لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 13-01-15, 08:09 PM   المشاركة رقم: 216
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 










السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ()
مساءكم سعادة وراحة

اللي خلصوا امتحانات مبروكين وعساكم نجحتوا وارتحتوا يا رب
واللي للحين يكرف في الكتب الله يسهل عليكم وييسر لكم كل صعب.
الفرج قادم ومافيه شخص يتعب ويجتهد إلا ويحصد ثمار تعبه . . الله يسعدكم بالنتائج السّارة :$

المهم الحين :"" كان الود أخلي البارت بنفس ميعاده عشان اللي يخلصون يوم الخميس أولًا وعشان ما نلخبط المواعيد ثانيًا
بس طلعت عندي سفرة الخميس من حيث لا أحتسب، فبكون مشغولة وما راح يمديني أنزله
لذلك الجزئين راح ينزلون لكم قبل الميعاد
يوم الأربعاء تحديدًا :*

لكم محبتي ومودتي :$ انتظروني ()




 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 13-01-15, 08:22 PM   المشاركة رقم: 217
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2014
العضوية: 271387
المشاركات: 11,112
الجنس أنثى
معدل التقييم: bluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميع
نقاط التقييم: 13814

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
bluemay غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 
دعوه لزيارة موضوعي

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

الحمدلله على سلامتك

وربي يوفقك ويوفق الممتحنين كلهم

وبإنتظارك أكيد ..


لك ودي




°•○اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي○•°

 
 

 

عرض البوم صور bluemay  
قديم 14-01-15, 02:48 AM   المشاركة رقم: 218
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 






سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم سعادة وراحة بال
عساكم بصحة وسعادة من بعد كرف الإمتحانات :$
الله يوفق الجميع ويسعدكم بالنتائج المحمودة يارب


بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !


لا تلهيكم عن العبادات




(27)






صعدَ ينوي الإتجاه إلى غرفتهِ بعد أن أنهى غداءه مع والدته وتركها تستريح في غرفتها. للعجبِ إنّ العمر في بعض الأحيان لا يُعطي المشاعر حقها، أو ربما المشاعر تستحلّ الإنسان وإن كانت طفوليةً وهو في الثلاثين!
تجهّمت ملامحه وهو يزفر بعمق، وماذا إن كان يغار على والدته؟ هل " انتهت الدنيا "؟
لوى زاوية شفتهِ السُفلى بأسنانه للداخل، ثم زفر للمرة الثانية وهو يهتف بحقد : وخير يعني؟ خلوني طفل اففف
توقف على بعد خطواتٍ من غرفته، ثمّ مرر لسانه على شفتيه وابتسم فجأةً وعقله يُقرر على قدميه الإتجاه للجهةِ الأخرى، وصورةٌ لامرأةٍ بهيةٍ تراقصت أمام عينيه، كلّ تفصيلٍ بها يستقر في مركز ذاكرته، كلّ ردّات فعلها المُضطربة يختزنها في عقله وقلبهِ وجسده! وعيناه تختزلان كلّ انتفاضاتِ قلبهِ لتُصيّرها انتفاضةً واحدة، واحدةً بحجمٍ لا يحتملها جسده فيسقطَ مغشيًا على انجذابهِ لها، أو ربما حبها؟!!
لا يهم! لم يعد الأمر مهمًا سواءً كان حبًا أم انجذابًا، يكفي أنه ينصهر بفعل حرارتها، ويكفي أنّها تنجرف بحيائها بفعل موجاته، يكفي أنه يشعر بالتكامل بها، ويكفي أنّ ابتداءه بات بها وانتهاءه إليها. والقصائد اهتزّ وزنها حين التقينا، لم تستوِي القوافي عند محجريْكِ يا أسيل، لم تستوي ولغة الضاد " عيّت تنصاع عند عيونِك "، تضيع الأحرف والكلمات وينتهي الشعر والنثر عندك، ينتهي التعبير وكل اللغات تضعُف فحولتها وتسقط، تسقط كما سقطت أنا من حيث لا أعلم، وبوقتٍ لم أدركه.
دفع باب الجناح الخاص بهما ببطء، الجناح الذي قارب على الإنتهاء والوقت لم يُسعفه ليختار الديكورات معها، لكنّه بالتأكيد سيجعلها تختار بعض الإضافات ليصبح جناحهما مشتركًا في لمستهما، ينبض بهما معًا. قطَع الصالة البيضاء أرضيتها وجُدرانها، والتي غلب على ديكورها اللون الخربزي وبعض التداخلات الذهبية ليشقّ طريقهُ إلى غرفة النوم، وضوءُ الشمس الذي كان يخترق النوافذ ليُهدي الغرفة إنارةً طبيعية جعل عيناه تبتسمان وهو يتخيّلها، تمشي للنافذةِ في بدايات الصباح لتُشرّعها سامحةً للضوءِ بالنفاذ، لكن هل عسى هذا الضوءُ أن يغلب ضوءها ونورها؟ هل عساه يتحداها أصلًا؟!!
اقترب من السريرِ ليرمي بجسدهِ عليه، ثم أغمض عينيه وهو يتنهد وابتسامةٌ زيّنت ملامحه، استنشق ذرات الهواء المُثقلةِ بدفء الشمس التي تجتاح هذه الغرفةَ بهمجيتها فارضةً نفسها على قلبِ الأرض كما فُرضت أنثى على قلبه وانتهى.
ودائمًا ما يُقال " وقع في الحُب " لا " مشى إليه "، ولأن الحُب حفرةٌ لا قاع لها كان لابد للإنسان أن يقع في هذه الحفرةِ دون خيارٍ آخر كالمشي إليها. لحظة! لمَ يتحدث عن الحُب الآن؟؟
قُطعت سلسلةُ أفكاره بهاتفه الذي اهتزّ برنينهِ في جيب بنطاله، لذا مدّ كفه ليدسّها في جيبهِ ثمّ أخرج الهاتف، وما إن رأى المُتصل حتى أشرقت ملامحه وهو يجلس بحدةِ اندفاع الأكسجين إلى رئتيه، بحدّةِ نبضاتهِ التي تسارع مدى ضجيجها. لقد اتصلت به! اتصلت بهِ في حين توقَع تجاهلها له.
ردّ عليها وهو يبلل شفتيه ويُوزن انفعالاته، ثم بصوتٍ مُشرق : صباح الظهر
ارتبكت هي من الجهةِ المُقابلة وهي تقف أمام مرآةِ التسريحة بعد أن كانت تنظر لانعكاس صورتها مطولًا، تُحاول بثّ القوةِ في نفسها لتستطيع الإتصال بهِ في حين تمنت العكس، لكنها وعدته، وعدته ولم تكن لتخلف بوعدها له. حتى انعكاس صورتها يبدو أقوى منها! بينما الجسدُ الأصلي كان واهنًا، جافًا مُتهدلًا، ميتًا حيًا كـ " زومبي " لا يعرف إلى أين يلجأ لأنه شبه ميتٍ في كل بقعةٍ في وطنه! لذا كان الأجدر بها أن تسافر حيث اللا أحد، حيث اللا وجود، حيث اللا مكان.
رطّبت شفتيها بلسانها وهي تنظُر لقدمها التي تتحرك في الأرض راسمةً نصف دائرة، وبهمس : مساء الخير
شاهين بابتسامة : صوتك حلو
احمرّت ملامحها وهي تعضّ زاوية شفتها السُفلى، وباضطراب : ما تعيش بدون غزل أنت؟
شاهين بفخر : المغازلة من أساسيات الحياة
اتسعت عيناها قليلًا بدهشةٍ وهي تهمس مُستنكرة : تغازل؟؟
ضحك وهو يعود لرمي جسده على فراشِ السرير الثخين والعاري دون مفرشه، والذي كان يحتفظ بالكيسِ الذي يُغلّفه : أول محاولاتي في المغازلة كانت في الروضة ، يومتها فيه زميلة صغنونة حلوة كنت أبي قلمها بس رفضت
التمعت عيناها بضَحِك، حاولت بأقصى جهدها ألا تضحك، لكن ضحكتها انسابت دون سيطرةٍ وهي تنطق باختناقِ الأحرف التي ضاعت بين موجات ضحكها : أيا اللي ما تستحي هههههههههههههههه
شاهين وعيناه تلتمعان لضحكتها الأشبه بغناءِ العصافير في مطلعِ الصباح، بصدًى لموسيقةٍ عذبةٍ لا تنتهي : أذكر يومتها تبت عن المغازلة بعد ما جبهتي طارت
وضعت كفها على فمها وملامحها تسترخي لتنتهي بابتسامةٍ صغيرةٍ مُشرقة تجيئُها من حيث لا تحتسبُ حينما يتحدث " باستهباله "، لم تكُن تعتقد، ولا في أعمق أحلامها أن رجلًا غير متعب قد تضحك معه وعلى كلماتٍ ينطقها وهي مُدركةٌ تمامًا أنه يريد بها إضحكاها وإظهار ابتسامتها لا غير، وهي بذلك تُقرّ أنّها لا تستحقه، تعلم ذلك وقد يعلم هو ذلك أيضًا، لكن لمَ يتجاهل هذه الحقيقة؟ لمَ لازال مُتمسكًا بامرأةٍ موبوءةٍ بحبٍ ذهب صاحبه ولم يذهب هو؟ إنها ليست سوى ورقة خريفٍ ذابلة، ذهبيتها مُغريةٌ للنظر، لكنها ميّتةٌ في النهاية فما المُميزُ فيها ليتمسك رجلٌ كشاهين بكمالهِ وميزته بها؟ . . هل هي مجرد مصلحةٍ كما أسلف؟ لأجل أمه فقط؟ أم أن الأمر أعمق كعمق نظراتهِ لها!!
عضّت شفتها وهي تتذكر ما قاله لها البارحة، لكم تخشى حبه أن يُصبح حقيقةً فيلسعها عذاب الضمير، وكم تخشى أن يُلسع هو بحبها فهي تعلم ما معنى الحب حين يكُون الطرف الآخر غير موجود، وهي التي انسلخت عن الوجود فكيفَ قد تُحب مخلوقًا حيًا وهي التي تعلقت بآخر؟
وصل إلى مسامعها صوته الهامس : وين راحت الحلوة؟ والصوت الحلو!
تحشرجت أنفاسها وصدرها يضطرب باضطراب تنفسها، بينما افترت شفتاها عن كلماتٍ راجية : شاهين خلاص، لا عاد تحكي بهالطريقة
بهتت ابتسامته قليلًا وهو يُدرك تمامًا مقصدها من كل هذا، وكيف عساه لا يدرك وهو الذي بات يفهمها في فترةٍ قصيرة؟ ولأنها كتابٌ مفتوحٌ تلفظ ما في صدرها بكل وقاحةٍ كان واجبًا على عقله أن يفهمها في أبسطِ حركةٍ منها حينَ تصمت. لن يُظهر ضيقه هذه المرة، لن يغضب ويُخاصمها لوقاحتها الغير مباشرة، لأمرها له بالسكوت لأنها لا تحب سماع مثل هذه الكلمات من رجلٍ غير .... عضّ شفتهُ بقوةٍ حتى كاد يُدميها، ثمّ حاول رسم ابتسامةٍ كانت مُهتزّةً بحجم اهتزاز صدرهِ في هذه الأثناء، وهاهو يتصنع الغباء ويُحوّر المعنى لآخر : لهالدرجة يعني تستحين؟!
عقدت حاجبيها بانزعاجٍ وهي تتحرك قليلًا لتجلس على كرسي التسريحة، ثم بهدوءٍ تحاول تحوير الموضوع من الجهةِ المُقابلة : ما ودك تحكي لي القصة؟
التوت ابتسامته للجهةِ اليُسرى ساخرةً وهو يردّ بلؤمٍ مُنتقِم : لا ما ينفع ، لازم نلتقي وجه لوجه وأحكيها لك
انسابت إلى أذنيه شهقتها الخافتة، بينما غطّى وجهها العجز الذي غلّف صوتها أيضًا : بس أنت قلت اتصل! .. و
لتصمت وهي تلوي فمها بضيق، رُبما لأنها أصبحت تعلم أنه حين يضع خروجها معه نُصب عينيه سيفعل! ولن يُفيد اعتراضها ولا مماطلتها، لن يفيد أمام عناد رغباتِه.
شاهين بمكرٍ يتشرّب يأسها : أمرِّك بعد العِشاء؟
أسيل بملامح ضاقت وصوتُها خرج منزعجًا، هذه المرة اليأس غلبَ اعتراضاتها وانتهى صوتُ الرفض، اتجهت حبال صوتُها للوداعةِ اليائسة وهي تهمس : طيب
ابتسم شاهين وعينيه ترقّان، ليس هذه المرة، انتهت فترة " رغمًا عنكِ " واضمحلت، تلاشت وباتت غبارًا، هذه المرة لن يُرغمها على الخروج معه بأي شكلٍ من الأشكال، اقترب موعد حفلة زواجهما فمن الأفضل أن يترك لها الوقت بعيدةً عنه كي يكون لها المجال لتُفكر وترضى، يُريد أن يبدأ معها بدايةً جيدة، بعيدةً عن الغصبِ والإرغام، بعيدةً عن عبوس ملامحها المقهورة، بعيدةً عن أهازيجِ صوتها المُعترض/الخائب/الضعيف.
ارتفعت زاويةُ فمهِ للجهةِ اليُسرى في ابتسامةٍ عابثة وهو يلفظ كلماته بهمسٍ خطِر : طيب اتفقنا ... وبعدين أنا ودي أوريك جناحنا وأعطيك مجال تكمّلين الألوان بذوقك
اتسعت عيناها من الجهةِ الأخرى وذاتها تتبعثر ويضيعُ منها الإلتئام، تتلعثم الكلماتُ في حنجرتها وتضيع، تنفد الإعتراضات في حنايا الضياع. كيف نسيت أنه سيأتي اليوم الذي تدخل فيه ذاك البيت مرةً أخرى بعد موت متعب؟ كيف نسيت أنها ستعودُ لتسكن هناك وليس فقط مجرد الزيارة؟ كيف نسيت أنّها ستكون في ذاتِ المكان الذي احتضن أنفاسهُ وموجاتِ صوتِـه؟ كيف نسيت أنّ رئتيها ستستنشقان ذراتِ هواءٍ وُجدت في نفس المكان الذي كان يُسعف رئتيه بالهواء؟ . . والأهم من كل هذا، كيف ستتأقلم؟ كيف ستتجاوز هذه الحقيقة لتعيش؟ كيف ستتأقلم في العيش بين جدارن ذاك البيت؟ كيف عساها تتأقلمُ لتُسعف شاهين بالإنصافِ وكلّ مافي ذاكَ البيتِ يُذكرها به؟
عضّت شفتها وعيناها غامتا بدموعٍ مأساوية، كل شيءٍ ضدها لتبقى تتذكره وتُزعج شاهين بعدم التناسي! كل شيءٍ يُذكرها بمتعب ليُعذّبها ضميرها بضيق شاهين، كل شيءٍ يهوَى ضيقه فما ذنبها هي يا الله؟ ماذنبها ليظلّ ضميرها يُعذبها ليل نهارٍ ولا يضِلُّ هذا العذاب عنها؟ . . وفي كِلا الحالتين هي تضِلُّ طريق الراحة وتمشي في إحدى الطُرق المتشعبةِ له، هي تضِلُّ الطريق الذي يجب عليها أن تسلكه ولا تصلُ للنهاية، لا تريد النسيان، بل التناسي فقط أمام شاهين، لا تهوى تعذيب غيرها وإن كان دون قصدٍ فماذا عساها تفعل؟ ماذا عساها تفعل وهي التي أُغلقت كلّ السُبلِ أمام وجهها وباتت لا تعرف من هي حتى؟ باتت تجهل المخرج الصحيح والقرار الصحيح.
إلهي! إنني لا أضِلُّ الطريق إلى الراحة وحسب، بل أنا أضلُّ الطريق إلى نفسي التي تاهت بين غبارٍ غيرِ مرئي، جعل مني غيرَ مرئية! إنني أضلُّ الطريق إلى ذاتي ولا أجدُ بُدًا من التقوقع بصمتٍ حول نفسي الضائعةِ وحسب، إنني أضلُّ الطريق وكلُّ الطرقِ كاذبة، كلّ الطرق وهميةً لن تصل بي سوى للـ - الوخز -
ضحكَ بخفوتٍ وهو لا يستشعر سوى صمتها، صمتها الذي هو أيضًا شديدُ العذوبةِ منها! وقد قام عقله بتفسير الأمور كما تفكر - تقريبًا - ولم يفهم أنهُ يُحشرج أنفاسها ليس فقط لأنها ستكون في البيت ذاتهُ معه، بل لأنها ستكون في البيتِ ذاته الذي عاش فيهِ متعب.
لفظ شاهين بضحكةٍ مُهدئًا : تطمني تطمني ياحلوتي ، الموضوع مجرد مزحة
لم يبدو على وجهها أي تعبيرٍ للراحةِ ورأسها مال قليلًا لليسارِ في تفكيرٍ جديٍ بعيدًا عن مزاحه، فهي بالفعل ستكون قريبًا معه، في البيت ذاته الذي جمع بعض المواقف بينها وبين متعب، في البيت ذاتِه الذي احتوى أنفاسِهم جميعًا. وكيف يطلُب منها التناسي قبل النسيان مع هذا الظرف الفضائحي؟ كيف يُريد منها أن تنسى وهي في مكانٍ يحمل طفولة متعب إلى موته؟


,


كانت تقف بجانب غيداء التي تصدّ بوجهها عنها ولم تلفظ بكلمةٍ بعد ما قالتهُ غزل، تنظر إليها بصمتٍ تبحث عن كلماتٍ تقولها، وبالرغم من شعورها بإحساسٍ سلبيٍ وهي تحاول بطريقةٍ ما فتح حديثٍ مع هذهِ الطفلة إلا أن شعورًا آخر بالراحةِ والرغبة كان يجتاحها. لن تخسر شيئًا بالمحاولة، فقط المحاولة، وإن لم تكسب شيئًا فستعود للفظاظة، حينها لن تشعر بالذنب أو يواتيها ذاك الشعور مرةً أخرى، شعورها بالحاجةِ لما رأته فيهم، شعورها بالرغبةِ للعيش في مُناخٍ كمناخهم، في تضاريسٍ كتضاريسهم، وإن كثرت التلال وطغت حرارةُ الصحراء إلا أن السهول ستكون شبهَ دائمةٍ على مدارِ الدهر ... هذا بالطبع ظاهريًا، وهي لم ترى سوى الظاهر، وكم جذبها حد الإعياء.
همست بلطفٍ وهي تنظر لما تفعله : أساعدك؟
غيداء دون أن تنظر إليها : مافيه داعي
قطّبت ملامحها في لحظةٍ لكنّها عادت لفردها بلطفٍ وهي تشعر أنّ عقلها يصرخ محتجًا على هذا الحال، يصرخ بالكبرياءِ المطعون أن تلفظ كلماتٍ دفاعيةٍ لهذا الأسلوب الذي تتلقاه من طفلةٍ لا غير! لكنّ قلبها الواهن والعطِش يصرخ من الجهةِ المُقابلة بصوتٍ أقوى محتاجًا لارتواءٍ يُعيد الخصب فيه، وبين هذا الشد والجذبِ كانت روحها المُتمزقةُ جافةً كقلبها، لذا كان صوت عقلها ضعيفًا، ضعيفًا بدرجةٍ لم يجذبها بتاتًا.
تحركت غيداء بعد أن أنهت تقطيع الخضروات لتتجه للطاولة وتضعها في الصحن الموضوع عليها، ومن ثمّ اتجهت للمغسلةِ لتغسل يدها.
تحدّثت دون أن تنظر لها، بصوتٍ فيه من التردد القليل : تعرفين تطبخين؟
ارتسمت شبه ابتسامةٍ على شفتيها دون أن تشعر وهي تُجيب ببساطة : وش عنك أنتِ؟
غيداء تهزّ كتفيها ومن ثمّ تستدير إليها : ما أعرف
اتسعت ابتسامة غزل بإشراقٍ وهي تُجيب بذات البساطة : أنا بعد
حينها ظهر الذهول على ملامح غيداء التي نظرت إليها لخمس ثوانٍ فقط، ومن ثم نظرت لأمها التي كانت واقفةً تتفقد الأرز، لتهتف بوجوم : شفتي!!!
استدارت ام عناد مُبتسمةً لتنطق لغزل بضحكة : عجبك؟ الحين بتلاقي الموضوع حجة
وضعت غيداء كفيها على خصرها لتهتف باعتراض : مالي شغل! يعني أنا اللي للحين ما تزوجت تجبريني أتعلم وغزل المتزوجة ما تعرف!!
ضحكت ام عناد بخفة : لو هي عندي كان علمتها
غيداء بحنق : المهم انها متزوجة وما تعرف، وهذي هي عايشة حياتها بدون كوارث مثل ما تقولين! وأنا اللي توني ما وصلت العشرين غصب أتعلم!!!
ضحكت ام عناد بشكلٍ أشد وهي تُدير رأسها عنها وتتجه للطاولة لتسحب احدى الكراسي وتجلس : ما علي من كلامك .. تتعلمين غصب عنك مالك شغل بالعالم والناس
لوَت غيداء فمها بحنقٍ وهي تسحب كرسيًا آخر لتجلس، بينما بقيَت غزل واقفةً مكانها تنظر إليهما، إلى حزمِ امها الذي تختبئُ الرقةُ خلفه، إلى شدّتها الحنونة. هل كانت أمها كذلك وهي التي لم تنتبه للرقةِ خلف قسوتها أم أن عينيها صادقتين؟ هل كان ما تراه في قسوةِ أمها خطأ؟ هل أخطأت في تمييز محبة أمها من عدمها؟ . . قطّبت جبينها وعقلها بدأ برسم الأعذار الواهيَة لعلّ قلبها ينشرح بذلك. لربما كانت تقسو لمصلحتها، لربما كانت شديدة البأس عليها لأنها فقط تحبها.
" إلهي بس! " . . هزّت رأسها بالنفي وهي تعضّ شفتها بحزنٍ وأسى، ما الذي تحاول إقناع نفسها به؟ ما الذي تُحاول زرعهُ في عقلها الذي تشرّب تلك القسوةَ وانفجر بألمهِ دون أن يكُون انفجاره ظاهريًا؟ ما الذي تريد نيله من تراهاتٍ لن تجلِب لقلبها سوى المزيد من الطعنات المسمومة؟ . . أمها كانت إحدى السكاكين التي طعنتها بنصلٍ مسموم، أمها كانت إحدى الأوبئة التي أصابتها دون أن يكُون لها دواء، أمها كانت فايروس ليس له مصل! فكم عليها أن تحتمل بعد؟ كم بقيت لها من الأيام لتعيشها وقلبها يتضخم بنزيفه الذي عاكس المنطق وتمركز للداخل دون أن يكون للخارج؟ كم بقي لها لتنتظر الموت وترتاح من هذه الدنيا؟ . . لكن هل سترتاح بالفعل؟
راقبتها عينان في تلك الثواني، عينان ملأها الإستنكار لهذهِ النظرةِ المُتألِمة في عينين كان من الأرجح أن تتشربا الفرح فتزدادان جمالًا، عينان التمعتا عطفًا وهي ترى مدى الحُزن في صبيّةٍ لم ترى الكثير من الدنيا بعد.
همست أم عناد بحنانٍ وهي تنظر لغزل التي غرقت واقفةً في بحرِ خلجاتها المُعذِّبة : يمه غزل
رمشت قليلًا قبل أن ترفع ناظريْها إليها لتتجلى نظرة الضياع عليهما، ثم بفتور : نعم
ام عناد بابتسامةٍ حنونة : تعالي حبيبتي اجلسي شفيك واقفة؟
تحركت بآليةٍ باتجاه الطاولةِ التي طافت حولها أربع كراسي من جهاتها الأربع، لتسحب الكُرسي الذي كان مُقابلًا لام عناد ومُجانبًا لغيداء.
أردفت أم عناد بلطفٍ وهي تتأمل لمعة عينيها الواهنة : كيفك مع سلطان؟
ابتسمت غزل باهتزاز : طيّبة
غيداء تندفع بكلماتٍ ساخرة : بس ثقيل طينة صح؟
لم تختلف ابتسامتها الباهتة وهي تهزّ رأسها بالنفي، بينما كانت ام عناد تقيّم ما تراه أمامها، تقيّم هذا الحُزن الذي يلتمع على محياها، تُحلل إنكسار نظراتها وحاجبيها مُنعقدانِ دون رضا، ما الذي قد يجعل فتاةً أقدمت على الزواج للتو حزينةً بهذه الدرجةِ المؤلمة، ما الذي يجعل فتاةً بهذا العمرِ مًنكسرة النظرات، مًنحنيةُ الإبتسامة؟ ما الذي قد يدفع هذا الغزال للحزن ومقوّمات السعادة تطُوف من حولها، أو ربما ذلك!

في المجلس
أعاد ظهره للخلف مُسترخيًا وهو يمطّ ذراعيه بكسل، ثمّ همس وهو مُغمض العينين : جوعاااان متى بيخلصون
ابتسم عناد وهو يتفقد الرسائل التي وصلته في هاتفه توًا : يعني أنت ما جيت الا عشان تعبي كرشك؟
فتح سلطان عينيه وهو يعتدل في جلسته وينظر إليه رافعًا إحدى حاجبيه بمكر : جيت وكلّي شوق لأكل أمي والا أنت ما جبت خبرك
عناد : طيب تعرف تاكل تراب؟
سلطان بتكشيرة : لا ما أعرف علمني
وضعَ عناد هاتفهُ جانبًا وهو ينظر إليه بهدوء : أنت شكلك جاي بمبزرتك اليوم وإلا هذي أثار الشوق؟
ابتسم سلطان وهو يرفع حاجبهُ الآخر بمكر : وراك اليوم مع الشوق؟
عناد يُجاريه بابتسامةٍ ويدندن : قتلني الشوق قتلني
سلطان : هههههههههههه تبيني أدوّر لك عروس تطفي هالشوق؟
عناد : أعوذ بالله! تبي تشتغل لي خطابة أنت؟
سلطان بضحكة : وأيش فيها؟ عشانك أكون مليون خطابة
حرّك عناد كفه في الهواء بنفورٍ وهو يهتف : لا حبيبي خلينا الزواج لأصحابه ما ودي أتزوج ، يا زين العزوبية بس والله يهنيكم في وجع راسكم
ضحك سلطان وهو يهزّ رأسه دون تصديق : إذا أنت تقول كذا ما ينلامون العزّاب اللي حولنا
عناد بأريحيةٍ يُعيد ظهره للخلف ويغمض عينيه مًتنهدًا : ما يحس بحلاة العزوبية إلا احنا .. مو بزران تزوّجوا وعمرهم سبعة وعشرين!
سلطان بتهديد يرفعُ حاجبًا : لمين قاعد ترمي هالكلام يا أخ؟
فتح عينيه وهو ينظر إليه مُبتسمًا ببراءة : أبد سلامتك
في تلك اللحظةِ رنّ هاتف سلطان مُفصحًا عن وصول رسالةٍ ليرفعه قبل أن يردّ عليه. ولم يستغرق الكثير حتى قطّب جبينه مُستنكرًا لما قرأه : بين الواحد والأربعة؟؟
عقد عناد حاجبيه وهو يقترب منه ليقرأ ما وصله هاتفًا بتساؤل : وش فيه؟
مطّ سلطان شفتيه وهو يمد الهاتف إليه هاتفًا باستنكار : رقم غريب وواحد قاعد يتسلى
تناول عناد الهاتف ليقرأ الرسالة بصوتٍ عالٍ وجبينه يزداد انقطابًا : " دوّر علي بين الواحد والأربعة " !! ... * رفع نظراته لسُلطان مُستنكرًا ليُردف * وش المقصود؟
سحب سلطان الهاتف ليردّ دون مبالاةٍ وهو يضع الهاتف جانبًا : ما عليك أكيد مزحة سامجة من بعض ربعي
هزّ عناد كتفيه وهو يعتدل بجلسته مبتعدًا قليلًا عنه، ثم سأل بهدوء وهي يُركز بنظراته على أصابعه التي كان يُفرقعها : خبري إنّك صاير ما تطلع كثير مع ربعك من بعد زواجك وشكلك ما صدقت على الله وغرقان بالعسل ... يحق لهم يعصبون ويمزحون معك بسماجة * ابتسم مازحًا ليُردف * والا عندك رأي ثاني؟
لم يسمع ردّ سلطان في الثواني الأولى، لذا رفع نظراته إليه وهو لا يزال يحتفظ بابتسامته، ليراه وقد أخذ هاتفه من جديدٍ يتطلع بشيءٍ ما بنظراتٍ اختلفت جذريًا عن عدم المبالاةِ السابقة، حينها تلاشت ابتسامته وهو يُقرّب رأسه إليه مُستفسرًا بقلق : وش فيه الحين بعد؟
سلطان بحيرةٍ وهو يبحث بين رسائله، دون أن يرفع نظراته إليه : لحظة! .. قبل كم يوم بعد جتني رسالة من رقم كمان غريب! * بلل شفتيه وهو يفتح الرسالة السابقة والتي كانت من رقمٍ آخر مُختلف * هذي!
عناد باستغراب : رقم مُختلف؟
سلطان باستنكارٍ يزداد بها انعقاد حاجبيه وتقطيبُ ملامحه : مختلف ... تهقى يكون من واحد من ربعي؟
انتشل الهاتف من يديهِ ليُدقق بالرسالةِ التي لم تحتوي إلا على حرفين " ست "، وبقراءته للمكتوب ازداد استغرابه، ليهمس بحيرة : ست؟ الرقم ستة؟؟
رفع عينيه قليلًا للرقم الذي كان غريبًا بدرجةٍ أثارت شكوكه، وعقله بدأ بالتساؤل، هل توجد دولةٌ تحمل هذا المفتاح؟ هل الأمرُ مجرد مزحةٍ بالفعل؟ ... ولمَ لم تجيء هاتين الرسالتين إلا لسلطان؟ وفي هذه المعمعةِ التي تحدث من حوله؟؟!
ثارت شكوكه حول هاتين الرسالتين التي لم تكن تحمل في مكنونها سوى لغزٍ يحتوي على الأرقامِ لا غير! من ثلاثةِ أرقامٍ مُختلفةٍ كان تكوينها يُثير القلق قبل الشك.
تناول هاتفهُ الموضوع بجانبه ليبدأ بتدوين الرقمين المُرسَلِ منهما وسلطان يراقبه والقلق هاجمه لانفعال عناد واهتمامه لهذا الموضوع . . هل يُعقل أن يكون الأمر مُتعلقًا بسلمان؟؟
احتدّت نظراته عند تلك الفكرة، ودون أن يشعر عضّ شفته بقوةٍ كادت تُدميها، والشعور يُغادرهُ تلقائيًا حين يُهاجم سلمان عقله، حين يهاجم خلجاته، حين يُهاجم ساعاتِه ولحظاته، وهو المُخترق للوقتِ والمتخلخل له بكل عنجهية، هو الذي فرض نفسه بين المكان واللا مكان، بين الزمان واللا زمان، بين عقلهِ وقلبه، في أواسطِ روحه، بين الحُب والكره! هو الذي فضّل التخلخل في البيْـنِ والإستقرار هناك، يتربّصُ بكل صمتٍ مُزعجٍ لا يُفسَّرُ ولا يُحلل، غيرُ متوقع! . . إنه الرجل الغيرَ قابلٍ للتنبؤ، المُتسلط على الناس بشكلٍ حيادي!
نظر لعناد الذي ناولهُ هاتفه بحدةٍ ليهتف بانفعال : أيش؟ لا تقول!!
عقد عناد حاجبيه وهو ينظر لسلطان بقلق، لكنّه ابتسم ابتسامةً خادعةً مُهتزّة وهو يهتف : وشو بعد؟ الأرقام واضح إنها ماهي سعودية، يمكن فواز قاعد يلعب عليك برقم ثاني ماهو له ولا هو بلجيكي! * أكمل بمزاح * أكيد ماخذه لناس أجنبية عن بلجيكا هناك وينتقم منك لأنك من تزوجت نسيت العالم
انخفضَ حاجبيْه بشكٍ وعدمُ الإطمئنان والتصديق كان بادٍ على وجهه بدرجةٍ واضحة، لذا أردف عناد وهو يرفع حاجبيه باستفسارٍ حادٍ يُبعد عقله عن نطاق الشكّ في الموضوع : خير؟ لا يكون شاك فيني؟ روح تأكد من ربعك والا من فواز . . أنا وش لي عشان أطلع لي رقم ماهو سعودي بس لهدف ألعب عليك؟ ... هه ، هذا اللي ناقص أضيّع وقتي في المبزرة
لوَى سلطان شفته وهو يرفعُ إحدى حاجبيه ناظرًا له بحدة، ثمّ هتف بترفّع : لك العزّة إذا وقتك ضاع عشاني


,


السقفُ بات مُغريًا للتأمل، جسدهُ مستوٍ على سريره. وعيناه مُتعلقتان بالأعلى في طقسٍ خاصٍ بمن تشرّبتهُ الوحدة واعتاد عليها، في طقسٍ بين إنسانٍ دائمًا ما يكون وحيدًا وبين الجمادات التي حوله، فقط! لا شريك آخر سوى الجدران والطاولات وكل ماهو ساكن، كل مالم يحتوي على روحٍ بعكسه، كل مالم يحتوي على مشاعرَ بعكسه، كل مالم يحتوي قلبًا ينزفُ قرونًا هي في أصلها يومٌ تجلّت الآلآم والخيبات فيه، تجلّت الآفات على روحهِ فيه، تجلّت دموعٌ خفيّةٌ تظهر إلى الداخل وليس للخارج! . . إنه يشذّ عن البشر في كلّ شيء، في وحدتِه بالرغم من كونهِ يُصاحب أناسًا - في أيامٍ معدودةٍ من كل شهر -، في دموعه التي تنجرفُ للداخل، في قلبهِ الذي ينزف بدلًا من أن يضخّ الدم لا أن ينزف به، في كوْنِ الجمادات مُغريةً لعينيْه حتى يتأملها.
ابتسم بأسى وهو ينظر للسقف بحُزن، ثمّ تمتم بكلماتٍ ساخرةٍ على حاله : حتى أنت بيجي يوم وتطيح علي بعد ما تمل من عيوني! صح؟
أغمض عينيه للحظةٍ ثم فتحها وهو يردف بسخريةٍ لاذعة : ليش ما ترد؟ .. اووه صح نسيت إني المجنون الوحيد اللي يكلم شيء ما عنده لسان يحكي فيه، الشخص الوحيد اللي ما عنده إنسان يحب يحكي معه فترة طويلة
صدّ برأسهِ للجهةِ اليُمنى وهو يزفر بضيقٍ تجلّى على ملامحهِ الحادة، وعينيه ضاقتا! ضاقتا بدرجةِ ضيق الدنيا أمامه، ضاقتا بحجم الضيق الذي يجتاح فوادَه، بعكسِ حجم السعادة في حياته، والتي كان حجمها - زيرو -! لا وزن/لا كمية/لا حجم، لا شيء! لا شيء!
لا شيء إطلاقًا. السعادة لم تتبرع له بالقليل منها، لم تتكرم عليْه بجزءٍ منها، بـ - شقفة - تُغنيه عن الكثير، لا يُريد الكثير بحجم ما يُريد القليل، ليس طماعًا، ليس طماعًا، سيَقْنَع بالقليل، لن يطمعَ فقد قالها الإمام الشافعي " العبدُ حرٌّ إن قَنع، والحرُّ عبدٌ إن طمع، فاقنعْ ولا تطمع فلا شيءٌ يشينُ سوى الطمع "! فماذا يُريد أكثر؟!
تنهد وهو يغمض عينيه وكفُّه اليُسرى مُستقرةٌ على صدره، وفي تلك اللحظة سمعت أذناه طرقًا خفيفًا على الباب، ومن ثمّ فتْحُه ليتظاهر بالنوم وهو يُدرك تمامًا من الطارق، يُدرك تمامًا أنها سهى التي ستتركه بسرعةٍ وتواجدها لن يزرع بهِ شيئًا سوى المزيدَ من الأسى والخيبة فور ذهابها. إلهي كم أنَا شقيٌ في هذه الدنيا، إلهي كم تلخّص الجنون في عقلي الذي تشرّب الخيبات حتى مات! إنني شقيٌ بحجم ما أودي بهِ من الأرواح في مأساةِ " هيروشيما "، شقيٌ بقوةِ أمواج " تسونامي "، بعددِ قطراتِ الدماءِ اللا معدودة التي ذُرفت على هذهِ الأرض ومُنذ قُتل هابيل على يدِ أخيه. إلهي كم من الصدمات تلزمني حتى أتجاوز الحُزن وأعتاد؟ كم من الآفآت تبقّت حتى يُصبح جسدي منيعًا؟ كم من العقبات تبقّت حتى أصلِ لنهاية الطريق وأموت؟ ... فأرتاح!
سمع خطواتها تقترب منه، ثمّ شعر بانخفاض السرير إثر جلوسها عليه، وفي تلك الأثناء كان لم يفتح عينيه ولا ينوي فتحهما في ضعفٍ أصابه، لا يُريد مواجهتها، لا يُريد النظر في عينيها ليرى إنعكاس وجهه البائس في حدقتيها، لا يُريد أن يرى في نطراتها رغبةً في الذهاب وهو الذي وعدَ نفسه أنه لن يُخاطر حين تذهب ويستغلّ إلين! ما ذنب تلك الفتاة لتكون عند شخصٍ لا مسؤولية لديه كما قال عبدالله؟ لا يُعتمد عليه، لا يُستند عليه فكيف عسى لفتاةٍ أن تكون في كنفه؟
نظرت سُهى لجفنيه اللتين كانتا تكشفانه، وحدقتيه من خلفهما تتحركان بوضوح. طفل! لازال طفلًا لا يعي الكثير، لازال طفلًا شقيًا حين يُخطئ يتهرب بأي طريقةٍ كانت كما يفعل الآن، لازال كما هو لم يتغير سوى قليلًا في مظهره، بينما لازال جوهرهُ هو ذاته، وإن تحلّى بصفاتٍ بعيدةٍ عنه.
تنهدت قبل أن تنحني لتوازي شفتيها أُذنيه، وعيناها تلألأتا حنانًا وهي تهمس لهُ بكلماتٍ رقيقة، ومن ثمّ قبّلت جفن عينهِ اليُسرى لتقف وتتجه للباب بخطواتٍ مُتزنة .... ومن ثمّ خرجت.
فتح عينيه اللتين غامتا بمشاعر عديدةٍ وهو ينظر باتجاه الباب، يسترجع كلماتها وإحساسها به، إحساسها بضيقهِ وما يختلج فكره، إحساسها بخوفهِ من ذهابها، من عودتِـه وحيدًا يعيش هاهنا بمفردة، يعيش بين جدران البيت وحيدًا لا يُشاركه سوى صوتِ الرياح، وضجيجِ الصمت!
" لا تخاف ، ماني تاركتك ، ماني مخليتك أقل شيء بهالوقت - تُكمل بصوتٍ حنونٍ مداعِب - لين ما تتزوج "


,


صوتُ خطواتها كقرعِ الطبولِ في إحدى - أعياد الموت -، تقطعُ المسافاتِ بخطواتٍ ثقيلةٍ على سمعها وصدرها المُثقل بجراحٍ عديدة كان يزن مئاتِ الأطنان، يزنُ مقدار الدموع التي ذرفتها سابقًا وهاهي تذرفها الآن بكرمٍ حاتمي/بضعفٍ مُخزي!
زمّت شفتيها وهي تفتح باب غرفتها، بقي الباب الأخير، فقط الأخير، وبعدها ستُنار الدنيا في عينيها أو يزداد ظلامها! لم يتبقى لها سوى هذا الحل فإن كان خطأً سترسب في آخر سؤالٍ لتفوز بالسعادة، ستترسب على بحرِ الموت! على بحرِ النفاد والإنتهاء، لن تكُون إلا خواءً أشدّ من الآن، لن تكُون إلا وردةً ذبُلت وانتهى فصُل جمالها، لن تكُون إلا قنديلًا فقد هيْبتهُ بذهابِ صعقاتِه، لن تكُون إلا أرضًا خصبةً استوت قاحلةً وانتهى اخضرارها ... لحظة! منذ متى كانت خصبة؟ منذ متى حملت الإخضرارَ تاجًا على رأسها وهي التي وُلدت قاحلةً وربما ستموتُ كذلك. هي التي ولدت على قشٍ لا غير فكيف لها أن تُصبح على عرشِ الخصبِ والإخضرارُ تاجها؟؟
تقوّست شفتاها وعيونها تلفظُ الدموع تباعًا، تلفظ ملحَ الحياةِ ولوْعة الأيام التي واجهتها، تُعزي ذاتها التي ماتت واستقرّت على نعشها.
وقفت أمام التسريحةِ لتضع كفيها على سطحها تضغطُ بقوةٍ احتبس بها الدمُ واحمّرت مفاصلها. ثمّ نظرت لانعكاس وجهها القمحي عبر المرآة، لعينيها الكئيبتان، لشفتيها المُمتلئتان وحجم وجهها الطفولي، لجمالها الذي لم يُسعفها بالرضا. دائمًا وأبدًا هي ترى نفسها ناقصة، دائمًا وأبدًا هي ترى أن الجمال ينقصها، والسعادةُ أيضًا كذلك، لم تكُن يومًا قنوعة، لم تقتنع يومًا بما هي فيه يا الله! حتى وإن تصنّعت الرضا إلا أنها لم تقتنع! . . تتراكم الآفاتُ والأمراض على قلبها الذي انتفض برغبةٍ عارمةٍ بالرضا ولم يطُلْه، تترسبُ الحمم على صدرها ليحترق! ويحترق معهُ كل ركنٍ في جسدها، كل جزءٍ منها. إنها واهنةٌ افتقدت القوةَ التي لم تكُن إلا - السعادة -، إنها ضعيفةٌ بالقدر الذي ذرفتهُ من الدموع.
مررت كفها على شعرها الذي طال إلى كتفيها لتشدّ على خصلاتها في النهايةِ وهي تُغمض عينيها وتعضّ على شفتها، تُميل رأسها للخلف قليلًا رافعةً وجهها للأعلى مُطلقةً آهةً مُتألمة بحجم الألم الذي ترعرع في قلبها.
دخل في ذاك الوقتِ عبدالله وعلى وجههِ حدةٌ تواجدت أيضًا في نبرةِ صوتها التي أُطلقت إليه ما إن رأته عبر المرآة : لا تمنعني! . . مافيه شخص بيقدر يمنعني بهاليوم
عبدالله بغضبٍ يُشتت نظراته هنا وهناك بكبت : ارتاحي الحين، صار اللي يرضيك ويريحك . . طلقت هالة وانتهينا!!
اتسعت عيناها بصدمةٍ وقلبها سقط في هوّةٍ لا نهاية لها والدُنيا تُعتم في عينيها، فغرت شفتيها تنظر إليه بصدمةٍ وهي لا استوعب. طلقها! طلق زوجته! وبسببها!!! طلّقها وقد كانت السبب! كانت السبب في تشتت عائلة، في تخريب بيتٍ كامل؟؟.
بينما أردف عبدالله بقسوةٍ دون أن يُهدِها الوقت لتستوعب القليل : مالك طلعة من هالبيت، هي الدنيا سايبة ومافيه قانون؟ أنتِ قانونيًا في كفالتي وأنا مسؤول عنك في كل شيء، وبيكون طلوعك من هنا كبير في حقي وحقك.
سقطت جالسةً على كُرسي التسريحة وعيناها خاويتان، تنظران للأرض بعدمِ استيعاب، كلماتهُ عبرتها دون العبورِ الفعلي! عبرتها دون أن تسمعها، دون أن تستوعبها، وكلّ ما يتأرجح في عقلها الآن هو " طلقْتَها "!!!!
ألهذهِ الدرجة؟ إلهذهِ الدرجةِ هي نُقطةٌ سوداءُ في صفحةِ هذه العائلة، ألهذا الحدّ وصل تأثيرها السلبي؟ . . الآن هي تُجزم، إنها زلزالٌ ضربَ هذا البيت في ثوانٍ ليُسوّيه بالأرض، إنها غُبارٌ لوّث هواء هذه العائلة النقي. هل خُلقت لتُصبح بؤسًا يقع على الناس؟ هل خُلقت لتكون السهْمَ المُحرك للتعاسةِ على من تريد؟ هل خلقت لتكُون فجوة! فجوةٌ يقع بها من لا يجب عليه الوقوع؟ فجوةٌ سوداءُ اختارت من لا يصحّ عليها الإختيار؟ . . كلّ من حولها كان أنقى، كلّ من حولها كان لا يستحق هذا، فلمَ فعلت كل ذلك؟ لمَ أجرمت في حقهم ونشرت السواد في حياتهم؟ لمَ تلبّست بثوبِ الملاكِ في أعينهم لتتمثل لهم بالشيطان في أرواحهم؟ لمَ أفسدت هذا الشمل وهي التي تُعظّم الشمل؟!
يا الله! لمَ صنعْتُ هذه الحُفرة وأنا التي تُدرك معنى - العائلة - أكثر من أي شخصٍ آخر؟ لمَ فعلتُ ما فعلتُ وأنا التي عظّمت هذه النعمة حدّ الإفتتان بها؟ إننا الأيتام نشعر بقيمةِ العائلة لأننا فقدناها، نشعر بها أكثر من أيِّ شخصٍ آخر. ونحنُ البشر لا نعظّمُ النعمة التي نملكها إلا إن فقدناها، فكيف فعلت ما فعلت بما عظّمت؟ كيف فعلت ما فعلت بما افتتنت؟ كيف كان بي كلّ تلك السادية حتى فعلت ذلك؟ لمْ يأتِ يومٌ شعرت فيه بالغيرة! لم يأتِ يومٌ حسدتهم فيه على ماهم به! أقسم بذلك، لم أحسدهم يومًا يا الله، لم أحسدهم، لم أحسدهم وأنا البعيدةُ عن ذلك والقريبةُ من الأسى على حالي، لقد تأسّيتُ فقط، تمنيتُ أن أحظى بما هم بهِ ولم أتمنى أن أنتشل ما يملكونه، صدقني يا إلهي لم يكُن ذلك مما دوّن في جدولِ شيمي، صدقني لم أقصد ذلك، لم أقصد ... تالله لم أقصد.


,


الرابعة مساءً
رائحةُ المعقمات كانت تخنقها، وبياض الجُدران كانت تراه في عينيها سوادًا، تلك هي رائحةُ المشفى الذي لم تشعر أنها تكرهها إلا اليوم، ذلك هو لون جدران هذا المكان الذي لم تشعر أن الراحةَ لن تنتمي إليه! . . تتوسل الله في هذا اليوم أن تُنار أضواءُ السعادة في عائلتها، تتوسلُ الله في هذا اليومِ أن تُفتح أبواب الراحةِ ولا تُغلق أبدًا، تتوسل الله أن يأتيها خبرٌ تتمناه كما لم تتمنى سواه.
أمسكت بكفِ والدها المُسجّى على السرير الأبيض وعيناها تبكيان، بينما ابتسم لها بعذوبةٍ وهو يهمس : قولي لا إله الا الله
ارتعشت شفتاها وهي تنظر لهُ بألم، ثمّ بهمسٍ موازٍ لهمسه : لا إله الا الله
ناصر بهدوئِه الذي يبعث الطمأنينة إلى قلبها : قولي توكلت على الله
ضحكت بخفوتٍ وهي تمسح عينيها : توكلت على الله ... قولها أنت طيب
ناصر : توكلت على الله ولا حول ولا قوة الا بالله ... طيب حطي يمينك على راسي وادعي لي بالشفاء
وضعت كفها اليُمنى على رأسه مُباشرةً لتلفظ بتوسلٍ يشُوبهُ نحيبُ البكاء : اللهم رب الناس ، أذهب البأس، أشفِ أنت الشافي، شفاءً لا يُغادره سقمًا
اللهم اشْفه وعافه ، وأبرِئْه من كل سقم ، وأتم عليه صحته ، وأَرجعه سالمًا غانمًا سليمًا معافى لأهله وأسرته
اتسعت ابتسامةُ ناصر وهو يهمس لها برقة : زاد تفاؤلي من بعد دعائِك
اقترب فارس منهما ليُمسك كتفيها ويجذبها إليه قليلًا هامسًا برقة : خلاص جنان خليهم ياخذونه لغرفة العمليات * نظر لوالدهِ مُبتسمًا * أنتِ ما تعرفين إن بو فارس بطل؟
ضحكت بخفوتٍ وسبابةُ يدها اليُمنى مستقرةٌ تحت عينها بعد أن كانت تمسح دموعها : إلا أكيد ... وأحلى بطل
اقتربت ممرضتان مع طبيبٍ رغبةً في أخذهِ لغرفةِ العمليات التي سيقطنُ فيها أربع ساعات، حينها تراجعت جنان للخلف وهي تشعر أن قلبها ينقبض بشعورٍ سلبي، تشعر أنّ روحها ممسوسةٌ وصدرُها موطوءٌ بجبلٍ عظيم، تختنق بأنفاسها التي رفضت أن تُسعف رئتيها بطبيعية، تتحشرش بدموعها وتتعثر بقلقها، لمَ تشعر بكل هذا الخوف؟؟!


,


دفعَ الباب بقوةٍ بعد ما وصل إليه من حديثِ الخادمة المتوارية خلف الباب، ووجهه تشرّب أعاصير الغضب بعد أن كان الهدوءُ مترسبًا عليه، متغلغلًا به، إلا أن الحديث الذي وصل إليه على لسان - بثينة - أثار جنونهُ المتعقل فيه.
ألَم يُحذرها من قبل؟ ألَم يكُن تحذيره كافٍ لتفهم جيدًا ما معنى أن تتحداه؟ ألا تدرك من هو سيفَ الآن وليس سيف السابق؟ يبدو أنها تدفعه لما لا يُريد اللجوءَ إليه، تدفعهُ للقوةِ التي لا يبتغيها الآن. حسنًا يا بثين، لكِ ما تريدين!
شهقت الخادمة بعد أن دخل بتهورٍ وألقى عليها نظراتهِ الغاضبة والتي أثارت الرعب في قلبها.
سيف بحدة : نادي بابا
الخادمة تهزّ رأسها بذعرٍ ومن ثمّ تهروِل متجهةً للداخل، بينما تراجع هو للخارج خلف الباب، تحسبًا كي لا يمرّ أحدٌ وهو واقفٌ بذاك الشكل في بيتهم. من الجيدِ أنه تبقى بهِ بعض الحكمِة كي لا يهجم على حصنها دفعةً واحدة. ومن بعدِ خطئـها ذاك، من بعدِ تهوّرها وحماقتها هذه، لن يندم إن أصبح بينهما " المحاكم "! لن يتوانى في أخذ زياد قسرًا إن هي منعته عنه، كانت طِيبةً منه أن تركهُ لها منذ البداية، بل كانت حماقة!
عضّ زاوية شفتهِ السُفلى وهو يهزّ ساقه بغضب، يعدّ الثواني إلى أن يجيء والد طليقته، يتجاوزُ الثانيةَ إلى الدقيقة، والدقيقة إلى ساعة في هذا الإنتظار الذي يرى بعينيه أنهُ طال.
وصل إليه والد بثينة بعد أن كاد صبرهُ ينفذ، وما إن رآه حتى ابتسم له وهو يرد على ترحيبه الطيّب باحترام. وبعد أن تفضّل داخلًا في المجلس بدأ في الحديث بهدوءٍ ظاهري : ممكن أحكي مع طليقتي شوي!


,


لتوهِ عاد من عمله حتى يُصعق بما سمع، هل ذهب من مكانٍ ليعُود لآخرَ اندلعت به النيران؟ هل غادر منطقةً جليديةً باردة ليعود وقد أُحيلت إلى بركانٍ ثائر؟ ما الذي حدث بالضبط؟ ما الذي خالج الجو الصقيعي في البيت ليُشعل النيران به.
نظر لهديل بحنقٍ وهو يهتف من بين أسنانه : أيش صار بالضبط وخلى أبوي يطلق أمي؟
هديل بصوتٍ متحشرجٍ ضايع : ما أدري ما أدري ، ما فهمت شيء! كانت تحكي مع إلين وفجأة ..
صمتت وهي تُغمض عينيها بقوةٍ والضياعُ يهاجمها، الضعفُ تخلخل مساماتها ببطشٍ لتنهار قدماها وتجلس على الأرض ودموعها تسقط مع سقوطها، لم تشعر يومًا بالضياع كما الآن وكما هذه اللحظات التي هي كالسيف يقطع الوقت ليُرديها في اللا زمان! لم تشعر يومًا أنها لن تكُون شيئًا حين تنفصل الرابطة التي جُلبت لهذا العالم عن طريقها، لم تشعر يومًا أنها يتيمة! إن الرابطة تموت، وهي بذلك تموت، إنّ والداها أمام فوهةٍ ستُطلَق منها القنبلةُ الأخيرة قريبًا، قريبًا جدًا، أو لربما قد أُطلقت وانتهى الأمر.
بكت بعد أن تيبّست دموعها في محجرْيها في تلك اللحظات، بكت هذه المُصيبة التي حلّت عليها والتشتت الذي بدأت تشعر به منذ الآن، بكت سنينًا كانت تنظر فيها لأُناسٍ عاشوا بين أبويين مُطلقين ولم تهتم، بكت اللحظات التي كانت فيها تسمع قصص العائلات المُشتتة ولم تشكر فيها الله على ماهي به. كانت تمتلك من الفسوق الكثير كي لا تشكر! كانت تمتلك من النقص الإيماني الكثير حتى نسيت ( واشكروني ولا تكفرون )!! فهل هذه عقوبةٌ لعدم شكرها؟ هل ما تشعر به الآن وما هي به نتيجةُ عدم الشكر!!!
انحنى إليها ليجلس مُستندًا على إحدى رُكبتيهِ وأصابع قدمهِ الأخرى، ويديه امتدتا ليُمسك بكتفيها قلقًا : هديــل!
هديل باختناقٍ تتخبّطُ بكلماتها وهي تمسح دمعاتها وترفع ناظريْها إليه : كانت إلين تبكي و .. وتصارخ! كانوا بروحهم في المطبخ وفجأة صارت إلين تقول بتطلع عند مدري مين .. أنا وأبوي جينا المطبخ على صوتها .... و ، وبعدها طلعت من المطبخ، وتهاوشوا أمي وأبوي شوي ....
عقد حاجبيه حين صمتت ليحثّها على المتابعة : ايه كملي ، وش صار بعدين؟
هديل بنحيب : ما أدري ما أدري ... تهاوشوا شوي وصار اللي صار بعدين
شدَ بقبضتيهِ على كتفيها وهو يهتف بانفعال : طيب وينها أمي؟
نظرت إليه ببهوتٍ وحاجبيها ينعقدان بغرابة : أمي؟
ياسر بحدةٍ وجبينه يتقطّب ليخرج صوته منفعلًا : ايه وينها؟ لا تكون طلعت!
هزّت رأسها بالنفي وهي تزدرد ريقها، تشعر أن حنجرتها باتت جافةً كما جفّ قلبها من شدّة حزنـه في تلك الساعات : خوفتني أكثر من اللي صار نفسه!
رفعت رأسها للأعلى تستنشق الأكسجين بعنف، ثم أخفضته وهي تمسح دموعها بكفيها لتُردف بصوتٍ تحشرجت بهِ الكلمات : تخيّل ما سوّت شيء من كثر صدمتها .. حتى طلعة من البيت ما طلعت! حبست نفسها بغرفتها وما عاد طلعت منها
اتسعت عيناه قليلًا مُستنكرًا ردة فعل أمه، كان من الطبيعي أن تغضب وتخرج من البيت مُباشرةً ولا تظلّ به، لكن ردّة فعلها أخافته! أخافته حتى من فكرةِ خروجها من البيت.
هتف ياسر بسرعة : ووينه أبوي الحين؟
هديل تهزّ كتفيها قبل أن ترد : طلع لغرفة إلين بعد اللي صار ، وشكله قالها كم كلمة تمنعها من خروجها وطلع لأني ما عاد شفته
عضّ شفته بقوةٍ وهو يقف ليتجه للأعلى مهرولًا، وكل ما خطر في عقله الآن هو أمرٌ واحد ... أمه!!


,


قطّب جبينه ينظر إليه باستنكارٍ بعد ما سمِع منه، ليبتسم الآخر بهدوءٍ وهو يلحَظُ استنكاره لهذا الطلب، ثمّ تقدّم بجسده للأمام قليلًا ليُردف بثقة : اعذرني يا عمي بس بنتك قاعدة تسلب حقي في ولدي! أنا لو ودي آخذه غصب عنها كنت بلجأ للمحاكم مباشرة وندخل في مليون باب! . . وبحسب الشرع زياد صار بعمر يسمح له بالإختيار بيننا، حتى لو كان متعوّد على امه أكثر مني والأرجح إنه بيختارها هي أنا أقدر أكُون خسيس وألعب على عقله وهذاني أقولها لك بدون أي تردد . . أقدر آخذه بكل سهولة بس ما ودي تصير الأمور بيننا كذا
لذلك الأفضل أوقفها من البداية عند حدها قبل لا أسوي شيء ما يرضيها . . أبي أحكي وياها مع تواجدك طبعًا
تنهد والد بثينة وهو ينظر إليه دونَ تعبيرٍ مقروء، دون تفسيرٍ اتضح على ملامحهِ الهادئة بطبيعتها، ثمّ لبث ثوانٍ قليلة، ينظر فيها لعيني سيف الواثق ليتمتم بعدها بكلماتٍ ما ومن ثمّ يقف خارجًا من المجلس.

اتسعت عيناها وشهقةٌ عاليةٌ انسابت من بين شفتيها وهي تنظر لوالدها دون استيعاب.
ما الذي سمعته للتو؟ ما الذي لفظ بهِ والدها الآن؟ تُقابل سيف؟ تتحدث معه؟
شعرت بقلبها يهوي بذعرٍ وهي تفكر بما سيقولهُ لها، لكن هل عساه يتجرأ ويهددها أمام والدها؟
بثينة بذعر : أنت شتقول يبه؟ أكلمه؟؟؟
أومأ عبدالعزيز بهدوءٍ ليلفظ : تطمني أكيد بكون وياك ... البسي عبايتك وتعالي
عضت شفتها بقوةٍ وهي تُمسك بذراعِ والدها مذعورة، سيأخذه! سيأخذ زياد منها، سيأخذ روحها منها كما أخبرها قبلًا، حذرها سابقًا من أن تفعل أمرًا خاطئًا لتشوّه فكر زياد عنه أو تمنعه منه وهاهي تجاهلت تحذيرهُ ليأتيها! هاهي لم تُهدي الأمر بالًا ليجيء سيف بكل جرأةٍ ويطلب الحديث معها، ليُهددها أو ربما يُخبرها برفع قضية حضانة زياد ... أمام والدها!!!
إلهي! سيقتلع روحها! سيُمزق قلبها، إلا هو، إلا ابنها، إلا زيـاد الذي تخلّت عن أمورٍ عديدة لأجله، فكم من رجلٍ تقدّم إليها ورفضته؟ وكم من فرصٍ للزواج جاءتها لتغضّ طرفها عنها لأجله، فقط لأجلهِ فلا تجعله يأخذه مني يا الله، لا تجعله يقتلعُ حياتي من جذورها ويقذفني في صحراءٍ خاوية/جافة، لا تجعله يا الله يخنق أنفاسي بأخذه مني. إنه ابني، ابني أنـا فقط، روحي فكيف لجسدي أن يحيا دون روح؟!
تقوّست شفتاها وهي تهمس بعذابٍ ودموعها بدأت بالإنهمار دون انتظار : لا تخليه ياخذه، الله يخليك يبه زياد لـي أنا! لا تخليه ياخذه مني
قطّب والدها جبينه، ثمّ تنهد وهو يضع كفهُ على كفها المُتشبثةِ بذراعه، وبصوتٍ مُطمْئِن : تطمني .. ما أظنه بياخذه منك وهذا واضح من كلامه ... بس في النهاية أنتِ قاعدة تغلطين لما تحرمينه من حقه
بثينة بذعرٍ وهي تهزّ رأسها بالنفي وصوتها الباكي والواهن يعبر من بين شفتيها بعذاب : والله ما أحرمه .. خلاص ماراح أحرمه منه بس لا ياخذه ... الله يخليك لا ياخذه
أومأ والدها مُطمئنًا : ماراح ياخذه إن شاء الله . . أنتِ بس البسي عبايتك والحقيني
بثينة بذعر : ألحقك؟؟
والدها بتروي : أيوا خلينا نشوف وش عنده ... وبعدين منتِ خايفة ترفضين الحين وياخذه عناد؟
انتفضت وهي تتراجع للخلف تزدرد ريقها بتوترٍ عظيم، تتلعثم بكلماتها التي أضاعت الأحرفُ المُكونةُ لها مخارجها : جايـة .. خلاص جايـة

كان يجلس مُنتظرًا، جالسًا يهزّ ساقهُ وعلى ملامحه تعبيرٌ هادئٌ مموِّهٌ لا غير، بينما هو في داخله يُحاول زعزعة الأعاصير دون أدنى فائدة، اليوم سيضعُ حدًا لوقاحتها، اليومَ سينتهي من - وجع الرأسِ - هذا ويعلمها درسًا من الواضح أنها لم تتعلمه في الفقه، وهاهو سُلّط عليها ليُعلمها إياه بطريقةٍ لا يفهمها إلا الحمقى المُتمردين.
سمعَ صوتَ خطواتٍ ليرفع ناظريْه وهو يدرك تمامًا من الذي جاء، دون من يريد! عضّ زاوية شفته السُفلى بحنقٍ وهو يرفع إحدى حاجبيْه سائلًا : ما ودها تقابلني؟
جلس والد بثينة ليزفر بخشونةٍ ثمّ ينظر إليهِ بهدوء : جايـــة

.

.

.

يتبع في الجزء الثامن والعشرين
طبعًا بحطه لكم بعد ما أصحى من نومي :$
تركيزي صاير شبه زيرو فبكمل موقف بالأول وأنام
وبعد ما أصحى براجعه وأنزّله لكم ()


تحياتي.


 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 14-01-15, 04:08 AM   المشاركة رقم: 219
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Sep 2009
العضوية: 149639
المشاركات: 74
الجنس أنثى
معدل التقييم: ابنة الحظ عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 43

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ابنة الحظ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 

يعطيك العافيه كيد ، وكالعاده بارت مميز و يحكي الكثير بين ابطالنا ، ننتظرك وخذي راحتك عزيزتي ، وحنا معك ....... دمتي لنا

 
 

 

عرض البوم صور ابنة الحظ  
قديم 14-01-15, 07:43 PM   المشاركة رقم: 220
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 





(28)




الوقتُ لا يمشي في حلقة! لا يعتبر الدائرةَ دربًا، فالدائرة لها بدايةٌ حين تُرسم فقط، وليس لها نهاية! الدائرةُ شكلٌ حين تُرمق لا يكُون لها لا نهايةٌ ولا بداية، شكلٌ هندسيٌّ مُقلقٌ كدورتها الدموية المضطربة. وبالرغم من إدراكها لذلك، إلا أنها تمنّت في لحظة خائنة، في لحظةٍ عابرة، لو كان الوقت يسلك دربًا مُنحنيًا كالدائرة، لو كان الوقتُ يعبرُ دائريًا لعاد! لعادَ وغلّف ساعات الوقتِ الذاهب بالندم، لكانت استطاعت تغيير مستقبلها بعد هذا الندم، وهذه حكمةٌ إلهيةٌ أن الوقت يمشي مُستقيمًا.
نعم، فالوقت يمشي مستقيمًا، يُغلّف الإنسان بالندم حين يُخطئ، وبتمني رجوعه حين يسعد في لحظاتٍ ما.
وكما تتمنى في لحظاتها هذه وهي تشقّ خطواتها نحو المجلس، أسنانها تطِئ على شفتها السُفلى وقبضتيها مشدودتين، لو أن الوقت يعود قليلًا فقط لكانت سمحت لزياد بالخروج مع والده! لكان هذا الرعب الذي يواتيها الآن ابتعد عنها وأطلقها، وبما أن سيف يطلُب مقابلتها فهي هاهنا في خطر! قُرب ابنها منها في خطر!!
إن سيف يُدرك، كما يُدرك كل من حولها أن زياد هو الأكسجين في حياتها، أنّ زياد هو الدم الذي يجري في عروقها فإن انساب عنها سيُصيبها الشحوبُ وتموت!
وقفت أمام باب المجلس لدقائق وهي تتنبؤ بما سيحدث في الدقائق القادمة، سيقول زياد أصبح لي، سيقول انقشعي عن هذا الوجود، سيقول انتهت فترة حضانتكِ له وسيأتي الآن لي . . سيقول ويقول ويقول، وتبقى هي تهوى دون روح!
أليس هو الذي عاش أربعَ سنين بعيدًا عن ابنه ولم يهتزّ له جفنْ؟ أليس هو الذي تزوّج وأكمل حياته بينما هي فضّلت المكوث دونَ زواجٍ آخر لأجل زياد فقط؟ . . مُعادلةٌ سهلةُ الحل، الحقُّ لها فيه وليس له، الحق أن يكون زياد لها فقط. كفّتها راجحة، والعدل أن يبقى زياد في كنفها، والظلم كل الظلم إن انتشله منها.
استنشقت ذرّات الأكسجين من حولها إلى رئتيها اللتين تتأكسدان بمرارةِ كلّ ما يعبر جسدها، ثمّ رفعت قبضتها المُتكوّمة لتضرب الباب وهي تتشبث بعباءتها بكفها الأخرى.
نهض والدها ما إن سمع صوت ضرباتها على الباب، بينما التوت ابتسامةُ سيف في الخفاء، بمكرٍ وهو الذي ينوي في هذه اللحظات أن يُهدي إليها " قرصة أذن "!
فتح والدها الباب ليهمس لها ببضع كلماتٍ ومن ثم دخلت بهدوءٍ ظاهري لا يعكس اختلاجاتها في هذه الأثناءِ وهي تمشي بجواره، إلى أن جلست في النهاية ووالدها يجلس بجانبها وهي تنظر لأنامل يديها اللاتي استقرت على فخذيها تتشبث بعباءتها اضطرابًا.
وضعَ ساقًا على أخرى وابتسامتهُ تشقُّ طريقها في ملامحه، وما إن فتحَ فمه ليتحدث حتى شنّت عاصفةٌ صغيرة هجومها على المجلس ليستدير لجهةِ الباب الذي فُتح بقوةٍ ويتراءى لهُ زياد راكضًا إليه.
لم يستوعب شيئًا وهو يشعر بهِ في أحضانه، يبكي مُمرغًا وجهه في صدرهِ ليتبلل ثوبُه بدموعه، بينما وقفت بثينة من الجهةِ المُقابلةِ مُتسعة العينين غيرَ مُصدقة، ألم يكن مع جود؟؟
سيف يُبعده عنه قليلًا ينظر لوجهه الطفولي بملامح متفاجئة، يرفع إحدى كفيه ليُزيح شعره الأجعد الكثيف عن وجهه، هامسًا بحنانٍ ولطف : افا يا الذيب؟ أنا ما علمتك إن الأبطال ما يبكون؟
عاد زياد ليتشبّث بثوبه ويدفن وجهه في صدره، وبصوتٍ طفولي باكٍ : أبي أروح معاك . . ماما تضربني
تقطّبت ملامحه بشدةِ صدمته وهو يرفع رأسه تلقائيًا لبثينة التي كانت ما تزال واقفةً في مكانها، يُرسل إليها نظراتٍ بالرغم من مقدار الصدمةِ بها إلّا أن الغضب كان يتجلى بصورةٍ مُرعبة، مرعبةٍ للغاية كسهامٍ نارية تُطلقُ إليها!
عضّت شفتها اللتين ارتعشتا، ونظراتها تشتت هنا وهناك، ليس الآن! لمَ دخل؟ لمَ دخل الآن؟ . . أغمضت عينيها بقوّةٍ تُحارب دمعها الذي أراد عبور مقلتيها، بالتأكيد سيجعل هذا الضرب ذريعةً ليأخذه، بالتأكيد سيتهمها بالقسوة . . . فتحت عينيها وشفتيها تهتزان، تنظر لزياد الذي كان يجلس على حُجره دافنًا وجهه في صدرهِ يشتكي إليه، وهي التي ما ضربتهُ يومًا إلا حين تخافُ ابتعاده أو تخشى عليه، واليوم ضربتهُ ضربًا - لم يكن مُبرحًا - لأنه عارض حين منعته من الخروج مع والده، وهاهو ذاك الضرب يقف الآن بينها وبينه، يقفُ كالحاحز الخشبي قد يدوم وقد لا يدوم، قد يكُون الأثر الأخير قبل ابتعادهِ وقد لا يكون، وكم تتمنى في هذه اللحظات لو أن الوقت كان بالفعل يسير في حلقة، وما التمني إلا غبار!
وضع سيف كفهُ على رأس زياد يُخلخل أناملهُ بين خصلاتِ شعره، وبحدّة النظرات التي كان يوجهها إليها هتف : تضربينه؟؟
عضّت باطن خدها وهي تُدير وجهها للجهةِ اليُسرى من جسدها، قلبها ينبض بشدة، صدرها يرتفع بانفعالاتِ الهواء حولها، بانفعالات الموجات الصوتية التي تصلُ أذنيها، صوتُ تلك الإنقباضات بين أضلعها. إلهي إنّ الزمن يتوقف عند عيني زياد، يتوقف لأتأملها بنشوةِ الأمومة التي تتغلغل قلبي، إنّ عيناي لا ترتويان إلا عند ناظريْه، إنّ الحياةَ لا تعبرني بحلوها إلا معهُ فلا تجعله يسلبُ مني هذه النشوة يا الله، لا تجعله يسلب مني الملذةَ الوحيدة التي تبقّت لي في هذه الدنيا وكل الملذات زائلةٌ عند عينيْه، كلّ الملذات تنتهي عنده كما تبتدئ به.
وقف والدها الذي احتدّت نظراتهُ المُوجهةِ لسيف، وبصوتٍ حمل هدوءً عاصفًا : خلاص سيف! مالك صلاح تتكلم معاها بهالطريقة، قلنا تتفاهم معها في أحقيتك بولدك مو تحاسبها
زمّ شفتيه وهو ينظر إليه بحدةٍ لم يستطع قمعها، وصلابةُ نظراتهِ وصوته كانت بعكس تكوينها الرخو في هذه الأثناء، تكوينها الذي انقلب رأسًا على عقِب حين تعلق الأمر بزياد، تخاف أن تتحدث، أن تًعارض، أن تتطلق صوتها المتمرد فينتشله أبدًا، تخاف أن تفكّ لجام لسانها الذي قُيّد في هذه الأثناء فتتقيّدَ بحزنٍ أبد العُمر.
نظرت لزياد المُحتضن لوالدهِ بوجعٍ ثقبَ عينيها ليعبرهما كلّ شعورٍ سلبيٍ في هذه اللحظاتً التي توقف عندها الزمن وتعثّر، كتعثر صوتها، كتعثر كلماتها، كتعثر صلابتها . . دون نهوضٍ يتبعه!
هتف سيف بحنقٍ وهو يُحاول كبت انفعالاته أمام والدها الذي لم يكُن سهلًا عليه أن يُقلل من احترامه برفع صوته : بس ياعمي هو ولدي مثل ماهو ولدها! من يوم ولد وأنا ما تجرأت أمد يدي عليه، ولأنه ولدي لي الحق أحاسب كل شخص يضربه وأقتنع بالسبب! * وجه نظراته الحادة إلى بثينة ليُردف باستفسارٍ مُستنكر * أقنعيني ليه ضربتيه!
شتت نظراتها وهي تزمّ شفتيها المُرتعشتين، تستنشق الأكسجين بهرولةِ الحُمرة إلى وجهها الذي احتقن بضعفها وخوفها في لحظاتٍ كان قلبها ينبض فيها بقوّة، وأظافرها تكاد تخترق باطن كفها التي احمرّت بشدّة ضغطها عليها.
التوت ابتسامةُ سيف بسخريةٍ وازدراء وهو يلفظ بحاجبٍ ارتفع بارتفاع غضبهِ وهو الذي يكاد يُجزم ما السبب! : لأنه بغى يطلع معاي وزعل لما منعتيه!
فغرَت شفتيها ليعبر الهواءُ البارد إلى جوفها عبر فمها، ونظراتها اتجهت تلقائيًا إليه ليتجلى الرعبُ والضعف في عينيها ويصلهُ هذا الشعور الصريح عبر فتحة نقابها.
ارتفع حاجبه الآخر وروحٌ شيطانيةٌ داخلهُ نهضت ليشعر بالتشفي والنشوة لتلك النظرات المصفوعةُ بالضعف، لتلك النظراتِ الموسومةُ بضعف الأمومةِ وذعرها من الفقد، ولم يكُن هو الإنسان المُتسامح والمثالي ليشعر بالأسف عليها، لم يكُن الإنسان المُتقاضي عن الماضي حتى يمسحه بابتسامةٍ ويتجاوز، لم يكُن الإنسان الذي نهض بعد تعثّره بالماضي ولن يكون! لن يكُون وهو الذي بحجم ما عانى سابقًا منها لازال يُعاني! . . مازال يُعاني في طبيعةِ علاقتهِ الحالية مع ديما، في طبيعةِ علاقته مع ابنه. لذا كان حُريًا عليه أن يتحلّى بتلك الروحِ الشيطانية وينتقم لنفسه ولو قليلًا.
أزاح نظراته عنها ليوجهها إلى زياد، وابتسامةُ شرٍ تجلّت على شفتيه وهو يهمس لهُ بصوتٍ مسموعٍ حنون : شرايك تجي تنام عندي اليوم؟
رفع زياد وجهه المُنتفخ ببكائـه إليه، ولم يكُن صعبًا عليه أن يستشعر التردد في عينيه بعد ما فعلته ديما به، لذا توسّعت ابتسامتهُ وهو يهمس مُطمئنًا : لا تخاف أبوك البطل معك وأي شخص بيقول لبطلي الصغير شيء بضربه مباشرة ... شرايك؟؟
اتسعت ابتسامةُ زياد، وتلك تهاوى قلبها وعيناها تتسعان بذعرٍ ورفض، ترقرقت الدموع على سطحهما في حين نظرةٍ من سيف الذي شعر بنشوتهِ تتضاعف، برضًا عظيمٍ يُغلّف قلبه، هذهِ هي نقطة ضعفها الوحيدة، زياد وفقده، زياد وابتعاده، زياد وشعورها الأمومي نحوَه، وهو الذي لا يستصعب التحلي بصفاتٍ - حقيرةٍ - حتى يرى هذه النظرة في عينيها ودموعها، حتى ينتشي بانتصارهِ عليها وإن كان بطرقٍ لا تُشرّف!!
اقتربت بثينة من والدها لتتشبث بذراعهِ بقوّةِ الوجع الذي يتغلغلُ روحها في هذه الأثناء، لينظر إليها بنظرةٍ خاطفة ومن ثمّ يعود للنظر إلى سيف، وبحدة : سيف . . ما كان هذا كلامك!!
رفع سيف حاجبًا وهو يهتف بجمودٍ بينما أنامله تتخلخل خصلات شعر ابنه : سوّيت شيء غلط؟ . . أمس كنا متفقين إن زياد ينام عندي، بس صار شيء خلاني أرجعه لأمه ... أجرمت الحين لأني أبي أعوّض أمس باليوم وأنتو اللي وافقتوا قبل؟؟
عضّت بثينة شفتها بقوةٍ وهي تُضاعف تشبّثها بثوبِ والدها، ولسانها فكّ انعقاده لينطلق دونَ شعورٍ بصوتٍ مُهتزّ : وبترجعه؟
ارتفعت إحدى زوايا شفتيه بلؤم : إذا بتضربينه مرة ثانية ما أظن!
اندفعت بقوةٍ لتهتف بانكسار : أنا ما أضربه أصلًا إلا لو غلط
سيف ببساطة : وأنا قلت اضحكي له لو غلط؟ . . وكأنك تقولين إنّ زياد أجرم يوم بغى أبوه!
اُبتلعت كلماتها في جوفها لتتشتت نظراتها عنه، لذا تنهد وهو يضع زياد أرضًا ليقف مُبتسمًا : عن إذنكم
تحرك قليلًا ينوي الخروج وهو يُمسك بكفِ زياد الصغيرة، لكنّه توقف فجأةً ليُدير رأسه ناظرًا لوالد بثينة بابتسامةٍ لطيفة : طبعًا سكوت بثينة معناه في النهاية موافقة . . أتمنى ما تعتبرني وقح


,


توقف عند الباب للحظاتٍ وهو يزفر الهواء السلبي من رئتيه، ينظر للمقبض مطولًا بتفكيرٍ عقيم. ما الذي ينتظره؟ ما الذي ينتظره كي لا يدخل وينظر لحالة أمه؟ ما الذي يجعله يتردد الآن ويدخل؟ هل يخشى رؤية انكسارها؟ هل يخشى رؤيةَ دموع والدته؟ وكيف لا يخشى ودموعُ العزيز دائمًا ما تكون محطّ وجعٍ عند الآخر، فكيف إن كانت هذه الدموعُ لأمه؟ كيف إن كانت لمن تُسمى في أغلب هواتف الأبناء - ست الحبايب -؟
اجتذب أنفاسهُ بعنف، ثمّ وضع كفّه على مقبض الباب ليُديره، لكنّه فُتح من الطرف الآخر لتنسحب كفهُ تلقائيًا، وتتسع عينيه صدمةً برؤيته لأبيه! . . ما الذي جاء به؟؟؟
همس ياسر دون استيعاب : يبه!!
زفر عبدالله وهو يُغمض عينيه بإرهاق، ثمّ تحرك ليُغلق الباب من خلفه وهو يهمس بهدوء : تطمن . . تفاهمت معها ورجعتها
ازداد اتساع عينيه بغرابة، هكذا بكل بساطة؟ هكذا جرَت الأمور وأرجعها لعصمته؟ دون تدخلٍ منه ودون أيّ شيء آخر؟
كان صعبًا عليْه أن يستوعب كلماته، لذا هتف دون تصديق : رجعتها؟ بكامل إرداتك؟؟
مسَح عبدالله ملامحه بكفه، ثم زفر لينظر في عيني ياسر بهدوء : ايه بكامل إرادتي . . سواءً طلبتوا أو لا أنا وهالة عشرة عمر حتى لو غلطت ما أقدر أستسهل الطلاق في النهاية
تراجع ياسر للخلف مُقطَّب الجبين، ليهمس بحرقةٍ رغم رضاه بعودتها إليْه : ما تستسهل الطلاق؟ ما تستسهله وأنت اللي من كم ساعة راميه عليها ومقلل من قدرها؟
صمت عبدالله للحظاتٍ دونَ تعبيرٍ مقروءٍ على ملامحه، والقهر يشتعل في صدرِ ياسر من فكرة أن والدهُ استهان بعلاقته مع والدته في لحظةٍ ما، في لحظةٍ غير عابرة، في لحظةٍ كانت لحظةَ غضب! حتى وإن كانت كذلك، الأمر في النهاية يعني أنّ الغضب يجعله يستهين بالطلاق إلى هذا الحد! يستهين بعشرةِ العُمر كما يقول!!
هتف عبدالله بهدوءٍ يعكس خلجات عينيه دون نبضات قلبه، يعكس الكلمات التي استقرّ الهدوءُ بها في غيرِ موضعه، بكل بساطة : كانت لحظة غضب!!
اهتزّت شفتاه ووجهه يتغلّف بالنفور لهذا المبدأ، إن كانت لحظات الغضب تخوّل لصاحبها كل أمرٍ مُهوّلٍ فهذه مصيبة! إن كانت لحظات الغضب تُهدي العذر لمن يخطئ فالوضع أصبح غيرَ مُطَمئنٍ في هذا البيت!
لمح والده وهو يبتعد عنهُ بخطواتٍ استفزّتـه، حتى اختفى من أمام عينيْه، حينها أدار رأسه إلى الباب، يجب عليه أن يدخل إليها، لن يرتاح ولن يطمئن حتى يراها، لن يشعر بالراحة تتغلغله حتى يشهد راحتها هي، فموضوع عودتها إلى والده لا يكفي، لا يُحمّله الإكتفاء فرؤيةُ عينيها غيرَ حزينتين هو الراحة برمّتها.
وضع كفه على مقبض الباب ليُديره، لكنّه تراجع حانقًا مُستغفرًا ما إن وجد الباب مغلقًا، فهي ما إن خرج عبدالله وسمعت صوت ابنها حتى اندفعت لتُغلق الباب، لا تُريد الحديث معه ولا مع أيّ أحد، لا تريدُ رؤيةَ أحدٍ بعد أن استنفدت كامل طاقتها في الحديث مع زوجها. ما عاد لديها طاقةٌ تشحذ بها كلماتها، ما عاد لديها القدرةُ لتتحدث.
فاليوم تحدثت كثيرًا، أفصحت بالكثير مما أخفتهُ سنينًا!!


,


قبل ساعاتٍ خلَت - بعد صلاة العصر بدقائق
لتوّهِ عاد من المسجدِ مع عناد الذي كان شاردًا من بعد حديثهم قبل الغداء، يلمحه كل دقيقتين يفتح هاتفهُ ليتأمل شيئًا ما، والقلق ينساب إليه تلقائيًا حين يرى هذا القلقَ الذي يُزاول عناد، الأمرُ متعلقٌ بتلك الرسائل، ليس غبيًا ليُصدق " تصريفته " تلك، ليس ساذجًا حتى يُصدق ما قاله فالأمر أكبر من مجردِ مزحة، لكن لا بأس في تصنّع الحماقةِ حين يتعلق الأمر بسلمان.
هتف بابتسامةٍ صغيرة وهو يتجهُ للمجلس الذي تجلس فيهِ غزل مع والدته : بلحقك بعد شوي
أومأ عناد بهدوءٍ ليُكمل طريقه، بينما قطعَ هو المسافاتِ حتى وصل إلى باب المجلس، لكنّه توقف عند جُملةٍ مُتوترةٍ أُطلقت من فمِ غزل : ما عندي صلاة
عقد حاجبيه مُستنكرًا، ألم تكن قبل أسبوعين تقريبًا لا تُصلّي كما أخبرته ليلى؟ . . سمعَ صوت أمه ترد عليها برقة : أجل برجع لك بعد ما أصلي . . وغيداء ماراح تتأخر عليك
غزل بابتسامةٍ مُهتزة : خذوا راحتكم
اتجهت للباب الذي كان يقف خلفه سلطان، وما إن فتحته حتى رسم ابتسامةً على شفتيه برؤية ملامحها التي تقطبت أولًا ثم انبسَطت لتبتسم لهُ بحنان : متى جيتوا من المسجد؟
تخطّاها سلطان وهو يردّ عليها بهدوء : تونا واصلين . . إذا ما صليتي للحين روحي ما ودي أشغلك ... أنا بجلس مع زوجتي شوي
أومأت له لتتحرك مُبتعدةً عنه بخطواتٍ واسعة تنوي اللحاق بصلاةِ العصر قبل أن يُغادر ميعادها.
بينما كانت نظرات سُلطان تتابعها إلى أن اختفت، ومن ثمّ استدار ينظر لغزل التي كانت تجلس بكامل هدوئها المُتوتر! نظراتها لحُجرها الذي استقرّ كفّيها عليه تفرُك أناملها ببعضها اضطرابًا تحاول إخفاءه.
اقترب منها بهدوء وهو يرسم الجمود على ملامحه، ثم جلس بجانبها ليهمس بلطف : صليتي؟
كان وجهها يغرق بين خصلات شعرها، مُدنّقةً لرأسها وشعرها يلتف حول وجهها ليختفي عنه، ويختفي معه مظهر الإرتباكِ الذي تصاعد في ملامحها السمراء. لا تُريدهُ بجانبها، ولا قريبًا منها، ركبتهُ تكاد تلتصق بركبتها، تشعر بدفء جسده يعبر جسدها، وصوتُ أنفاسه الهادئة تعبر طبلة أذنها كموجاتٍ فوقَ صوتية.
حرّكت رُكبتها تصنع فراغًا بينها وبين ركبته، وحين لاحظ حركتها والمعنى الذي كان خلفها رفعَ حاجبًا دون أن يتغيّر تعبيرٌ آخر في ملامحه، ليضع ساقًا على أخرى وهو يزفر بجمود : ما جاوبتيني
ازدردت ريقها لترفع كفّها اليُمنى وتُطيلها لجانب وجهها الأيسر تُزيح خصلات شعرها عن ملامحها، وقد كان ذاك الجانب الأيسر هو المُقابل لسلطان الذي رمق عينها المُنخفض جفنها على صفيحتها العسليةُ القاتمة، ولم يكُن صعبًا على عيناه أن تُميّز الضعف المُختبئ خلف نظرتها.
افترّت شفتاها عن همسٍ متوتر، ولم تضع ولا احتمال 1٪ أنه سمع حديثها مع أمه، لذا أجابته : ايه .. صليت قبل تجي
عقد حاجبيْهِ بقوّةٍ والاستنكار يُغطي ملامحه، إجابتها الآن تناقض السابقة! تناقض ما قالته لأمه قبلَ لحظاتٍ خلَت، فما المعنى في ذلك؟؟ . . أدار وجهه عن جانب وجهها وهو يتفَكر، لن يظن بها سوءً قبل أن يتأكد، ربما كانت محرجةً منه، ربما خجلت من أخبارهِ بما أخبرت بهِ والدته.
رطّب شفتيه بلسانه وهو يقنع نفسه بتلك الفكرة، لتوه الآن يستوعب أنه لم يرَها سابقًا تُصلّي أمامه بعد أن صلّيا معًا في أول ليلةٍ لهما، لكن ليس من الضروري أن يراها! بالتأكيد، ليس من الضروري أن يراها، وليس من العدل أن يظنّ بها سوءً وهو غيرُ متأكدٍ من ظنونه، " إن بعض الظنّ إثمٌ يا سلطان " . . فليقنع نفسه بتلك الفكرة الآن، حتى يتأكد على الأقل.
شدّ على أسنانهِ وهو يُغمض عينيه، وتلقائيًا هاهي الخشيةُ بدأت بمزاولتهِ عند فكرة أنّ من تزوجها لا تصلي!! ليس إلى هذا الحد! ليس إلى تلك الدرجة، إن السلبيات تتدفق منها بغزارة، لمْ يرى منها حتى الآن ما يُقنع عقلهُ أنها صالحةٌ كفايَة، فهل ستتوقف سلبياتها عند الصلاة؟؟
استغفر ربّه وهو يطرد تلك الأفكار من رأسه، ثمّ نظر إليها بهدوءٍ في حين كانت قد أدارت كامل وجهها إليه، تنظر إليه بوجهٍ مُقطّبٍ إثر الإنفعالاتِ التي بدَت على ملامحه وصوت استغفاره الذي كان مسموعًا.
هل هو غاضبٌ الآن أيضًا؟ هل جاءها الآن بانفعالاتهِ ليُفرّغها بها؟ وهي التي لم تكره فيه شيئًا بحجم ما تكرهُ غضبَه، حتى وإن لم يكُن وإلى الآن قد أرْدَف الضرب خلفه إلا أن اشتعال عينيه حين يغضبُ كافٍ لتخشاه! سهامه التي يُطلقها من عينيه الجامدتين تكفي لصرْعِها! بالرغم من كونهِ حنونٌ ويتعامل معها بالطيبة، لا تنكر ذلك، إنّ الحنان يظهر أمامها في غيرِ الساعات التي يغضب بها، لكن هذا الحنان ليس إلا خادعًا للعيَان، وكيف لا يكُون كذلك وهو - رجُلٌ - قبل أن يكُون إنسانًا.
همس بجمودٍ وهو يطرد أفكاره تلك قسرًا : اعتذرتي من غيداء؟
تصلّبت ملامحها، ثمّ لوَت فمها لتصدّ بوجهها عنه، في الساعات السابقة لا تنكر أنها استمتعت! لا تنكر أنّ جلوسها معهم أثّر بها وجعلها تبتسم على الأقل، لم يسبِق لها أن أكلَت في جوٍ حميميٍّ كما اليوم، ولم يسبق لها أن أحبّت الأكل مع أحد! اعتادت في بيتِ والدها أن تتقوقع في غرفتها، تطلب من إحدى الخادمات إحضار الطعامِ إليها، وكم من مرةٍ تركها والدها بما تبتغيه، لكنّه في مراتٍ أخرى يجد فعلتها هذه مداعاةً للخصام وللضرب أخيرًا!
شعَرت بقبضةٍ صلبة تقبض بحدةٍ على إحدى كفيها المستقرتين في حجرها، لتفغر فمها وتنظر إليْه تلقائيًا مُتسعة العينين، بينما كان ينظر إليها بحدةٍ غاضبةٍ تسللت من بين شفتيه : أحذرك .. إياني وإياك تستخدمين أسلوب الطناش معاي مرة ثانية
اهتزّت حدقتاها وهي تُشتتهما عنه، بينما شدّ هو على كفها الباردةِ بقوةٍ لم تكُن مؤلمةً لها جسديًا، إلا أنها كانت كافيةً لتوخز صدرها بوجعِ الإضطهاد الذي تستشعره من كل من هو حولها.
ليست مُجبرةً على الصمت، ليست مجبرةً على تلقي الإهاناتِ من كل حدبٍ وصوب، أليست هي من أقرّت بأن لا حقّ لسلطان في أمرِها ولا ضربها؟ إذن لمَ تصمت الآن؟ لن يفعل بها شيئًا، لن يضربها ولن يقوم بأي شيء، فهما ليسا وحدهما، ليسا في الفندق الذي يقطنان فيه، لذا لا مجال ليتمادى.
سحبت يدها بعنفٍ من بين قبضتهِ لتُعيدها لحُجرها، ثمّ بصوتٍ خافتٍ ونظراتها بعيدةٌ عنه، في أبعد زاويةٍ لا ترى فيها عيناه : ماني مجبورة أجاوب
مال إليها قليلًا وهو يُمسكُ ذقنها هذه المرة ويرفع رأسها للأعلى حتى تواجهه بنظراتها، وبصوتٍ فاترٍ ونظراتهُ الجامدة تنظر في عمق عينيها الواهنتين : بكل مرة تكلميني تكون عيونك بعيدة عن عيوني. ليه؟ لهالدرجة ضعفك مُخزي؟
ازدردت ريقها وهي تُمرر لسانها على شفتيها، مُغمضةً عينيها قليلًا عند مرأى عينيه الحادتين . . إنها ضعيفة، ضعيفةٌ بدرجةٍ مُخزيةٍ كما يقول، أين هي غزل التي واجهتهُ بها حين اقتلعها من بيت والدها؟ أين هي غزلُ ذاك اليوم حين نظرَت إليه رافعةً أنفها؟ أين هي غزلُ الثقةِ الزائفة؟ غزلُ التمرد وعدم الطاعة! غزلُ اللسانِ اللاذع الذي انطفأ عند شخصٍ غيرِ والدها!
وهي المُتكونةُ من خيوطٍ ضعيفة غُزلت لتتكون بخامةٍ رديئة، أنا الدخان الذي تصاعد دونَ نارٍ لينقشع في جزءٍ من الثانية، أنا المسرح الذي اهتزّ دون زلزال، أنا المخلوقً الرخويُّ الذي مات دونَ سبب وهو واهنٌ كما كان في مسيرةِ حياته، أنا السيرةُ الذاتية التي ابتدأت عند تاريخِ الوفاةِ ولم يدوّن لها تاريخِ ولادة، أنا مسقطُ الرأس الذي كان قبرًا، الضريحُ الذي كان مُتشققًا، الكفنُ الذي كان رديئًا، أنا المُنسلخ عنها كلّ شيءٍ اقترَن بالحياة والمُلتصقة بالممات.
زمّ سلطان شفتيه وهو يحرّك رأسه بالنفي، ثم زفرَ بأسى ليهمس وأنفاسهُ تصتدم ببشرتها لتحترق بها : مثيرة للشفقة! ... من يوم خذيتِك وأنا ما أشوف فيك غير إنسانة متصنعة! ضعيفة!
لمَح تشنّج ملامحها عند كلماته، لتتجمد ملامحه أكثر ويزداد صلابتها، جاذبًا وجهها إليه وشهقةٌ خافتةٌ أُصدرت من بين شفتيها ذعرًا لتفتح شراعَ عينيها باتساعِ الخشيةِ التي زاولت قلبها عند هذا القُرب. وضعت كفيها تلقائيًا على صدرِه وذقنها تحرر من قبضتهِ التي سقطت إلى كتفٍ والأخرى طوّقت الكتف الآخر، وفمهُ جانَب أذنها ليهمس لها ببرودٍ وهو يشعر بارتجاف جسدها : لا عاد تتصنعين القوّة وعيونك تكشف خوفك وضعفك!
شدّت على ثوبهِ بقوةٍ حتى كادت أن تغرس أظافرها في صدره، والغصّة هاجمتها في حين كبرياءِ عينيها اللتين منعتا دموعها من السقوط، حتى تصنعها هُزم! حتى تظاهرها انتهى عنده! انجلَت سُحب قوّتها الشفافة، انجلى التصنع الذي كانت تشحذ بهِ نفسها لتقتنع بفكرةِ أنّها ما زالت تمتلك القليل من القوة. إنها الكتاب المكشوف لكلَِّ عابر، اليتيمةُ إلى كلِّ شيء، الفقيرةُ إلى القوّةِ والضآلةُ طريق السعادة! . . عضت شفتها والوجع ينخرها، عينيها تحترقان بدموعٍ تمنَّت أن تسقط في هذه الأثناء! حًنحرتها يضيع منها النحيب ويسرق النسيانُ صوتها.
ابتعد عنها قليلًا لينظر لعينيها اللتين التمعتا بحزن، ووجهها استرخى بحزنِه وخيبته، تنتشر جنودُ الألم على صفيحةِ ملامحها، تسرق منها كل شعورٍ حيْ.
همس سلطان بصوتٍ غلّفهُ الحنان وهو يرمق حُزن عينيها : ابكي ، ابكي يا غزل ... لا عاد تحبسين دموعك . . ابكي
أغمَضت عينيها بقوةٍ لتشهق بقوّةِ استنشاقها للأكسجين وكأنها تطفو من قاعِ بحرٍ بعد غيابٍ عن الهواء، صدّت وجهها عنهُ تعضُّ طرف شفتِها، وبصوتٍ غلّفتهُ بحّةُ الجفاف الذي يواتِي حلقها : مين قال إنّ عيوني فيها دموع؟
ابتسم سلطان ابتسامةً تكادُ لا ترى، وبخفوتٍ لا زال يحتفظُ بحنيّته : لمعة هالعسل اللي بين جفونِك.
اضطربت وهي تُدرك أنه يقصد بكلامه الشبيه بالغزل لون عينيها فقط، لم يقصد عينيها بذاتها ولم يقصد التغزّل بهما. لكنّ صوتُه الآن بحدّ ذاتهِ غزلٌ في حنانه! في رقّته!
زمّت شفتيها وهي تتنفس باضطراب، قلبها ينبض بمدى الإرتباك الذي يواجهها.
همست بتوترٍ وهي تُزيح نظراتها عن ملامحه : أخوك بروحه.
اتسعت ابتسامته ليزفر ويلفظ مجاريًا لها : صح نسيت
رفع كفه ليُمسك بإحدى كفيها التي مازالت حتى الآن تشدّ على ثوبه، ثمّ أخفضها مُبتسمًا لينهض بعد ذلك خلف نظراتها الغيرِ مستوعبة، وكفها تراجعت دون أن تشعر لتدسّها بين فخذيها بخوفٍ لازال مُستحلًا لها.
إنه بارع! بارعٌ في تصنّعه الحنان، بارعٌ في استمالةِ مشاعر الآخرين! بارعٌ في تمثيل الصفات الحسنة. لمَ هو بتلك الحقارة حتى يخدعها؟ لمَ هو بتلك الدونيةِ حتى يُعاملها بهذهِ الطريقةِ وهو لا يؤمن بها.
لكلّ شخص أسلوبه في التعذيب، لكلّ شخص قانونة لسحق الآخرين. كيف لهُ من القسوةِ حتى يُريها الجانب الجميل فيه ليُديره أخيرًا؟ كم لهُ من السادية حتى يتلذذ بتعذيب مخلوقٍ جافٍ لم يستقبل حنانًا من قبل؟
كُن قاسيًا، كُن فقط قاسيًا، لكن لا تُعاملني بهذه الطريقةِ كأبٍ مثالي، كأخٍ مثالي، كزوجٍ يخاف حُزن زوجتهِ والمثاليةُ بعيدةٌ عن كل البشر . . فقط كُن قاسيًا، كُن قاسيًا ولا تفعل بي هذا!


,


قُرابةَ السادسة
عبَر عتبات الدرج بخمولٍ يرتسم على ملامحه، كان خطأً منه أن نام في تلكَ الساعةِ حتى الآن.
وهكذا هو الإنسان حين يشعر بالضيقِ أو بالغضب، يُعالج نفسه بأسلوبٍ خاصٍ به، وعلى الأرجح كان الأسلوب الأمثل له هو النوم حتى هذهِ الساعة.
رطّب شفتيه وهو يتحاشى النظر لسُهى التي كانت تجلس على إحدى الأرائكِ المخملية تنظر إليْه بنظراتٍ ثاقبة، وقدماهُ تحركتا مُبتعدتان باتجاه المطبخ دون أن يلفظ بشيءٍ وهو المُتبرئ من الأحرف والأبجديات في هذه اللحظة، هو الذي قطّع حبالهُ الصوتيّة حتى لا يتحدث معها هذا اليومَ على الأقل بنفسيتهِ - السيئة -.
لكنّ صوتها كان لهُ رأيٌ آخر، فكلماتها الأشبهُ بالهمس عبرت أذناه بهدوء : أحط لك شيء تاكله؟
توقف في مكانهِ للحظاتٍ دون أن ينظر إليها، وحبالهُ بقيت لثوانٍ حتى تُربط من جديدٍ وتعود باثّةً صوتًا مبحوحًا : شكرًا توني قايم من النوم ومالي نفس
تحرّك من جديدٍ ينوي الذهاب للمطبخ حتى يشرب بعضًا من الماء، إلا أن صوتها عاد لإيقافهِ بذات الهدوء : صليت؟
توقف من جديد ليُوجّهَ حدقتيه إليها دون أن يُدير رأسه : ايـه
لوَت فمها وهي تُقاوم رغبتها في عتابهِ لأنه صلّى في البيت، فهي حين صعدت لغرفتهِ تنوي إيقاظه وجدت بابهُ مُغلقًا، وهو بذلك يُخبرها بطريقةٍ غير مباشرة بعدمِ رغبته في رؤيتها، وعلى الأرجح أنه لا ينوي الحديث معها بطبيعيةٍ طيلة هذا اليوم.
عجبًا! من الذي يجب عليه أن يتعرقل أسلوبهُ تجاه الآخر؟ أليس من الأحرى أن تكون هي الغاضبة وليس هو؟ أليس من الأحرى أن يكُون العتاب من نصيبها بعد أن قام بتوريطها مع محمد؟ . . لوَت فمها بحنقٍ وهي تراه يُكمل طريقهُ باتجاه المطبخ حتى اختفى من أمام عينيها.
بينما دخل هو بملامحَ متشنجة، والنار تُفتت عظامه، التأكسدُ يهاجم روحه، والجفاف يفرض نفسه على عروقهِ ليجفّ قلبه أخيرًا بنفاد دمائه. ما فائدة الماءِ والطعام وهو الذي
يتعرّق كل مسببٍ للحياة ليترك المضرّات تسكن جسده؟ ما فائدةُ التمسكِ بالحياة من الأساس وهو الذي يركض الموت إليه فيلحق بهِ ويلتصق به بلزوجةِ حلزونٍ وتشبث نجمةِ بحر! بلسعاتِ قنديلٍ وسوادِ حِبر الأخطبوط! وهو الصخرة التي كان يجب عليها أن تستقبل تلك اللزوجة دون تقرّف، تستقبل نجمةَ البحر دون تضايق، تستقبل لسعاتِ القنديل ليتفتت ولا يرتعش، ليتلوّن باللون الأسود وهو الذي تحلّى بالرماديةِ منذ صغره فمباذا ستضرّه المزيد من القتامة؟!! بماذا ستضرّه اللزوجةُ والكهرباء، بماذا سيُضره التصاق الموتِ بهِ وهو الذي ما أطلق الفساد يومًا عن ذاته؟
فتح الثلاجة ليُتناول قنينةً ومن ثم يخرج من المطبخ، وفي طريقه للدرج سمعَ صوتًا حانقًا يُطلق من سهى : ضربني وبكى، سبقني واشتكى ... مين اللي له الحق يزعل؟
لوَى فمهُ وهو يتجاهلها ويُكمل طريقه، لا داعي للتحدث معها الآن في مزاجه السيء، وهو الذي يعرف مزاجهُ حقّ المعرفة بينما يجهل نفسه!
إلا أن قدماهُ توقفتا فجأةً عندما سمع صوتها يُطلَق بعتاب : تراني بديت أحس بالملل من كثر ما أجلس بروحي
استدار إليها بنظراتٍ باردةٍ كالبرودةِ التي هاجمته بعد ما قالته، ويتعلّق الصمت بهذه النظرات لا غير، ينظر إليها ببرود، وتنظر هي إليه بعتابٍ و " زعل ".
تمرّرت اللحظات عند شفتيه اللتين افترتا عن كلماتٍ تغلغلت البرودةُ أحرفها، إلا أنها كانت مُرفقةً بحرارةٍ اشتعلت في قلبهِ لا غير، لتنتقل تلقائيًا إلى سهى : خلاص ارجعي! من حقك تحسين بالملل مع شخص فاسد مثلي ، وزين ما ظنيتيني منحرف مثل رأي أخوك المُبجل . . هه! مدري شاللي يحس فيه تراك عمتي في النهاية!
اتسعت عينا سهى بصدمةٍ لتلفظ بدهشةٍ صارخة : أدهم! لا تتواقح
هزّ أدهم كتفيه وهو يهتف ببساطة : الوقاحة صارت مني أنا مو من أخوك؟ . . ايه ، صح عليك أنا الغلطان دايمًا والكل صح
قطّبت جبينها بوجومٍ ليتحرّك هو مبتعدًا عنها بوجهٍ غلّفته البرودةُ والوجع، غلفتهُ الآفآت التي استوطنت بهِ ولم تترك شبرًا واحدًا منه كي لا تُصيبه. وما إن اختفى عن ناظريها حتى زفرت بكبتٍ وهي تشعر بالتشتت يُهاجمها. بالرغم من مزاجه، من تقلباته، من وقاحته! إلا أنها لن تتركه، لن تتركه مهما حدث فهو يحتاج إليها أكثر من أي شخصٍ آخر، وهي الوحيدة التي ستقومُ بمعالجته.


,


على أعتابِ الساعةِ السابعة
تجلس على إحدى كراسي الإنتظار، أناملها تشدّ على معطفها الزيتي بتوترٍ جَمْ، ووجهها الأبيض أصابه الإضطراب في أدقّ تفاصيله، من أنفها الصغير الذي كان ينتفخ ويتقلص بتوتر، إلى رمشات عينيها ووطء أسنانها على شفتها، ذقنها ازداد مظهر بروزهِ ووجهها كان محمرًا إثر خوفها وتوترها.
هذه الساعاتُ تمشي ببطء، فقط لأننا نريد منها العبُور بسرعة، هذه الساعات كالريح تمشي بما لا تشتهي سُفن الظروف، ما إن يكُون الإنسانُ في ساعاتٍ فرِحة حتى تمرّ كومضةِ برق! لكنها حين يتعلق الأمر - بمأسآةٍ - تمشي أبطأ من السلحفاة! ولن تكُون النتيجة سوى ارتفاع نسبةِ الأدرينالين في جسدها لتنفعل بهذهِ الطريقة.
أمام غُرفةِ العمليات كان كلٌّ على حدة يقف في مكانٍ خاصٍ به، فارس يتكئ على إحدى الجدران بظهرهِ وقدماه تهتزان بتوترٍ ملحوظ، بينما كان أمجد أيضًا متواجدًا يقفُ مقابلًا لفارس على الجدار الموازي له، كان هادئًا بعكسهم، مُتكتفَ الذراعين ينظر للأرض بهدوءٍ واتزان ... بعكس فارس، وبعكسها هي والإنفعال يُغلّفها بأكملها.
استقرّت نظراتها على أمجد، والإضطراب يتضاعف ألفَ ضعفٍ حين يكُون متواجدًا، تحديدًا من بعد ما حدث أخيرًا، بالتأكيد سيكُون قد علمَ بالأمر ولا تدري حتى الآن ما كانت ردّة فعله تجاه ابنه وتجاه نظرته لها. بالتأكيد سيكُون حوّر الموضوع كما يشتهي وكما سيقتنع، وقعت نظرتهُ لها أكثر حتى تساوت مع الوحل. لكن ما المهم الآن؟ بالرغم من استنكارها هدوءه وهي المُتيقنةُ بمعرفتهِ إلّا أن الهدوء كان من الأرجح سيكون خارج الموضوعِ برمّته، فـ أمجد لا يتعامل معها إلا بحرارةٍ وإن تصنّع الهدوء الخارجي . . صدرهُ ينتفخ بكرهه لها، وقلبه يشتعل بحممٍ لا تنطفئ، يكرهها كما لم يكره أحدًا، لكنها وإلى الآن لا تُدركُ السبب!!
زمّت شفتيها وهي تُزيحُ نظراتها عنه، تنظُر لأناملها المُتشنجة على فخذيها، ليس مهمًا، لا شيءَ مهمٌ في هذه اللحظات غيرَ والدها وصحته، فلينظر لها بالطريقةِ التي يريد، وبالنظرةِ التي تُقنعه، فليزدرئها ويحتقرها، فليشعر بما يُريد فالأمر سِيان! المهم الآن هو هذا الإضطراب الذي لن يزُول إلا بعودةِ والدها يمشي من جديد.


في جهةٍ أُخرى
دخلَ المُستشفى مُهرولًا وهو ينظر لساعة يدهِ مُتأفئِفًا. تعوّذ من الشيطان وهو يرفع هاتفه من جيبِ معطفهِ حتى يتصل برقمِ فارس. وفي لحظاتٍ كان صوتهُ ينساب إليه.
فواز بعجلة : معليش فارس تأخرت عليك .. صار حادث وتقفّل الطريق عشان كذا ما أمداني أوصل إلا بهالوقت . . . خلاص ما علينا وينك فيه بالضبط؟
أكمل طريقهُ وهو يتحدث مع فارس في الهاتف، ومن خلفهِ كان هيثم يدخل بتعبرٍ شيطاني يغلف وجهه، ونارٌ مستعرةٌ كانت لاتزال مُهتاجةً في عينيه.


,


بصراخٍ طفولي : لاااااااا انقلع يا معفن
ضحكت أرجوان وهي تجلس ناظرةً للحرب التي شُنت أمامها ما بين أختها وهاذين التوأمين. وبجانبها كانت جيهان تجلسُ بملامح غطّاها الملل!
ابتسمت وهي تنظر إليها، لازالت كما هي، لا تُحب الأطفال ولا ضجيجهم.
همست أرجوان برقّة : مزعجينك؟
زفرت جيهان وهي تُقلّب في قنوات التلفاز، بالرغم من انزعاجها بضجيجهم إلّا أنها ممتنةٌ لهم، ممتنةٌ لأرجوان التي جاءتها، وممتنةٌ لوالدها الذي لم يُمانع! لا تدري ما سيحلّ بها إن ظلّ يومها بذات الروتين، تجلس مع فواز فقط، بمناوشاتٍ لا تظنّ أنها ستنتهي يومًا، بخلافاتٍ لا تظنّ أنها ستنجلي، وما إن يخرج حتى تبقى لوحدها، تُقابل الجدران والجمادات، تشرد بأفكارها إلى السلبيات، تشعر أن الوحدةَ تُطبِقُ عليها وتنتشل الحياةَ منها.
إنها مُبتلية! إنها تُعاقب. الإنسان لا يُبتلى إلا اختبارًا أو لمعصيةٍ يقُوم بها، وهي معصيتها لازالت وإلى الآن تجري كما يجري الدمُ في أوردتها، تُهرول كهرولةِ الدمع على وجنتيها دائمًا وأبدًا.
( وقُل لهما قولًا كريما )
ازدردت ريقها وهي تُدير حدقتيها لأرجوان حتى تبتسم لها بغصّةٍ وعيناها تنكسران بانكسار نظرتها إلى نفسها، ثمّ بصوتٍ متحشرج : لا . . موَنسين عليْ
وكأنها لا تدرك، وكأنها لا تعلم، إنّ " الوناسة " مُبتعدةٌ عنها بألافِ الأميال كما يبتعد عنها الفرج. لمْ تعمل بهذه الآيةِ ولم تُقدّر معناها فكيف عساها لا تشقى؟ كيف عسى المرء أن تتيّسر حياته عند إغضاب أحد والديه؟ كيف عسى العُسر ألّا يُزاوله وهو الذي استهان بحقّ أحد والديه وعصا؟ . . الذنبُ يسير عليها كمستعمارتِ نملٍ تسيرُ باستقامةٍ على جسدها الذي وهَن، الذنبُ ينغرس في قلبها كالجذورِ ليتشعّب، الذنبُ يستحلّ كيانها لتشعر باللوعةِ تُهاجمها.
لكن ما كان عساها أن تفعل؟ هي في النهاية تشعر باستعمار الشيطانِ لها كي لا تغفر اوالدها كونهُ السبب، هي في النهايةِ تُسيطرُ عليها فكرة - هو السبب - ولن تنسلخ هذه الفكرة مادام ليس هناك ما يُنفي صحتها.
لمَحت أرجوان وهي تبتسم لوائل الذي كان يجلس في حُجرها وليان تنظر إليه بحقدٍ وغيرة، لازالت تذكر تلك الفتاة، والتي كان اسمها جنان، تلك الفتاةُ التي قابلتها في أول أيام قدومها إلى هنا، والتي ظهرت أمامها بشكلٍ أحمق!
هؤلاء إخوتها، فكما قال فواز تلك الفتاة والدها في صدد عمليةٍ تُجرى له، وقد كان صعبًا أن يأخذوا هؤلاء الأطفال معهم فاقترح فواز أن يتركهم عندها، وحين استصعبت ذلك كونها لا تُجيد التعامل مع الأطفال اتصلت بأرجوان لتجيئها.
سمعت ليان تهتف بحقد : خليه ينزل
لم تختفي ابتسامةُ أرجوان وهي تهتف لها برقّة : عيب ليون ما يصير تقولين له كذا . . أنتِ عاقلة مو؟
مطّت فمها دون رضا وهي تصدّ عنها وزفرةٌ غاضبةٌ تصدر من بين شفتيها، وما إن استدارت لترى أحد التوأمين يعبث بلعبةٍ لها " عروس باربس " حتى صرخت حنقًا : هيييييه اترك باربي حقي
رفع رامي حاجبهُ وهو ينظر للعبةِ بازدراء، ثم مدّها إليها هاتفًا " من طرف خشمه " : من زين لعبتك عاد، تشبهك! . . خذيها بس احنا الرجاجيل ما نلعب بمثل هالألعاب التافهة
احتقنت عيناها بالدموع وهي تنتزع اللعبة من يدهِ وتركض إلى أرجوان شاكية : أرجوان شوفيه
لم تستطِع أرجوان منع نفسها من الضحك، وتلك لم تستطع مقاومةَ دموعها المقهورة فانسابت على وجنتيها المُمتلئتين. حينها كانت جيهان تنظر إليها بملامحَ مشتدّة، ثم اقتربت منهم بعد أن جلست على ركبتيها لتزحف إلى رامي هاتفةً بشرٍ ينبض في صوتها وعينيها الضيقتين : وش قلت عن لعبتها؟
قطّب رامي جبينه وهو يتراجع قليلًا إلى الخلف، بينما فغرت أرجوان شفتيها باندهاشٍ دون أن تستبعد تهوّر أختها لأجل ليان. لذا هتفت بتحذير : جيهان اتركيه منك تراهم بزران وطبيعي يتهاوشون
رفعت جيهان كفها لتُخرسها وهي تهتف بحزم ناظرةً إليها : خليني أتصرف معاهم بنفسي لا تتدخلين * عادت لتوجيه نظراتها لرامي الواجم * ايه علمني وش قلت عن لعبتها؟
هزّت أرجوان رأسها بالنفي وهي تتمتم بخفوت : بزرة أنتِ بعد؟
أجاب رامي بثقة : لعبتها مخيّسة
اتسعت عينا جيهان بحدةٍ بينما قاومت أرجوان ضحكةً تمرّدت لتنساب من بين شفتيها بخفوت، لكنها شهقت ما إن رأت جيهان تُمسك أذنه بحزم : زين والله! وطلع للبزران لسان
تحركت بسرعةٍ بعد أن وضعت وائل على الأرض، لتُمسك بكفِّ جيهان وتخلص أذن رامي منها وهي مُقطبة الجبين لتصرف أختها الطفولي : أنتِ من جدك تحطين عقلك بعقل بزر؟ وبعدين تراهم جابوه أمانة مو عشان تتهاوشين وياهم!
تراجعت جيهان للخلف جالسةً على الأرض بعد أن كانت مُستندةً على ركبتها، لتردّ بعدم مبالاةٍ واجمة : عشان ما يتجرأ مرة ثانية ويتكلم عن لعبة ليان
أرجوان : أعوذ بالله من عقلك!!
نظر رامي لجيهان بحقدٍ وهو يرفع حاجبيه، ثمّ وجه نظراته لليان المُتشبثةِ بلعبتها ووجهها مُحمرٌ لبكائها، لكنّ الرضا كان يُغلف ملامحها الطفولية بعد دفاع أختها عنها.
مدّ لسانه لها بإغاظة، ثمّ هتف مُتحديًا : لعبة مخيّسة تشبهك
وما إن رأى اتساع عيني جيهان واستعدادها لتنقضّ عليه حتى هرب بسرعةٍ لإحدى الغُرف يتبعهُ التوأم الآخر والذي كان ينظر لجيهان بحقدٍ لتصرفها مع أخيه.
زفرت جيهان بتكشيرة : مالت عليك بزر!
زمّت أرجوان شفتيها تمنع ابتسامةً من الظهور كما كلماتٌ أردات الخروج بقوّة " أجل وش نقول عنك؟ "


,


إبهامها يضغط على أزرّة جهاز التحكم بحنقٍ كان يرتسم في طريقةِ تنفسها العنيفة، وصدرها يشيجُ بانفعالاتٍ كيميائية كان نتيجتها صوتُ تنفسٍ غاضب.
منذ أن عاد سيف مع زياد وهي تحبس نفسها في هذا الجناح، وقد كان من الأأمن أن كان سيف مُحترمًا لرغبتها هذه المرة ولم يُدخله هنا، فهي بالفعل لا تدري ما ستكون ردّةُ فعلها إن رأته، ولا تُدرك على وجهِ التحديد ما يُصيبها إن رأت طيفهُ يعبر أمامها، وكأنّ شيطانًا يتلبسها بمرآه، فهذا الطفل وإن كان ابنَ شخصٍ غالٍ على قلبها إلا أنها تتمنى أن يزول من حياتهم بأكملها.
استغفرت ربها وهي تُغمض عينيها هامسةً بغصّة : يا ربي أنا شفكر فيه؟ وش ذنبه؟ حتى لو أكرهه مالي حق أفكر بهالطريقة، هو في النهاية ماله ذنب.
تنهدت بقوةٍ وهي تفتح عينيها قليلًا، من الطبيعي أن تكرهه وهي في هذه الحالة، مشاعرها نحوهُ ليست حيادية فسيف لم يترك مجالًا للحياديةِ في هذهِ العلاقة، لم يترك مجالًا لتتقبله في حياةِ زوجها وليس مهمًا أن تحبه فمن الصعب على امرأةٍ أن تُحب ابن زوجها من أخرى! والمرأة دائمًا ما يكون النصيب الأكبر في ترجمة حبها للغيرة، كيف لامرأةٍ مثلها أن تُحب فتًا كان نتيجةَ علاقةِ زوجها بأخرى؟ كيف لها أن تتحلى بصفةٍ لم تكُن من صفات بناتِ حواء حتى تُحبه؟
وضعت جهاز التحكمِ جانبًا وهي تُعيد رأسها للخلف لتسندهُ على ظهرِ الأريكة، مغمضةً عينيها وأنفاسها تتحشرج بأفكارها. على الأقل هي لن تُفكر بإيذائه، ليست امرأةَ أبٍ شريرة لتفكر على هذا النحو! ليست إنسانةً تخلّت عن الإنسانية لتُؤذي طفلًا. هي لم تتمكن يومًا من إيذاء والده عمدًا، فكيف تؤذي الابن؟!!!
استقرّت كفها على بطنها وهي تشعر بالتواء أحشائها، ازدردت ريقها باضطرابٍ وعقلها بدأ بالتفكير بعيدًا عن قلبها. وماذا عن هذا؟ ألا يُعتبر إخفائكِ لهذه الحقيقة عن زوجكِ إيذاءًا له؟ ألا يُعتبر صمتكِ عن هذا الحمل معصية؟
فتحت عينيها بقوةٍ وهي تنتفضُ معتدلةً في جلستها، مُتسعةَ العينين وصدرها يضطربُ بأنفاسها العنيفة. أيُّ معصيةٍ وأيُّ إيذاء؟ أي إخفاءٍ وأيُّ صمت يُعتبرُ خطأً؟ هل أصبحت الحمايةُ خطأ؟ هل أصبحت رغبتها خطأ؟ هل أصبحت غريزتها في هذا الشغف خطأ؟ أم أن الخطأ يكمن في الأسلوب ذاته؟ . . حسنًا، فليكُن أسلوبها خطأً وليكن ما يكُن، فالغايةُ تبرر الوسيلة، وكما تُدين تُدان!
فلتكُن هي المُخطئةُ بما أنها ستسعد أخيرًا، وهي التي كانت دائمًا منصاعةً له، تقوم بما يُريد وهو الذي لا يستحق! لن تشعر بالذنب ولو قليلًا، لن تشعر بالعطفِ عليْه عند هذا الخداع.
إن الضمير ينتهي عند هذا الحد ويتلاشى، ذاك كان ما قررتَهُ بأفعالك يا سيف، إن كُنت نصلًا حادًا ينغرس في صدري، فلا ضيرَ من أن أكون نصلًا سامًا غير مسنون! لم أؤذِك من قبل، ولم أتعمد يومًا إيذاءك، لكن هذا ما تُريده أقدارنا، وهذا ما يقتضي عليه سعادتي! وأنا التي مازالت على قيدِ حُبك الذي أصبح - بالٍ - بفعل يديكَ لا غير، فلا تحزن! ولا تغضب، فالحب إن كان باليًا لا يعني الزوال، لكنّه يعني الإنسلاخ عن بعض قواعدهِ واستباحةَ الإيذاء.
زفرَت لتنهض وهي تنظر لساعةِ يدها، مازال الوقت مبكرًا، ومازال نوم ذلك الطفل مُتأخرًا.
لوَت فمها بضيقٍ وهي تهمس بكبتٍ وعتابٍ لنفسها : خلاص ما عليك منه يا ديما . . الله يخليه لأهله بس
تحرّكت باتجاه غرفة النوم، لمَ لا تُسلي نفسها بمشاهدةِ مقاطع في اليوتيوب إلى أن يجيء موعد نومها؟ والذي يبدو عليه أنه لا يُحب الإنفصال عن موعدهِ والتنازل ليأتي مُبكرًا.

.

.

.

انــتــهى

صايرة حنونة معكم هاليومين في القفلات صح؟ :$ يلا تهنوا بالقفلات الهادئة لأن الأحداث بدت تنحدر لمنحدر ثاني ويمكن تكثر قفلاتنا في البارتز الجاية :)


(؛ كان فيه مواقف تمنيت كثير تظهر لكم بهالبارتين أو بارت ثالث ملحق فيهم ، بس ما حالفني الوقت هالمرة فما قدرت أطول البارتين أكثر من كذا أو أضيف ثالث :/
الجزء 27 أخذت في كتابته أكثر من أسبوع، يمكن ما تشوفنه مهم لهالدرجة بس أنا أشوف أهميته كبيرة واحتاح مني كتابته ببطء.
لذلك الأحداث اللي كنت متحمسة تظهر لكم بعد الإختبارات راح تظهر في البارتين الجاية إن شاء الله


+ بودي أعطيكم كلمة أكيدة بخصوص البارت الجاي :( بس مثل ما علمتكم وراي سفرة فما أدري إذا بلاقي وقت أفضى فيه للرواية أو لا
إذا مرّ يوم الإثنين وما عطيتكم خبر أو دخلت المنتدى فاعرفوا إنه ماراح يكون فيه بارت

أتمنى تلتمسون لي العذر :$*


ودمتم بخير : كَيــدْ !






 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ليلاس, لغز, أكشن, القدر, الكاتبة كيد, انتقام, يوسف, رواية رومانسية, سلطان, غموض, عانقت, قيود, كيد
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t195238.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 02-10-16 06:32 AM


الساعة الآن 12:11 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية