كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد الثالث والعشرين
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بأتم صحة وعافية ()
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
قيود بلا اغلالها
فأنيابٍ فتاكة أزهقتها
لتعانق القيود قدري
فلا حركة تزحزحها
و لا قوةً ترهقها
بل وبكل عنوة تزداد ثباتاً فقوة
و على ساحة الهزيمة أتخبط
بين الأفراح و الأتراح اترنح
و على حافةٍ شائكة ينتهي مصيري
فأهيم بالحب ,,
بل وأتشبتُ بقدري بعناق طال أمده سنوناً فسنون
أحببتُكِ يا قيودي
فأحبيني ,, و ألهميني الرتق
و لا تكرهيني ,, لتلهميني الفتق
و ما كتبه الله لي كان خيراً
راضياً ,, راضياً يالله ..
فأنت يا إلهي المولى
و أنا عبدك يا خالقي ..
* للمبدعة : معذبني حبك
لا تلهيكم الرواية عن العبادات
(24)
غرقَت في خجلها حتى اختنقت، غرِقت في إحراجها دون أن تحاول الطفو على سطحه، غرقت في ضجيجٍ وهي ترى عينيه المُتفحصتانِ لها، يبتسم وكأنه يرى لوحةَ " الموناليزا " بينما هي في الحقيقةِ لوحةٌ تزيّنت بالبشاعةِ في لحظةِ غباء.
ارتعشت شفتاها وهي تشتت أنظارها عنه، ودون أن تعلم ما الذي يتوجب عليها فعله في هذهِ الأثناء اتجهت للتسريحةِ لتضع الصحن على سطحها، وحين رأت وجهها المُحمرّ وحالته في المرآة تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها.
دون أن تشعر رفعت كفها اليُمنى لتمسح بظاهرها على شفتيها تُزيل أثار النوتيلا وهي تشتمها بداخلها، بينما هو وقف في مكانه ينظر إليها وابتسامةٌ ضاحكةٌ ارتسمت على شفتيه، كفيه دُستا في جيبي بنطالهِ الجينز ونظراته الباسمةُ كانت تلحظها عبر المرآة، تشتت نظراته إليه لثانية، ثمّ تشتتها عنه لثوان.
تناولت من المناديل الموضوعِ على التسريحةِ بخفةٍ لتمسح ظاهر كفها من الشوكولاة، ثمّ استدارت إليهِ لتنظر إلى عنقهِ للحظاتٍ طالت وهي تشعر أن النظر لعينيه أمرٌ صعبٌ للغاية، أمرٌ خارج قدرتها في هذه الأثناء، أمرٌ يتجاوزها لمراحل عديدة.
همست وهي تخطو باتجاه البابِ بارتباك : بوصّلك للمجلس
كان يتبعها بعينيه حتى وصلت للباب وفتحته، وهمسها ذاك كان كسمفونيةٍ تجاوزت في جمالها جميع سمفونيات بيتهوفن التسع، همسها هو سمفونيةٍ عاشرةٍ لبيتهوفن نسي إطلاقها للملأ فكان إطلاقها له وحده، في القرن الواحدِ والعشرين وليس التاسعَ عشر، من قال أنّ سمفونياتك التسع يا بيتهوفن هي الأجمل؟ من كان له الحق ليختار ما الأجمل بينها والأجمل في الحقيقةِ هي ما أُخفيت للآن؟ من أعطاكَ الحق لتُخفي هذه السمفونيةِ التي ستتجاوز في جمالها كلّ موسيقةٍ حيّة؟
كل نبرةٍ من صوتِها الناقوسي يعبرُ سمعهُ ولا يتجاوزه، كل نبرةٍ هي في الحقيقةِ معزوفةٌ تكاملت من جميع جوانب الفتنةِ والجمال.
هتف شاهين بابتسامةٍ وهو يتطلع بوجهها : يعني بتطرديني من غرفتك؟
ارتبكت أكثر وهي تقبض على المنديل الذي لا يزال في قبضتها، وباضطراب : ما قصدي أطردك ... بس ، بس احنا في المكان الغلط
اتسعت ابتسامتهُ بمكر : طيب نعســـــــااان!
احمرّ وجهها وهي تتذكر كلماته البارحة، ثمّ أدارت وجهها عنه وهي تردّ بتلعثم : أبدّل وألحقك
عضّ شاهين طرف شفتهِ وهو يهمس مُتأملًا ملامحها المُحمرة وعيناها في تلك الأثناء كانت تتجهان للأرض : ليه تبدلين؟ شكلك بالبيجاما أحلى لأنك بعفويتك
ازدردت ريقها وهي تُعيد تدوير وجهها إليه دون النظر إلى نقطةٍ أخرى غير عنقه، وباضطرابٍ بهِ بعض الأمر الحاد : يكفي!
ضحك بخفوتٍ وهو يتحرك باتجاهها لتنتفض للحظةٍ وتتراجع كقطةٍ تحاول الهرب من قفصٍ مغلق، لكن من شدةِ تعثرها لم تخرج من الباب المفتوح بل اتجهت لخلفهِ نحو الجدار لتصطدم أخيرًا به.
وقف أمامها مُباشرةً وهو يُخرج كفيه من جيبه، ثم سكَن يتأمل تفاصيلها الناعمةِ ورقّةِ ملامحها، عيناها المُستدلِ جفنيهما على لؤلؤتيها البُنيتين القاتمتين، حاجبيها الخفيفين وأنفها الصغير، شفتيها الرقيقتين، ووجنتيها البارز عضمهما قليلًا لنحالتها. لمَ تراهما عيناه جميلةً بالرغم من أن ملامحها عادية الجمال؟ لمَ يرى أنها لخصت الجمال في ملامحها وقمحيةِ بشرتها؟ ألأنها أصبحت تخصه وكل ماهو ملكه يكونُ جميلًا بعينيه؟ أم لأنّ قلبهُ ينبض بقوةٍ وجاذبيةٌ كبيرة يستشعرها نحوها حين يكُون قُربها؟
مدّ يدهُ دون أن يشعر ليضعها في النهاية على وجنتها، لتفغر شفتيها وتنتفضَ وأنفاسها يكادُ يقسم أنه يسمعها، أنفاسها التي ثارت بملمسِ كفهِ على وجنتها، يتلمس عضمها الذي تمردَ بعد موتِ متعب ليظهر بينما كانت سابقًا مُمتلئةَ الوجنتين.
همس شاهين بخفوت : نحيفة! مرة نحيفة
شتت أسيل نظراتها وهي تعضّ طرف شفتِها، أنفاسها تتمردُ لتفرّ منها، تشعر أنها تختنق، ستصيبها نوبةُ ربوٍ إن لم يبتعد، تقسم أنها ستموتُ اختناقًا.
شهقت بقوةٍ ما إن شعرت بطرفِ إبهامهِ على زاويةِ فمها، ليبتسم وهو يرى بهوتها وعيناها المُتسعتين.
شاهين بجرأة : من تزوجتك وأنا ودي أعرف ملمسهم!
ارتفعت نظراتها إليه هذه المرة، تنظر لوجهه بصدمةٍ غيرَ مُتخيلةٍ لجرأته التي كان متعب يضاهيها كثيرًا، لكنّ ما اختلف الآن كان الشخصَ والمكانَ والزمان، اختلف الوضع واختلفت الأدوار، اختلف اسم المسرحيةِ واختلفت أُغنيةُ البدايَة، إنها الآن في مسرحيةٍ بائسةٍ حزينة بعد أن كانت في مسرحيةٍ سعيدة، تعيش دور الحزينةِ بعد أن كانت في السابق هي الفرِحة التي لا يُضاهيها في سعادتها أحد. سُدلت الستائر عن المسرحية السابقة، ورفعت عن المسرحيةِ الجديدة التي استنفدت روحها حتى النهاية فلم يتبقى بها ولو شطرُ روح، باتت جسدًا ميتًا يتحركُ كرجلٍ آلي، باتت حيةً ميتةً تتنفس وتأكل وتشرب وتقوم بكل مقومات الحياة دون أن تكونَ حيةً بالفعل!
همست بارتباكٍ وهي تتنفس بصعوبةِ دخول الهواءِ إلى رئتيها بفعل قربه وملمس طرفِ ابهامهِ على شفتها : ا بـ ... ابعد
زمّ شفتيه وهو يتأوه بعبث : عن هالفتنة أبعد؟ يا ساتر بس!
زمّت شفتيها للحظةٍ ليتحرك إبهامه عنهما للأسفل ويقبض بكامل قبضتهِ على ذقنها برقة، وبهمسٍ باسم : يخي الرجال محروم ليه ما تقَدّرين؟
ارتفعت حرارةُ وجهها ووجنتيها تشتعلان احمرارًا، قبضتها الحاملةُ للمنديل ارتخت ليسقط وهي تشعر بجسدها يخمُل فجأةً بمرأى عينيه الجريئتين أمام عينيها المضطربتان.
" شاهين " ... انتفض للخلف وهو يسمع صوتَ أمها التي اقتربت من الغرفةِ حين لاحظت تأخره ولم يعجبها الأمر، لكنها اطمأنت لرؤيتها للباب مفتوحًا لتدخل أخيرًا وقد كانا من خلف الباب فلم ترهما.
ام فواز باستغراب : هاو! وين راحوا؟؟
زمّ شاهين شفتيه وهو يكبح ضحكةً ليست بوقتها، ثم خرج من خلف البابِ ليهتف بابتسامة : هنا يا خالتي .. معليش على وقاحتي بدخول غرفتها بهالطريقة بس كنت بلحقها قبل تبدل بيجامتها
ام فواز باستنكار : وليه ما تبيها تبدل؟
شاهين بمكر : شكل زوجتي حلو لما تكون بعفويتها
ام فواز ولم تستطع منع لسانها المتمرد من الإنطلاق : قول بفوضويتها
خرجت أسيل من خلف الباب ووجهها احمرّ بدرجةٍ أكبر، وبخفوتٍ عاتب : يمه!
ام فواز : وأنا الصادقة ... زين ما كانت الغرفة عايشة في فوضوية بعد، ترى دايم تكون بحالة فوضوية وهالمرة من زين حظها بس
غرقت في ملابسها وهي تتمنى الهرب من جديدٍ أمام إحراج أمها لها، لكن هذا الذي ضحكَ بصخبٍ الآن ضحكةً سمِجةً سيلحقها من جديدٍ بالتأكيد، لذا صمتت وفضّلت تقبل الإحراج برحابةِ صدرٍ ووجنتيها المُتوردتين كالوردِ كانت محور جاذبيتها في هذه الأثناء.
ينظر إليها بصمتٍ وعيناه فقط تتحدثان، لازالت شفتيه تحتفظان بابتسامةٍ هي الأثر الباقي لضحكتهِ على فوضويةِ زوجته، وهي اللمحةُ الأولى التي ستلمحها ذكرياتٌ بدأت بالطفوِ على سطح ذاكرته.
- زهرةَ اللوتس -
*
يجلسان كلٌّ على سريره، واحدٌ يقوم بالكتابة على الحاسوبِ والآخر يرسم شيئًا ما في كراسته.
رفع شاهين أنظاره عن كراستهِ وهو يهتف مناديًا باسم الآخر : متعب
رفع متعب بدورهِ رأسه عن حاسوبه لينظر إليه : هاه
شاهين يرفع الكراسة ليضعها أمام وجهه : شرايك؟ بالله مو حلو؟
متعب وهو يرى شخابيطَ لم يفهمها فعليًا، وكل ما فهمهُ هو أنها رسمٌ لوجهٍ وملامحَ ما! وجهٌ قبيحٌ لم يُرد أن يُصرح لهُ ويقول " مين ذا اللي مشت السيارة فوق وجهه! " . . لذا هتف بتساؤلٍ بريء : وش ذا؟
شاهين بابتسامةٍ عريضة : هذا ملك جمال السعودية
متعب بسخرية : لا يكون انت؟
شاهين بفخر : لا حبيبي أنا كنت أرسمك انت .. شرايك ضبطتها مو؟
رفع متعب حاجبيه بقوةٍ وهو يأخذ إحدى الوساداتِ من سريرهِ ليرميها في وجهِ شاهين الذي غرقَ في ضحكه، وبحدة : شت!!!
شاهين : هههههههههه خلاص اممممم
أشار على فمه بشكل أُفقي كنايةً عن إغلاقه، ليهزّ متعب رأسه بنفيٍ آسيًا : متى بتكبر انت! صرت شايب وعمرك ثلاثة وثلاثين ولازال عقلك متوقف عند العشرة
شاهين بابتسامة غيرَ مُبالٍ بالإهانةِ الصريحة التي وجهت له : توني انتبه اني شبت! أجل وش نقول عنك؟؟
متعب : لا أنا كبرت وخلاص هذاني على باب زواج بس انت!!! للأسف للحين على مبزرتك
شاهين بسخرية : مين اللي رافض ينام بغرفة بروحه ويبي بجنب أخوه الصغير؟؟
متعب يُشير بإصبعهِ إليه : الكلام موجه لك أنت
شاهين ضحك : خلاص هو جد يعني أنا ما ودي نكون بغرفتين منفصلة ... بس اعترف انت وش تبي بالضبط؟؟؟ ماتبي نفس اللي أبيه أنا؟
متعب بتحدي : أبي بس أستقل وأفتك من وجهك
شاهين بثقة : أتحدااااااك
متعب : هههههههههههههه أقول مناك بس
شاهين بضحكة : شفت شفت؟
متعب : خلاص ياخي فكني من حنتك أي ما أقدر أستغني عنك ارتحت؟ * أعاد وجهه للحاسوب * خلاص اسكت بكمل شغلي
استلقى شاهين على ظهرهِ وهو يتناول كُرتهُ المطاطية المفضلة التي تنام بجانبهِ عادةً : إيش تسوي؟
متعب وعيناه معلقتان بالشاشة : أكتب
شاهين وهو يرمي الكُرة للجدار أمامه بقوةٍ لتُعادَ إليه : الله يوفقك في مسيرتك يا نزار
استدار إليه متعب فجأةً ليسأله : شاهين
شاهين يتناول الكُرةَ ويجلس : سم
أزاح متعب الحاسوب جانبًا ليستدير إليه بالكامل مُعتدلًا في جلسته، وبجدية : وش أفضل أنواع الزهور عندك؟؟
تغضّن وجه شاهين وهو يهمس بحيرة : أفضل أنواع الزهور؟ ... ممممم ، بصراحة مو في بالي لأني ما أهتم للزهور كثير ... بس يمكن * مطّ فمهُ بحيرةٍ قبل أن يُردف * يمكن التوليب والا الزئبق
متعب بسخرية : الزنبق الزنبق ... جايب لي اسماء حافظهم ومسوي فيها فاهم ... هه دكتور يُقال وما يفرق بين الورد والمعدن
لم يستطع شاهين منع نفسه من الضحك وهو يهتف دونَ إحراج : غلطنا غلطنا ... قصدي الزنبق ... بس ياخي ما أهتم للزهور ما تفهم؟!
متعب بابتسامة : طيب تعرف شكل اللوتس على الأقل؟
هزّ شاهين رأسهُ بالإيجاب : بعض الشيء ... مار علي صورتها مرة وللحين لازالت في بالي
متعب : مممم طيب برأيك إيش اللون الأفضل؟ اللوتس الزرقاء والا البيضاء؟
شاهين " بعبط " : السوداء
متعب بحدة : شاهيييين! عن العبط عاد تراني أتكلم جد
شاهين بملل : طيب وش تبي فيهم؟
متعب يُشير لحاسوبه : قاعد أكتب موضوع عن اللوتس ومحتار بين الثنتين لونيًا، وش الأحلى؟!
تكلم شاهين بتفكيرٍ جديٍ هذه المرة : أعتقد الأزهار الزرقاء تعتبر من الأزهار اللي ماهي منتشرة كثير مو؟
متعب : ما أدوّر على الإنتشار بس أبي الجمالية
شاهين بتفكيرٍ وهو يُنزل ساقيه إلى الأرض : ممممم أشوف بالنسبة لي الزرقاء، أحس تجذب أكثر لأن الأبيض اعتيادي
قطّب متعب جبينه بتفكير وهو يهزّ رأسه بالإيجاب : وجهة نظر معقولة ... الزرقاء تعتبر ملكة العطور والأحلى رائحة من البيضاء
شاهين وقد شعر بالإهتمام والموضوع شدّه بعض الشيء : طيب البيضاء وش يميزها؟
متعب : البيضاء كانت عند المصريين القدامى رمز للبراءة والنقاء ولازالت للحين
شاهين بتفكير : سبحان الله كل الثنتين تمثلني * نظر لمتعب ليردف * يعني أنت السوداء؟
ضحكَ متعب وهو يهزّ رأسه بالنفي : ما تجوز انت عن حركاتك؟ يوم حسيتك مهتم قلبت كل شيء.
ضحكَ شاهين بخفوتٍ قبل أن يهتف متسائلًا باسمًا : طيب علمني أنت ... وش تمثل لك اللوتس
ارتسم على وجه متعب الوسيم طيفُ ابتسامة، وعيناه برقتا بشيءٍ ما لم يفهمه في تلك اللحظات، وبهدوءٍ خافتٍ حالم : سر!
عقد شاهين حاجبيه وهو ينظر إليه بحنق، وحين أصرّ عليه ليُخبره ماتعنيه له رفض وعانده أكثر بينما هو مصر، لينْشب بينهما ما يشبه الشجار وينتهي يومهما ذاك بنومهم مُتخاصمين.
*
لم يفهم، لم يكُن ليفهم في تلك اللحظاتِ ما يعنيه متعب، لم يكُن ليقرأ تلك الإبتسامةَ العاشقةَ وعيناه اللتين تلألأتا ببريقٍ ما لم يفهمه وقتذاك، لكنه الآن أدرك، الآن فهم، الآن علمَ ما تعنيه اللوتس له، البيضاء براءةٌ كما براءةُ أسيل التي ظهرت لهُ اليوم بعفويةِ شكلها وخجلها الجميل، الزرقاء ملكةُ العطور والأزكى كما يستشعر عبيرها بأنفه.
لستِ هيّنةً يا أسيل، لستِ سهلةً أبدًا يا من كانت عند المصريين رمزًا للنقاءِ والبراء، لستِ سهلةً أبدًا يا من لُقبتي بملكةِ العطور. لستِ سهلة .. لستِ بتلك الإنسيابيةِ ليكون عبوركِ عاديًا، أنتِ صعبةٌ للحدِ الذي يؤرق ويُبكي، أنت حادةٌ كسكين، ناعمةٌ كالحرير، دخولُك كان سهلًا، لكنّ خروجكِ سيكونُ صعبًا، صعبًا جدًا يا أسيل.
تناقضٌ هاجمه، ونارٌ ما اشتعلت بصدرهِ لكنهُ حاول إطفاءها دون أدنى فائدة. ما الذي يجعلها عشيقةً لأخيه ومهمةٌ عنده؟ ما الذي يشعره بكل هذه الجاذبية نحوها وبأنه يريدها بأي ثمن؟ ... هل يغار عليها من متعب؟
اتسعت عيناه عند تلك الفكرةِ وهو يتنفس بحرارةٍ وعنف، ثمّ تحرَك فجأةً ينوي الخروج وهو يهتف باضطراب : أنا طالع على ما تبدلين
ترددت أسيل قبل أن تتحرك باتجاهه وهي تهمس باضطراب مُماثل : بوصلك للمجلس
وقف للحظةٍ ينظر إليها بملامح لا تُفسر، ثمّ تحرك لتتحرك من خلفه. أيشعر بالغيرة بالفعل؟ أيشعر بالقهر حقًا؟؟ ما تلك النيران في صدره؟ ما تلكَ العاصفةُ التي تقتلع سكونَه؟ ما ذاك الصفير الذي أزعجه؟ يشعر بالقهر؟ وممن؟ من أخيه المتوفى! زمّ شفتيه وهو يتنفس بصعوبة، وأسيل أصبحت تمشي أمامه لتصبح الأمورُ أسوأ، ليتهيّض شعورهُ وعيناه تتأملانها، تتأمل تفاصيلها الصغيرةَ بتلك البيجاما الطفولية/البريئة. وعقله لا يستوعب أبدًا، لا يستوعبُ أنه يشعر بمشاعر سلبيةٍ تجاه أخيه الذي لم يكُن بينهما أيّ مشاعرَ سلبيةٍ يومًا، حتى أنهما حين يتشاجران يكونان كطفلين أحمقين يشتمان بعضهما البعض بصوتٍ يحاولان كبح الضحكِ به، يذكر تمامًا ذلك اليوم ذاته الذي تحدثا فيه عن " اللوتس "، حين تشاجرا لرغبةِ شاهين في معرفةِ معنى اللوتس عنده، وفي خصم شجارهما هتف متعب : والحين ياخي اترك المبزرة وقولي أكتب عن أي لون؟ الزرقاء والا البيضاء؟
شاهين بسخرية : اكتب عن الزرقِيضاء
يومها ضحك متعب، ضحك وهو يسقط على سريرهِ ليستغل شاهين ضحكه وينقض عليه مُكملًا شجاره معه.
فهل سيأتي اليوم ليشعر بالقهر منه وبسبب من؟ أنثى لا غير؟ أنثى كانت لأخيه قبل أن تكون له؟ أنثى جعلته يشعر بالتملك ناحيتها وبأنها أنثاه وحده؟
زفر بحرارةِ الإضطرابِ داخلهُ وهما يُكملان طريقهما إلا أن أوصلته للمجلس، وفي أثناء مشيهِ خلفها وحتى بعد أن أوصلتهُ وبعد أن استأذنت لتخرج كان عقله يسبحُ في أفكاره، ولا زال صدرهُ يعيش في تناقضاته.
أيُّ أنثى أنتِ؟ إنّك نقطةُ الجاذبية المُتمركزةِ المُتحركةِ في هذهِ الأرض الشاسعة، إنّك محورُ الإضطراباتِ والتناقضات في صدرٍ بات يجهل هويتهُ ويتخبطُ في جهلهِ الأعمى، إنّك مذاقٌ غامضٌ خاصٌ لم أميزهُ حتى الآن، فأي أنثى أنتِ؟.
,
خرَجت من المجلسِ الذي يجلس فيهِ شاهين بعد أن دخلت ابنتها إليهِ وقد بدّلت ملابسها، تنهدت وهي تشعر بالضياع بين اثنين، ابنتها الأرملةُ سابقًا والتي ليست مقتنعةً بزواجها الحالي بالكامل، وابنها الآخر المُغترب عنها والذي أخبرها سابقًا وقبل أيامٍ أن زوجته أصبحت عنده! هكذا دون أيّ إعلانٍ رسميٍّ. غضبت حين أعلمها بذلك لكنها في النهاية رضيت بما حدث فماذا عساها تفعل مع فواز وجيهان تحديدًا؟ الزوجان اللذان ظلمتهما كثيرًا وندمت!
جيهان هي الأنثى التي عشقها فواز منذ المراهقة، منذ أن كان يراها طفلةً ليكبر ويكبر حبه لها، وحين كان يُريد طلب يدها في السنوات الأخيرةِ رفضت ليس لشيء سوى لأنها ترى أرجوان الأفضل، أرجوان هي الأجملُ والأعقل، أرجوان هي المُثلى وهي التي ستناسبهُ وليست جيهان.
أصرّت على رأيها ذاك حتى تخلى عن فكرةِ الزواجِ نهائيًا ليعودَ إليها بعد الذي حدث أخيرًا وسوءِ ظنها بهما.
ماذا كان بوسعها في ذاك اليوم السيء؟ ما عساها تكُون ردّةُ فعلها وهي ترى فواز يدخل ومعه جيهان التي لم تكن بحالٍ طبيعية! يومها لم تقتنع بقصة فواز الذي أخبرها أنه وجدها ملقاةً على الأرض ليأخذها للمشفى فعيناها لم تكونا عيني طفلةٍ بل كانت عيني امرأةٍ وأم! تلك القصةُ لم تصدقها في ذاك الوقت لكنها اضطرت مُرغمةً على سردها لمنى التي تساءلت عما حدثَ مذعورة ما إن رأت ابنتها تعبةً أكثر من السابق. وبعدها بأيامٍ كان فواز يتقدمُ ليطلبَ يد ابنة عمهِ مُستقلًا ظنها السيء بهما، ولم يكُن بوسعها الرفض وقتذاك.
,
فرَكت كفاها ببعضهما وهي تجلس على بعدٍ ليس بقليلٍ عنه، عيناه تتفحصانِها بهدوءٍ بعد أن ارتدت فستانًا ناعمًا أظهر قوامها في تمسّكهِ بجسدها النحيلِ إلى نصفِ ساقها، عيناها تنظران لكلِ شيءٍ سواهُ هو، للجدار وللأرضيةِ والطاولاتِ إلا هو الذي اختفت ابتسامةُ الحضور التي كانت قبل دقائق خلت.
همست وهي ترفع يدَها لتُعيدَ إحدى خصلات شعرها المتمردةِ إلى خلفِ أذنها : تشرب شيء؟
شاهين بهدوء : عمتي ما قصرت
بللت شفتيها التي غُلفَّت بلمعةِ " القلوس " وارتباكٌ يُصاحب كل تفصيلٍ بها، في هزّ ساقها اليمنى، في تشتّتِ حدقتيها، في أناملها التي استقرت على أذنها بعد أن أعادت شعرها لورائه.
ازدردت ريقها بتوترٍ قبل أن تهتف وهدوءه هذا غريبٌ عليها : هالمرة مقلب ثاني ... بس بأسلوب مختلف
ابتسم شاهين ابتسامةً تكاد لا تُرى وهو يُعيد ظهره ليسندهُ على ظهر الأريكة، وبهدوء : ما قدرت على زعلك أمس قلت أجيك اليوم
قطّبت جبينها بضيق : في كلا الحالتين انت ضايقتني ... أمس انتظرتك وما جيت، واليوم ما انتظرتك وجيت!
ضحكَ شاهين ضحكةً خافتةً وهو يعودُ ليتقدمَ بجسدهِ إلى الأمامِ ساندًا مرفقيه على ركبتيه : هذا أسلوب الشخصيات المهمة .. يظهرون في وقت محد يتوقعه
رفعت نظراتها إليهِ هذه المرّة وهي تُقطب جبينها، وقد كان واضحًا أنها كانت ستردّ بتهورٍ ما لكنها تراجعت في النهاية حين انتبهت لتهتف وقد تلوّن وجهها بالأحمر : أقل شيء الشخصيات المهمة يكون وراهم صحافة تكشفهم .. اما أنت فظهرت من مكان محد كان متوقعه
شاهين بابتسامة : وش كنتِ بتقولينه؟
ازداد ارتباك أسيل وهي تُخفض نظراتها لحجرها وتبدأ باللعب في أصابعها : و .. ولا شيء
شاهين ولازال يحتفظ بابتسامتهِ الهادئةِ تلك : ماعليه كأني عارف الطنازة اللي كنتِ بتقولينها فيني بس دامك ما قلتيها نمشيها
احمرّ وجهها بدرجةٍ كبيرةٍ ليضحكَ وتفاصيلها الصغيرة تُثير استمتاعه، مراقبتها وحدها تُمتعهُ بدرجةٍ كبيرة، احمرارُ وجنتيها يُسليه، وخجلها العذري كبحرٍ ورديٍّ يرويه.
شاهين بمتعةٍ وقد نسيَ كل ما عكّرَ مزاجهُ منذ لحظات : تدرين يا أسيل .. اليوم أول يوم أشوفك فيه براحة مزدوجة ... مرة بعفويتك وطفولتك، ومرة بأنوثتك وجمالك!
زمّت شفتيها وصدرها اضطرب بأنفاسها، بينما أردف بخفوت : أول مرة أشوفك فيها بدون عباية ولا طرحة تزعجيني فيها كل شوي .. شكله كان غلطي من البداية يوم كنت ما أجيك لهنا بس أطلعك معاي
المكانُ حارٌ جدًا، بل كان حارًا منذ البدايةِ والآن ازدادَ حرارةً، باتت هي كسائلٍ أثّرت به الحرارةُ ليغلي، وجزيئات الهواء تهيّضت لتتحركَ بشكلٍ أسرع وبعشوائيةٍ أكبر جعل عُنفَ أنفاسها واضحةً لها، ولأنّ الصوتَ يكون أشدّ حين تُصبح الجزيئات أكثر كان صوت هذه الأنفاس يصلهُ بسهولة.
ابتسم شاهين أكثرَ وهو يقف بهدوء، حينها انتفضت هي لتقف بدورها مُرتبكةً غير مستوعبة.
شاهين بضحكةٍ وهو يُخفض كفيه للأسفلِ أن اهدئي : شوي شوي على نفسك والله ما بآكلك ... حبيت بس أجلس جنبك لأن صوت أنفاسك ما توصلني
كانت سخريةً فهمتها جيدًا لتُبلل شفتيها بلسانها وتعودَ للجلوسِ ما إن لاحظت حماقةَ مظهرها وهي واقفة، ألا تكفي حماقاتها منذ دقائق طويلةٍ خلت؟
شاهين وهو يقترب منها ليجلس أخيرًا بجانبها يفصل بينهما جزءٌ ليس بقليل : سألتيني من شوي إذا بشرب شيء ... بس الحين ماودي أشرب بس ودي آكل
أسيل بتوترٍ وصوتها خرج حادًا بعض الشيء : تآكل إيش؟؟؟
ضحك شاهين بمكر : لحظة وين راح عقلك قليل الأدب؟
كادت تسقط على وجهها الذي اختفى لونه الحقيقي وبات أحمرًا، تشعر أنها الآن لا شيء! اختفت وتلاشت، ماهذا اليوم السيء يا إلهي!!!!
همست بتلعثمٍ وهي تتمنى لو تقتله : إيش تبي؟؟
شعر بالشفقةِ عليها لكنّه أيضًا لا ينكر التسلية التي يحضى بها في هذه الأثناء، لم يرها مرةً بهذه الحرية التي تواتيه، لم يرها مرةً بهذا الوجهِ المُحمرِ الجذاب، لم يرى يومًا حياءها الأنثوي الذي لم يظن أنه ثمينٌ إلى هذا الحد. إنها جميلة، تبدو أجمل حتى من مظهرها الذي سبق هذا، هُنا اجتمعت البراةُ والطفولة مع الجاذبيةِ والبهاء، هنا اجتمعت اللوتس الزرقاء والبيضاء، هنا اجتمع خجلها الذي أخفى نفورها لتبدو امرأة شاهين، امرأةَ شاهين فقط بخجلها العذري.
هتف في النهايةِ وهو يبتسم ابتسامةً تحمل كل مشاعرَ حلوةٍ تجاهها، وهو يطمع في رؤية خجلها واضطرابها وتخبطها أكثر وأكثر : أبي بس نوتـــيـــلا
لفظ الكلمة الأخيرة بتشديدٍ عميق، بنبرةٍ ضاحكةٍ جعل كل سكونٍ فيها يتحطم، كل ثباتٍ فيها يتجزءُ إلى ألف جزء.
تمتعت عيناه برؤية جانبِ وجهها المقابل له في حين كان جالسًا بجوارها يفصل بينهما القليل، وجهها الذي سُحب ألوانه من شدةِ إحراجها وشفتيها زمّتهما بتوتر، كفاها اللتان ستشتعلان نارًا لا محالة من شدةِ فركها لهما ببعضهما البعض، كما تشتعلُ نيرانه حين تلتقي أنفاسهما في ذات المكان، كما تشتعل نيرانه حين تلتقي عيناهما/صوتهما.
" وش تبي مني بالضبط؟ " . . تمنت لو تصرخ بها وتُنهي طريق إحراجه لها المُتعمَد، تمنت لو تمتلك القليل من الجرأةِ لتستدير وتضع عينيها بعينيه حتى لا يشحذ نفسه بالطاقةِ أكثر ويُحرجها.
ضحكَ شاهين وهو يتابع تفاصيل وجهها وعيناها اللتان ترفرفان، يستشعر حنقها منه المُخالِط لإحراجها، لذا هتف أخيرًا : خلاص آسف آسف ... راح أعقل
بللت شفتيها بلسانها وهي تزفر، لتهتف أخيرًا وصدرها يرتفع بشهيقها الحانق لينخفض بزفيرها المُفرِّغ لخجلها : تبي تشرب شيء؟
ابتسم حين أعادت سؤالًا ذكرته قبلًا دون أن تنتبه، ليُدركَ جيدًا تأثيره في الثواني التي خلت على تفكيرها وذهنها، لم يُرد إحراجها أكثر وتذكيرها بأنها تُعيد له ذات السؤال فهتف : لا مشكورة ... أبيك بس تتركين هالخجل وتلفين تطالعيني ، لا تحسسيني اني جالس مع صنم!
ارتبكت قبل أن تُدير وجهها إليه قليلًا : كذا يرضيك؟
شاهين : هههههههههههه ليه العصبية طيب؟
أسيل : ماني معصبة
شاهين : صح صح منتِ معصبة ولا يهمك
قطّبت جبينها بانزعاج : لا تحاكيني مثل الطفلة!
شاهين : ما عرفنا لك!!
توترت نظراتها أمام عينيه اللتين كانتا تنظران في عينيها مُباشرة، فأخفضتها بسرعةٍ وهي تهمس : حاكيني عادي
شاهين بابتسامةٍ وهو ينظر لخصلاتِ شعرها التي انسابت إلى جانبي وجهها حين أخفضته : كيف عادي؟
أسيل بخفوت : بس عادي
ضحكَ بخفوتٍ على تخبطها اللذيذِ ليرفع كفيه ويُحيط وجهها بهما يرفعهُ إليه، حينها اتسعت عيناها وهي تتجمد في مكانها، فغرت شفتيها دون صوتٍ وهي تشعر أن الهواء يغيب ويخون رئتيها، أن الهواء اقتصر على الدخول إلى رئتي شاهين دون رئتيها.
همس شاهين وهو يُعيد خصلاتها إلى خلف أذنيها بابتسامةٍ عابثة : أكثر شيء أحبه في المجانين هو براءتهم
عقدت حاجبيها ومناداتهُ لها بـ " المجنونة " تُثيرُ حنقها، لكنّ الحنق غيرَ معنيٍ في هذه اللحظات، فملمس كفيه يُشتت كل شعورٍ آخر سوى الإضطراب، ضاع تفكيرها وهي ترى نفسها بهذهِ الحالةِ معه، بهذهِ الصورةِ التي لا تتمناها إطلاقًا، ضاعت كما ضاع وفاؤها، إنها خاينة! خاينةٌ بالدرجةِ التي تجعل حُب متعب لها ذاك كبيرًا عليها وهي صغيرةٌ عليه، ليس لها الحق في أن تقبل حبهُ لها وهي التي لا تحمل هذهِ الدرجةَ من الوفاءِ له، لا تستحقهُ وهو الذي لو كان في مكانها لقابلَ حبها بالوفاء. مع أنها سمعت قبلًا كلامًا غير هذا! سمعت أنه لو كان مكانها لتزوج في أقرب فرصة! لتزوجَ وتجاوزها فهو رجلٌ في النهاية.
لكنها لن تصدق، لن تقتنع بذلك فمتعب هو حبيبها الذي أحبها كما أحبته، ولن يتخلى عن حبها إطلاقًا.
همست تردّ عليه دونَ تعبير : إذا كان برأيك جنون ... فأنا أحب هالجنون
جفل وتلاشت ابتسامتهُ وهو يتراجع، يُطلق وجهها من بين كفيه وصدرهُ ارتفع بشهيقٍ حارٍ لتتحول نظراتهُ في لحظةٍ إلى قسوةٍ وبرودٍ انجلى عنها أي شيء آخر. أيّ تمادٍ هذا؟ أيّ وقاحةٍ تلك التي غلّفت كلماتها؟ من تظنه؟ من تظنه لتقول ما قالت؟؟؟
عضّت لسانها ندمًا بعد أن رأت تعابيرَ وجهه ونظراتهِ القاسية، ما الذي قالته؟؟ ما الذي تجرأت على إطلاقهِ أمامَ رجلٍ هو زوجها حاليًا؟؟
زفرَ بقوةٍ وهو يعض طرف شفتهِ السفلى بقهر، ثم هتف وهو يشدّ على أسنانه : أجل تمتعي بجنونك يا مجنونة
نهضَ ينوي الرحيل، لتقف معه وضميرها أنّبها لوقاحتها تلك، ودّت لو أن لسانها قُطعَ قبل قولها هذا، ودّت لو أنه صفعها قبل قولها هذا، إنّ ما فعلته الآن بحقهِ كبير، كبيرٌ جدًا يتجاوز الإحتمال فمن ذا الذي يُمرر إقرار زوجتهِ بجنونها بغيره وإن كان أخاه؟ من ذا الذي تخترقهُ الخيانةُ دون أدنى ألم؟ أجل إنها تخونه، تمامًا مثلما تخون متعب، إنها بين نارين لا تدري ما الذي يجب عليها فعله، إنّها معلقةٌ من عنقها في وسطِ بئرٍ جافٍ يمتدّ إلى دون قاع، هل تبقى معلقةً حتى تختنق؟ أم تسقط دون أن تعلم متى ستصل؟؟
أمسكت بكفهِ دور شعورٍ وهي تهمس : شاهين
سحب يدهُ بعنفٍ وهو يلفظ بحدةٍ في وجهها : عساه مافيه شاهين مع وجهك ذا!!
أسيل برجاء : آسفة والله آسفة ما انتبهت للحكي اللي قلته
شاهين بسخرية : يا سلام!
أمسكت بكفهِ من جديدٍ لتجذبهُ تحاول جعلهُ يجلس من جديد لكنه لم ينصَع لرغبتها، وبندم : ما على المجنون حرج
شاهين بعجبٍ يرفع حاجبيه : لا وبعد تقرّين؟؟
شدّت على أسنانها قبل أن تهتف ببعض العنف : أنت اللي فتحت السالفة من البداية، تقول عني مجنونة شتتوقع طيب؟؟
شاهين بحدة : أتوقع احترام منك للحمار اللي قدامك ولو من باب المجاملة على الأقل
قطّبت جبينها وبحماقة : تسب نفسك وتبي غيرك يحترمك؟
هتف شاهين بصوتٍ يكاد يكون صراخًا : أسييييييييل
انتفضت وهي تُفلت كفهُ بذعرٍ من صوته، لكنّهُ ما إن شعر بها تُطلق يده حتى شدّ على كفها بعنفٍ وهو يسحبها إليهِ بقوةٍ جعلتها تصتدم به : قد سمعتي بجوليا فازيكاس؟
ارتبكت هي تحاول أن تبتعد عنه، لكنها هتفت بصوتٍ حاولت بثّ الثباتِ بهِ دون جدوى : لا ، مين هذي؟
شاهين بحدة : هذي الله يسلمك مرَة كانت تقتل الرجاجيل بسمْ اسمه الزرنيخ ... تدرين وش أفكر فيه الحين؟
أسيل بضعفٍ تُجاريه : وشو؟
شاهين وهو يلصقها بها أكثر ويدهُ الأخرى ارتفعت ليضمها إليه بقوة : أفكر أنتقم للرجاجيل اللي قتلتهم فيك أنتِ وأسممك الحين
شهقت وهي تشعر بذراعيه تحتضنانها، ولون وجهها انسحب وهي تحاول الإبتعاد ليشدها هو إليه أكثر فأكثر، لم تلتف إلى ماقاله بقدر ما كانت حواسها مشدوهةً عند التصاقها به بهذا الشكل الجريء الذي لم يكن الا بينها وبين . . . عضّت شفتها وهي تحاول التنفس بطبيعيةٍ وطرد صورةِ متعب عن ذهنها. بينما استرسل في كلامه وهو يشعر بشعورٍ لم يشعر بهِ من قبل وهي بين أحضانه : بتقولين وش علي منها الحين! ... بقولك مدري بس جت في بالي يمكن لأنها كانت مرَة ما ترضى على بنات جنسها وتساعدهم في قتل رجاجيلهم .... ويا ليتكم تستحقون!
حاولت الإبتعاد عنه، ومن بين أضلعها كان قلبها يضربُ في صدرهِ بعنف، تحاول الإنسياب من بين ذراعيه القوتين لكن على ما يبدو فالوضع قد أعجبه.
أسيل تهمس برجاء واختناقٍ لما هيَ عليه : شاهين اتركني
شاهين بلؤم : ليه؟ ما تقدرين تقاوميني مثلًا!!
احمرّ وجهها من وقاحته وهي تهتف بشعورٍ فعليٍّ بالإختناق : ترى بختنق!
عضّ شفته حين تذكر المرةَ التي أخذها فيها للمشفى، حينها ارخى ذراعيه عنها لتبتعد وتشهقَ بقوةٍ بعد أن شعرت بأن الهواءَ غادرها.
نظرَ إليها مطولًا وهي تضع يدها على صدرها وتزفر وكأنها كانت في عراكٍ ما، مع عدوٍ لها! وكأنها كانت مُغلّفةً بشيءٍ سرَق منها أنفاسها وكاد يقتلها.
زمّ شفتيه بقهرٍ قبل أن يهتف بجديَة : مرة ثانية انتبهي لحكيك ... لأني أعتقد إني بجيب معاي سم الزرنيخ وقتها وأقتلك فيه!
قطّبت جبينها وشتت عيناها باضطرابٍ عنه، تبلل شفتيها بارتباكٍ وهي تتراجع حتى جلست. إنّ سكونها ينهارُ أمام عبثه، إنّها تسقط رويدًا رويدًا وتفكيرها بدأ بالإضمحلالِ في خضم ارتباطها به.
كيف عساها ستكمل حياتها بهذه الطريقةِ المُضطربة؟ كيف عساها تصطبر على هيجان البحر داخلها؟ هل تنتظر الغرق لتموت؟ أو لربا رحمتها الأقدار لتُزجّ في أقرب شاطئٍ قبل أن يُصبح الموت خيارًا لابد منه!
نظرَت إليه بوجهٍ بائسٍ حانق، لتهتف من بين أسنانها بحدةٍ وصبرها نفد وانتهى : قلتلك نتطلق من البداية بس رفضت! لا تحاسبني بعدين!!
رفع شاهين حاجببه والغضب بدأ بالتسلل إليه أكثر وأكثر : يا حلاتك والله! وكأني ضربتك وقلتلك من البدايَة وافقي علي بالغصب؟
ازدردت ريقها وهي تخفض رأسها أمام كلماتهِ وحجته التي أخرستها، بينما هو صمتَ دون أن يكُون الوضع سهلًا عليه، وكيف يكون سهلًا على رجلٍ شرقي مثله؟. إننا الشرقيون نتحلى بصفاتٍ فطريةٍ لن تمدّها الحياةُ بالزوال، إننا الشرقيون نغار بالفطرةِ ولن نُسلخ من هذه الصفةِ مهما اختلطنا بمجتمعٍ غربيٍ قد يُمحق صفاتًا أخرى مُكتسبة، إننا نغارُ بحجمٍ قد يؤرقنا، قد يُرهقنا، وقد يقتلنا أيضًا!
تنهد بكبتٍ وهو يقتربُ منها، لترتعش في مكانها تنظرُ إليهِ بإرهاقٍ من مواجهتها له. جلس بجانبها ليسكن للحظاتٍ حتى صوتُه سكن، لكن نظراته كانت نارًا يندلعُ وقد يحرق كل أخضرٍ ويابس، إلا أنها لم تُحرق في النهاية!
أدار رأسه إليها فجأةً، وعينيه هبط توقدهما بدرجةٍ بسيطة، وبحزم : اسمعيني ... بقولك شيء واحد أبيك تفهمينه، قناعة يمكن تستنكرينها ويمكن ما تصدقينها
أنا رجال شرقي خليجي سعودي في النهاية، تفهمين وش يعني هالإنتماء؟ قبل لا أكون سعودي أنا خليجي، وقبل لا أكون خليجي أنا شرقي، تفمهين وش يعني شرقي؟؟!! * أردف بتشديد * يعني أغااااار لدرجة الموت
أخفضت رأسها وهي تفرك كفيها ببعضهما توترًا، لتمتدّ يديه فجأةً ويحتضن كفيها المتكومتان بين قبضتيه، حينها تيبست في مكانها وتيبست أنفاسها، بينما تابع هو : لكن الأهم من هذا كله ... هالشرقي اللي جالس جنبك متقبل حبك لغيره حاليًا
اتسعت عيناها قليلًا دون أن تستدير إليه وأذناها لا تصدقان ما تسمع، كيف يمكن لرجلٍ أن يتقبل حب امرأتهِ لغيره؟ هي تدرك جيدًا ذلك وتعلم أنها تؤذيه حين تُفصح عن حبها لغيره، وبالرغم من ذلك تؤذيه!!
لم تصدق ما قاله لكنها لم تنبس بشيء، ليشدّ هو على كفيها مُتابعًا بخفوت مُعذب : حبك لمتعب ماهو حرام يا أسيل ولا هو مؤذي لي بحجم ما اعترافك مؤذي! حبك له كان نتيجة علاقة شرعية ما أقدر أحاسبك عليها
أنتِ قبل لا تكوني زوجتي كنتِ أرملته، وطبيعي راح يكون عندك له مشاعر خاصة بقدر أغيرها لك بعدين، بس اسكتي! لا تفصحين عن هالحب كل ما بغيتي تبتعدين، اسكتي والزمي لسانك وحدودك عشان لا تطلعيني من طوري، خلي حبك هذا في قلبك بس لين ماتقدر العشرة تغيره وأنا واثق من هالشيء. يوم من الأيام بيصير متعب ذكرى حلوة أنا ما أحاسبك عليها بالعكس! ما أبيه يموت من عقلك لأن الزوج لو مات أو ابتعدت الزوجة عنه ما يموت في الذكرى بس ممكن يموت بالقلب! الزوج لما يختفي فجأة تظل ذكراه شيء حلو وممكن سيء بس ما يموت!
ما أبيك تنسينه يا أسيل بس أبي قلبك ينساه ... ما أستعجل قلبك في نسيانه بس أبيه يتناساه ... ما أحاسبك على حبك له لأني أعرف انه ينحب وأفتخر إن زوجتي ما تحب لمجرد الحب! زوجتي تحب لأنها تميّز مين اللي يستاهل الحب، طيب ما أستاهله برأيك؟؟
صدقيني يا أسيل ... ما آذاني حبك له كثر ما آذتني أشواك لسانك وعدم مبالاتك! لا تعترفين ... اخدعيني بس لا توجعين هالشرقي بعدم مبالاتك فيه واحترامه!
انسابت كلماته كانسياب السَموم في أذنيها، كانسيابِ رصاصٍ ذائبٍ إلى طبلتها لتحترق، كانسياب صراخٍ مزّق أسماعها وأرداها صماءَ لا تسمع شيئًا، لم تجد ما ترد به، لم تجد صوتها وقد ضاعت الأحرف من بين شفتيها، غُمرت في النسيان كما نسيت نفسها في هذه اللحظاتِ لضآلةِ حجمها.
نظر إليها وقد صمت وضاع صوته بعد ما انتهى من حديثهِ الذي جفف حلقهُ من الريق، لذا ابتلع ريقهُ ليسترجع صوتهُ ويُخصب الجفاف الذي واتاه، ينظر لوجهها الذي بقي متجمدًا كما هو، تنظر بعينيها إلى الأرض وقد انسحب منهما كل حنقٍ وكل تمردٍ وكل شعور، أدرك جيدًا تأثيرَ كلماتهِ السابقةِ عليها فانتهت كلماته.
لذا هتف بهدوءٍ وهو ينظر لساعته : ما بقي شيء على صلاة العشاء .. أستأذن
أطلق كفيها من قبضتيه ليقترب من وجهها ويطبع شفتيه على وجنتيها، حينها لم تكن ردة فعلها كسابقاتها ولم تنتفض فزعًا ككل مرة، بل بقيت متجمدةً في مكانها بينما ابتعد عنها واقفًا، هاتفًا : فمان الله
,
نظر للساعة التي اقتربت من السابعةِ والربع، اقترب وقت الصلاة لذا تركَ حاسوبهُ الذي كان في حجره ونهض عن سريرهِ ليتجه للحمام ويتوضأ.
بعد دقائق خرج وهو يشمّرُ أكمامهُ عن ساعديه، ومن ثمّ أخذ هاتفهُ من الكومدينة ليضعه على وضع الصامت ويدّسهُ في جيبه، ليخرج من بعدها من غرفته.
كاد أن يتجه للباب لكن لفت نظره جسدٌ مُستلقٍ على الأريكة، وحين استدار كانت غزل متكومةً بجسدها نائمةً في وقتٍ كهذا ليُقطب جبينه مستغربًا، ما الذي أحضرها لتنام هنا تحديدًا؟ هي في العادةِ لا تخرج حين يكون متواجدًا وهذه طبيعةُ حياتهما منذ فترة، كالغريبين في نفس المكان، كالماءِ والنارِ لا يلتقيان، كالصالح والطالحِ لا يتفقان في شيءٍ من صفاتهما.
أشفق عليها وهو يرى جسدها الطويل يتكوم وسطَ أريكةٍ لا تتسعه، لذا اقترب منها ينوي إيقاظها للصلاةِ أولًا ولتنام في غرفتها ثانيًا.
سلطان يهتف باسمها بهدوء : غزل ... غزل
لم تستجب لنداءاتِه، لذا مدّ كفهُ ليضعها على كتفها، حينها انتفضت جالسةً وهي تشهق ما إن شعرت بكفٍ ما لمستها.
عقد سلطان حاجبيه وهو يتراجع : بسم الله شفيك؟؟
حاولت أن تتراجع دونَ فائدة فظهرها كان يصطدم بظهر الأريكةِ في النهاية، إحدى كفيها استقرت على كتفها الذي لمسه وعيناها كانتا مُتسعتان بذعر تنظران لوجهه : وش تبغى؟؟
سلطان بجمودٍ وهو يرى نظراتها له وصوتها الحاد انسابَ إلى أذنيه : نومتك هنا غلط غير عن وقتك طبعًا ... قومي صلي عشاء وارجعي نامي بغرفتك
ارتبكت لترطّبِ شفتيها بلسانها وهي تؤمئ برأسها لتُجاريه، بينما هو لم يمنع نفسهُ من سؤالها : غريبة جالسة في الصالة وأنا موجود!
غزل بتوتر : ماهي غريبة ولا شيء .. ممنوع يعني؟؟
نظر إليها مطولًا بملامح لا تفسر، لتُطرق برأسها تُشتت عيناها عنه وهي تشعر بالضعف حين تواجهه، إلى أن همس في النهايةِ بشبحِ ابتسامة : لا .. خذي راحتك
زفرت ما إن شعرت بهِ يبتعد باتجاهِ البابِ ويخرج، لترفع رأسها للأعلى تغمض عينيها بقوة. متى ستنتهي من كل هذا يا الله؟ متى سترتاح وتعيش كبشريةٍ لها الحق في الحياة؟ متى ستتنفس هواءً نقيًا لا يحمل في جزيئاتهِ ألمٌ هزمها حد الإغماء؟ .. إنها تعِبة، تعِبةٌ بالقدر الذي يجعل موتها يقترب ببطءٍ ولا ينتشلها بسرعة.
,
كانت في المطبخ تحضّرُ كوبا قهوةٍ لها ولفارس حين رنّ هاتفها الذي وضعته على الطاولة المُستطيلة في وسطِ المطبخ، تركت الكوبان وهي تُقطّب جبينها خشيةً من أن يكُون هيثم، فهي قد أقرت أنها ستفضحه حينها ولن تتراجع عن ذلك إطلاقًا، وهذا ما هي تخشاه!
تخشى أن يكُون هو ليس لأنها تخاف عليه من فارس، بل هي تخاف على العلاقة فقط، تخاف على الحبل الذي يربطها بخالها، ذلك الحبلُ الذي هو أدقٌ من الشعرة، تخافُ أن ينقطع، تخاف على علاقة فارس نفسه بخاله، على علاقةِ والدها بأخِ زوجتهِ الراحلة. لذا هي تخشى كثيرًا أن يكون هيثم، تخشى أن يكون كلامها قبلَ ساعاتٍ بالنسبةِ لهُ ليس إلا دعابةً أو تهديدٌ لا فعل به.
اقتربت من الطاولةِ وهي تتمنى في سرّها ألا يكون هيثم، تدعو الله أن يرحمها من خطوةٍ تعلم جيدًا ما توابعها. وما إن رفعت هاتفها ونظرت لمن يتصل، حتى تنهدت وقلقُها انزاح عنها.
ردّت وهي تبتسم باهتزاز : يا دب ... خرّعتني، لهالدرجة متعيجز تنزل لي؟
ابتسم فارس وهو يسند ظهرهُ على وساداتِ سريرهِ هاتفًا وهو ينظر لشاشةِ حاسوبه : في إيش بالضبط خرعتك؟
ارتبكت جنان وهي ترد : كنت أسوي القهوة وفجأة اتصلت عشان كذا
فارس بابتسامة : طيب متى مخلصة ترى لقيت فيلم بيعجبك أكيد
عبست جنان بدلال : مو كذا اتفقنا!
فارس : يلا عاد ، قلتلك ما يمديني آخذك للسينما اليوم مشغول، ما بقى غير ساعة ونص عشان أجلس فيها وياك يرضيك يعني بعد ما جلست أدور على شيء حلو من نص ساعة؟
مطّت فمها وهي تتنهد، ثم بخفوتٍ مُتغنج : اوكي .. رحمتك
فارس : يا ملاغتك بس ... بسرعة اطلعي غرفتي منتظرك
أغلق بعد جملته تلك لتبتسم وتضع الهاتف ومن ثمّ تعود لإكمال القهوة، وبعد دقيقتين كانت تحمل الصينيةَ وبها الكوبان مع هاتفها صاعدةً لغرفة فارس.
جلست بجانبه على سريرهِ بعد أن ناولتهُ كوبه ووضعت كوبها على الكومدينة، ثمّ نظرت لشاشةِ حاسوبهِ تسأله : إيش الفيلم؟
فارس : فيلم **** ، بيعجبك أكيد
جنان : ليه هو أنت قد شفته قبل؟
فارس : اهمم
عبست : يا سلام! عشان تحرقه علي الحين وتزعجني بثرثرتك!!!
ضحك فارس وهو يُحيط عنقها بذراعه ويُلصق رأسها بصدره بقوةٍ رجولية : بلاش هالحكي بسكت هالمرة
جنان باختناق : خنقتني يا الخايس
رنّ هاتفها في تلك اللحظةِ ليُحررها وهو ينظر إليه بابتسامة : لا تردين أو كلمي بسرعة أوكي؟
لم ترد عليه وهي تنظر لهاتفها بارتياب، إن لم يكُن في المرةِ الأولى هو فهل سيكُون الآن؟
بللت شفتيها بارتباكٍ وهي تنهض وتدعو الله أن لا يكُون هو، وما إن وصلت حتى رفعته عن الكومدينة لتنطر للرقم قليلًا، بيدين بدأتا بالإرتعاش انفعالًا، بعينين التمعتا قهرًا. ما هذا العناد والإصرار الذي يغلفه؟ هل يستهين بها إلى هذا الحد؟ هل يرى أنها ضعيفةٌ إلى هذا الحد الذي يجعل تهديدها له مجرد كذبة؟
عضّت شفتها بقوةٍ وهي تتنفس بعنف، " لا الولد ولا أبوه "! ... كلاهما يؤرقانها ويؤذيانها بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، كلاهما يحبُ إيذاء غيرهِ دون أن يتفكر في العواقب، وهي الضحيةُ لكليهما، هي المرمى الذي يرميان فيه كُرهتهما المُلتهبة، إن كان لا احترام لها في عيني هيثم، فهو لن يكون له ذلك!
هتف فارس باستغرابٍ وهو يراها واقفةً في مكانها دون أن ترد أو تتحرك، بحاجبين معقودين : جنان وش فيه؟ ردي!
استدارت إليه فجأةً وذقنها المقسوم رأسيًا بدا أشدّ حدةً ليعلم أنها غاضبة، وهكذا تكون حينما تغضب أو تبكي، فذقنها دلالةُ هاتين.
اعتدل فارس في جلسته وهو يُزيح حاسوبهُ جانبًا، وبقلق : وش فيه؟
اقتربت منه بوجهٍ يشعُ غضبًا، ثم وقفت عند السرير للحظاتٍ صامتةٍ تضاعف بها قلقهُ حتى هتف بحدة : جنااان احكي وش فييييه؟؟؟
مدّت إليه الهاتف بقهر، وصوتها انسابَ إلى أذنيه حادًا مُختنقًا بغصتها : تصرف معه
رمت الهاتف في حُجرهِ ثم استدارت لتهرولَ خارجةً من الغرفةِ ودمعةٌ يتيمةٌ سقطت من عينها اليسرى، دمعةٌ لخصت قهرها من دناءةِ من كان على الأحرى أن يكون من الفئةِ التي تخشى عليها، من الفئةِ التي ترفع رأسها بها.
حمل فارس الهاتف الذي استكان رنينهُ مع صوتِ إغلاقها للباب، لينظر إليه للحظاتٍ وهو لم يفهم شيئًا! . . ودون أن يستغرق وقتًا طويلًا في التفكير اتجه للمكالمةِ الوحيدة التي لم يتمّ الرد عليها ليظهر لهُ الرقم الغير مدونٍ عندها، ومن ثمّ اتصل!
,
كان قد أنهى فرضهُ وجلس يذكر أذكار ما بعد الصلاة، عيناه مُسترخيتان تنظران للأرض دون وجهةٍ معينة، دون بريقٍ ما تُثبت أنهما حيّتان.
دعى ربه كثيرًا، في كل سجدةٍ ولربما لو أنه لم يكن يُصلى جماعةً يتبع الإمامَ لظلّ في السجدةِ الأولى حتى الآن! . . دعا ربه أن يُرشدهُ للصواب، دعا ربه أن يُزيل هذا التناقض في صدره وهذا الضياعِ الذي يعيشه، دعا الله أن يُنير له كل ظلامٍ يعشعش في صدرهِ ويفُكَّ عنه كل ضيق، دعا الله في مسألتهِ مع - سلمان - ونسي حياتهُ مع غزل!
لا يشعرُ بأي قوةٍ تمتدّ إليه، لا يشعر أنه يُقدمُ على شيءٍ حتى الآن، هو لا يعلم من الأساس ما الذي يجب عليه فعله ولا يعلم ما الخطوةُ التالية.
تنهد بضيقٍ وهو ينهض ينوي أن يُصلي السنة ومن ثمّ سيخرج، لكنه ما إن وقف حتى شعر بكفٍ تقع على كتفه، ومن ثمّ صوتٌ باسمٌ ينسابُ اليه : يا هلا في بو فهد
استدار إليه سلطان مباشرةً ليبتسم : بو سلطان!
ابتسم عناد وهو يرفع حاجبًا : سم يابو عناد
ضحك سلطان وهو يصافح كفه ويهتف : خشمك يا الذيب
اقترب منه سلطان ليُقبل أنفه بمحبةٍ أخويَة، ثم ابتعد عنه باسمًا : غريبة ملاقيك هنا! هالمسجد بعيد عن بيتك عشان تجيه خصيصًا
سحبه عناد معه ليجلسا على الأرض، وبابتسامة : كنت جاي عشانك من الأساس ولما أذن عشاء قلت أكيد بلاقيه في المسجد
سلطان : غريبة الشيخ عناد جاي برجوله بدل لا يتصل
عناد بمداعبة : شيخ غصبًا عن خشمك .. وبعدين أنا جاي بسيارتي مو برجولتي
سلطان بتكشيرة : يا ثقلك
استنشق عناد عبق العطور الرجولية التي اختلطت فيما بينها ليتراجع بجذعه للوراءِ قليلًا يستند بكفيه على المفرش الأحمرِ للمسجد : عمومًا أنا جاي عشان أشوف القاطع أخوي البزر ومنها أبلغك بعزيمة أمي لك ولمرتك بكرة عالغداء
سلطان باستغراب : تبلغني؟ وليه ما اتصلت علي بنفسها؟
حركَ عناد حاجبيه وابتسامةُ خبثٍ تجلّت على شفتيه : زعلانة منك لأنك ما زرتها من فترة ولأنك تممت زواجك من غير لا تعلمها من البداية وبدون طقطقة وحفلة .. الله يستر عليك بكرة
تأوه سلطان وهو يعضّ شفته بهلع : الله يكتب لي عمر جديد بس ، يمكن تذبحني!
عناد : ههههههههههههه شيء وارد تعرف زعل أمي كويس
عبس وهو ويتمتمُ بشيءٍ ما على الأحرى هي أدعية، بينما سكنت ملامح عند فجأةً وهو ينظر لوجهه المُرهق بجمود، وبهدوء : وش فيك يا سلطان؟
نظر إليهِ سُلطان بصمتٍ ونظراتٍ طغى عليها ألمٌ نخره حتى الإحتضار، وملامحه قد تحوّلت للأسى فجأة، ثم همس : انت أدرى
تنهد عناد وهو يعتدل بجلسته وينظر في عيني سلطان بحزم : سلمان؟
سلطان يبتسم بسخرية : شرايك؟
عناد : للحين على إصرارك بالإنتقام؟
أومأ برأسه ببطءٍ وهو يهمس : المشكلة شلون؟
عناد : شلون هذي لا تدوّر عليها ... ابتعد بس عن هالفكرة
تحولت نظراتُ سلطان لغضبٍ وهو يهتف من بين أسنانه : أبتعد عن هالفكرة؟ أبتعد عنها بعد اللي سواااااه!!!
عناد بنظراتٍ قويةٍ وحدة : ايه تبتعد عنها ، لأنك ماراح تجني شيء بس بتشوه صورتك وتصير إنسان أتفه من الحشرة!
سلطان بوجوم : عناد!
عناد بجدية : ايه حشرة! ... أخوي مو تافه لهالدرجة، شوف وين وصلت؟ لو تبي تنتقم بتصير أسوأ من سلمان وأشكاله ، انت بس حاول تظهر العدالة مو تنتقم وتروح فيها بعدين!
سلطان بخفوتٍ مقهور : أظهر العدالة!!
عناد : يعني عندك الإنتقام أسهل؟ دوّر على شيء يثبت إدانة سلمان ... وقتها تقدر تفتح القضية من جديد بعد ما تقفلت بإدانة العم قاضي
صمت سلطان وهو يُزيح وجهه عنه دون أن يلفظ بشيء، حينها مدّ عناد كفه ليضعها على كتفهِ ويُديره إليهِ بقوة : العدالة أسهل من الإنتقام يا سلطان، بتصير سيء لا فكرت في الإنتقام، بتصير سيء مثل سلمان بالضبط ... يرضيك؟
أطرق سلطان برأسه دون أن يجد ما يرد به، من ذا الذي يتمنى أن يكون كسلمان؟ من ذا الذي تُرضيه هذه الدناءة؟ بالتأكيد لا أحد، لكن من ذا الذي يرضى بعدالةٍ يرى أنها لا تُطفئ الجمرات في صدره؟!!!
ابتسم له عناد وهو ينهض هاتفًا : يلا خلنا نصلي السنة ونطلع نتمشى شوي ونحكي
ابتسم لهُ سلطان ببهوتٍ وهو ينهص بدوره : في الرياض؟
ضحك عناد بخفوت : يازينها الرياض ولا فيه أحلى منها ... مدينة سياحية بعيوني
سلطان بابتسامة : هذي حال كل مواطن يهايط بحبه الميمون لوطنه ... عمومًا خلنا نصلي وبعدين نكمل حكينا .. أظن إن الفجر بيأذن واحنا بعدنا نحكي
ضحك عناد وهو يهمس فجأة : تذكر يوم صلينا السنة جماعة؟
نظر إليه سلطان ليضحك فجأةً بذكرى لن تزول من ذاكرته : والأدهى مبتدعين سنة للعصر!
عناد : هههههههههههههه انفضحنا يومتها في المسجد
سلطان بنشوةٍ لتلك الذكريات البريئة في مراهقتهما : أقل شيء أنا كان عمري 14 سنة ، انت الكبير الفاهم اللي كان عمره 18 سنة
عناد بضحكة : اللي المفترض يكون فاهم بس مو ضروري عاد!
سلطان بابتسامةٍ وهو يرفع حاجبه الأيسر : لا تسلك لروحك!
عناد : الله يهديه عمي سلمان ما يعرف ينصح ويوجه بالهداوة لازم بالفضايح .... ههههههههههه للحين أذكر صدمته لما سألنا وش تصلون ونقول له سنة العصر جماعة هههههههههههههههه
صمت سلطان فجأةً وقد اختفى كلّ أثرٍ للضحك، وحين انتبه إليه عناد صمت هو الآخر دون أن يلفظ بشيء.
همس سلطان بعد ثوانٍ من الصمت، بألم : ليه كل شيء يتعلق فيه؟
تنهد عناد هاتفًا : لأن الله يبي هالشيء
وضع كفه على كتف سلطان مُردفًا : تناساه وخلنا نكمل صلاتنا ونطلع
,
كانت تستفسر عن كل شيءٍ بحدة، منذ عاد وهي تُعيد تكرار أسئلتها عليه والتي أجاب عليها واحدةً تلو الأخرى مرارًا ومرارًا.
سألتهُ بشرٍ سؤالًا أعادته للمائة مرةٍ ربما : طيب ضربتك؟ مدت يدها عليك؟؟
هزّ زياد رأسه بالنفي وببراءةٍ وهو يجيب : بس طردتني
بالرغم من أن سيف قد حذرهُ بلطفٍ من أخباره لأمه بما حدث، قال له أنها ستمنعهُ من الخروج معه مرةً أخرى ليهوّل الموقف عليه فلا يتحدث بما حدثَ معه في منزله، وهو بدورهِ قد صمت ما إن رأته عاد مبكرًا دون أن ينام عند والده كما أصر سيف على والدها حتى وافق دون استشارتها، سألتهُ مرارًا ولم يجيب، حتى صرخت في وجهه غاضبةً في النهايةِ ليتحدثَ خائفًا منها كما خوفهُ من ديما - العجوز الساحرة - برأيه.
زمت بثينة شفتيها المُتوردتين بقهرٍ وغضب، كيف تتجرأ تلك المرأة بالصراخ على ابنها وطردهُ من منزلٍ لهُ الحق به؟!
وحشيةٌ انتبابتها عنده هذه الفكرة، ليس لتلك التافهةُ الحق، أيّ حقٍ فيما فعلته، هي وحدها من لها الحق في الصراخ عليه، في ضربه، في توبيخه، ولا لأحدٍ الحق ليفعل ذلك حتى سيف!!!
همست بوحشية : أنا بوريها شغلها التافهة
جود بعبوسٍ وهي جالسةٌ على سريرِ بثينة وبحجرها زياد : بتروحين لبيتها مثلًا؟؟
بثينة بوحشية : ايه بروح وبعطيها كف على وجهها لأنها تجرأت وصرخت بوجه ولدي وطردته!
جود بسخرية وهي تلعب بخصلات شعر زياد : يا سلام! بتتهجمين عليها في بيتها بكل بساطة كذا؟؟؟
بثينة وهي تتجه لعباءتها المُعلقة تنوي الذهاب لديما بالفعل في غمرةِ جنونها : ايه بسوي كل هذا ومحد بيمنعني ... محد يقدر يدوس على زياد بطرف وأنا عايشة ... والله لأكِّها الويل
جود بسخرية : وأنتِ بتأكلين الشرطة بعدين!
استدارت بثينة إليها بحدةٍ وهي تحمل عباءتها المُكومةُ في يدها : انقلعي من وجهي!
وقفت جود ببرودٍ بعد أن أجلست زياد على السرير ومن ثمّ اتجهت للباب : بنقلع .. بس حطي ببالك وش بيصير بعدين لا صرتِ بالسجن .. * بتشديدٍ ماكر وهي خائفةٌ من تهور أختها بالفعل * سيف بيآخذ زياد عنده ووقتها جد بيكون في يدين زوجته
سكنت فجأةً وملامحها المشدودةُ بغضبها ارتخت بما سمعت، عقلها اتجه لما وراء ما كانت ستفعله وما الذي سيحصل لزياد بالفعل، تتخيل أن تكون في السجن وزياد عند سيف، قريبًا من ديما!! غيــــــرُ ممكن!!!
هتفت جود بلطفٍ وهي ترى سكون أختها بعد كلامها : سيف أكيد ما سكت وأخذ حق ولدك ... خلاص لا تسوين مشاكل وبعدين تندمين!
نظرت إليها بثينة بتوهانٍ ومن ثمّ نظرت لزياد الساكن في مكانه ينظر إليها بترقب، حينها ابتسمت لهُ باهتزازٍ لتعودَ وتنظر لجود : تهقين أخذ حقه؟
جود تبتسم برقة : ما سمعتي زياد وش قال لك؟ سيف تهاوش مع مرته عشانه
زفرت وقد اقتنعت بالمكوث وعدم التهورِ والذهاب لمنزل سيف بتلك الصورةِ الوقحة، هل كانت ستفعل ذلك بالفعل؟ لربما لو أنها فعلت لكان حدث مثلما قالت جود تمامًا، أو لربما كان سيف ليقوم بنفسه بالمطالبةِ بابنه لأنه رآها انسانةً متهورةً لا يطمئن لمكوث زياد عندها.
قطّبت ملامحها الفاتنةِ وهي تعضّ شفتها المُمتلئة، ثمّ استدارت لتُعلق عباءتها وهي تهمس لنفسها : مستحيل ياخذه مني ... مستحيل!
,
كان جالسًا بجانبها، ترمقهُ كلَ ثانيتين لتراه مُغمضَ العينين ورأسه سيسقط لا محالةٍ، لذا كانت تضربهُ على فخذه حتى يفتح عينيه وشفتيها تزمهمها لتُستر ضحكاتها على مظهره. كان قد أُهلك تمامًا من النعاس لكنها لم ترحمه، في النهايةِ همس لها بنعاس : بيصير لي أربعة وعشرين ساعة وأنا مانمت! ... ماتبين تفرجين عني؟
سهى بلؤم : لا تأخر شوي ... أنا قاعدة أطبق عدالة الأرض، مين قالك ما تحافظ على صلواتك بوقتها؟؟
أدهم : اووووووف وصليت عشاء وش بقي بعد؟
سهى بضحكة وهي تراه يُغمض عينيه ويفتحهما : بعد أنتظر شوي بس
أدهم يقف بانفعالٍ ويرمي إحدى الوسادات في وجهها : عطيتك وجه
سهى تتصنع الصرامة بينما ضحكاتها ستفلت لا محالة : اجلس وكمل معاي هالفيلم!
أدهم يتجه للدرج متجاهلًا لأمرها : والله ما جلست . . أستاهل أنا اللي مجاريك من البداية
صرخت سهى : ترى مفتاح غرفتك عندي أقدر أدخل وأضايقك
صرخ هو الآخر بقهر : بنــااام في الحمااااام
حينها لم تستطع منع ضحكاتها أكثر فضحكت : هههههههههههههههه تسويها وانت ولد أبوك
اختفى أدهم عن نظراتها مًتجاهلًا لها لتبتسم، ثمّ نظرت في أركان المنزل بهدوءٍ وصمت، أركان المنزلِ التي تبكي أحدًا يلعب بين حناياها، أركان المنزل التي تبكي على أطلالِ الوَحشة. كيف كان أدهم يعيشُ هنا وحيدًا؟ كيف كان يجلس دون عبدالله التي هي تدرك من هو وكيف يعيش يومه؟ تدرك إهمالهُ الكبير لولدٍ عاشَ معهم سنينِ لينتشله بحجة أبوتهِ له بعد ذلك. وليته يستحق الأبوة كما يقول!
تنهدت وهي ترفع جهاز التحكم لتُغلق التلفاز الذي لم تفتحه الا لكي تمنع أدهم من النوم وليجلس معها رغمًا عنه.
بينما في الأعلى، رمى بجسدهِ على السرير بعد أن وضع هاتفه على الكومدينة ليُغلق عينيه مباشرةً وهو يشعر بالنعاسِ يُغرقه، كانت عمتهُ لئيمةً بالدرجة التي جعلتها تمنعه من النوم حتى الآن.
أدهم بهمسٍ ناعس : ماعليها يا عمتي بتنرد لك بكرة
أخذتهُ بوادر النومِ إليها وكاد يغرق في نومِه لولا صوتُ الهاتف الذي انتشله من غرقه، تقلب على سريرهِ وهو يهمهم بانزعاج، تجاهلهُ لكنه لم يتوقف عن الرنين. لذا رفع يدهُ وهو لا يزال مُغلق العينينِ ليردَ دون أن ينظر للرقم في حين كان مُنبطحًا على بطنه .. وبضجر : همممم
عبدالله يُقطب جبينه من الجهةِ الأخرى : نايم؟
فتح أدهم عينيه ما إن ميّز الصوت ليجلس مُعتدلًا وهو يهمس باستنكار : هذا أنت؟؟؟
عبدالله : ايه أنا .. مين ينام بهالوقت بالله؟
كشر أدهم وبوقاحة : وانت شعليك مني؟؟
لوى عبدالله فمه وهو يهزّ رأسه يمينًا ويسارًا بأسى : منت راضي تعدل لهجتك في الكلام مع ناس أكبر منك؟
حكّ أدهم فروة رأسه ببرود : ما ظنتي بفكر حتى
عبدالله بسخرية : أتخيل لو .. * بتشديدٍ عميق * نجلاااء كانت عايشة بينكم من صغرها بتكون مثلك والا لا؟
صمت أدهم للحظاتٍ وهو يرسمُ الجمودَ على ملامحه، وبعد برهةٍ هتف بهدوء : بركات تربيتك .. تبيني أرجع 33 سنة عشان أحضى بفخر تربيتك لي؟
تأفأف عبدالله من سخريته، مرةً واحدةً فقط، مرةً واحدة يتمنى لو يكون فيها معه جديًا ومهتمًا.
أردف أدهم دون مبالاة : والحين شتبي؟ فيني نوم وماني فاضي لك
عبدالله : غريبة مو كنت مصر قبل عشان تاخذ إلين؟ والحين وش صار؟
صمت أدهم للحظاتٍ وهو يُبلل شفتيه بلسانه، لا ينكر أنه تراجع، في هذا الوقت على الأقل، منذ البداية وهو لا يريدها أن تأتيه، لكنه ما إن شعر بالوحدةِ حتى تراجع وتهور بقراره، يخشى عليها من نفسه! يخشى أن يؤذيها دون أن ينتبه، هو لا يعرف كيف يكُون أخًا ولا يستطيع تصنع شيءٍ ليس به، يخشى أن يُخطئ في التعامل الصحيح معها فيؤذيها، لذا كان من الأفضل أن يرفضها وينبذها من حياةٍ هي تُريدها.
كان من الأفضل أن أكون في مكانٍ وأنتِ في مكانٍ يا نجلاء، من الخطأ أن نكون في البيت ذاته وأنا الذي لا يُجيد التعامل مع النساء، لا أجيد الأخوة ولا التعامل كنصف أخ! وقد كان الحظ حليفكِ حين كان عبدالله هو والدك الذي خاف عليك أكثر مني أنا! ابقي بعيدةً فقط، ابقي بعيدةً كي لا أؤذيكِ فأندم. آذيتكِ في الماضي ولا أنوي إيذاءكِ في الحاضر ولا في المستقبل. يكفي ما فعلتهُ بكِ فابتعدي، ابتعدي كما يُريده اختلاف تكويننا.
همس بصوتٍ لا يفسر وقد تبدّل من عدم المبالاةِ إلى ماهو آخرٌ لم يميّزه عبدالله : بدلت رأيي ، خلها عندك أفضل لها دامك أبوها
قطّب عبدالله جبينه وهو لا يستوعب عدم مسؤوليته، وباستنكارٍ خافت : كذا بكل بساطة؟
أدهم ببرود : اي كذا بكل بساطة!
عبدالله بصوتٍ كان بهِ بعض الغضب : طيب ، لك اللي تبيه يا عديم المسؤولية ، بعدين لا تجيني وتقول أبيها! والله ما تاخذها الا على جثتي سامع!!!
بلل أدهم شفتيه قبل أن يهمس : فمان الله
ثمّ أغلق الهاتفَ ليرميه على السرير بجانبهِ ويتمدد وزفرةٌ عنيفةٌ تخشخش بها صدرهُ كانت تحملُ الكثير والكثير من الكبت، لن يندم، هذه هي الخطوةُ الصحيحة، لن يتهور مرةً أخرى وإن ابتعدت سهى وعاد له شعورهُ بالوحدة، لن يتهور ليحتاجها بجانبه، فالعيش بوحدةٍ أسهل بكثيرٍ من إيذائها، العيشُ بوحدةٍ أهونُ عليه من تعريضها للخطر بجانبه، هو لا يستحق أن يكون كالأخ لها، لا يستحق!
,
من الجهةِ الأخرى
نظر عبدالله لهاتفهِ بغيظٍ بعد أن أغلق أدهم، هل كانت إلين تُريد الذهاب إليهِ فعلًا؟ هل كانت تريد الإستنادَ لظهرٍ هو أعوجٍ لن يستطيع تحمل ثقلها؟ .. ما عدمُ المسؤوليةِ هذه؟ هل يرى المسألةَ لعبةً ليتراجع متى ما أراد؟
كانت حكمةً منه أن رفض ذهابها إليه، فهو كان يُريدها في لحظةٍ ما، والآن تخلى عنها بكل بساطة، فما الذي يضمن له أن تكون بخيرٍ عنده؟؟؟
تحركَ مُغضن الجبينِ لغضبه، ثم اتجه للأعلى صاعدًا لإلين التي كانت تجلس مع هديل في غرفتها تذاكران سويةً كما رغبت هديل.
ضرب الباب بهدوءٍ ثم دخل يُطيل برأسه من خلف الباب باسمًا بكبت : أدخل؟
رفعت هديل رأسها إليه في حينِ كانت جالسةً على السريرِ مع إلين، وتلك الأخرى ما إن رأته يدخل حتى رفعت يدها بعفويةٍ لتضع " الآيشارب " الليموني على رأسها.
هديل بابتسامة : ياهلا ياهلا .. تو ما نور المكان
دخل عبدالله مُتجهمًا حين رأى ما فعلتهُ إلين، لكنه لم يعلق فهو يريدها أن تعتاد بنفسها دون أن يُرغمها على ذلك. وبهدوء : ودي أحكي مع إلين
ابتسمت هديل بمرح : يعني أطلع؟؟
ابتسم عبدالله لها بحنان : أنتِ أو هي بنفسها تطلع معاي ... ماراح أطول
تحركت هديل برحابةِ صدرٍ باتجاه الباب وهي تهتف باسمة : ما عندي مانع منها أرتاح شوي وأحرك رجيلاتي على قولة عجايزنا الحلوين
خرجت من الغرفة وأغلقت الباب من خلفها، ليتنهد عبدالله وهو ينظر لإلين التي نظرت إليه بحاجبين معقودين هاتفةً بتوجس : وش فيه؟
اقترب عبدالله منها حتى جلس بجانبها، ينظر إليها للجظاتٍ قبل أن يهتف بهدوءٍ مُستفسر : بسألك وياليت لو تجاوبيني بصدق ... فكرة مين كانت روحتك لأدهم؟
ارتبكت لتشتت نظراتها عنه، وبهدوءٍ وهي لا تنظر لعينيه : هو كان يبيني قربه على أساس إني أخته، وأنا كمان كنت أبي أعيش مع عائلة حقيقية لي
نظر عبدالله في عمق عينيها المُشتتةِ حدقتيهما عنه بحدةٍ وصرامة : كذابة ... طالعي بعيوني وقولي لي إنك أنتِ اللي طلبتي منه هالشيء!
بللت شفتيها بلسانها ثمّ عضت زاويةَ شفتها السُفلى لترفع رأسها وتنظر إليه بتوتر : وش اللي خلاك تفكر بهالشيء الحين؟
عبدالله بقهر : لأن الأخ المبجل توه من شوي قايل لي ماعاد يبيك!
اتسعت عيناها تنظرُ إليهِ بصدمةٍ وهي لا تستوعب ما قاله، وبحذر : وش قال؟؟؟
عبدالله بحدة : قال بالحرف الواحد بدلت رأيي ... خلها عندك أفضل لها
اهتزت شفتا إلين بعبرةٍ وهي تُشتت نظراتها عنه، خُذلانًا وخيبةً وأسى، الجميع ينسحب من مسؤوليتها واحدًا تلو الآخر، الجميع يتخلى عنها واحدًا تلو الآخر، الجميع يستخلص نفس منها، أولًا والدها وأمها، والآن أخوها الذي كان آخر آمالها التي انطفأت، كلهم استخلصوا أنفسهم من دمها، كلهم خذلوها والآن حين وثقت بالأخير انسحب!
عضّت شفتها تُسكن ارتعاشهما، ثمّ رفعت نظراتٍ مُهتزةٍ إليه لتهمس بإصرارٍ مقهور : أنا بكلمه
اتسعت نظرات عبدالله بصدمةٍ وهو يقف بغضب : شلون يعني تكلمينه؟ لهالدرجة ما تبين تجلسين بهالبيت؟
إلين بقهر : مثل ما أقنعته قبل بقنعه الحين
عبدالله بجبينٍ مُقطب : يعني تعترفين انك اللي طالبة بهالشيء ماهو هو؟
إلين بضعفٍ وخذلان : ايه أنا ... أنا اللي كنت محتاجته وبظل محتاجته وراح يساندني
عقد عبدالله حاجبيه بحدةٍ وهو يهمس : يعني العيش عند شخص ما يبيك أفضل لك من هنا؟
أطرقت برأسها ودموعها حجبت الرؤيا عن عينيها، وبألم : جربت شعور الحياة بين عائلة ماهي ملكي .. ماهي من دمي .. وفي النهاية انخذلت من فرد كان الأحرى هو الشخص اللي راح أكون ممتنة له طول عمري
جربت هالشعور، وما عندي مانع لو تكرر بس مع عائلة هي ملكي، مع شخص يحمل دمي .... ولعلمك ترى أنا كرامتي ميتة من يوم ولدت، كرامتي من الأساس ما ولدت معي وما عندي أي مانع لو شخص حاول جرحها لأنها من الأساس ماهي موجوده عشان تنجرح!
زمّ عبدالله شفتيه عند محطةِ كلماتها الموجعة، المُنسابِ بين أحرفها ونقاطها حممٌ أحرقت جوفه، والحزنُ في عينيها حكايةٌ عنوانها بشرٌ تخلى الضمير عنهم فأبكى بيت أحزانها، الحُزن في عينيها روايةٌ لا " تمَّت " مُذيّلةٌ بها، الحُزن في عينيها استقرّ بجورِ الملوكِ وعرشهُ ملحُ دموعها.
زفرَ بكبتٍ وهو يتراجع دونَ وجهةٍ مُحددة، وقدماه دونَ إذنٍ من عقلهِ تحركتا باتجاهِ الباب، لكنهما توقفتا فجأةً لتهمس شفتاهُ بكلماتٍ يُقرّ عليها ما يُريد : من اليوم ورايح موضوع التجرية هذي انسيها ... أنا كفيلك قانونيًا إذا ما ودك تعترفين إني أبوك، وعند هالنقطة دوّري على الحق والباطل ..... أدهم انسييييييه
رمى بكلماتِه تلك ليفتح الباب ويخرج، وتلك بدورها سقطت الدموع التي كانت مستقرةً في عينيها كضبابٍ غزى بلدةً باردةً اختفت الحياةُ منها، كانت كـ " تسونامي " أغرقت كلّ روحٍ لتتلاشى صورُ الحياةِ في جزيرةٍ ما نعمَ أصحابها بالخيرات في يومٍ من الأيامِ لتنتهي هذه الخيراتُ بماءٍ كان على الأحرى أن يكُون حياتهُم لا موتُهم. سقطت دموعها كبتلاتِ وردٍ تخلت عن تويجةٍ هي في أمسّ الحاجةِ إليها، سقطت كسقوطِ أوراقِ الشجرِ في ربيعٍ ما، تخلى السقوطُ عن الخريف وآثر ربيعًا كان فرضًا أن يكُون مخضرًا، تخلى الإخضرارُ عن ربيعٍ كان فرضًا أن يكُون بهجةً، وتخلت البهجةُ عن ربيعٍ كان فرضًا أن يكون سعادةَ أعينٍ تتطلع به، الربيع والخريف بينهما صيفٌ آثرَ الإنسحابَ فحراراتهُ لم تكن لتعيش في صدرٍ كصدرها وفي عينٍ كريمةٍ كعينيها.
انتهت الفصول الثلاثةُ في عينيها وقلبها وبات فصل الشتاءِ جائرًا يُملئ صدرها بالجليد، بات حاكمًا يعصفُ داخلها برياحهِ العاتية، بأنفاسهِ المُتجمدة، لذا تجمدَ صدرها ومات في ريعان الشباب، لذا تجمدت عيناها وذابتا في اللحظةِ ذاتها لتُسقطا دموعها بكرمٍ حاتمي.
دخلت هديل بعد لحظاتٍ وهي مُقطبةُ الجبين، وباستفسارٍ دون أن تُدقق النظر في وجه إلين : وش فيه أبوي طلع معصب؟
مسحت إلين دمعها وهي تنهض من مكانها، حينها انتبهت لها هديل لتهلع وتقترب منها : إلين! وش صاير؟؟؟
لم تُجبها إلين وهي تجمع كُتبها من على السريرِ لتحملها وتتجه للباب، لكنّ هديل لم تسمح لها حينَ أمسكت بها من كتفها وأدارتها إليها بعنف، وبحدة : أتكلم معك وش صار عشان تبكين ويكون أبوي معصب كذا؟؟
نظرت إلين بعُنفٍ إلى وجهها بعينيها الباكيتين، وبصراخ : اللي صار إني أكرهكـــم!!
ثمّ نفضت نفسها عن كفِ هديل بقوةٍ لتتجه للباب وتخرج، بينما تلك وقفت في مكانها مصدومةً من صراخِ إلين الفُجائي إضافةً لبكائها وغضب والدها بعد حديثه معها!!
,
ضَرب الجرسَ بعُنفِ الغضبً في داخله، يضغط عليه بشكلٍ متكررٍ حتى كاد أن يُحطمه، وعقلهُ يسترجع ما حدث قبل دقائق، عقله يسترجع ما سمعَ بعد أن اتصل بالرقم الذي لم يُركز به ولا بمألوفيتهِ بالنسبةِ إليه. حينها انسابَ إليهِ صوتٌ يعرفه جيدًا، صوت كيف عساه لا يعرفه وهو صوتُ قريبه الذي كان بحقارةٍ كافيةٍ حتى يفعل ما فعل.
" ما أصدق حبيبتي متصلة علي بنفسها!!! "
حينها جُفل، جفل بعد ما سمعهُ والزمن توقف عند تلك اللحظة، لم يشعر بنفسه ولم يشعر بصوتهِ الذي ارتفع بصراخهِ وهو يشتمهُ بأقبح الشتائم، يتوعده بأعظم التوعداتِ إلى أن أغلق هيثم بنفسه، حينها حمل نفسه وجاء إليه وهو يتوعد بقتلهِ اليوم.
والآن هاهو يقف وعيناه تكاد تكونان نارًا من غضبه، يضرب جرس الباب وحين تأخروا في فتحهِ ركلهُ بقوةٍ وهو يصرخ : بذبحك اليوم يا هيثم والله لذبحك
فُتح البابُ ليرى أمامهُ الخادمة الآسوية والتي نظرت إليه بذعرٍ وهي تعرف تمامًا من هو.
تحدثت بإلإنجليزية : ماذا هناك؟
فارس بحدة : وخري عن طريقي
دخل بعد أن دفع الباب أكثر لتبتعد عن طريقه، ثم وقف في منتصف الصالة صارخًا : هيثم يا حماااااار يا خاااااااين
نزل وقتها أمجد من الأعلى مُهرولًا وهو يقطب جبينه لصراخ فارس، وما إن رآه حتى هتف بتساؤلٍ مستغرب : فارس! شفيك؟ ليش قاعد تصارخ؟؟؟
فارس بقهر : وين هيثم؟؟
أمجد باستنكار : صاير بينك وبينه شيء؟
فارس بغضب : وين هيثم؟؟
نظر أمجد للخادمة ليسألها عن هيثم، لترد عليه وهي خائفةٌ أنه قد خرج مُسرعًا قبل دخولِ فارس بقليل، حينها اشتعلت عينا فارس غضبًا وهو يتجه للباب ينوي الخروج وصوته ارتفع بشتايم يوجهها لهيثم : الخسييييس ، الخاين الجباااااان
اقترب منه أمجد ليوقفه من كتفه ويُديره إليهِ هاتفًا بصرامة : إيش صاير بينك وبينه؟
فارس بقهرٍ وهو يُبعد يدَ أمجد ببعض العنف : إسأل ولدك بنفسك يا خال
قال كلماتهُ تلك ليخرج من بعدها ويُخرج أمجد هاتفه من جيبهِ بوجهٍ صارمٍ وهو يعرف ابنه جيدًا، بالتأكيدِ سيكون قد أجرمَ بشيءٍ ما ليكون فارس العاقل بهذا الغضبِ والشر.
اتصل عليه لينتظر قليلًا وهو يتجهُ لأقربِ أريكةٍ ويجلس عليها، وما إن رفع الخط حتى هتف بانفعال : وش مهبب يا حمار؟؟
ازدرد هيثم ريقهُ وهو يهمس : فارس جاء للبيت؟
أمجد بحدة : يعني مسوي شيء؟؟؟
هيثم بذعر : والله ما سويت شيء ... والله ما سويت شيء ..... هي ، والله هي
أمجد بصرامة : تكلم حبة حبة .. إيش صاير بينك وبينه؟؟
,
دخل وهو يحمل العشاءَ في يده، لم يجدها في الصالةِ لذا عبس بضيقٍ وهو يدركُ أين هي. في زنزانتها المُبجلةِ التي هي - غرفته -، في قفصها التي تجلس فيها عادةً.
وضعَ العشاء على أقربِ طاولةٍ واتجه للغرفةِ بوجوم، وما إن رآها جالسةً على السريرِ تلمّ ركبتيها إلى صدرها وذراعيها أحاطتا ساقيها حتى ازداد وجومه، وجهها كان يوضحُ مدى ذهاب عقلها وشرودها، لذا حين ناداها بخفوتٍ لم تُجبه، فاقترب قليلًا ليجلس أخيرًا بجانبها، حينئذٍ انتفضت لتنظر إليه بضياع.
فواز بهدوءٍ وهو يتأملُ حزن عينيها : ما ودك تطلعين من سجنك؟
صدّت عنه لتعودَ لتأملِ الفراغ، حينها احتدت نظراتهُ وهو يضع كفهُ على كتفها يُديرها إليه بعنف : جيهااااان
زفرت بكبت، ثمّ نظرت لعينيه بحدةٍ لتهتف : إيش تبغى؟ تبيني أكلمه؟؟؟
فواز يزفر بضيق : الود ودي بس انشغل شوي ... * أردف بعد تنهيدةٍ قصيرة * يلا العشاء جاهز
جيهان ببرود : ما ودي
فواز يُغمض عينيه بصبر : أعوذ بالله .. لك فترة ما أكلتي! ودك تموتين علي؟؟
جيهان بحدة : يكون أحسن!
وقف وهو يهتف بحدة : ويكون أحسن لو شلتك بنفسي
لم يُهدها الوقت لتستوعب كلامه، بل انحنى بسرعةٍ ليحملها بين ذراعيه وتشهق هي بصدمةٍ صارخةً بذعر : نزلنـــي
ضحكَ فواز وهو يتحرك للباب رافعًا حاجبيه بلؤم : للحين تخافين؟؟
أحاطت جيهان عنقهُ بخوفٍ وهي تُغمض عينيها بقوةٍ هاتفة : فواااز
اختفت ضحكةُ فواز لتحلّ محلها ابتسامة وهو يتجه باتجاه الطاولة التي وضع عليها الطعام، وبخفوت : يا عيون فواز أنتِ
بللت شفتيها بارتباكٍ ما إن سمعت غزله البسيط ليتيبس تفكيرها للحظات، وعيناها نسيتا الظهورِ من خلف غيمهما، نسيتا الشروق لتُدفئا عينيه المُتلهفتين لأبسطِ نظرةٍ منها. إنّ عينيكِ كبحرٍ ضاعت زُرقته، إنّ عينيكِ حملتا العروبةِ في بُنّيةِ عدستهما وكبرياءِ نظرتهما، إنّ عينيكِ بحرٌ لا وجودَ لاثنينِ لهُ على هذه الأرض الشاسعة، يتلاشى كرمُ البحار عندهما، يتلاشى جمال زرقتها عند جمال بُنيّتك.
أجلسها على الأريكةِ أمامَ الطاولةِ ليجلس هو بجانبها مُسندًا ظهره للوراء، وبابتسامة : جبت العشاء، وشلتك لهنا، وباقي شغل الحريم ماراح أسويه
صمتت للحظاتٍ مُتنهدةً وهي تنظر لما على الطاولةِ ببرود، ثمّ وقفت بهدوءٍ لتحمل الأكياس وتتجه للمطبخ بصمتٍ دونَ أن ترد بينما نظراته تتابعها بصمتٍ مُماثل.
,
حين اقتربت الساعةُ من منتصف الليل كانت جسدها مُسجى على السرير وجفنيها لم يُداعبهما النوم حتى الآن، وكيف يواتيها النوم وهي بقيت طيلةَ الوقتِ تبكي وتحترق عيناها بدموعها المالحة؟ إنه يتفنن في وجعهِ يومًا بعد يوم ويتمادى بغرسهِ لنصلهِ في قلبها. ما عاد هناك صبرٌ يعتريها، ما عاد في قلبها حبٌ يكفي لتحمله، لربما ما بقي هو ما تحتضنهُ الآن في أحشائها، لربما هو من يجعلها تنتظر الفرج وأبوابَ السعادة عندَه، إنّ كل شيءٍ ذهب، لم يبقى ما قد يشعرها بالسعادةِ معه، فقط هذا الطفل، فقط هذا الطفل، وإن هو رحل فستسقط لا محالة.
سمعت صوتَ باب الجناح يُطبقُ بقوةٍ دلالةَ غضبهِ الذي لم ينطفئ حتى الآن، حينها لم تشعر بنفسها وهي تقف لتتجه للحمامِ بعجزٍ ظهر في ترنحها. تُريد الهربَ منه ومن غضبهِ ليس خوفًا إلا على مافي بطنها، تريد الفرارَ بجلد طفلها فقط وليس بجلدها.
وصلت لباب الحمامِ لتُمسك بمقبضِه، وقتها فُتح باب الغرفةِ ليدخل سيف وتتجهَ نظراتهُ مباشرةً إليها.
سيف بكبوت : ديما
تيبست في مكانها وهي تتنفس بعنفِ القهر داخلها، لم تنظر إليه ولم تتابع طريقَ الهروب، تجاهلت الاثنين معًا وظلّت تبحر في قهرها الذي كانت أمواجهُ ترميها في أكثر من شاطئ، والآن رمتها عند التجاهل والوقوف مكانها تنتظر رحمةَ الله.
اقترب منها بملامحَ طغى عليها الجمود، حتى ما وصلَ إليها أمسك بكتفيها ولفها إليه بهدوء : أبي أتفاهم معاك والحين
نظرت في عينيه الغاضبتين بعينيها الباردتين، لثوانٍ أصبح الكلامُ ملغيًا ولم يتبقى سوى لغةِ العيون، لثوانٍ باتَ بريق أعينهما وحدهُ قد جمع كلّ اللغاتِ وترجمها في لغةٍ خُصصت لهما وحدهما.
عيناها باردتين بدرجةٍ تنخر العظام، بدرجةِ الموت في ليالي الشتاء، عيناها صرحٌ عظيمٌ كان الألمُ هو مُمثله، عيناها لوحةٌ تلوّنت بالرمادي.
لانت عيناه دون شعورٌ وهو يتأمل عيناها، لانت دون أن يختفي كامل الغضب فيهما. عيناها مُثبطاتٌ لغضبه، عيناها تُهدهد الغضب في عينيهِ دون أن تكونا العلاج التام وكم يتمنى! كم يتمنى لو أنهما كافيان لردعهِ عن إيلامها، كم يتمنى لو أنّ بهما ما يُغيّرُ تفكيره ويُزيل فكرة عدم شواذها عن كل النساء، هي مختلفةٌ كثيرًا، لكنها لن تكون شاذة، لن تنسلخ عن جلدها وتتلبس بما هو ليس لها، لن يتغيّر تكوينها عن بقيةِ النساءِ لتكون مناسبةً في نظره. لا يريدها مثالية، لا يتمناها كذلك، لا يُطالبها بما هو بعيدٌ عن أيِّ بشري، لكنه يريد منها إثباتًا، إثباتًا واحدًا على نزاهةِ قلبها، إثباتًا يؤكد له أنها لن تتغير إن أرخى الحبل ودللها بالدرجةِ التي تتمنى، إثباتٌ واحدٌ يؤكدُ له أنها لن تبتعد ... لن تبتعدِ إن عاملها كما تريد.
همست لهُ بعتابٍ تُيقظه من أفكاره : وانت خليت فيها تفاهم يا سيف؟؟
نظر لوجهها بوجوم، بينما أردفت ببرود : اتركني بحالي اليوم، ما ودي أتفاهم مع شخص ما يعرف وش معنى التفاهم وجاي يبي يطبق مفهومه الخاطئ وهو معصب!
زمّ شفتيه ليُمسك عضدها ما إن تحركَت تنوي الذهاب، وبخفوتٍ حاد : ديما ... ماله داعي العناد أنتِ كذا تعصبيني جد .... ماني معصب تطمني
ابتسمت ساخرةً وهي ترفع يدها الأخرى لتضعها على يدهِ التي تعتقل عضدها، وبصوتٍ لاذعٍ بارد : لا معصب ... معصب والا ما كنت ناديتني باسمي
جفل للحظاتٍ ما إن سمع ما قالته، وعيناه المتسعتان كانتا تتابعان يدها وهي تفكّ قبضته عن عضدها، لتبتعد أخيرًا متجهةً للسرير وتستلقي في النهايةِ فتُديره ظهرها.
بينما هو كان في مكانه، بل على الأحرى يحترق في مكانه، إنها تعرفهُ حتى أكثر من نفسه، تحفظهُ عن ظهر قلبٍ وتفهم كل خلجاته، تعلم ما غضبهُ وما رخاؤه، تعلم ما معنى تلك الحركةِ وتلك، تعرفه جيدًا ... تعرفه بدرجةٍ موجعه.
أغمض عينيه بقوةٍ قبل أن يعضّ على شفتهِ بقهر ... لا ، لا تعرفه، لا تعرفه إطلاقًا، لو كانت تعرفهُ لما جهلت ما معنى مناداتهِ باسمها في غضبه، لو كانت تعرفهُ لما جهلت مدى انتمائها إليه، هو ينطق اسم " ديما " لأن " ديما " هي نفسه، ديما هي الإنتماءُ والحياةُ والفرحةُ والضحكةُ والغضب! ديما هي التي يمتلكها ويحبها وليست مي، ديما التي تكون حاضرةً حين يكون غاضبًا لأن لسانهُ يعشق أن يكون على حقيقتهِ وإن كذب مرةً أو مرات.
مي لا وجود لها في نفسه، لا وجودَ لها الا على لسانه، مي ليست حقيقةً بل ديما هي الحقيقةُ لا غير.
هو ينطقها في لحظةٍ يكون فيها مقهورًا/غاضبًا/صادقًا، ليتناقص غضبهُ بحقيقتهِ - ديما - التي لن تُكذّب أبدًا.
ألا تعلمين أن الغضب يجعل الإنسان صادقًا يا ديما؟ ألا تعلمين أن الغضب حين يواتي الإنسان يؤثر على صدقهِ فلا يكذب؟ وأنتِ حقيقتي الغيرُ مشكوكٍ بها، أنتِ المنيةُ والمناة، أنتِ الحياةُ والإستحالة، أنتِ الطموحُ الذي لا يتحطم والزجاجُ الذي لا ينكسر ولن ينكسر ما دمتِ لي ومعي، أنتِ الشريعةُ التي اعتنقتها في الحب ولن أكفرَ بكِ بعد إيماني.
وصل إليهِ همسها الذي اختنق بغصةٍ لم تستطع إمحاقها : بنام .. الله يخليك اتركني بهالوقت ، إذا أنت لما تعصب تطلع برى البيت وممكن تفرغ غضبك بهالطريقة فأنا لما أعصّب أفضل إني ابتعد شوي كم ساعة، لذلك أبي منك تعطيني هالفرصة اللي ممكن تروّقني شوي
زمّ شفتيه قبل أن يزفر، ثمّ بجمودٍ وهو ينظر لتضاريس جسدها التي صدّت بهِ عنه : نامي .. وبكرة بيكون كلامنا أمر مافي جدال فيه
,
دخل الجناح بمزاجٍ مُختلفٍ بعد أن التقى بعناد اليوم، على الأقل لازال هناك من هو معه، يشكي له ويواسيه، يُفضفض له ويسمع. في بعض المراتِ يكون عناد له الطبيب وليس الأخ فقط، واليوم شعر بذلك بعد أن تحدثا مطولًا.
كان يدندن بشيءٍ ما، لكنهُ توقف في مكانهِ ما إن سمعَ خشخشةً ما في المطبخ، ولم يتطلب ذكاءً ليُدركَ أنها غزل فهي الوحيدةُ التي تعيش معه هنا. اقترب من المطبخ وهو ينوي إخبارها بعزيمةِ أمه له ولها غدًا على الغداء، وما إن دخل حتى وجدها جالسةً أمام الطاولة المُربعةِ وكوبُ القهوةِ على سطحها، تتسلى بهاتفها وعلى ما يبدو لم تكن منتبهةً له.
دخل بهدوءٍ حتى وقف بجانبها، لتشهق فزعًا وترفع رأسها تنظر إليه بذعر : سلطان!!
سلطان بهدوء : ايه سلطان .. شفيك انخرشتي؟
أطرقت برأسها بارتباكٍ وهي تهمس : ما انتبهت لك
سلطان وهو يرفع كوب القهوة : هممم
تذوقهُ ليُقطب جبينه ويضعه، حينها ازداد ارتباكها وظهر الإحراجُ على وجهها، وبارتباك : مو حلو صح؟
ابتسم سلطان وهو يتجه للثلاجةِ ويفتح بابها، وبمزاح : رحمَ الله امرئٍ عرف قدر نفسه
قطّبت جبينها وهي مستغربةٌ من نبرتهِ " الرايقة " اليوم عكس كل مرةٍ يتحدث فيها معها، وبعفوية : وش معناها؟
استدار إليها بعد أن أخذ قنينة ماءٍ مستفسرًا : إيش اللي وش معناها؟
غزل : الجملة اللي قلتها
سلطان باستنكار : رحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه؟؟؟
أومأت برأسها بهدوءٍ ليُردف مُستنكرًا : ما تعرفين معناها؟
غزل : أسمعها كثير وأقولها بعد أوقات ... يعني فاهمتها بس مو كثيير، ولما أذكر اللي فاهمته من هالحديث يقولي غيري فيه معنى أعمق
سلطان بسخرية : وإيش اللي فاهمته انتِ بالضبط؟ وبعدين منو قالك إن هذا حديث؟
غزل بتوترٍ وإحراج : وحدة من معارفي
اقترب سلطان ليسحب الكرسي للخلف ويجلس عليه بعد أن وضع قنينةَ الماءِ على الطاولةِ دون أن يشرب منها، وبهدوء : هالوحدة ما عند أبوها علم وقاعدة تتفلسف
رفعت غزل حاجبيها بحدة : تراها صديقتي!
سلطان : اووووه لا تكون صديقتك هي ابن العثيمين عشان أقدّر تفسيراتها
أمسكت لسانها من سؤاله " ومين هذا بعد؟ " منعًا لإحراجِ نفسها عنده، فهي لا تعلم من الدين الا القليل، حتى الصلاةُ لا تعرف عنها شيئًا ولا تذكر متى آخر مرةٍ صلت بها، ربما كانت وقتها في الصف الثاني الإبتدائي وما حولها، ومن الأحاديثً النبوية لا تحفظ شيئًا سوى أحاديثَ حفظتها منذ زمنٍ لامتحانٍ كانت تخشى أن تفشل فيه وهي التي لطالما تكون " على الحافة "، وهاهو ما حفظته قد ذهب أدراجَ الرياح.
أردف سلطان وهو يستند بوجنتهِ على كفهِ ناظرًا لوجهها : هذي مقولة لعمر بن عبدالعزيز ماهو حديث للنبي .. ومعناها إن الإنسان لما يعرف قدر نفسه يحترم غيره ويتمسك بربه أكثر فما يخيب
لوت فمها وهي تشتت نظراتها عنه هامسة : شكرًا على التوضيح
ابتسم وهو ينهض هاتفًا بأريحية : عمومًا أنا جاي أعلمك إننا بكرة معزومين عند أمي
رفعت نظراتها لتصل إلى وجهه وهي عاقدةٌ لحاجبيها : أمك؟!
سلطان : أمي بالرضاع ... عازمتنا على الغداء بكرة
نظرت إليه مطولًا دون تعبيرٍ ليُردف أخيرًا بابتسامةٍ مازحة : وتطمني تراني قلت لولدها يوصيها ما يكون في الغداء سمك
ابتسمت ابتسامةً طفيفة تُريد منها دفعهُ لإنهاءِ كلامه، ليردّ لها الإبتسامةُ بدورهِ ثم ابتعد عن المكان ليخرج، حينها زفرت وهي تفكر بالبعيد، كان جزءً منها يطالبها بالرفض فهي غيرُ معتادةٍ على الإختلاطِ بكثيرٍ من الناس وصداقاتها هي صداقاتٌ بُنيت على أساس علاقةِ عائلةٍ بعائلتها، كل صديقاتها - القليلات - هم من معارف والدها وأمها فقط. لذا هي لم تعتد الدخول بين أناسٍ جُدد، لكنها في النهايةِ صمتت وجزءٌ آخر منها فضّل " تغيير جوها " بعد أيامٍ عديدة قضتها هنا دون أن تخرج.
.
.
.
انــتــهــى ..
ما حسيت البارت أرضاني بس إن شاء الله يرضيكم ()
+ تنويه للي ما يدري للحين / الجزء ينزل يوم كل أسبوع وهو الخميس
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|