتسامةً طفيفةً لم ترها وهي تنظر للأرض، ليُردف : أنتِ تزيدين وجعه! هذا إذا كان مستوجع من الأساس! تعرفين أبوي اللي كان حاط بباله نجاح العملية وجنبها مباشرة فشلها! يعني نقدر نقول هو حاليًا ماهو مستوجع من كل اللي صار بس أنتِ اللي راح تجيبين له الوجع بغيابك عن عيونه! كل يوم يسأل عنك وأنا ما غير أجيب أعذار لك وأنا عارف إن مافيك شيء ويا خوفي يكون هو بعد عارف عشان وقتها يتضايق جد
اضطربت أنفاسها عند كلمات فارس، وازداد وجعها أضعافًا مضاعفة، بالرغم من كل ما قاله هيثم وبالرغم من كل ما يهاجمها الآن من شعورٍ بالضياعِ والحيرة إلا أنها لم تكُن يومًا قد تستسهل على نفسها وجعهُ وكدره، لذا هي مُرغمةٌ على بناءِ سورٍ عالٍ حول حزنها والذهاب إليه فليست هي من ترضى على والدها الضيق.
تنهدت بكبتٍ حزينٍ وهي ترفع رأسها إليه، وبخفوت : وقصة الزواج وش هي؟
توترت نظرات فارس الذي زفر وهو يمسح على ملامحه محاولًا السيطرة على أعصابه : مثل ما قلت لك، أبوي وده يزوجك اليوم فجأة وأنا مدري شالسبب
بللت شفتيها وقلبها ينعصر بألمه وموجاتِ الصراخ التي تُعلنها حُجراتهُ الأربعة، وبهمس : خلاص بروح له اليوم وأسأله عن كل شيء يتعلق بهالموضوع
سلّمت من بعده، ثمّ أدارت وجهها من بعد السلام لتنظر للأمام نحوَ ظهره، تعلم جيدًا لمَ تواتيها هذه الارتعاشات التي تغلف عمودها الفقري باضطراب، لمَ تهتز عيناها بتوتر، لمَ تشعر أنها ضائعةٌ وأن الجدران لا تحتويها والأكسجين لا يُسعفها بما يكفي! تشعر أن جزيئات ثاني أكسد الكربون تتصادم فيما بينها في قصبتها الهوائيةِ، لا هي تزفرها ولا هي تستطيع استنشاق الأكسجين، تشعر أن الأرض بحجمها كلّه تطبق على صدرها ليتحشرج تنفسها.
زفرت بقوةٍ وهي تراه جامدًا في مكانهِ لا يتحرك، جموده بعث في صدرها خوفًا فوق ما تشعر هي به، عضّت شفتها وهي تنهض عن السجادة لتخلع رداء الصلاةِ ببطءٍ وتردد، هدوءه من بعد صلاته لا يجعلها تستبشر خيرًا، وهي شبه متأكدةٍ بأن العاصفة قادمة، يضيع الواحد خلف التسع والتسعين بالمائة عندما يدرك عقلها " هدوء ما قبل العاصفة "، تضيع أنفاسها وتتعطّف الصور في عقلها محاولةً تمزيقها وجعل هذه الليلة تمر كمرورِ كلّ ليالي العمر التي سمعت عنها وهاهي تخشاها، تخشاها وتخشى ما يليها وكلّ الخشية تبدأ من إنذار ما سبقَ من الماضي.
لا شيء يعبرها الآن بمنطقية، لا هواء يدخل جوفها ولا صوتٌ عدا قلبها الذي اقترب من التمزق لسرعةِ نبضاته، معدتها تتلوَى بارتباكٍ تحاول قمعه . . وهيهات!
تحركت بعد أن طوت رداء الصلاة تنوي الإتجاه للغرفة ووضعها هناك، لكنها في حقيقة ما بداخلها تريد الهرب، فقط الهرب!
انساب صوتهُ الهادئ إلى أذنها محملًا بنبرةٍ عرقلت تفكيرها وعمل عقلها بأكملهِ لتتوقف خطواتها وتتجمد : وين رايحة؟
أسيل تبتلع ريقها لترد بصوتٍ مرتعشٍ وهي تضمّ القماش الأبيض كبياضِ قميصها إليها : ودي أحط الجلال
شاهين : حطيه عالكنبة وتعالي اجلسي جنبي ، لازم أحكي وياك
ارتعشت أطرافها بقوةٍ وصوتهُ وصلها كقصفِ مدفع، ازدردت ريقها وبرودةٌ تستحل جميع كيانها لتحولها جليدًا لا حياةِ فيه، تحرّكت دون شعورٍ عائدةً إليه، لتجلس على السجادةِ الحمراء دون أن تترك رداء الصلاة الذي ما فارق حضنها بل اشدّ التصاقه بها وكأنها تحمي ذاتها من كل شيء! من الشيء والعدم، من اضطرابها ومن سكونِ صوته، من أبجديات اللغات التي سيَحاكيها بها ومن طلاسم ما يواتيها من تفكيرٍ وترددٍ وخوفٍ يشتعل في قلبها.
شعر بها تجلس خلفه، ليُغمض عينيه بهدوءٍ وهو يشعر أن قلبه قمعَ الهدوءَ بأكمله، استنشق ذرات الأكسجين بقوةٍ وهو يحاكي ذاته بالسكون والهدوء، ومن ثمّ استدار ببطءٍ إليها لتنخفض نظراتها بسرعةٍ نحو الأسفل بعد أن كانت معلقةً بظهره كطفلةٍ خائفةٍ تبحث عمن يحميها.
نظر إلى وجهها المُنخفض لثواني، ينسخ صورتها هذهِ ككل صورها السابقةِ في عقله، يختزنها بين جدران ذاكرته ولا يسمح لها بالخروج، وكيف عساها تخرح! وهي الكوبلية التي عبرته ومزقت نياطَ الجَمال وهيّجت بحر الفتنة، هي الأبجدية التي ما تُرجمت إلا في قلبي فكيف عساه ينساها؟ هي العين التي تبكي القُبح الذي زاول كلّ الأعين دونها فكيف لعيني ألّا تراها؟
زمّ شفتيه وهو يقبض على كفه بقوةٍ يُعنّف ارتعاشهما، ثمّ استنشق ذرات الأكسجينَ بعنفٍ مرةً أخرى يجدد دورته الدموية وكأنه يبحث عن تجديد الإندفاع في صوته وفي كلماته.
بلل شفتيه بلسانه، ثمّ رفع كفه اليَمنى المتوترة ليمسح بها على ملامحه، وتلقائيًا ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ فاترة، وصوته اندفع إلى أذنها هامسًا كي ترتعش : شفتي كيف كانت أمي بهالليلة؟
رفعت وجهها تلقائيًا إليْه وهي تفغر شفتيها قليلًا وتنظر لعينيه بحيرة، بينما انسابت هذه المرة ضحكةٌ خافتة من بين شفتيه وهو يرفع حدقتيه ليُثبتها على عينيها : طايرة من الفرحة! شوي وتنط في السيارة معانا وتجي لهنا
ابتسمت ابتسامةً تكاد لا ترى وعيناها تعودان للأسفل ما إن واجهت عينيه، رأت تلك الفرحة بعينيها هناك في قاعة الزواج، بالرغم من التعب الواضح في عينيها إلا أنها لم ترد المكوث جالسةً في مكانها وفضلت المشاركة في كل شيء.
أكمل شاهين بشرودٍ وابتسامته تلك تتلاشى : ما فرحني بهالليلة إلا فرحتها.
رفعت رأسها بسرعةٍ إليه وابتسامتها تختفي خلف كلماته، كلماته التي حملت الكثير وكأنها .. وكأنها انتقامٌ قاسٍ منه!
انعقد حاجباها دون شعورٍ منها وتغطّى وجهها بالألم، هل تتألم الآن؟ هل تستوجع من هذه الكلمة التي تدرك أنه قالها بإدراكٍ لها وتعمد! وأمام كل ما فعلته به، هل من حقها أن تتوجع من كلماته!!
مررت لسانها فوق أسنانها العلوية وهي تشتت عيناها هنا وهناك باضطرابِ ما اختلج في قلبها وكل الخلجات الداخلية والخارجية كان يراها شاهين بعينيه وصمتٌ تَغلّفه، ردي! ردي عليّ وأثبتِ أنكِ أنثى في النهاية تشعر! ردي وأثبتِ أنّكِ حيةٌ تشعرين. عضّ شفته بقوةٍ وحنقٍ من صمتها، لكن تحرك شفتيها بكلماتٍ خافتةٍ جعل كل خلاياه تتجه إليها وأذناه ترهفان السمع لصوتها الخاف : ما فرّحك!! * ثبتت عينيها إليه وهي تبتسم بأسى، لتردف " تنتقم مني يا شاهين؟ أستحق! أستحق كل شيء بتقوله لي لأني ما أستاهلك، أستاهل كل الأشياء الشينة بس ما أستاهل الأشياء الحلوة اللي أنت منها!
فترت نظراته قليلًا وعيناهُ تتسعان بصدمةٍ من ردها، شعر بانقباضٍ قويٍ في قلبه والأكسجين يندفع إلى رئتيه بشدة، بعنفِ تلقيهِ لكلماتها.
صمت قليلًا وعيناه المعلقتان بها نسيتا كل ما حولها وباتتا كفيفتان إلا عنها، ثم بكل الإندفاعات التي تحدث في جسده الآن، بكل الكلمات التي تتشاجر فيما بينها داخل حنجرته . . ابتسم! ابتسم ابتسامةً ساخرة وهو يرفع عينيه للأعلى في مناجاةٍ بينه وبين ربه، يا الله ارزقني صبرًا كافيًا على فتنتها، ارزقني صبرًا يحمل قسوةَ كلماتها بين كفوفهِ ويمضي بها.
عاد للنظر في عينيها الحزينتين بكبتٍ كبير، ثم اقترب منها قليلًا لترتعش بقوةٍ وترفع رأسها تنظر إليه بذعر، بينما تلقتاها كفاه التي حوطتا ملامحها وهو يقترب منها مسافةً أصابت كل خلاياها بالشلل!
قرب شاهين وجهها إليه وهو يحيطه بكفيه الدافئتين، وبصوتٍ ساخرٍ انبعث من بين شفتيه بحنقٍ تلمسته بين دفء أنفاسه التي تصتدم ببشرتها : بالله! هذا اللي ربي قدرك عليه؟ منك لله يعني لازم تقهريني؟ لازم تقهريني يابنت عبدالعزيز!!
فغرت شفتيها وكل الكلمات انحشرت في حنجرتها لتختنق بها، أصاب عينيها العمى وغشاوةٌ ما أحاطت عدستها كي تتشوش ملامحه عند هذا القرب الذي لفظ كل سكونٍ قد يعتري قلبها فوق ماهو ملفوظ! شعرت بأنفاسه تقترب منها أكثر، وجسدها بدأ أكملُه بالإرتعاش، بينما أكمل شاهين بصوتٍ خافتٍ لا يزال يحمل كل الحنق الذي يتراكم فوق نبرته منذ عقد قرآنهما : تدرين؟ أنتِ إنسانة يعجز الكلام عن وصفها، وللحين ندمان على الكلمة اللي قلتها لك قبل أمس، عن كلمة " حقيرة " اللي طلعت مني في لحظة صدمة تفننتي في توجيهها لي، وتدرين ليه ندمان؟ لأن كل الشتائم ما تكفي عشان أوصفك!
انسابت شهقةٌ خافتةٌ من بين شفتيها وعيناها تتوسعان بصدمةٍ من كلماته التي شعرت بأنها أقوى مما قاله قبل لحظات، فتلك كانت تعني الإنتقام، أما هذه فهو لفظها بكل صدق! بكل القهر الذي تكدس في صوته وانبعث بنبرةٍ حارقة.
عضّ شاهين شفته بقوةٍ وهو يُريح جبينه على جبينها ويُغمض عينيه عن نظرتها التي آوت نبرته الحادة بين انحناءاتِ عدستها، تنفس بقوةٍ وصدره يرتفع ويهبط بانفعال، يستشعر ارتعاش جسدها وبرودةَ وجهها بين كفيه، يستشعر الألم الذي هاجم صدرها من كلماته، لكن يكفي! كيف يصطبر على كل القسوة التي تحملها عيناها، على كل الصمت المؤلمِ في صوتها وعلى ألمها لغيره، فلتتألم مرةً منه! يكفي أن تتألم في كل مرةٍ لأجل غيرهِ وبسببه.
شدّ على وجهها بكفيه أكثر، وانخفض بوجهه قليلًا ليُقبل شفتيها قبلتين صغيرتين ومن ثمّ يغرقها في موجةٍ أولى بين بحرِه وشاطئها، شعر بجسدها يتصلب في بادئ الأمر ليهاجمها الإرتعاش دفعةً واحدة، حينها انخفضت كفاه ليُحيط جسدها بذراعيه إليْه يوشم انتماءها منذ الآن له فقط . . . إلى تقابل المدّ الهائج مع صخور الشاطئ الشامخة، إلى خشخشة الأصداف من هجومِ أمواجٍ لا تقبل التراجع دون أن تصتدم بشاطئٍ يبعث بدفئه بين جزيئات الماء المالحة، لن تتبخّر أمواجي إلا بشاطئك، لا الشمس دافئةٌ أمام منصةِ شفتيكِ ولا دفءُ الأراضي الساخنة تكفي لتُبخّر شغفي وهوسي بكِ، لن تشعري أبدًا يا أسيل بعضلتي التي تنبض بين جدران قفصي الصدري ولا تجد ما يُثبّطها، لن تشعري أبدًا بالسيل الذي يجرفني وأنا الرخوي الهشْ الذي لا يستطيع الصمودَ أمام سيلِ عينيكِ وعاصفةِ شفاهك، مات الشغف من بعدك! مات وأنا الذي يُدرك أنه لن يكون طبيعيًا حين يحاول مقاومتك.
كادت دمعةٌ يتيمة تسقط من عينها اليُسرى، إلا أنها أغمضت عينيها بقوةٍ وهي تشعر بقلبها سينفجر لا محالة تحت وطءِ نبضاتها التي تُعنّف أضلعها بقوة، تشعر بمعدتها تلتوي بألم، والهواء يغادرها تدريجيًا حتى انتهى من هذه الغرفةِ الجوفاء والتي سكنتها نارٌ تشعر أنها ستحرقها إن لم تكن أحرقتها، غابت الدنيا عن عينيها والغياب يستكن في السكون الذي ما عاد يحتل جسدها الذي ينتفض بين ذراعيه القويتين كطائرٍ استنفده البرد وما عادت جناحاه تحلق خلف قضبان الصقيع. هل هذا ما كانت تخاف منه منذ البداية؟ هذه اللحظات الحميمية والتي لا تناسب امرأةً غادرتها الحياة! هذا الاقتراب الذي كان من الأرجح ألا يؤثر بها فكيف حدث العكس من ذلك!! كيف حدث العكس لترتعش الآن بين يديه ويفيض الأدرينالين في جسدها!.
خلخل بأصابعه بين خصلات شعرها، ثمّ ابتعد عنها قليلًا ليتأمل ملامحها الغائبة عن العالم والأكسجين يتعرقل في حنجرته ولا يدخله بما يكفي حتى يتنفس بطبيعية، ارتفع صدره بقوةِ انفعاله ليهبط بقوةٍ أشد قبل أن يُغمض عينيه ويُميل رأسه مريحًا لجبينه على جبينها.
صمت للحظاتٍ وهو يحاول التنفس بهدوءٍ وطبيعية ويعود لفتح عينيه، ومن الجهة المقابلة كان يلمح ارتفاع صدرها وهبوطه كحالته تمامًا، حينها ابتسم ابتسامةً تكاد لا تُرى وهو يطوّق وجهها بين كفيه، وبهمسٍ عاد لإغلاق عينيه : مستعدة نعيش مع بعض؟ كناس ولدوا من جديد وما كان لهم حياة؟ مستعدة تعيشين بفطرتي وفطرتك؟ بدون ماضي وبدون ناس ثانية بيننا؟
فتحت عينيها ببطءٍ والاستيعاب لازال مغادرًا لها ولم يكتمل لمُّ شمله مع عقلها، نظرت لوجهه أمام وجهها ودمعتها التي كابدت لتبقيها حبيسةً بين رموشها سقطت دون شعورٍ لتتلقفها كفه على وجنتها، فتح عينيه ليتقابل مع عينيها اللتين رآهما مشوشتين لعينيه من هذا القرب، لذا ابتعد قليلًا، وابهامه ترتفع ماسحةً على عضمة وجنتها إلى زاوية عينيها حتى يقمع تلك الدمعة التي سقطت في حين غرة.
أردف بخفوتٍ حازمٍ وهو يتأمل عينيها المهتزتين بعينيه، بصوتٍ انبعث إلى مسامعها كسيفٍ لا يقبل التراجع : من اليوم أنتِ زوجة شاهين، ما كنتِ أرملة أحد، من اليوم ما كان بيننا ماضي شين وكل اللي قبل انمحى! من اليوم أنا وأنتِ راح نبدأ حياة جديدة، بنسى كل شيء، كل شيء يا أسيل وأنتِ بدورك راح تنسين! بغيتي او لا راح تنسين.
أما بخصوص موافقتك على اللي أقوله فهي ما تهمني! لأني بكل الأحوال ما عاد بنتظر منك موافقة، أنا لو بنتظرك ماراح تجين، والعمر ماهو طويل، بس خلال هالعمر القصير راح تتغير مشاعرك تجاهي لأني ما أبي أعيش معاك! أنا أبيك أنتِ!
طموحي أنتِ! ماهي الحياة وياك وبس!
رمشت بعينيها مرارًا وتكرارًا وهي تشعر بغصةٍ تنحشر في بلعومها مانعةً كلماتها من الخروج، فتر الشعور لديها وروحها تتحشرج لكلماته التي بالرغم من قسوةِ نبرتها إلا أنها كانت ناعمةً أمام كل ما فعلته وكل السهام السامة التي جرحته بها، لن تنسى! تدرك ذلك وتدرك ما معنى اسم - متعب - في قلبها الذي تكون به، لن تنسى وكل كلمات شاهين لا توجعها بحجم ما يوجعها أنها لن تقوم بها سواءً برضاها أو بعدمه! لن تنسى واسم متعب يعبرها كصورةٍ لا تحترق، كرسالةٍ لا تُمحى.
تقوّست شفتاها وهي تنظر لعينيه الجامدتين بحزن، ومن ثمّ أغمضت عينيها وهي تهمس بحشرجة : آسفة يا شاهين، على كل شيء، على كل شيء!!
رقّت نظراته رغمًا عنه لنبرتها التي عبرت قلبه كنصلٍ جارح، لنبرتها المتحشرجة التي تسكن من بعدها النبرات وتتلاشى خلف جماح فتنتها.
ابتسم برقةٍ وهو يُحيط جسدها بذراعيه، وبهمس وهو ينحني بفمهِ إلى أذنها : ما كان فيه شيء تعتذرين عنه! نسيته، عيونك والله تنسيني كل شيء ، كل شيء ماهو حلو وتبقِّي الجمال اللي مثلك!
،
حين أصبحت الساعة تعانق الثالثةَ والنصف نظر إلى ساعةِ الحائطِ المُعلقةِ ليتنهد ويغلق التلفاز الذي قضى عليهِ منذ ساعاتٍ وهو لا يفقهُ شيئًا مما فيه، كل حوَاسه تتجه نحو نقطةٍ واحدة تمركزت حولها الحواس والخلايا وكل أعضاءِ جسده، تمركز حولها الضيق والأرق والعشق والجوى، تمركزت حولها الدماءُ النازفةِ من الصدور والقلب المُمتلئ بأحرفٍ تتوهج بين الأبجديات.
اتجه بنظراته نحو الغرفةِ وملامحه تتجمد خلف ضوءِ الصالة الضئيل الذي أخفضه كي تنام ولا تنزعج بتسلله إليها في مسيرةِ نومها. فكر قليلًا، هل يتجه إليْها؟ بالتأكيد ستكون نائمةً الآن لكن لمَ يشعر أنه مترددٌ من الذهاب إليها حتى وهي نائمة؟ لمَ يرى أن حصنًا هائلًا بُنيَ بينهما والمسافات التي ترتسم في المنتصف تزداد وتتضاعف في طولها آلآف الكيلومترات كي يتأخر التقاءهما أو ربما لن يحدث!
هاجم ضِعْف الضيق الذي يشعر بهِ قلبه ليصبح أضعافًا ويزفر بانفعالٍ ناهضًا بحنقٍ من معقدهِ ليتجه نحو غرفةِ النوم، دخلَ ليراها ممددةً على السرير غارقةً في نومٍ ينتشلهَا عن عالمٍ ينتشل هو بدوره الراحةَ من فؤادها، كانت متقوقعةً حول نفسها لتبدو لهُ كجوهرةٍ تتلألأ في عينيْهِ وتجذب كل الأنظار إليها، كانت تبدو كهالةٍ متوهجةٍ تجذب الفراشات إليْها لتقتلها في النهاية. اقترب منها ببطءٍ يطبع صورتها في قلبهِ الذي تحمّل بالكثير من صورها وباتت تلك الصورُ تشغر دورته الدموية، بات قلبهُ يضخّ صورها مع دمهِ الذي يتذوقها لتعود من جديدٍ بعد أن تمر بتضاريسِ جسدهِ إلى قلبه.
وقف للحظاتٍ عند السرير يُشرف عليها من عليائِه، ومن ثم انخفض ليجلس مادًا كفهُ حتى يُزيح شعراتها التي لازالت بعض الرطوبةِ تزاوله وهذا جعله يدرك أنها تحممت ونامت ببلل شعرها، قطّب جبينه دون رضا، ومن ثمّ زفر ليمد يدهُ نحو الكومدينة متناولًا جهاز التحكم بالتكييف حتى يُغلقه، عاد لينظر إليها بعينيه اللتين تلتهمان كل جزءٍ منها، وكل أعضائه تغرق بين عينيها وتنتهي عند اعوجاج ما بين حاجبيها الخفيفين، يختفي هو بين بياض بشرتها وبنيّة عينيها وتغرق كل حصونه بين رموشها.
تنهد بكبتٍ وهو يخفض شفتيه إلى جبينها مقبلًا لها. لم تكُن أقدارنا تريد لنا الراحة يا جيهان، لم تكن الحياةُ معنا ولم تُنصفنا الظروف حين ارتكزت على أضلعنا وضغطت بكفها الصقيعية فوق جبيننا، لم أكُن أنا المُستسلم للظروف ولذا فإنني بكل ما أستطيعه سأُمحور إيجابياتِها حولنا لنبقى ولا يبقى أمامنا ولا خلفنا الفراق.
نهض من مكانهِ ليدور حول السرير حتى يتجهَ للجهةِ الأخرى، ومن ثم تمدد بجانبها يمد ذراعيه حتى يُحيط خصرها الرقيق بروّيةٍ ورقة كي لا تشعر بهِ وتستيقظ، التصق صدره الدافئ بظهرها ليستقر في راحةٍ جعلته يسافر بعقله للنوم حتى دون أن يبدل ملابسه ويخلع ثوبه.
،
كان يلعب بغصنٍ يابسٍ بين أصابعه، يلوي فمهُ يمينًا ويسارًا ونظرةٌ ساخرةٌ تعتلي حدقتيه، يجلس في إحدى المقاعدِ الخشبيةِ في حديقةٍ فارغةٍ لا تشاركُه وحدتهُ فيها سوى صوت فحيح الأشجار وأصواتِ الحشرات ومواءِ القطط. تزوج شاهـين! ياللمتعة! ياللسعادةِ التي هو فيها الآن فالمتعمةُ جاءتْهُ بقدميها إليْه.
هل يظنّ شاهين أن سند قد يتركه؟ هل يظنّ أنني نسيت انتقامي وثأري منك؟ . . قادمٌ إليك يا شاهين، قادمٌ إليك بالموت وليس فقط الإنتقام.
تنحنح قبل أن يقفَ وهو يرفعُ كفّه اليمنى ويمسح على وجهه وابتسامتهُ تتّسعُ وتتّسع معها متعته، بلل شفتيه بلسانه قبل أن يصفر بانتصارٍ مبدئيٍ وفي لحظةٍ ارتفعت ضحكاته المجنونةِ مخترقةً سكُون المكان والريحُ تُشاركُ بصفيرها صوتَ ضحكاته.
يا الله! ما أجملهُ من حظٍ هذا الذي يدرُّ عليه بالأموال ومن ثمّ بالمتعةِ التي لا تُضاهيها متعةٌ أخرى، ما أجمل هذه السماءَ السوداء التي يختفي عنها البدرُ في صورةِ هلال، ما أجمل هذا السوادَ الذي يعكُس مافي صدرهِ والحقد.
سكَنت ضحكاته لتتحول أخيرًا لابتسامةٍ حاقدةٍ وعيناه تلتمعان بحقد، وبوعيد : جايّك ، جايّك يا شاهين فخلّك جاهز لي.
،
مع ارتفاع صوت أذان الفجر الأول كان جسدهُ ممددًا على السرير، صدرهُ مواجهٌ لظهرها الذي استكن مقابلًا لها دون أن ينوي النزوح، كان هادئًا في مكانه، عيناه لا تبارحان خصلات شعرها التي تنساب على الوسادة بنعومةٍ متموجة، وأنفاسه كانت شبه منتظمةٍ بينما أنفاسها التي تصل أذنيه كانت مضطربةً بعض الشيء، يُدرك صحوتها منذ لحظاتٍ كثيرةٍ ويشتمّ رائحة توترها في أنفاسها، تصطنع النوم منذ وقتٍ ليس بقصيرٍ وهو يُجاريها في ما تفعل. انحنى قليلًا ليُقبل رأسها ويستشعر بشفتيه تشنج جسدها، ومن ثمّ ابتعد عنها لينهض عن السرير متجهًا نحو الحمامِ حتى يغتسل ويتجهز لصلاة الفجر.
زفرت بقوةٍ ما إن سمعت صوتَ الباب، والنار تشتعل في وجنتيها اللتين تلتسعان بإحراجها، لم يكُن بوسعها أن تتجرأ على التصرف معه بعفويةٍ وانطلاق بعد كل ما فعلته . . كيف كانت بكل ذلك الغباءِ حتى تفعل ما فعلت؟ ما الذي فعلته يا أسيل؟ ما الذي فعلته؟؟
.
.
.
انــتــهــى.
نقُول الحين سبب الإهداء لك يا lllo0o0olllo0o0o :$ طبعًا ما شاء الله أنتِ بآخر بارت قبل لا أقفل الروايـة ذكرتي مسألة " زواج فواز بجنان " وما أذكر ان فيه أحد قبلك حطّها بباله ، ممكن يكون بعَد فيه بس اعذروني شغل الزهايمر ما يتركني.
عمومًا اذا فيه احد ذكر هالنقطة وأنا نسيت ياليت يعذرني ويعتبر البارت مهدى له :P
الزبدة بثبّت مواعيد البارت على - بارت كل أربعة أيام - وليس كل أحد وأربعاء، يعني اليوم أنا نزلت فبيكون البارت الجاي خلال اربعة أيام يعني الأحد، وبعدين الخميس وهكذا.
وإذا كان عندي مناسبة فبقدّمه يوم وقبلها ببلغكم :$
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|