كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساءكم راحة
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(22)
الساعة الحاديةَ عشرةَ مساءً بتوقيت بروكسيل
كانت تنظر بعين الرضا لتعليقات المُتابعين في مدونتها، لرأيهم عن مقالها الأخير والذي كان عنوانه ( قلبي يتألم! ). آخر مقالٍ لها عن القلب وآلآمهِ التي تتمثل بها لما لا تعلم! لأمرٍ ما ناقصٍ بها، لجُرحٍ قديمٍ رُبما، لأمٍ رحلت رُبما، لكميةِ الأسى التي تداهمها في لحظةٍ ما من كل شهر! أو من كل أسبوع! أم من كل يوم!!!
لا تعلم، لا تعلم متى تأتِيها تلك المشاعر السلبية، لكنها تعلم أنها لا تشعر بها دائمـًا، رُبما لأن شعورها بالسعادةِ بين كنف عائلتها أقوى، أو ربما لأنها لا تعرف من الأساس ما سبب تلك المشاعر السلبية!
تنهدت بصمت، ثمّ أغلقت الحاسوب لتنهض ناويةً النزول، عدّلت من تنورتها " الميدي " الكريمية ثمّ تحركت باتجاه باب غرفتها وخرجت.
في الأسفل.
فارس : يلا هانت ، مابقي غير يومين ويجي الموعد
ابتسم ابو فارس ابتسامةً صافية، دون توترٍ أو خوف، فهو إنسانٌ مؤمن بقضاءِ ربّه ويدرك أن ما أصابهُ لم يكُن ليُخطئهُ وما أخطأهُ لم يكُن ليُصيبه، لـذا هو غير متوجسٍ لنتيجةِ العملية، بالتأكيد سيكون سعيدًا إن عاد للمشي، لكنه أيضًا كإنسانٍ سيحزن إن حدث العكس، وبالرغم من ذلك هو يؤمن أنّ حزنـه لن يتغلب على ما تبقى من حياتـه، فلحظةُ حزنٍ ستنجلي بلحظاتِ فرح.
ابو فارس : ربي يكتب كل اللي فيه خير لي ... سواءً نجحت العملية أو لا أنا راضي
فارس : ربي يكتب لها النجاح
ابو فارس : آمين
سمعا صوت خطواتِ جنان وهي تتجه إليهما بابتسامة : آمين يا رب
قبّلت جبين والدها بحُبٍ واحترام ثم جلست بجانب فارس الذي هتف بضحكة : قُبلة العظماء
جنان تُكمل بابتسامةٍ شقية : اللي منت منهم
ضحك فارس بخفة : لنـا الله بس ، الا قولي لي يا بنت ، خالي أمجد قبل أمس جاء وما قلتِ لي؟
اضطربت نظراتها وانفرجت شفتاها في تعجب، كيف عرف وهي لم تخبره أو توضح لأحد؟ حتى إخوتها لم يكونوا في المنزل حين قدومه بل كانوا يلعبون في إحدى الحدائق القريبة! أو ربما رأوه؟؟
كادت تهتف بسؤالٍ مستفسرٍ عن كيفيةِ معرفته بقدومه، لكنها صمتت في حين لفظ ابو فارس بشيءٍ من الصدمة وهو يسألها : خالك جاء؟
نظرت لملامحه بتوترٍ وهي مُقطبة الوجه، تتذكر تحذيره لها وكلماته التي لم تفهمها جيدًا، لكنها في النهاية ردّت دون أن تكذب : ايه كان هنا .. بس ما طوّل أبد
ابو فارس بقلق : جلس شوي؟ سولفتوا مع بعض؟ قال لك شيء؟
قطّبت وجهها أشدَّ من ذي قبل، وما أثار ريبتها أكثر من كلام خالها هو تحفّظ والدها عن أمر هذا السر بدرجةٍ غير معقولة، إلتزامُه الغموض حتى أنّ شعورها بالمعرفة تجاهه بدأ بالتلاشي! بدأ يلفظ أنفاسه! لمَ بات والدها غريبًا؟ بل لمَ لا يكون غريبًا إلا حين يكون خالها أمجد قريبًا! ما الماضي الذي ارتسم لديه بصحبته؟ ما السرّ الذي يكمن خلف كره خالها لها؟
كلها أسئلةٌ لا يعرف إجابتها الا اثنين، اثنين كلاهما غامضين لا تفسير لتصرّفاتهما.
جنان بهدوءٍ ظاهريٍّ فقط : ما حكى كثير ، يعني سأل عنك وعن فارس وقلت له إنكم في المستشفى
صمت أبو فارس وهو لا يُصدق كلامها، وكيف يُصدق وهو يُدرك ما يعتري صدر أمجد حين يراها؟ يُدرك كُرهه لها، ويُدرك مقدار نفوره منها الذي قد يجعله أخيرًا يفتضح أمرهم أمام ابنته؟
انتبهت لنظرة الريبة في عينيْه لتبتسم له، مُردفة : مع إنه كان جاف وجلف شوي ، لا مو شوي الا كثير ... بس ما عليه تعودت على شخصيته
بهتت نظرات والدها وهو يشتت عينيه عنها، أيّ شخصيةٍ هذه؟ إنها شخصيةٌ ينتحلها معها فقط، ليست شخصيته ولا أسلوبـه، ليست إرادتُه ما تحركه بحجم ماهو حقده! لكن ... الخطأ أولًا وأخيرًا لن يقع إلا على عاتقِه، هو الذي أخطأ، هو الذي ظلمها، وهو الذي لـن يُسامح نفسه بمـا اقترفه من ذنبٍ حين وثِق بمن لا يستحق!
وبالرُغم من كونه شعر بالضيق لتصريحها بأسلوبه معها، إلا أنه قد ارتاح لأن الأمر توقف عند جفافِه، فأن يكون باردًا جافًا معها أمرٍ اعتاد عليه ولم تتجاوز قسوته قلبه حتى الآن، لكن أن ينفلت لسانه فهذا مالن يستطيع معهُ صبرًا.
حادت عن نظرات والدها التي ما تلبث أن تشعر بالوجع يتغلغل في صدرها حين تطفُو على عينيْه، ومنطقةٌ ما في عقلها تُخبرها بمنطقيةٍ أن ما يخفيه لـن يكون هيّنًا، لكنه ما إن عظم حجمه إلا أنها ستهوّنه، لأنه والدها، وكل ما منه هو من حبه فقط، ولطالما كانت جملتها الشهيرةُ بين إخوتها إن حدث أن وبخها : مستحيل أزعل من أبوي ، لأنّ كل حُجرة في قلبي من الحُجرات الأربعة منقوش فيها حرف من حروف اسمه عشان ينتهي بـ ناصر
وهذه هي قاعدتها في علاقتها معه، ليس مجرد أبٍ وحسب، بل هو الدنيا برمتها في عينيها.
سألت فارس ببعض التردد : شلون عرفت وأنا ما قلت لك؟
فارس : قابلت هيثم اليوم العصر وقالي إنه كان موجود عندنا
اضطربت نبضات قلبها وتشتت حدقتيها ما إن سمعت باسمه.
ما الذي يريده مالكُ هذا الاسم؟ ما الذي يريده مالكُ هذا الاسم؟ ما الذي يريده مــالكُ هــذا الاســم؟!!!!
ودّت لو تصرخ غضبًا من ملاحقاتهِ الشبه دائمةٍ لها مع أنها لا تعرف عنه سوى أنه قريبها، لا تعرف عنه سوى أنه القريب البعيد في صفاته عن من يغار على عرضِه وأهله! مُلاحقاتُه الدائمةُ لها بعينيه تلك الشبيهتين بعيني صقرٍ جائـعٍ تُثير حنقها ورعبها، تعلم أنه لا ينوي بها خيرًا وربما صمتها يجعله يتمادى أكثر، بالرغم من كونه حتى الآن لم يقترب كثيرًا منها الا مرةً واحدة، فقط يُراقبها عن بعدٍ منذ أشهرٍ طالت وقد تجاوزت العام!
كانت تتجاهل الأمر حين تنتبه لملامحه لكنها تلحَق تواجده في المكان الذي تتواجد فيه بالصُدف، صُدفٌ وصدف، حتى انفجرت مرةً وصرخت في وجهه بخوفٍ بعد أن استدارت إليه وقد كان على بعد خمس خطواتٍ تقريبًا منها : وش تبي مني ملاحقني بكل يووووم؟
صرخت بها بقوةٍ غيرَ مباليةٍ لمن سمع من العرب أو غيرهم، ليقف هو لثانيةٍ فقط ثم يُكمل خطواته نحوها.
تحركت قدمها اليُمنى خطوةً للخلف بذُعر، لكنها توقفت حين فكرت أنه لن يفعل بها سوءً فهما في مكانٍ عامٍ كما أنها قريبته!!
يا لسخفها حين فكرت أنه لن يتمادى لأنها قريبته، فهاهو تمادى بالأمس وكسر كلّ حدود الإحترامِ والقرابةِ بينهما باتصالهِ بها بكل وقاحة!
وقف على بُعد خطوةٍ منها وهو ينظر إليها بغموض، واضعًا كفيه في جيبي سترته، صامتًا لثوانٍ قبل أن ينفث قبلًا الهواء البارد ببردوةِ الأجواءِ ومن ثم كلماته : لأنِك المنحلة عن عائلتنا ، لأنك مناسبة كثير لشخص مثلي!
ارتعشت شفتاها ليس لبرودةِ الأجواء بل لكلماته الغريبة هذه، ودون أن تشعر بنفسها كانت تستدير عنه لتذهب، بعيدةً عنه راكضةً رغمًا عنها بخوفٍ إلى المنزل، بينما بقيت نظرات الصقر مُحدقةً بها حتى تلاشت عن ناظريْهِ تمامًا.
ابتسمت بفتورٍ وهي تهتف بإيجازٍ وكل الكلمات سُرقت منها : أهـا
,
الثانيةَ عشرةَ بتوقيت الرياض
إنّهُ مزعج، مزعجٌ حد الإعياء، تقولها دون تردد، هذا الذي أزعجها بإصراره على الإتصال بها مُزعج، مزعجٌ كما أنـه مُخيف!
أترد عليه وتنتهي من اتصالاته التي لم تتوقف حتى الآن؟ أتقول له بإيجازٍ " لم أعثر على شيءٍ " لتنتهي منه إلى ميعادٍ غير معلوم؟ بالرغم من كونها تُدرك أنها ما إن تُجيب حتى يستغرق ساعاتٍ في التحدث معها عن موضوعٍ سئمت التحدث عنه!
زفرَت بضيقٍ وهي تفكر ما الخطوة الأسلمُ لها، أترد؟ أم تتجاهل؟
يا الله! . . رمَت الهاتف بقوةٍ على السرير بعد أن أغلقته نهائيًا، وهي تهتف من بين أسنانها مُغمضةَ العينين : ما راح تردين يا غزل ، لمتى يعني بتخافين منه وتفقدين شخصيتك بالكامل عنده؟ لمتى!!
في الغرفةِ الأخرى
استوى جسدهُ مُمددًا على السريرِ بإرهاقٍ جمْ، مضت أيـامٌ وأيام، وهو لا يجدُ لها أثرًا! كيف يعقل أن تختفي فجأةً دون شيءٍ يُثبت أنها لازالت حية؟ كيف يُمكن أن تختفي دون أن تضع ما يدلّهُ عليها؟
زمّ شفتيه وهو يُغمض عينيه مُتفكرًا، كلّ شيءٍ بسببه، كل شيءٍ يقع على عاتقـِه، كلّ شيءٍ لا يحدث إلا بتدبيرٍ منه، وبالتأكيد أنـه أوهمه بتواجدها أثناءَ الحريقِ ليُخفيها ويُظلله. أجل، هذا احتمالٌ يُمكن أن يكون صحيحًا، هذا احتمالٌ لا يجب له تجاهله، قد يكون هو الذي خبأها، قد يكون هو من ظلله . . كيف لم يفكر بهذا من قبل!!!
فتح عينيْه بحدةٍ ثمّ جلس بعنف، ودون ترددٍ تناول هاتفه الموضوع على الكومدينـة ليتجه لرقمه مباشرةً وحقدٌ يتأجج في صدره، يُعمي عينيه عن أيّ شيء.
اتصل به، ولم يلبث ثوانٍ إلا وهو يرد، وصوته تحلى بالكثير من الدهشـة : سلطــان!!
سلطان بحقد : وينها؟
قطّب سلمان جبينه قبل أن يبتسم، وبهدوء : شلونك؟
سلطان بحدة : وينها؟
سلمان : وكيف حياتـك الزوجية؟ مرتاح؟
صرخَ بنفاد صبرٍ وانفعال : ويــنــها تكلم
ضحك سلمان بخفوت : ما تغيرت أبد ، بصلتك محروقة!
أغمض سلطان عينيه للحظةٍ قبل أن يشدّ على أسنانه مُخرجًا الكلمات من بينها مُختنقة : وين مخبيها؟ أنا متأكد ان لك يد في ضياعها!
فتح عينيْه عاقدًا حاجبيْه باستفسارٍ هامس، ناقم : وش تستفيد من كل هالحقارة اللي قاعد تسويها؟ وش مرادك يا سلمان؟
لم تختفي ابتسامةُ سلمان الباردة وهو يستمع لكلماته، لكنه ما إن نطق " سلمان " حتى أعقب على لفظه هاتفًا : يا يبه! والا نسيتها
شدّ سلطان على أسنانِه أكثر وبقبضته على الهاتف أشد، هاتفًا بحنق : معصي
سلمان : بس صار ، لا تنكر إنك ما حسيت أبدًا باليتم وأنـا معاك!
شعر سلطان بغضبٍ يتأجج أكثر وأكثر في صدره، كلماته مستفزة، يستخدم مواقف سابقةٍ حجةً عليه، في وقتٍ كان يراه صالحًا مُحبًا وحنونًا! كان يراه فيها رجلًا شهمًا بمعنى الكلمة أفنى عمرًا في تربية ابن أخيه، دون مللٍ أو كلل.
سلمان : تذكر مين سوّى أخلاقك يوم كنت طايش؟ انت على يدي صرت تكره الأغاني وتنزعج لما تسمعها عكس قبل لما كنت مدمنها بمراهقتك
سلطان بحنق : بروح أسمعها الحين وألغي فضلك هذا
سلمان بابتسامةٍ هادئة : ما علمتك مرة لا تطلع حرّتك بالمعاصي؟؟
صمت سلطان دون أن يجد ما يردّ به. إنّ أكثر ما تعلمه، بل كلّ ما تعلمه كان على يده، كان بفضله وما أخزاه من فضل! ما أخزى أن يكون معلمك هو قاتلك، ما أخزى أن يكون مأواك هو منفاك فيما بعد، وما أشدّ الخيبة حين يخونك شخصٌ كان قريبًا منك بدرجةٍ لا تحتمل الإبتعاد ولو خطوة، بدرجةٍ لا تحتمل أن يوضع بينك وبينه حاجزٌ زجاجيّ!
هتف سلمان همسًا وهو ينتبه لاضطراب أنفاسه : طيب للحين حافظ العشرين جزء اللي حفظتك هم من القرآن؟ ما حفظت أكثر منهم؟
أغمض سلطان عينيه بأسى، بحقدٍ على نفسه قبل أن يكون حقدًا على من يُحدثه، إنـه خائن! خائنٌ لأنه اقترب ممن حرمَه من والده حتى سمّاه " يبه "!
ويا عتاب " يبه " الآن حين أُطلقت على من لا يستحق، يا بؤس عمرهِ الذي أمضاه سابقًا مع شخصٍ زائف، ويا ويل قلبه حين أحبه، حتى وإن بدأ حقده وكرهه له بالتنامي أكثر وأكثر إلا أنّ ذنبه السابق لا يغتفر ... إطلاقًا.
سلطان بهمسٍ وهو مغمضُ العينين : كل أفضالك السابقة ... انمحت بسبب مساوئك وحقيقتك
تجاهل سلمان جملته تلك وهو يلفظ بما هو أكثر استفزازًا له، مُقرًا بصفةٍ ليست له : كنت مثالي
أومأ سلطان رأسه يُصحح له : تتصنع المثالية
سلمان : في عيونك ما كنت متصنع
سلطان : عساها تحترق هالعيون!
سلمان : أفا! تدعي على نفسك يا سلطان؟
تنهد سلطان بحنقٍ لإطالةِ الحديث بينهما : والنهاية! وش تبي من كل اللي تسويه؟ هذا الشيء الوحيد اللي ما فهتمه للحين
سلمان ببرود : شيء ما يخصك
سلطان بحدة : يخصني .. يخصني ، تدري ليه؟ لأنك دخلت في السالفـة أبوي والحين أمي ليلى * صرخ بانفعال * وييييين مخبيها؟؟؟
صمت سلمان للحظاتٍ وكأنه يفكر بما يرد، بأسلوبٍ مستفزٍ نجح فعلًا فيما يريده، إلى أن هتف : مو هي ماتت في الحريق؟ شلون بكون مخبي جثتها عندي؟؟
اتسعت عيناه ازدراءً بسخريته، هاتفًا بتحذيرٍ وصوتٍ يُنبؤ بالشر : لا تستفزني
سلمان ببرود : قلتلك من يومك بصلتك محروقة ، مو قاعد استفزك انت اللي تخلي نفسك مُستفَز بسرعة انفعالك
سلطان بغضب : وينها؟ هي مالها ذنب ليه تدخلها في مخططاتك اللي مدري وش تبي منها!
سلمان : شيء جائز
قبض سلطان على هاتفـه أكثر حتى كاد أن يُحطمه، وبحدة : بطلّع الحكي منك صدقني
ثمّ أغلق وهو يفكر بخطوةٍ مجنونة في الغد، لن يبقى ساكنًا في مكانهِ أكثر، يجب عليه أن يتحرك، يجب!
,
كانت في الحمام تغتسل حين كان سيف مُمددًا على السرير ببنطال بجامته فقط يتصفح في هاتفه.
خرجت وهي ترتدي روب الحمامِ في صمت، اتجهت للخزانة لتُخرج قميصَ نومٍ طويل وساتر بلونٍ خربزي، ثمّ عادت للحمام.
وضع هاتفه على الكومدينةِ جانبًا ثمّ استلقى على بطنهِ ينتظر خروجها، وما إن سمع صوتَ بابِ الحمامِ يُفتح حتى هتف بإرهاق : تعالي أبيك تهمزيلي ظهري
نظرت إلى جسده المُسجى على السرير دون تعبيرٍ ثمّ صدّت عنه. بكُل بساطةٍ يعتدي بلسانه ثمّ يأمر! بكل بساطةٍ يُخيّب آمالها بتعامله ثم يأمر، بكل بساطةٍ ينسى أو يتناسى ما فعل بينما كل جراحهِ تبقى موسومةً في صدرها الذي بات شراعًا لرياحه التي تُحركها كيف تشاء!
أبسط كلماته الساخرةِ وإن كانت مُزاحًا هي في قلبها نصلٌ حاد، ليست حساسةً بقدر ماهو غيرُ مُحِب! لذا فكلماته تأتي صفعةً في وجهها لأنـها تُدرك أنه لا يحبها وقد يعني بكلماته الصدق! تعبت منه ولازالت تواجه تعبها هذا لتنال فقط قربه، تعبت ولازالت تواجه تعبها فقط لتنال بركته التي ترى أن لا بركةَ قبلها أو بعدها، تعبت ولازالت تُصارع خيباتها فقط على أمل أن الغد سيكون أجمل، لكنّه على الأرجح سيبقى مُظلمًا قاحلًا من دون بصيص نور!
تجاهلت أمره وهي تتجه للمرآة لتُنزل المنشفة عن كتفيها ثمّ تفتح مُجفف الشعر حتى تُجفف شعرها.
عبس سيف وهو يستمع لصوت المجفف المزعج، ثمّ استدار ينظر إليها : ما سمعتي؟
تظاهرت بعدم سماعه بسبب الصوت، وهو ظلّ ينظر إليها عاقد الحاجبين ببعض الغضب لتجاهلها الذي يدرك أنه مُتعمَد. ليقف أخيرًا مُتجهًا إليها وتفزع هي حين رأته عبر المرآة، لكنها تصنعت القوة في حين وصل هو إليها ليفصل الجهاز عن الكهرباء، هاتفًا بحدة : التطنيش ما يمشي معي
نظرت لوجهه بحنق، ثمّ هتفت بحدة : تبيني أهمز لك؟ معليش ماني جارية
رفع حاجبًا بتعجبٍ من تفكيرها، ثم هتف بحدة : الحين أنتِ بتصيرين جارية لما تهمزين لزوجك؟ من وين جايبة هالتفكير المتخلف! صدق انكم ناقصات عقل يا الحريم
نظرت إليه بحدةٍ وهي تبتعد عنه، لكنه مدّ يده ليقبض على زندها مُعيدًا لها إليه بغضب : تراك قاعدة تعصبيني فانتبهي! قلت لك من قبل ما عاد بقى لك كفارة عندي فلا تغلطين
زمّت شفتيها حانقة، قبل أن ترد عليه بانفعال : طيب بهمز لك، بس دامك تشوف إنّ الهمزة ما تعتبر من باب الولاء والعبودية أجل همزلي أنا بعد!
لم يستطع منع نفسه من الإبتسامةِ بسخرية وضحكةٌ يُنافسها رغمًا عنه كي لا تصعد إلى فمه، وهو يُدير إصبعه جانب رأسه بحركةٍ دائرية بمعنى " مجنونة "، ليردّ أخيرًا خلف نظراتها الحانقة وهو يشعر بالإستمتاع : طيب ما طلبتي شيء يازوجتي المصون ... عشان بس أثبت لك إن هالأمور ما تُعتبر عبودية * أكمل بسخرية * شكلك متابعة لتاريخ الجواري صح حتى التبست عليك الأزمان
كانت تتوقع منه أن يرفض، وتفاجأت بعض الشيء بموافقته. بينما تحرك هو عائدًا إلى السرير ليستلقي على بطنهِ بأريحيةٍ هاتفًا بأمرٍ جلف : يلا تعالي جسمي مكسر
ظلّت تنظر إليه للحظاتٍ دون تعبير، إلى أن اقتربت منه بانصياعٍ وهي تتمنى لو تسحق رأسه، ثمّ جلست على السرير بجانبه لتبدأ بتدليك ظهره وملمس بشرتها على عُريّ ظهره جعله يشعر بالإسترخاءِ رُغمًا عنه، مُغمضًا عينيه مُستمتعًا ببرودةِ أناملها، مُستمتعًا بنعومةِ ضغطها على فقراتِ ظهره برقةٍ تُشبهها.
تأوّه حين شعر بها تضغط بعنف، ثمّ لانت يدها فجأةً وعادت لرقتها، ليهتف هو بوعيدٍ وشفتيه تفترّان عن ابتسامة : مردودة
تجاهلته وهي تكمل عملها، تدلّك ظهره بمهارةٍ ولا مانع في التجاوزات قليلًا لتضغط بقوّةٍ حتى تؤلمـه، لكنه أبدًا لم يتأوه من بعد تأوهه الأول، بل بقي مُبتسمًا لمدى الغيظ في حركات أناملها الباردة، لشعوره بتيّاراتِ الغضب التي تُصدر عبر أناملها.
لا بأس! اغضبي وتمردي، فأنتِ تبدين مُستفزّةً بجمالكِ أولًا قبل أن يكون الإستفزاز لتصرفاتك، اغضبي ما دام غضبك لم يتمرد خارجًا، اغضبي ما دام غضبك يأتي نتيجةَ إرخائـي للحبل وليس إطلاقه!
اغضبي يا نجمتي الأخآذة فغضبكِ يُزيدكِ توهجًا لتصبحي في عيني - أجمل ملاك -
همس سيف : تسلم يدينك ، يكفي
رفعت كفاها ببطءٍ وهي تحيد بنظراتها عنه، ثمّ ابتعدت تنوي الوقوف لكنّه كان أسرَع حين جلس مُمسكًا بمعصمها : على وين؟ مو كان اتفاقنا تهمزين لي ثمّ أهمز لك؟
فغرت شفتيها وهي تنظر له دون تعبير، ربما أيضًا لأنها توقعت الكذب بالرغم من معرفتها أنه لن يقول كلمةً ليتراجع عنها، بقيت ساكنةً في مكانها تنظر إليه بصمت، وهو يبتسم ابتسامةً لم تعلم ما معناها لتوهانها في تلك اللحظات.
سيف : وبنظل طول الليل كذا؟
نظرت ديما لعينيه لتتكلم أخيرًا بخفوت : كنت أمزح ، ماله داعي
سيف يسحبها إليه بإصرار : وأنا ما كنت أمزح ... انبطحي
ديما تُقطب جبينها توترًا ورفضًا : تكفى سيف مو بالغصب ، أنا والله ما ودي بس كنت امزح
جذبها إليهِ أكثر بإصرارٍ ينبض من عينيه، ثم هتف بحزم : دامني قلت لك طيب أجل مافيه مردة لكلمتي
ازداد انقطاب جبينها وهي تزدرد ريقها توترًا، ما الذي فعلته بنفسها!!!
ديما بتوتر : طيب ، موافقة بس بشرط
سيف يُكتف ذراعيه بقلة صبر : وهو؟
ديما : دلك كتوفي بس، ظهري ما يعورني أوكي!
كانت تطلب ذلك بتوترٍ وبشكلٍ طفوليٍّ أثار ابتسامته، ليهتف أخيرًا بخبث : أنتِ بس انبطحي
انبطحت بتوترٍ وهي تشتم غباءها، ما الذي فعلته بنفسها لتتهور بهذا الشكل؟
مسح سيف بكفه على فقرات ظهرها ثمّ انحنى قليلًا حتى يصل لأذنها هامسًا : ليه الخوف؟ ماني وحش أنا
رفع رأسه عنها وهو يبتسم بخبث : مو أنتِ اللي طلبيتي؟ أجل تحملي
ديما بذعرٍ وهي تتحرك تريد النهوض : سيف والله ...
لكنه قاطعها حين أعاد جسدها ثمّ بدأت يداه بالتفنن على كتفيها بلطفٍ رجولي كان بالنسبةِ لها يحوِي بعض العنف. أغمضت عيناها بقوةٍ تحت تدليكه مُصدرةً تأوهًا طفيفًا ومن ثمّ استرخت قليلًا وهي تدعي الله أن تمرّ هذه الليلةُ على خير.
إن عمق يديه أعنف بكثيرٍ من مجرد تدليك، إنهما لقلبها لمسةُ جنونٍ أصابته بالعدوى ليتسارع انقباضه، ليهيم بضياعٍ تحت تملّكِ يديه.
بينما هو كان يبتسم ويديه تضغطان بأكبر قدرٍ من اللطف، من الصعب على هاتين اليدين أن تؤذي جسدها الهشّ، من الصعب عليهما أن تُسلطا قوتهما على نحالةِ جسدها وهي كورقةٍ خضراءَ مُبتلّةٍ لن تحتمل أقلّ خدش، لن تحتمل أن تطأ قدمٌ حادّةٌ عليها لتُمزقها، لـذا كان رقيقًا معها، رقيقًا بقوةٍ رجولية هي لها مؤلمةٌ بعض الشيء.
انزلقت كفاه قليلًا للأسفل، لتفتح عينيها هامسةً بتوتر : خلاص
لم يهتم لما سمعه وهو يشعر بالمتعةِ في تدليكِ جسدها الغض، حتى وصل أخيرًا لنهايةِ ظهرها لتتحرك مذعورةً ودون شعورٍ هتفت بحدة : خلاص يكفي
سيف بهدوء : أنتِ ما وقفتك الا لما دلكتي لي ظهري كامل ، عشان كذا لازم أجازيك بالمثل
شهقت حين شعرت به يضغط على أسفل ظهرها، لتهتف برجاءٍ ورُعب : لا لا ، تكفى ... الا بطني، الا بطــنــي يا سيف
توقف فجأةً عند صوتها المُرتعب رافعًا يديه وهو مُقطّب الجبين، وعقله لم يجد تفسيرًا لخوفها هذا، لكنه في النهاية هتف بحسن نيّة : وش فيه بطنك؟ يعورك؟
جلست وهي تتنفس بارتباك، ولم تجد غير أن تؤمئ وهي تشعر أنها تورطت بتهورها حين طلبت منه ببجاحةٍ أن يُدلك لها كما ستدلك له، غبية غبية، ماذا جنَت الآن من عنادها غير رُعبها بلمساته الرجوليةِ القاسيةِ بالنسبةِ لجسدٍ يحمل طفلًا لم يصل للشهر بعد!
نظر إليها سيف بقلق وتفكيره ذهب للجرثومة التي حدثته عنها أمه : الدكتورة ما عطتك دواء؟
ديما بارتباك : الا وتوني قبل لا أتحمم ماخذته
سيف : أجل؟
ديما بكذب : بس الدكتورة قالت لا أسوي مثل هالحركات لأنها ممكن تأذيني
صمت سيف لتطمئن حين رأت في ملامحه بعض الإقتناع، وهي في داخلها تشكر الله على سهولةِ إقناعها له بتلك القصة.
كانت ستترحم على نفسها لو أنه علم، كانت لتندم لو أنّه أكمل، وجنينها الآن هو الأهم في فترةٍ كهذه وحتى بعد خروجه للدنيا، لم تسعى لعصيان سيف حتى ينتهي الأمر دون اكتمال روحها بهذا الطفل، لم تعصِه لتنقطع سعادتها في البداية، لـذا كان حريًا ألا يعلم سيف بأي شيء، تمامًا كما قالت أمه ولن تشعر أبدًا بأي ذنبٍ وحتى إن شعرت بالذنب فستتجاهل هذا الشعور لأنه الآن منفي!.
,
الواحدةُ ظهرًا من اليوم التالي
" يبيلك تلتزمين بالأيام الجايـة، وش كنتِ بتسوين لو جاك حرمان؟ "
قطّبت إلين جبينها عند سماعها لتلك العبارات من هديل، ثمّ تنهدت بضيقٍ هاتفة : لولا عمي بعد الله كانت بتروح علي أغلب المواد ... * عبست لتُردف * الجانب الممل في الموضوع هو إنّي بروح المستشفى عشان الأعذار تبعي
دخل في ذلك الوقت ياسر بملامح مُنهكة بينما كانتا واقفتين قرب الباب وعباءتهما لازالت عليهما : وانتِ الصادقة ، الجانب الممل في الموضوع هو المستشفى
ظهر فجأةً الجمود على ملامحها وهي تزفر بشكلٍ طفيفٍ لم يُظهر اضطرابها، فـ ياسر لا يستحق أن يُظهَر أمامه البغض ولا أيّ شكلٍ من المشاعر السلبية، هو يستحق الكثير، يستحق الطيبة والمعاملة الحسنة، لا علاقة له بما اقترفته قبلًا بحبه فكيف عساها تبغضه وهي التي تحمل كل الذنب؟.
هديل : مروّح اليوم بدري!
مرّ ياسر من جانبها ليُداعب شعرها المكشوف بعد أن حلّت عنه خمارها، هاتفًا بتعب : نسيتي إن اليوم الإثنين ودوامي يخلص بدري؟
هديل وهي ترفع يدها بعفويةٍ لتُرتب شعرها الذي عبث به : اي صح نسيت
مرّ ياسر من جانبهما صاعدًا للطابق الثاني بعد ما نظر لإلين وابتسم لها بلطف، ثم هتف وهو يصعد العتبات يُديرهما ظهره : ترى ما ودي أتغدى ، أبي بس أنــام بعد هالتعب ... فلا تزعجوني
هديل بصوت عالي : أمي راح تزعل منك لو ما أكلت معنا
أكمل طريقه صاعدًا ليرد بجملةٍ قصيرة : اعتذري لي منها
ثم اختفى عن أنظارهما لتعبس هديل بحنق : الله يعينني الحين على اطلعي لأخوك يا هديل وانزلي يا المزعجة ما ودي ... اففففف
ابتسمت إلين طيف ابتسامةٍ لتتحركَ مُبتعدةً عنها : وأنا بعد ما ودي بالغداء ... اعتذري عني
هديل بصدمة : نعم!! أجل أجلس أنا بروحي
إلين بهدوء : منتِ بروحك تطمني
لم ترد أن تقول لها " أنتِ مع خالتي وعمي " فآثرت التعبير بذاك الشكل المُضمحل، وكم سيكون صعبًا أن تتعامل في هذا المنزل بطبيعيةٍ تامة سواءً مع هالة وحدها أو مع الجميع! لكن يجب عليها أن تحاول التأقلم ولو قليلًا، فـ عبدالله حرمها من فرصة الذهاب مع أدهم والواضح أنها ستبقى في هذا المنزل مدةً من الزمن، لكنه لن يطول، تقسم بذلك!
لن يطول الجفاف الذي تعيشهُ وسيأتي الهطل دون الخصب. سيأتي الهطل لتعيش عند من كانت تزدرئه، والخصب لن يأتي الا حين تستقر مع أخٍ أزال الصورة السابقة له وآتى نفسه هويّةً أفضل وأرقى.
هذا الجفاف يقتلعني من الأكسجين كي لا أتنفس، هذا الجفاف قذف الماء منِي ولم أعد سوى غُصنٍ يآبس بدأ بالتآكل، هذا الجفاف استحلني وهجر قطيعه لأتلاشى! لـذا فأنا - الغصن - أنتظر الهطل، وسأمشي إليه بنفسي، سألوذ إلى الغيمةِ التي تحمله دون أن أنتظرَ رياحًا تجِيء به إليْ، وليَدُم هذا الهطل! فهو أفضل من الجفاف، ليدُم إلى أمدٍ غير معلوم، حتى ألوذ من جديد إلى الخصب.
,
حين واجهها والدها بالصمت على ما طلبت أدركت في صمته الرفض، والرفض غيرُ معنيٍّ في قاموسها فهي قد اشتاقت حدّ النخاع. لذا شدّت على الهاتف عند أذنها هاتفةً برجاء : أرجوك يبه لا تقول لا! والله ما نتأخر وإن شاء الله ماراح يصير شيء مثل قبل
تنهد يوسف وهو يلمح رغبة ابنته العارمة في الخروج، يعلم أنها تشعر بالملل بعد أن رحلت أختها ولم يبقى معها من يسليها سوى ليان.
يوسف بعطف : انتظري بس لليل وأنا بنفسي بطلعكم معاي، كنت مخطط من كم يوم نطلع مع بعض ومنها بنشتري الأغراض اللي تحتاجينها
صمتت أرجوان للحظات، لم تكن راضيةً عما قاله لها الآن، فهي تخطط للمرور على أختها قبل أن تذهب لتطمئن عليها بعد أن اشتاقت لها. والدمُ يحنّ أخيرًا، بالرغم من أن أُختها أخطأت خطأً فادحًا إلّا أنها في النهايـة أُختها، دمها يسري في عروقها، وخطأها يُمكن أن يُغتفر بما أنـه لم يكن خطأً كخطأ أمها.
أرجوان برجاء : بس يبه أنا ودي أشتري أغراض خاصة لا تحرجني معك
صمت وهو يتنهد، ثمّ هتف بعد برهة باستسلامٍ لرغبتها : خلاص اطلعي وخذي معاك ليان
ابتسمت أرجوان بفرح : ميغسي يبه ما راح نتأخر
أغلقت الهاتف وزفرت بفرح، وأخيرًا ستخرج من هنا قليلًا، ستتجه أولًا لأختها التي اشتاقت إليها، ستتجه لها أخيرًا وتُقابلها.
ابتسمت ابتسامةً فرِحةً طفيفة، ثم اتجهت لغرفتها حتى تقوم بتجهيز ليان ومن ثم لتخرجان.
طرقت جرس الباب بخفة، وهي تسألُ الله أن لا يكون فواز موجودًا حتى لا تُحرج بقدومها في هذه الساعة. حقيبتها " البيبي بنك " تشبّثت أناملها بها بتوترٍ ويدها الأخرى تُمسك بيدِ ليان، انتظرت لثوانٍ لربما طالت تحت وقوفها هذا، إلى أن فُتح البابُ أخيرًا وجسدُ فواز انزاح عن الباب بعد أن رأى هويـة القادم من العينِ السحرية.
فواز : حيّ الله بنت العم
شعرت بالحرج لتُطرق برأسها، وأختها الصُغرى اندفعت للداخل لتُعانق ساقي فواز بهجومٍ طفوليٍّ أثار ضحكه، ناظرًا لوجهها المُمتلئ وشعرها القصير الحريري الذي يتلوَى بدلالٍ من حولها.
فواز بابتسامة : ليونتي القمر
رفعها إليه ليُقبل وجنتيها وينظر لأرجوان التي بقيت واقفة : تفضلي
ابتسمت له بحرجٍ وهي تدخل هامسة : وينها جيهان؟
فواز : بالغرفة * وهو يشير باتجاه غرفة النوم، ثمّ أردف * إذا منحرجة مني بطلع
أرجوان بسرعة : لا لا عادي ما فيها شيء
فواز وهو يتجه للباب : لا خذوا راحتكم ... تسمحين لي آخذ ليان معي للبقالة القريبة من هنا؟
صمتت للحظاتٍ قبل أن تؤمئ برأسها ببطء، ليبتسم فواز وهو يخرج بينما تنهدت هي وعيناها تنظران للغرفة التي أشار لها فواز ببعض الشوق، ثم تحركت قدماها باتجاه الغرفة لتراها جالسةً على السريرِ تُهدي الباب ظهرها.
ابتسمت بحنينٍ وهي تهمس باسمها : جوج
قطّبت جبينها لسماعها صوتُ أختها هنا! أتحلم! أمْ أن وحدتها غلّفتها حتى أصبحت تسمع أصواتًا تحتاجها في هذه الأثنـاء! أو قد يكُون ... قد يكون جنونها الذي يظنه فواز بها!!
زمّت شفتيها وهي تفكر أتستدير وتتأكد أم لا! وكثيرٌ من التردد داهمها، كثيرٌ من الرفض غزاها، ماذا لو لم تكن أرجوان خلفها؟ ماذا لو لم تكن خلفها ويُصبح جنونها حقيقيًا وما تسمعه ليس إلا من فعله!
لـذا تيبّست في مكانها وهي تُسدل جفنيها على عينيها بخشية. لستُ مجنونـة، صدقونـي لستُ مجنونة!
انتظرت أرجوان منها أن تستدير وتنظر، وحين طال مكوثها على حالتها جعّدت وجهها بضيق، ألهذه الدرجـة تغيّرت حتى يُصبح تواجدُ أختها غير مرغوبٍ به؟ أحقدت عليها كما تحقد على والدها؟ أهان عليها أن تكُون بكلّ تلك القسوة؟
اقتربت منها بخطواتٍ واسعة تعكس حُنقها منها، ليس من حقها أن تقسو بهذا الشكل! ليس من حقها أن تُعاقبها على شيءٍ لم تفعله!
دارت حول السرير حتى وقفت أمامها، وفي تلك اللحظة بقيت جيهان مُطرقةً برأسها للحظاتٍ قبل أن ترفع رأسها مُتّسعةَ العينين.
هامسَةً دون تصديق : أرجوان!!!
أرجوان بعتب : ليه هالنظرة؟ انصدمتي بشوفتي ما رحت بعد صدك؟
بقيت تنظر إليها بعينين مُتسعتين للحظاتٍ لم تطُل، إذن فـ أرجوان هنا؟ وما سمعته بالفعل كان صوتها لا من جنونها الوهمي، هي ليست مجنونة، ليست مجنونة.
كما أن أرجوان جاءت، في لحظةٍ كانت فيها الدنيا ترتسم بالرمادي والأسود فقط دون الأبيض، كانت فيها الدنيا تلوّن نفسها بضحكةٍ خبيثةٍ وتُرديها في حُفرتها وحُزنها.
بدأت مُقلتيها بقذف الدموع رويدًا رويدًا، وشفتيها تقوستا بعبرة : أرجــواني
نطقت اسمها ومن ثم بكت وهي تندفع إلى حضن أرجوان التي تيبست للحظاتٍ لفعلها وعلى ملامحها البهوت، غيرَ مستوعبةٍ تلك النظرة التائـهة التي غلفت حدقتيها، نظرةُ احتياجٍ وضياع، نظرةُ حزنٍ غلفتها الكثير من الحاجـة.
همست أرجوان وهي تضع كفها على شعر جيهان التي بدَت كالأختِ الصغرى لا الكُبرى : جيهان حبيبتي وش فيك؟
جيهان ببكاء : محتاجتك
غضّنت جبينها وهي تدفعها عنها برقةٍ وتُجلسها على السرير لتجلس هي الأخرى بجانبها، ثم تناولت كفها الباردة هاتفة : وش فيه؟ فواز مضايقك بشيء؟
شتت جيهان نظراتها، وقد كان صعبًا عليها أن تنطق بـ " ايه "، ستشعر بمدى فداحةِ نفسها لو نطقتها، ستشعر بمدى حقارتها لو صرّحت بالإيجاب، ففواز مهما فعل إلا أنه زوجها، كما أنها تعلم أنه يظنها مجنونة، ولم يفعل ما فعل أخيرًا دون هذا الظن الذي جعلها تعتب عليه، في النهايـة لن تسامحه على ما فعل، لن تسامحَه، لكنها لن تُظهره بهذه الصورة السلبية أمام أختها لـذا صمتت.
هزّت رأسها بالرفض لتشدّ أرجوان على كفها : أجل وش فيه؟
صمتت للحظات، ثمّ نظرت في عمق عينيها لتهمس : بس اشتقت لكم
أرجوان باستدراج : لمين اشتقتِ؟
جيهان : لك ولليان و .... * اضطربت نظراتها وهي تزفر بشكلٍ طفيفٍ مُردفة * ولأبوي وأمي
قطّبت أرجوان جبينها وهي تحتضنها برقة : خلاص يا جيهان ادعي لها بالرحمة ولا تخلين شيء ماضي يأثر على حاضرك
جيهان بغصة ودموعها تتساقط : طيب إذا كان هالماضي ما انفقد الا بسبب حاضر وش السواة؟
أرجوان بحدة : أبوي ماله ذنب اتركي عنك التفاهات
تراجعت جيهان بعنفٍ وهي تهتف بقهر : الا له! له ذنب وهو اللي قسى عليها عشان تفكر تنتحر
ضوّقت أرجوان عينيها بتساؤل : معقولة تفكيرك بهالتفاهة يا جوج؟ معقولة تظنين ان فيه انسان سخيف يفكر بالإنتحار عشان سبب بسيط مثل ذا؟
جيهان بحدة : أجل وش هالسبب العظيم اللي بيخليها تنتحر غير ظلم أبوي؟
ابتسمت أرجوان بسخرية : ظلم أبوك! ظلم أبوك والا ظلم أمك؟؟
جيهان بصدمة : أرجــوان
أرجوان بحدة : لا تسكتيني عن الحق! والا انك تتهمين أبوي بالظلم عادي أما أمي لا!
زمّت جيهان شفتيها بحنق : تراها أمك!
ضحكت أرجوان وهي تُصفّق بيدها : برافو عليك ... يعني أبوي مثلًا ماهو أبوك!
شتت جيهان نظراتها قبل أن تُغمض عينيها بأسى، وتلك بدأت بالإستغفار وهي تعاتب نفسها على كلامها ذاك، قبل أن تقفَ وهي تلفظ بحدة : الله يسامحك كانك خليتيني أتكلم غلط ... الله يرحمها بس
تحركت تنوي الذهاب بعد أن كانت قد جاءت لتطمئن عليها وتُحادثها لوقت، لكنّهما في النهايـة عادتا لأصل المُشكلة التي أنشأت كل هذه التذبذبات في حياتهم، عادتا للخطأ الذي حصل وما أودى بحياتهما للجحيم، لـذا ستخرج قبل أن تقول مالا يليق وقبل أن تُخطئ ويزلّ لسانها بالحقيقة.
حالما رأت جيهان أختها تذهب هتفت بسرعة : لوين؟ ما ودك تجلسين معي شوي والا صرت بالنسبة لك ولا شيء بعد؟
توقفت أرجوان مُديرةً لها ظهرها وهي تزفر : أبوي ماكان اعتباره لك ولاشيء! هو بس كانت نيته ترتاحين مع فواز لو مو معاه
ابتسمت جيهان بسخرية : واضح
استدارت إليها أرجوان بعنف : جيهااان ، لا تخلينا نعلط على بعض هاه!
جيهان بدفاع : أنا ما غلطت! أنتِ اللي من صغرك تميلين لأبوي أكثر عشان كذا تشوفين كل شيء يسويه صح
تأفأفت أرجوان بقلةِ حيلة وهي تهتف بعتب : لو بنظل كذا على طول فالأفضل أروح، جلوسي ماراح يفيدك بشيء بس بيبني فجوة بيننا
صمتت جيهان وهي تزمّ شفتيها بعبرة : يعني يهون عليك تركي وأنا في وسط حاجتي لك؟
أرجوان بعتاب : ويهون عليك تجازيني بهالطريقة وأنا اللي جيت لك؟
جيهان بصدق : خلاص والله ما بقول شيء عنه ولا بجيب سالفة اللي صار قبل ... بس أبي منك تجلسين ولو ربع ساعة، ربع ساعة بس
تنهدت وتلك النبرةُ أضعفتها، ثمّ عادت لتقترب منها وتجلس بجانبها وابتسامةٌ حنونة غلّفت شفتيها : طيب ... بجلس بس ماراح أتأخر لأني مضطرة أرجع للبيت بدري
,
كانت تجلس على مقعدها تتناول الطعام بوداعة، عناد يجلسُ مقابلًا لها ولا يفصل بينهما سوى الطاولةِ التي احتوت على بعض الأصناف من الطعام، أخفضت الملعقةَ وهي تنظر لوجه عناد الغارقِ في تفكيره وهو يأكل، وملعقتها بدأت بالتحرك عشوائيًا على الصحن وهي تفكر.
لمَ لازالت صامتة؟ لمَ لا تخبره وينتهي تجاهله لها؟ ولمَ تشعر بالخوف من تلكَ المدعوةِ سارة والتي ستتوقف نظراتها تلك وتوددها الغريب ما إن تُحدث أخاها ليوقفها عند حدها، توددها الغير مُطمئن، ومنذ أن دعتها لتحضر منزلها وهي قلقةٌ حتى أنها كانت تتجاهلها اليوم وتتجاهل إصرارها لتذهب. لكن هل ستتوقف بالتأكيد أم أنها لن تجلب سوى المشاكل دون أدنى فائـدة؟
تنهدت وهي تضع كفها على وجنتها بينما أسندت مرفقها على الطاولة، تنظر لعناد الذي رفع أنظاره لبرهةٍ إليها لتخفض هي ناظريها بسرعة. تشعر كما لو أنها قامت بجُرمٍ ما حين أغضبته منها، بل هي بالفعل قامت بهذا الجرم! هي بالفعل أخطأت وهي التي تعلم أن عناد إن غضب منها فلن يُكلمها حتى تُصحح ما فعلت، لـذا من الواجب أن تصحح خطأها وتتحدث، يجب عليها ذلك!
عادت لترفع نظراتها إليه لتراه قد أخفضها وعاد لأكله، ومن أسفل الطاولةِ مدت قدمها قليلًا حتى تصل لساقيه وتوكزه وكزةً خفيفة. حينها ارتفعت نظراته إليها بسرعةٍ لتبتسم ببراءةٍ وتودد، مُحركةً شفتيها دون صوت " أنا آسفة "
نظر إليها لثوانٍ، ومن ثمّ أخفض نظراته ببساطةٍ وعاد لأكله مُتجاهلًا إعتذارها وهو يقرأ في عينيها ما يُريد، كان يشعر بنظراتـها منذ البداية ويشعر بها في غمرة انشغالها بأفكارها، لكنه الآن تجاهل اعتذارها ذاك ليتأكد فقط من صدقها ومن اعتدالها حتى تبوح له بمشاكلها في الأيـامِ القادمة ولا تتردد.
عبست ما إن انتبهت لتجاهله وجمود ملامحه، لـذا عادت لوكزه في ساقه لكنّه في النهاية أبعد ساقيه عن مرماها.
تنهدت، ثمّ نظرت لوالدتها التي همّت بالنهوض، وبابتسامةٍ ودودة : شبعتي؟
ام عناد : الحمدلله
ذهبت امها لتنظر بسرعةٍ لعناد الذي همّ هو الآخر ليقوم، لكنها هتفت برجاء : عناد
اعتدل لينظر إليها بصمت، لتُردف : أنا آسفة
صمت للحظاتٍ يتصنع القسوة في ملامحه : لـ!
غيداء : لأني ما كنت صادقة معك ... والله العظيم ما كنت أقصد شيء الا إنّي أبعد عن المشاكل
أسند عناد مرفقه الأيمن على الطاولة وخدّه على كفّه اليُمنى، ثمّ هتف بجديـة : وأي مشاكل بتجيك قصدك؟ مين هي البنت تحديدًا عشان تجي منها المشاكل؟
أطرقت برأسها للحظاتٍ تُزيح ناظريها عنه، ليهتف هو بحزم : غيداء!
رفعت عينيها إليه بصمت، ليردف : شكلك كاذبة هالمرة بعد في اعتذارك، ليه ساكتة وكأن أحد ماسك لسانك؟
غيداء بتوترٍ لا تنظر إليه : لأنها تخوفني!
عناد يعقد حاجبيه : مين؟
غيداء وهي تفرك كفيها توترًا : بنت القاضي ... أحس نظراتها وكلامها معاي يخوفني منها!
ضوّق عناد عينيه وقد كان يشك منذ البداية في أنها هي ذاتها، ثمّ زمّ شفتيه حنقًا من فكرة أنّ فتاةً مثلها تقترب من أخته وتتحدث معها. هتف بحزم : وش تحكي فيه معك؟
غيداء : ما تحكي معي كثير، بس مرة مرة ... وهذا اللي مخوفني منها * بترددٍ أردفت * هي عازمتني يوم الخميس عندها
اتسعت عينيه للحظةٍ ثمّ أرخاهما : لأي مناسبة؟
هزّت غيداء كتفيها ليبدأ هو بالتفكير، لمَ قد تقوم فتاةٌ لا تعرف غيداء حق المعرفة وتظنّ بها شرًا بدعوتها لمنزلها؟ هي من القلّة اللذين يعلمون بما حدث لها، ومن القلّة اللذين ظنوا أنها فقدت عفتها.
داهمته الشكوك بهذا الموضوع، فكما هو معروفٌ بين بعض الناس فسارة تلك مشكوكٌ بأخلاقها التي تنافت مع أخلاق أبيها العامل في مجال القضاء، العادل والذي يخاف الله في نفسه فكيف اختلفت هذه الفتاة عن والدها؟
نظرت إليه غيداء بقلق : عناد .. للحين زعلان مني؟
نظر إليها يغتصب ابتسامة، ثم أمرها بالإقتراب منه لتنهض مُباشرةً وتتجه إليه.
عناد بابتسامةٍ عطوفة : نكمل الرضاوة ببوسة هنا وهنا * يُشير إلى وجنتيه *
ابتسمت غيداء بسعادةٍ وهي تهبط بشفتيها على وجنته اليُسرى ومن ثمّ اليُمنى وقد انزاح شيءٌ ما من على صدرها، بالرغم من كونها تخشى خطوة عناد القادمة وما سيفعل إلا أنها تثق به وتثق بجميع قراراتـه.
,
" إيش صار؟ "
" ليه طلعتي أمس واتصلتي اليوم بس ما التفتي لرسايلي حتى؟ "
" أسيل! عارف إنك متصلة لا تسوين فيها واو شلون يشوفني! "
" أسيل ، تراك قاعدة تتمادين كثير بتجاهلك، لا تظنين اني ساكت من زود طيبتي! بس أنا ساكت من قلة صبري بس "
" براحتك، لا تفتحين الرسايل ، وبعدين لا تقولين ليه سويت الشيء الفلاني من غير ما تعطيني خبر ... تراني جاي اليوم لك "
تيبّست وهي تقرأ رسائلهُ بعد نصفِ ساعةٍ من إرسالهِ لها، لم يعد متصلًا وكأنه دولةٌ هددت أخرى بالقصف واختفت فجأة، لا بل دولةٌ هددت قريةً صغيرة بقُنبلةٍ نووية لتُصبح الآن في ضجيجٍ داخلي دون أن تستطيع الهرب من حدودها بعد أن وضع جنوده حولها، يمنعون أهلها من الهرب حتى يحين وقت إبادتها.
أرسلت إليه باضطرابٍ ظهر في كلماتها التي كانت عاديّةً لكنها مفهومةٌ من قبل الطرفين : " بأي ساعة راح تجي؟ "
بعد لحظاتٍ كان مُتصلًا، فتح الرسالةَ وقرأها وقد كان أفضل منها، حين أنه قرأها في وقتها، لكنه لم يرد!
عضت طرف شفتها وهي تعودُ لترسل إليه : " شاهين رد علي أرجوك "
تجاهل الرد أيضًا، لتتنهد بارتباكٍ وهي لا تريد قدومه، لا تريده أن يجيء إليها، لا تريد أن تراه فهي تخشى أن تكون بقربه بعد مقابلتهما الأخيرة، لا بل تخشى أن تكُونَ قربه منذ بدايةِ ارتباطهما.
شدّت على الهاتف بعد أن رأته قد خرج، ثمّ أغمضت عينيها بقوةٍ وهي تتوسل نفسها أن لا تقلق، تتوسل الهاتف أن يكُون كاذبًا، تتوسل " الواتس أب " أن يكون هرمًا أو أُصيب بالزهايمر، تتوسل أناملها لو لم تُحدثه البارحة، تتوسله هو ... ألا يجيء.
فهي عجوزٌ في منتصف العقد الثالث من عمرها، عجوزٌ لم تتجاوز العشرينيات، لم تصلْ للرقم ثلاثين وقد أهلكها وتجعّد قلبها بزوجٍ رحل وفقدته، هرِم عقلها بذكرياتٍ لازالت تترسب على سطح مركز الذاكرة، بل على عقلها أجمع، سقطَ بهاءُ شبابها بفقدها إكسير الحياة المُسمى - متعب -، وما أعنفه من فقد.
بينما شاهين، لازال شابًا في العقد الرابع، لا تستحقه إطلاقًا، لا تستحقه لأنّها أحبت وانتهت ومن تستحق شابًا مثل شاهين يجب أن تكُون صبيّةً حسناء لا عجوزٌ هرمةٌ مثلها. صبيّةٌ لم يسبق لها الحُب.
,
الثامنةُ مساءً
جلس بجانبها وهو يُلاحظ تحسّن مزاجها بعد أن قابلت أرجوان ومن ثمّ ليان حينَ عودتـه بها، وجهها الآن مُشعٌّ بدرجةٍ أفضل من ذي قبل، وابتعادها عنهم كان له دورٌ عظيمٌ في تقلّبِ مزاجها وضيقها الدائم.
أمسكَ بكفها اليُسرى وهو يهمس : جاهزة؟
كانت تنظر للأرض ببعض الراحـة، تحدثت مع أرجوان لساعةٍ ربما ومن ثمّ ذهبت، بقيت لساعاتٍ وحيدة وفواز قد تركها لبعض الوقت بمفردها، لكنها بالرغم من ذلك لم تشعر إطلاقًا بأيّ وحدةٍ فحديثها الذي كان بمثابـِة فضفضة أراحها جدًا، وكأن الأحاسيس السلبية كانت مُتمركزةً في الأحرف فقط، في عضلةِ لسانها وحين أطلقت تلك الأحرف شعرت بالراحةِ التامة.
والآن ما إن أمسك فواز بيدها وقال ما قال حتى تغيّر مزاجها مائةً وثمانين درجة، لمَ لازال يصرّ على جنونها؟ لمَ لازال يراها بتلك الصورة الغيرِ مرغوبة؟ ... وجّهت نظراتها إليه مُقطبة الجبين بضيقٍ وانزعاج، ومن ثم هتفت بحدة : قلت لك ماني مجنونة ليه مو راضي تفهم!!
رفع حاجبيه وهو يشدّ على كفها : وأنا قد قلت لك غصبًا عنك بتسوين اللي قلته!
عقدت حاجبيها بنفورٍ وهي تسحب يدها منه، ومن ثمّ وقفت بعنفٍ وهي تلفظ بعنفٍ أشد : انت ليه تعاقبني بهالطريقة؟ شسويت لك؟؟؟
فواز بصوتٍ متفاجئ : أعاقبك؟ تشوفين العلاج عقاب؟؟
صرخت جيهان بانفعال : ايه عقاب ... عقاب لو كان بدون بلاء
وقف هو الآخر ليقبض على عضدها ويسحبها معه باتجاه الحمام، ووجهه مُتجعدٌ بغضب، وحين رأت جيهان ملامحه وتصرفـه هذا خافت وشكّت بجنونه هو : فوااااز! وش بتسوي؟
لم يرد عليها فواز وهو يفتح باب الحمام ومن ثمّ يتجه للمغسلة ليفتح صنبور الماء.
خافت جيهان أكثر وقد صوّر لها عقلها أنه سيقتلها، لذا هتفت بأنفاسٍ ضيّقة : جنيت؟؟؟
فواز بحدة : ايه جنيت .... امسحي وجهك يلا!
تراجعت للخلف قليلًا وهي تُقطّب جبينها دون فهم، لكنّ يده كانت أقوى ليُعيدها إليه حتى اصتدمت به، وبحزم : قلت امسحي وجهك ... والا أقول حطي راسك كلَّه تحت المويا، بسرعة!
فغرت شفتيها وهي تتنفس بسرعةٍ وانفعالٌ داهمها حين فهمت ما يريد من فتح الماء البارد وأمره هذا. وبحنقٍ شدّت على أسنانها : حط راسك انت لأنك المنفعل بيننا مو أنـا، النـار قاعدة تشب من راسك
فواز بأمر : قلت حطي راسك تحت مويا
صرخت جيهان بقهر : لا ماني حاطته وانقلع من وجهي
أمسك فواز بفكها وهو يقرب وجهها من مجرى تدفق المـاء، بينما كانت تقاومه بضراوةٍ لكنه كان أقوى. حتى وضع رأسـها أخيرًا تحت الماء لتشهقَ بقوةٍ وهي تشعر بالبرودة التي هاجمت رأسها، وفي تلك اللحظة انسحبت يدهُ واستقرت هي برأسها والمـاءُ يهاجمها ليِبلل خصلاتِ شعرها حتى وصل إلى صدرها.
ابتعد فواز عنها وهو يسحب إحدى المناشف المُعلقة، ومن ثمّ اقترب بملامحَ جامدةٍ ليسحبها إليه في غمرةِ سكونها جسديًا وصوتيًا، ليلفّ المنشفة المتوسطة في الحجم على رأسها ويُغطى جزءً من عنقها وصدرها.
انتفضت جيهان حين لامست دفء يده أمام البرودةِ التي تستحلّ جسدها في هذه الأثناء، وجسدها ساكنٌ تمامًا كما عينيها المُتمركزتان في الفراغ، تمامًا كفراغ روحها من أيّ شيء، كفراغ شفتيها من الإبتسامةِ الحقيقية، كفراغ حدقيتها من اللمعان بسعادة.
إنـها خاويةٌ تمامًا، فارغةٌ من كلّ أمرٍ إيجابيٍّ ولا تسكنها سوى السلبيات التي هي في أصلها خواءْ! إنها ككُرةٍ مُصمتة لا تحوِي شيئًا، كورقةٍ يابسةٍ سقطت وانتهى أمرها، كخريفٍ فرض تواجدهُ ووعد بعدم الرحيل والإستوطانِ فيها ... إنها فارغة، فارغةٌ من كل شيء!
جذبها فواز إليه وهو يرى نظرةَ البؤس في عينيها، ومن ثمّ احتضنها بين ذراعيه هامسًا بشيءٍ من الحزم : بتصل عليه الحين واسمعي له على الأقل ... مو لازم تتكلمين
لم تُبدي أيّ حركةٍ للحظاتٍ وهي تشعر أنها مُنتهيةٌ تمامًا وعيناها تستعدان للبكاء، ليست مجنونة، ليست مجنونة، تريد أن تقسم له لكنه يرفضُ تصديقها، تريد أن تُخبره بذلك لكنه يصرّ على رأيـه، لكن لمَ تبالي إلى هذا الحد؟ لمَ تحزن لهذه النظرةِ التي يراها بها؟ أليست " منتهية وخالصة "؟ إذن لمَ كل ذلك الدفاع عن مجد عقلها؟ لمَ كل تلك الأسلحةِ اللسانية التي توجهها إليه لتجعله يُصدق!
لقـد انتهت منذ زمن، انتهت وما عاد هناك أملٌ في رجوعها، ما عاد هناك أمل لتجد نفسها من جديدٍ تحت ذلك الحطام الذي دفنها أسفله.
أومأت برأسها بنظرةٍ كالأموات، لتظهر على شفتيه طيف ابتسامةٍ وهو يشدها إليه أكثر وبللها ينتقل إليه : لمصلحتك ... صدقيني لمصلحتك ... من يومي أفكر بمصلحتك، مصلحتك قبلي أنا وقبل الكل
*
" وش سويت في البنت؟ تكلم وش سويت فيها؟ " .. صرخةٌ انسابت إلى أذنيه وهو يقف أمامها كالصنمِ لا يتحرك، وتلك تشدّ على ياقةِ ثوبهِ تُكمل صراخها عليه تارةً، ومن ثمّ على الأخرى تارة : وانتِ! يا مسودة الوجه شلون؟ شلون رضيتيها على نفسك؟
صرخ فواز وهو يرها تُهاجم بلسانها جيهان التي كانت تبكي بعنف : يمه خلاص! قلت لك أخذتها للمستشفى لأنها كانت تعبانـة ... ليه قاعدة تقذفينا الحين؟؟؟
ام فواز بحدةٍ وهي تشير إليه بإصبعها ومن ثم إلى جيهان : كذاب .. كذاب ... كنت طالع وياها، اعترف ماني غبية * اقتربت من جيهان لتشدّ على خمارها الذي كان على كتفيها بعد أن خلعته أم فواز عن رأسها حين دخولهما * شايف شكلها؟ شايف اللي أشوفه؟ تظنني غبية ما أفهم! أنا مرة وأفهم منك ومنها ... كل شيء واضح يا فواز ، كل شيء واضح
عضّ على طرفِ شفته بغضب، وحينَ همّ بالحديث تكلمت جيهان بضعف : والله ماكنا طالعين مع بعض ... كنت ... كنت تعبانة، وأمي كانت عند أهلها، وأبوي والبقية راحوا يتمشون بس أنا رفضت
وبرجاءٍ أردفت : صدقيني كنت تعبانة بس وهو أخذني للمستشفى لما جاء قبلكم ولقاني طايحة.
ام فواز بحدة : تلعبين علي أنتِ؟
تكلمت أسيل التي كانت معها وهي تُمسك بكفها هاتفة : اسمعي منهم السالفة ، لا تحكمين عليهم من نظرة!
ام فواز بعنفٍ وهي تسحب يدها : ما راح أسمع منهم ... بعد اللي شفته وشلون بصدق قولي لي؟ وشلون بصدق؟
,
دخلت غُرفتَه المُظلمة والباردة، لتفتح الأنوار بحنقٍ ومن ثم تتجه لسريره وهي في ذروةِ غضبها منه.
سحبت اللحاف عنه لتصرخ باسمه بغضب : أدهـــم
انكمش جسد أدهم وهو يشعر بالبرد يهاجم عظامه بعد أن سحبت منه اللحاف، ثمّ مدّ يده في الهواء يُريد منها أن تُناوله اللحاف، هاتفًا بصوتٍ مُشبعٍ ببحةِ النوم : عمتي سهى ... هاتيـ مممم
سهى بغضب : مالت على شكلك يا المهمل ، قوم صلى يلا
أردفت بصوتٍ عالٍ : اربعة فروض! أربعة فروض يا أدهم اتقي ربك!!
تأفأف أدهم : يووووه ، بصليها لا قمت اتركيني
سهى بحدة : لا ماني تاركتك ... مين بالله اللي ينام الظهر؟ نومك خايس مثل وجهك قوم صلى
تأفأف من جديدٍ وهو يرفع الوسادةَ ليُغطي بها رأسه بعد أن انبطح على بطنه، لكنها بجنونِ الغضب المُتمركزِ بها في تلك الأثناء سحبت الوسادة التي على رأسه ومن ثمّ المُتناثرةِ حوله بغضبٍ عارم لترميها في الأرض، صارخة : قوووووم ياللي جامع صلاته له يومين ... قوم يا حمار قوووم .... اي صلاة ذي بالله؟
أدهم بمللٍ وصوتٍ مبحوح : أعوذ بالله
سهى بحدة : أعوذ بالله منك ومن شيطانك! ... ولك وجه تذكر اسم الله وانت ما تصلي؟
جلس أدهم عابس الوجه، وملامحه لازالت مُنتفخةً بنومه، وبملل : ومين قال ما أصلي
أشارت سهى لعينيها : عيوني
تأفأف للمرةِ الثالثة وهو ينهض من سريره بعنف، وبقهر : خلاص قمت ارتاحي .. بصلي .... اوووووف
سهى بحدة : منك
تجاهلها أدهم وهو عابس الوجه ليتجه للحمام، هذه عادةٌ غلفته، يصلي حين يُصادف أن يكون غير مشغولًا، ينام عن الصلوات وحين ينهض قد يصليها وقد لا يصليها!
سهى بحلطمة : الولد خربان .... خرباااااان
,
ضرَب جرس البابِ بعنفِ المشاعر التي تختلجه في هذه الأثناء، ما بين حقدٍ وحنق، وما بين رغبةٍ في القتل، وكم يتمنى لو أن رغبته تلك بسيطةٌ ليُحققها دون أن يرفّ جفنه، كم يتمنى لو أنّ ما بين أضلعِه مجرد حجرٍ لا يستصعب القتل.
زفرَ بقلّة صبرٍ ينتظر، واقفًا أمام بابِ البيت الخارجي الذي أُغلق لسنواتٍ حتى يكون صاحبهُ بجواره يتصنع الرغبة في البقاءِ في منزل أخيه الراحل، والذي لم يُقتل الا بفعلِ يديه! كثعلبٍ ماكرٍ تصنّع شكل البشر ليدخل بينهم ويقضي على سعادتهم أجمع! كسنواتِ قحطٍ أصابت الناس بالبؤس والضياع.
انتظر، إلى أن سمع صوتًا رجوليًا من السماعة الجانبية : مين؟
ظهر على وجهه الجمود، وهو يرفع صوته ليرد بثقةٍ عارمـة : سلطان النامي
الرجل : لحظة طال عمرك بآخذ لك الإذن
اختفى الصوت لدقائقَ وهو يقف في مكانه وجمودُ ملامحِه انعكس على جميع حواسَه، والدقائق تلك مرّت كعام، والعام كعقد، والعقدُ كقرن! الإنتظار باتَ بائسًا كما عينيه اللتين انخفض بريقهما إلى أن أصبحتا على بعدُ خطوةٍ من العُتمة، كالعتمةِ التي يسكُن فيها قلبه، ينتظر ولو بصيصَ نورٍ يتحول بعد مدةٍ إلى بريقٍ خارق.
انساب صوتُ فتحِ الباب، ليفيق ويرسم الحدة في ملامحه، وفي خلال لحظاتٍ كانت قدماه تتحركانِ بثقةٍ حتى وصلت للباب الداخلي الذي كان مفتوحًا له.
دخل المنزل الذي يحفظ ممراته جيدًا، هذا المنزل الباذخ الذي لا يُمثل إلا صاحبه، هذا المنزل القبيح في عينيه الذي لا يُمثل الا مالكه.
انساب إلى أذنه صوت سلمان الذي كان يجلس في الصالةِ ينتظر قدومه، وقد كان وقتها يُحدث شخصًا في الهاتف بثقة : خلاص ، علمتك بتوصلك بقية الشحنة خلال هالأسبوع ... وأعتذر منك مرة ثانية لتأخري، بس انت داري باحتراق المستودع
ابتسمَ بخفةٍ مُردفًا : شكرًا لثقتك
أغلق وابتسامته تحوّلت لأخرى ذاتَ مغزى، بينما كان سلطان خلفه، ينظر إليه ببرودٍ قاتل : حيّ الله سلطان
تحرك سلطان خطواتٍ متناغمة وهو لا يرى منه سوى خلفِه، وحين قابله وجهًا لوجه نظر في عمق عيني سلمان كذئبٍ لا يرَى سوى جنيٍّ أمامه، يريد أن يلتهمه بإي ثمن، يريد أن يمزقه بأي ثمن!
,
منذ البارحَة لم يتوقف رنين الهاتف، كانت تتجاهل وتتجاهل، وتُدركُ ما سيصيبها فيما بعد لهذا التجاهل، وبالرغم من خوفها إلا أنها تلبست بالحدةِ والقوةِ الزائفة وبعنادها المُعتاد والزائف، تناقضٌ يعيشه ظاهرها وباطنها، فهي في داخلها خائفةٌ وفي ظاهرها ترفض الإنصياع.
وصلتها في النهايـةِ رسالةٌ منه، كلماتٌ انسابت بغضبٍ استشعرته من الأحرف التي التبس بعضها بغيرها، وقد كان كاتبًا بالحرف الواحد " عزل رذي لاتنرفز يني "
من طريقة الكتابةِ الخاطئـة ادركت أنه كان مُستعجلًا وهو يخطّ تلك الرسالة بأصابعَ مُنفعلة، وبالرغم من اهتزازها داخليًا رعبًا وخوفًا منه إلا أنها لم ترد، لم ترد وهي تعلم أنه لو غضب منها فلن تجد درعًا يحميها بينها وبينه، حتى المُسمى زوجها لن يُنقذها، لن يُنقذها ممن انصاعت لاقتراحـه منذ البدايةِ حمايةً لعارها - كما أسلف -، والذي اعتادت أن تسرد له كلّ تفاصيلها كما فرض عليها في كلّ يومٍ منذ أن انطلقت في حياةٍ يُقال أنها زوجية بانصياعٍ مذعور.
غرل بهمسٍ مُرتعش : ما برد ، مليت منك ، ما برد
كانت ترتعش بشدةٍ وقد ملّت هذا الدور الوديع والمُثير للشفقة، ليتها لم تتزوج، ليتها لم توافق وفضّلت الفضيحة التي كانت ستلحق بها على أن تكون في هذا الوضع فقط لأنها زوجة سلطان. إنّه ليومٌ كئيبٌ ذاك الذي أعلنت فيهِ الموافقة على سلطان زوجًا، يومٌ كئيبٌ حين لم تفكر في أنه ولد " الفهد " لتُدرك ما معنى ذلك بعد الذي حدث وانتهائها كفتاةٍ غير مُلائمةٍ للزواج ومن ثمّ ذلك الإقتراح حتى تُستر.
زمّت شفتيها لتنهض، ثمّ نظرت للهاتف وجنونٌ اعتراها يأمرها بتهورٍ أن تُغلق هاتفها نهائيًا لتقع المُصيبَة على رأسها ويقتلها!
تراجعت عن جنونها ذاك، ثمّ وقفت وهي تترنح كأنها سكيرٌ في ليلةٍ مُظلمة، تشعر بالوهن لشدة اهمالها لغذائها، فهي بالرغم من كون سلطان قد وفّر لها كل ما قد تحتاجه إلا أنها وإن أكلت فهي لا تأكل الا القليل.
تنهدت وهي تخرج من الغرفـة، ثم اتجهت للمطبخ تنوي شرب بعض الماء، لتتوقف أمام الثلاجة وتفتح بابها مُتناولةً قنينةَ ماء.
وفي غمرةِ ارتوائها كان جسدٌ رجوليٍّ يقف خلفها، وصوته ارتفع بغضبٍ يُماثل شرّ عينيه في حجمه : القطو دايم يطلع خشخشة لا صار في المطبخ
شهقت بقوةٍ والقنينة سقطت من كفها، وبسرعةٍ استدارت إليه وصدرها ارتفع بشهيقها دون أن يهبط بالزفير، ضاع الزفير كما ضاعت نظرتها الحزينة تلك بنظرةِ رُعبها وصدمتها الحالية، ضاع الزفير تحت وطأة الشهيق، وعينيها تتسعان لمرآه، كيف أصبح فجأةً أمامها!!!
همست دون تصديق : شلون .. شـ لون دخلت؟
رفع احدى حاجبيه بقسوةٍ وهو يهتف بغضبه الدائم الذي تراه به دون أن ينحل عن كلماتهِ وعينيهِ حتى يديه! رافعًا مفتاحًا تدلى بين سبابته وإبهامه : مفتاح احتياطي ، وشوية فلوس ... وتصير الدنيا تمام
والحين يا مدام سلطان .... ليه ما كنتِ تردين على الجوال وأنا اللي كنت منبهك؟؟
.
.
.
انــتــهــى
* مقتطفات من الجزء القادم
كانت تقول دائمًا أن دموعها هي الشيء الوحيد الذي لم يخُنها بعد، لم يخُنها لتبقى بكبرياءِ عينيها اللتين لا تبكيان، لكن ماذا إن هي احتاجت تلك الدموع بالفعل؟ لمَ تخذلها كما خذلها كل شيء؟ لمَ تخذُلها دموعها دون أن تقوم بخيانتها؟
،
ارتخت أجفان سلمان فجأةً وهو يهمس دون تعبيرٍ مقروء : يدك صايرة طويلة
+ بنرجع لموعدنا السابق وهو يوم الخميس
فانتظروني
لا تحرموني من طيب دعواتكم
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|