كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر
(21)
الواحدة ظهرًا.
دخل البيت بخطواتٍ مُرهقة، وملامحه ترسمُ الإرهاق بعينه، وهاهو يعودُ للبيتِ الخاوي بعد أن كان في الأيامِ السابقة ينام في الخارج، في أيّ شقةٍ وإن كانت قذرة! المهم فقط ألا يعود، ألا يعود .... ويرى الوحدةَ ترتسم في سكون المنزل، في صوتِ الرياح التي تعبر صدره فقط، بعد أن غاب صدر والده الذي على الأحرى لا يستحق لقب " الأب ".
إنّ الفقد يكمن عند البعض في الشعور بالوحدة بعد موت الشخص وليس لموته!
طيلةَ الأيامِ التي عاشها فيها والدهُ لم يشعر بوجوده أصلًا، لكنه أيضًا لم يكن يشعر بالوحدة! لم يكن يهتم كثيرًا لو نام والده في المنزل أم أنه لا زال يتسكع خارجًا مع رفاقِ السوء. إلا في بعض اللحظات الخائنـة! بعض اللحظات التي يُصبح فيها على سريره مُستعدًا للنوم، مُتأملًا، مُتأملًا .... إلى أن يشعر أن هناك ما ينقص في هذا البيتِ الكئيب!
لكنه بعد أن مات والده، بعد أن رحل، شعر بالفقد والوحدة لأنه سينام في الأيام التاليةِ وحيدًا، دون أن يُفكر في بعض اللحظات هل نام والده في المنزل أم لا!
ضغط على صدغه وهو يشعر بصداعٍ يخترق رأسه لفقدانه النوم بأريحية، وبالرغم من شعوره بالوحدة الآن، وبالألم من جهةٍ أخرى بسبب رأسه ... إلا أن الغضب في صدرهِ كان أعنف. يتمنى لو يستطيع الإمسك بذاك الخالد وسحق عنقه بين قبضتيه.
في البارحة وبعد ذاك الشجار سُحب للشرطة بالفعل بعد استدعائـه، كان خالد قد اشتكى عليه ولحسن حظ خالد وسوءِ حظه هو أن كانت كل الظروف في صالحه، فهو ضربَ لكن لم يُضرب من قبله، والشهود كثير.
لذا أُجبر على توقيع مُعاهدةٍ بعدم إيذائه مرةً أخرى وقد كان جيدًا أن الأمر توقف عند هذا الحد، لا بل ليس جيدًا! فهو قد أدرك مقصد خالد من كل ذلك، كانت نيته فقط هي إهانته لا غير، وقد نجح.
عضّ شفته وهو يُطلق شتيمةً ما من بين شفتيه، ثمّ تحرك صاعدًا لكنّ صوتًا ما صدر من المطبخ ليتوقف وهو يُقطب حاجبيه، من سيكون هنا يا تُرى!!!
توجّس تفكيره، وقدماه اتجهتا للمطبخ مُباشرةً لينظر ما قصة هذا الصوت؟ رُبما تكون قطة، لكن لربما لا تكون!
دخل المطبخ مُندفعًا، ليُجفل واقفًا وهو يرى جسدَ امرأةٍ تقف أمام المغسلة وتنظف الصحون القليلة التي تراكمت هنا قبل أسابيع، وقلّتها أكبر دليلٍ على عدم سكن أصحاب البيت الدائم فيه، بقي واقفًا للحظاتٍ وعقله لم يستوعب من تكون هذه التي تُديره ظهرها و" آيشارب " ليمونيٌّ شفاف التفّ على رأسها.
كانت تغسل بصمت، بتفكيرٍ عميقٍ وملامحها خطّت معالم الحزن، وحين تحرك خطوةً فاضحةً من خلفها فُجعت لتستدير بسرعةٍ وهي تضع كفّها على صدرها.
اتسعت عيناه وهو يرى ملامح ليست غريبةً عنه، ملامح لم تتغيّر إلا قليلًا لتُظهر فقط عُمر صاحبتها التي ناهزت الثلاثين، وشفتيه بدورهما تحركتا دون صوت، دون استيعاب
عـــمـــتـــي سُـــهـــى!!!
أمّا هي الأخرى فلم تنتظر كثيرًا لتستوعب من الواقف أمامها، وكيف لها ألّا تعرف من ترعرت معه وكانت له الأخت قبل أن تكون العمة؟ كيف لها ألّا تعرف من حاربت عائلتها لتأتيه وتقف معه؟
اندفعت بسرعةٍ إليه وهي تلفظُ اسمه من بين شفتيها بخفوتٍ مُعذب، تُطوّق وجهه بكفيها و " الآيشارب " انسحب عن شعرها إلى كتفيها ثمّ إلى الأرض، تستطيل على أصابع قدميها العاريتين لتستطيع الوصول إلى طوله الذي يسبقها بمراتٍ حتى تُقبل وجنتيه، ثم جبينه وأخيرًا عينيه الشبيهتين بعينيها.
أطالت في تقبيل عينه اليُسرى ودمعها يسبق نحيبها في السقوط، يسبق مقدار الحُزن والخيبة.
بينما هو كان واقفًا، مُجفلًا لا يستوعب ما أمامه، يشعر بقبلاتها الحنون ولا يردّ بشيءٍ يُثبت أنه يراها.
وأخيرًا استيقظ على صوتها الباكي، على عتابها وهي لا تزال تُمسك بوجهه : كِذا يا ولد أخوي؟ كذا يا أدهم تقطعني ولا تسأل عني؟
ازدرد ريقه وهو يُشتت نظراته عنها، ثم بعد لحظتين أعادها لوجهها حتى يتأكد، أهــي بالفعل أمامه؟ أم أنّ وحدته جعلته يتخيّل أشياءً ليست حقيقية! أمنياته تجعل عقله يُصوّر له ماليس بأمامه!
همس بغصّةٍ مُتسائلًا، يريد التأكدَ أنها بالفعل هي وعيناه لا تتوهمان، بصوتٍ مُثيرٍ للشفقة هزّ أعماقها : عمتي سُهى ... هذي من جد انتِ؟؟؟
زمّت شفتيها قبل أن تهمس بشبح ابتسامة : اي هذي أنا ... عمتك سهى يا القاطع
أدهم دون استيعاب : بس ، بس شلون ... شلون جيتي وأنتِ ...
قاطعته حين فهمت ما يعنيه : جدك كان رافض بس أنا جيت بالغصب ، مو من حقهم أبدًا يتركون حفيدهم بسبب أفعال أبوه
أخفضت عيناها بحزنٍ هامسة : واللي مقطع قلبي أكثر ، إن ولدهم مات وهم ما مشوا في جنازته ... يا قو قلبهم شلون قدروا؟؟؟
أدار رأسه عنها وهو يُغمض عينيه، كان قد أرسل إلى جدهِ من باب التبليغ فقط، كان يعلم أنّ أحدًا منهم لن يأتي للصلاة على ابنهم السكير والمُخزي لهم كابن!
لكن ذلك موجع، موجعٌ حدّ النخاع، كيف كان لجده كلّ تلك القسوة حتى يترك ابنه؟ كيف كان له ذاك القلب الصقيعي حتى في موت ابنه؟
رفرفت سهى بعينيها حُزنًا قبل أن تهمس : تدري ، مع إنّ أبوي كان قاسي يوم رفض يجي، بس كان يبكي كل يوم قبل لا ينام!
رفع أدهم حاجبيه غضبًا وهو ينظر إليها : ربي يجزيه بالخير سوّى اللي عليه وزود!
نظرت إليه سهى بعتاب : لا تقول كذا يا أدهم، هو رفض يجي بس ما رفض يدفنه! الذنب على محمد ما رضى يقول له بموت أخوي، وما درى إلا بعد ما اندفن
قطّب أدهم جبينه : عمي محمد؟ بس أنا أرسلت لجدي
سهى : وجدك تعرفه ما يعرف يقرا، عشان كذا خلى محمد يقرا له وياليتني كنت بهذاك الوقت جنبه عشان اقرا له أنا
شفت قسوة عمك؟ سكت وما بلغ أبوي الا بعد ما اندفن
أظلم وجه أدهم وهو ينظر للفراغ، ما كلّ هذا الحقد؟ ما كلّ هذا الكره؟ كيف لأخٍ أن يقوم بكل هذا لأجلِ امرأةٍ لم يحصل عليها؟؟؟
أكملت سهى بحسرة : يا ليتك شفت أبوي بعد ما درى، قوّم الدنيا ولا قعدها، شلون رضى محمد يسكت ولا يتكلم؟ ظل متحسر ويوم قلت له خلنا نروح على الأقل لأدهم وعشان العزى رفض من شدة قهره ... قال يكفي يستقبل المعزين في بيته
التوت زاوية فمه بسخرية : هه .. ماني محتاج وقفته
استدار عنها ينوي الذهاب، لكنّ يدها امتدت لتمسك بزنده وتهتف عاتبة : وش هالقسوة يا أدهم؟ ترى جدك ما كان القاطع بس أبوك هو القاطع وانت أدرى بعناد عبدالله
وبعدين هذا استقبال بالله؟ تدري كم صار لي يوم هنا؟ .. صاير لي يومين وأنا بروحي منتظرة رجعتك، حتى رقمك اللي غيرته ما عطيتني هو! ولو إنّي ما كنت عارفة عادتك بدسّ المفتاح الإحطياتي تحت مفرش الباب ما كنت دخلت.
جايب هالقساوة من وين؟؟ أنا وش ذنبي عشان تتجاهلني وتقطعني؟
لم ينظر لوجهها بتاتًا، ويدهُ تيبّست تحت كفها المُتشبثة بِه، وذكرياتٌ تصاعد مداها في عقله لتُهيّض حزنه بوحدتهِ مُجددًا، لتُشعره بالأسى ولا شيء سوى الأسى.
تقدّمت لتقف أمامه، ثمّ ابتسمت وهي تُمرر سبابتها على جُرحٍ صغيرٍ بجانب حاجبه : ما تترك عادتك من كنت صغير ، بس تتهاوش مع خلق ربِي ولا تهتم بالعواقب
اتسعت ابتسامتها لتُردف مُحاولةً إخراج نظرة الحُزن من عينيه : وبعدين وش هالتكشيرة؟ وجهك مخيّس من غير ماله داعي تخيسه زيادة
رُغمًا عنه ابتسم وهو يرفع حاجبه الأيمن، ثمّ رفع سبابته ليضعها أمام عينها اليُمنى : وانتِ عيونك لازالت صغيرة! متى بتكبر بالله؟؟
عضّت طرف شفتيها بغيظٍ ولطالما كانت هذه الجُملة تستفزها : تراها نفس عيونك
أدهم بتداركٍ يُصحح لها وهو يبتسم : مع اختلاف بالحجم
سهى : اختلاف بسيط
أدهم : بس تبقى عيوني هي الأحلى
سهى بغيظ : من زينها
ضحك أدهم بخفوتٍ وهو يرد : تراها نفس عيونك
رفعت حاجبيها وهي تهزّ رأسها بالإيجاب : مع اختلاف بالحجم
ردّ أدهم بعد موجةِ ضحكةٍ هاجمته : خلاص غلبتيني
ابتسمت سهى برقة، ثمّ أمالت حاجبيها وهي تهمس بحنين : ملامحك ، لازالت هي نفسها من كنت صغير ، قاسية تشبه ملامح عبدالله!
اختفت ابتسامته وهو يتنهد بعمقِ التأثُرِ الذي يواتيه، لطالما كان يتمنى في صغره لو أنه كان يُشبه أمه التي لا يعرف عنها الا صورة! صورةٌ تحتضن ملامح أُنثى جميلةٍ بعينين خضراوين وشعرٍ بُنيٍّ شديد النعومةِ والجمال.
أمه الذي ترعرع خلف كذبة موتها، أمه التي لم يعرف عنها شيئـًا سوى صورتها حتى كبِر وأدرك الحقيقة من فم والده نفسه، وقد قال له بقسوةٍ ذات يوم " أنت بالنسبة لناس ابن غير شرعي "!!!
أغمض عينيه بقوة وهو يتفكر بأمه التي لا يحمل تجاهها أيّ مشاعر ملموسةٍ سوى أنها أمه ومن الفطرة أن تكون شخصًا استثنائيًا، لـم يُكن ذنبها أن تلاعب والده بها وتزوجها بطريقةٍ خاطئـة لينكرها في لحظة! ولم يكن من المُنصف أن يكُون هو نتيجةَ هذا الزواج حتى يحمل الذنب، حتى يعبر الإتهام جسده ولا يتجاوزه.
تنهد بضيق، ثم رفع ناظريه إلى ملامحها ليُحاول تغيير مجرى هذا الموضوع الذي يصدّ دفاعات روحه النازفة : طيب وش جايبك الحين للمطبخ ... تعالي نطلع برى نسولف على رواق
سهى برفعةِ حاجب : المطبخ مكتوم وفيه مجموعة مواعين واضح إنّ لها فوق الشهر ... واضح إن البيت بيتك! عشان كذا بنتهي من اللي بقى وانت روح نام ، واضح على وجهك التعب
ابتسم ابتسامةً تكادُ لا تُرى، يا الله، إنها لازالت كما هي، تفهمه من تعابيره، لا زالت تُدركُ أدقّ تفاصيله، لم يؤثر بها البُعد ولا الفارق الزمني بين آخر لقاءٍ بينهما، لم يؤثر بها الطريق الذي امتد بينهما كما يعتقد أنه لربما أثر به!
همس : زين حسيتي فيني لأني خجلت أتركك الحين وأنام ... يلا باي
ابتعد مُباشرةً خارجًا من المطبخ لتضحك بخفوتٍ وهي تهمس وسعادةٌ ما اجتاحتها برؤيته بعد غياب : واضح خجلان ... حتى انك ما صدقت خبر
,
دخلت وبرفقتها هديل، كانت هديل تُحدثها كثيرًا وهي لا ترد إلا بابتسامةٍ ثابتةٍ لا تحمل أدنى شعور، أو ترد ببضع كلماتٍ مُختصرة، ولم يكُن صعبًا على هديل أن تُلاحظ هذا البرود لكنها تلتمس لها العذر، وكيف لا تلتمس لها وهي ظُلمت من قبل والدتها سنين طوال!!
هتفت إلين بخفوتٍ بعد أن دخلت : بطلع أنام .. ما ودي بالغداء
هديل تُقطّب حاجبيها برفض : لا لا وشوله ما تاكلين شيء ... بتمشين معاي أكيد الغداء جاهز الحين والعالم منتظرينا
صمتت إلين بانزعاجٍ وهي لا ترغب بشيءٍ أبدًا، لكنها أومأت برأسها موافقةً دون أن تكون موافقةً في داخلها فعلًا، وكأنها باتت رجلًا آليًا ينصاع بسرعة.
ابتسمت هديل برقة : ولأني ما أثق في عبطك وعارفة إنك ممكن لما تطلعين تبدلين راح تفكرين تلعبين علي عشان كِذا بتاكلين وبعدين تبدلين
لم ترد إلين سوى أنها تحركت تجاه غُرفة الطعام ومن خلفها هديل التي تنهدت بضيقٍ لهذا البرود المُرهق، لكنها تبعتها بصمتٍ ولا رغبة لها في الضغط عليها.
ما إن دخلتا غُرفة الطعام حتى تراءى لأعينهمَا عبدالله الجالس في مقعده وعلى بعد مقعدين تجلس هالة بصمتٍ وملامح لا تُفسر.
وقفت إلين مكانها، وقد تغيّرت ملامحها مائةً وثمانين درجة وقدميها كادتا تتحركان لا شعوريًا لتخرج، لكن يد هديل كانت الأسرع لتقبض على معصمها وهي تبتسم : مساء الخير
انتبه لهما كلٍّ من عبدالله وهالة بعد أن كانا غارقين في تفكيرهما لصمتهما الذي سبقته شُحنةٌ لسانية قبل أن تكون من نوعٍ آخر.
ابتسم عبدالله وقد انتفخت أوداجه برؤيته لإلين : يا حيّ الله بنتي .. تعالي تعالي يا حبيبتي اجلسي جنبي
تكتفت هديل بغيظ : بدينا بحركات التفضيل
ورغمًا عن إلين ابتسمت شفتيها ابتسامةً تكاد لا تُرى ووجه عبدالله الباسم جعلها تخطو خطواتٍ مُتضائلـة لتجلس أخيرًا بجانبه.
هديل بعبوس : لنا الله بس
ثمّ تحركت تنوي الجلوس بجانب والدها من الجهة المُقابلة، لكنّها وما إن رأت ملامح أمها التي غطّاها البرود وهي لا تنظر لأيٍّ منهم شعرت وكأن سكين العطف غرس نصله في قلبها، ولم تكن رؤيتها بهذا الشكل وكأنها غريبةٌ بينهم سهلًا عليها لتتجاوزه، لم يكن من السهل ألّا يرفّ لها جفنٌ وهي تراها بهذا المنظارِ الموجِع لقلبها.
لذا غيّرت وجهتها لتجلس بجانب أمها وابتسامةٌ حنون غلّفت شفتيها، هاتفةً بخفوتٍ وبعض الدلال وهي تطوّق عضدها : شلون مامتي الحلوة
ابتسمت هالة دون تعبيرٍ وهي تُمرر أناملها على خُصلات شعر هديل المُتحررة من خمارها : الحمدلله بشوفتك ... ليه ما فسّختي عبايتك وبدلتي قبل؟
هزت هديل كتفيها : مافيه سبب بس كذا
بينما من الجهةِ الأخرى، كانت غصّةٌ قد هاجمت حُنجرتها جعلت حتى ابتلاعها لريقها صعبًا، تفهم شعور هديل ولا تلُومها، تفهم كيف هي العاطفةُ بين الأم وابنتها ولا عتب على هديل فيما تقترفه الآن في حقّ قلبها.
هي لم تفهم شعورَ الأمّ يومًا، لم تشعر بكلّ تلك العاطفة تجاه أمٍ لها، لم تبرق عيناها يومًا بقُربها من أمها، لكنها تُدرك جيدًا أن هذه العاطفة كافيةٌ لتكُون الأم في عيني الولد/الإبنة تستحق أنقى مُعاملةٍ وإن لم يكُن شخصها نقيًا، تستحق أن تكون ملكةً وهم عرشها وإن أخطأت يومًا في حق أحد أفراد الشعب!
,
: آآآآآه يا ربي
لفظت بذلك وهي ترمي بجسدها على أقرب أريكةٍ في الصالة وإرهاقها كافٍ ليسحق جسدها سحقًا.
والآخر دخل من خلفها وقد وصل إلى أذنيه صوت تأوهها ليبتسم ساخرًا : هذي ضريبة الشغل ... تحملي
نظرت إليه ثمّ صدت بصمتٍ ومنذ أن استيقظت وهي تتجاهل الرد عليه تمامًا بينما هو لم يُعر الموضوع أهمية. تحرك صاعدًا وبقيت هي جالسةً في مكانها تُمسد كفًا بأُخرى، وعبوس وجهها يُوازي بؤس تفكيرها، إنّ وضعهما وإن كان لبعض مثيلاتها من النساءِ لا يُطاق إلّا أنها ترى جمال حياتها به! وكم هي بائسةٌ بتفكيرها هذا، هي كالشكولاة وهو كالقهوةِ المرّة، بالرغم من اختلاف المذاق إلا أنهما معًا يتناسبان كما يتناسب السالب والموجب فينجذبان إلى بعضهما!
ازداد عبوسها بتفكيرها السخيف، ودّت لو تُقطع خُصلات شعرها لتفكيرها الدائم عنه، لبحثها دائمًا وأبدًا عن الأعذار لأجله في كل خطأ يقترفه، بالتكفير الدائم عن ذنوبه وانسلاخها من كبريائها لأجله.
تنهدت بضيق : طيب مين يكفّر عن ذنوبي في حق نفسي؟؟
زمّت شفتيها قبل أن تتجه كفها لمحور السعادة في جسدها، هامسةً له ببضع كلماتٍ حنون وهي تُمرر كفها ببطءٍ ورفقٍ وكأنها تخشى أن تؤذيه : راح تكون انت مو؟ ... أهم شيء لا تطلع على أبوك وتتعب مرتك بعدين
ضحكت من بعدها وهي تتخيل ذلك، رباه كم من السعادة تجتاحها حتى باتت تتخيل ما سيكون مُستقبلًا، حتى باتت تتحدث مع نفسها... لا بل معه! فهو روحٌ ستأتي ليكون التعويض المُرضي من سيف بعد كل ما أثاره في حياتها من عذاب، سيكون الدواء الذي يُبرء جروحها، سيكون المُطهر لكل ذنوبها في حق نفسها، كما كانت المُطهر لذنوب سيف.
نهضت بعد أن ارتسمت ابتسامةُ سعادةٍ على وجهها ثمّ اتجهت للدرج لتصعد للأعلى حتى تبدّل ملابسها وتنام، فهي تشعر أنّها تريد النوم يومين مُتتاليين من شدّة الإرهاق الذي تشعر به.
لكنها توقفت بغتةً حين سمعت صوت أم سيف من خلفها : رجعتوا؟
استدارت ديما إليها، بابتسامةٍ مُشرقةٍ تختلف عن ابتسامتها السابقة، كيف لا وهناك حنانٌ يتدفق في صدرها لما سيكون في أحضانها بعد عدةِ أشهر : اي رجعنا خالتي
ابتسمت أم سيف وهي تُلاحظ شروق ملامحها : طيب الخدامة الحين تجهز الغداء ... لا تتأخرون
بالرغم من أنها لا تحمل أيّ رغبةٍ الآن في الطعام بل رغبتها في النوم أقوى إلا أنها أومأت ثمّ أكملت طريقها صاعدةً للأعلى.
دخلت غرفة النوم لتراه لتوّه يخرج من الحمام بعد أن بدّل ملابسه بلباسٍ بيتيٍّ مُريح، أمعنت به للحظات، بملامحه الرجولية الحادة، بقمحيةِ بشرته التي تُعاكسها هي بسمارها، أوَلم تقل من قبل أنهما مُختلفان؟ مختلفان بالقدر الذي يجعلهما مُتناسبان، مُختلفان بالقدر الذي يجعل كلًا منهما لا يكتمل إلّا بالآخر، وهذا الإختلاف هو من أكثر ما يهدي حياتهما نكهةً خاصة، لذيذةٌ وإن كانت حارقةً بعض الشيء للسان قلبها.
انتبه إلى نظراتها ليبتسم ويصدّ عن ملامحها يُسوّى ياقة قميصه الأبيض أمام المرآة : مضيّعة شيء بوجهي؟؟
تدافعت الحُمرة إلى وجنتيها لتصدّ عنه بسرعةٍ وهي تُبلل شفتيها بلسانها ارتباكًا، ليتها تفقئ عينيها ... ليتها!!
ضحكَ بخفوتٍ وهو يقترب منها برضًا تام بعد أن لاحظ نظراتِ - العاشقة - التي ترويه حدّ النضوح، ثمّ وقف أمامها مُباشرةً لا يفصل بينهما سوى أنفاسهما، أنفاسهما التي تراجعت لتُصبح أنفاسه هو وحده!
قُربه يخنقها، يُسيطر على عمل رئتيها فيتعطلان لثوانٍ مُرسلان إشارة الموت إلى عقلها، فلا يرتوي إلا بدمٍ مُختلطٍ بهِ لا بالأُكسجين.
إنّه الحياةُ برمّتها، إكسير الحياة فما معنى الأُكسجين والماء إن كانت عيناه ارتواءٌ كافٍ، إنّه المُحرك لدورتها الدموية بجرعات حبه المجنونةِ ورفرفات أهدابه الآسرة.
لم تنظر إلى عينيه بل قلبها الذي بدأ التغزل بمرآهما، ويدُه امتدت ليقبض على ذقنها يُدير ملامحها السمراءَ إليه، يتأمل تضاريس وجهها قبل أن ينفُث برقةٍ فيه لتُغمض عينيها تلقائيًا.
ثمّ تتلون شفتيه بابتسامةٍ عابثة : تدرين ... دايم لو نمت وأنا معصب منك بسبب حركاتك المجنونة أصحى وغضبي كله طار
رفرفت أهدابها ثم فتحت عينيها لتنظر لوجهه بضياع، ليقترب أكثر حتى كادت أنفهُ تُلاصق وجنتها : عيونك تكفير كافي لكل أخطائك
ازدردت ريقها بعصوبةٍ وهي تُغمض عينيها لمواجهتها قرصيّ الشوكلاة المُبحرتان في بياض عينيه، بينما هو ينظر إلى انحناءِ أهدابها بعينين انخفضتا لهجوم موجها الوردي المُنبعث منها، مُقتربًا قليلًا حتى تُلامس شفتيه أهداب عينها اليُمنى، ثمّ تنحدر إلى شفتيها بهدوءٍ مُقبلًا لها بحنانٍ كافٍ لتفتح عينيها ببطءِ استنشاقها لأنفاسه، ببطءِ استيعابها لحنانه المُهلكِ هذا، ببطءِ إرادتها في تطويق عنقه كعاشقةٍ تتشبث بعشيقها أمدًا غير معلوم.
لقد علقتُ في مأزق حُبكَ وانتهيت، شرّعت أبواب الخيبةِ وأضعت جميع المفاتيح عمدًا كي لا أُغلقه، فخيبةٌ لو كان مصدرُها - سيفًا - كُسرَ الغمد كي يبقى السيف حرًا طليقًا حتى يبطش بقلوب العذراوات من الحب مثلي ويتلطخ بدمائهن كما حدث معي، كما حدث لقلبي حين اخترقهُ نصلكَ الحاد ... هي خيبةٌ مُختارة، كما اخترت الإستسلام إليك بنفسي، كاستسلامي لحنانكَ في هذه اللحظات، كاستسلامي لتياراتك الجارفة مُتجاهلةً جميع العواقب.
ابتعد عنها قليلًا وهو يطوّق وجهها بلمسةٍ حنونةٍ كقُبلته، ينظر لعينيها بعينين باسمتين وأجملُ اللحظات لا تكون إلا معها، حين يُصبح بعفويته التامة ليصعد برفقتها إلى جنّات الحُب تاركيّن الدرك الأسفل من الحياةِ البائسة، الحياة التي أفقدته عفويته التي ما عادت تعود إليه إلا قليلًا، وهاهي تعود الآن، كما كانت تعود قبلًا معها ثم ترحل كضيفةِ شرف، تبقى لثوانٍ وتختفي لأعوام!!
حكّ شفتيه ببعضهما البعض، ثمّ ابتسم وهو يحرك إبهامه على نعومة وجنتها، ليهتف أخيرًا بعبث : ولأنّ عيونك كفّرت عن كل ذنوبك السابقة والكثيرة ... هذي هي انتهت مدة صلاحيتها
غمز بعينه ليُردف : عشان كِذا حاولي ما تعصين مرة ثانية ولا تزعلين حبيبك ... أوكي
فغرت شفتيها والكلمات تُسرق منها دفعةً واحدة لتكون كالبكماء في حضور كلماته الرقيقة/المُحذرة ..... ما هــذا الأسلــوب المسيطــر!!!!!
لم يستطع منع نفسه من الضحك وهو يُشاهد " تبلمها " في حظرة كلماته، ضحكته كانت عابثةً بالقدر الذي جعلها تُشتت نظراتها تبحث عن الأبجديةِ لترد، تبحث عن حصنٍ لتبنيه أمام هجومه المُسيطر عليها بهذا القدر الذي يجعلها - ضعيفةً لسانيًا -!!!
تحركَ سيف مُتجهًا لخارج الغرفة، وحين جاورها عبث بشعرها بكفه ليقف للحظتين هاتفًا بأريحية : تراني حذرتك بس بأسلوب ثاني .. عاد ما فاد معك الأسلوب السابق قلنا نغيّر شوي
ضحك أكثر وهو يبتعد، يبتعد، يبتعد ... حاملًا مقدارًا كبيرًا من سكونها ليحتقن وجهها غيظًا دون تصديقٍ لما حدث، في لحظةٍ رفعها لأعلى مراكز الحبور بحنانه، وفي لحظةٍ أخرى نقلها إلى أعلى مراكز الغيظ/الضياع.
لتصبح واقفةً الآن في مكانها بعباءتها/خمارها الذي استراح على كتفها، ونقابها الذي كانت تحمله في يدها حين دخلت أين أصبح؟! أضاع كما ضاعت الكلمات منها حين غفلةٍ من مخارج الأحرفِ لديها؟ أضاع بفعل تياراتهِ الهوائيةِ أم أن قُربه تحكّم بنسبة الأدرينالين لترميه!!!.
ببلاهةٍ بدأت تبحث بعينيها عن نقابها في الأرض، ثم رفعت عينيها للأعلى فجأةً وهي تهمس من بين أسنانها : هدي ... هدي ... مايسوى والله ما يسوى
عضت شفتها بقوةٍ حانقةٍ وهي تُغمض عينيها بقوةٍ وتجذب الأنفاس ببطءٍ قسرًا، فقط لتهدأ ويهدأ اضطرابها الآن، فقط لتتجاوز لمسة شفتيه الحانية وكلماته العابثة، فقط لتُلملم نفسها بعد هذا التشتت والتخبط.
بينما كان يتخطى العتبات والتواءُ شفتيه أصبح دون معنًى ملحوظ، وهو منذ تزوج بها وضياعها بين يديه يُرضيه أشدّ الرضا، يُشبع غروره الرجولي ويُنسيه كل ما فاتَ من حماقاتها، المهم أنها بالرغم من كلّ ما حدث لازالت هي، لازالت الضائعةِ به والمُلملَمُ شلمها تحت حكمه، لازالت الضعيفة إليه والمُقيّدةُ به، لازالت هي " مَي " التي يُحب فيها ضياعها.
,
يتحدث في هاتفه جالسًا أمام التلفازِ المُغلق، بينما كانت هي في غرفة النوم ترتب ملابسها في الخزانة، واليأس رغمًا عنها يعتريها، تفكيرها يُنبئُها أنها لن تعود أبدًا لعائلتها وسيكون فواز هو العائلـة لها منذ أن حلّت عنده.
سمعت صوت خطواته تقترب من الغرفة، ليُداهمها الخجل رُغمًا عنها وهي تتذكر قربها منه البارحة، قربهما من بعضهما البعض بدرجةٍ غير أخويةٍ - كما تعتبره -، قربٌ يفيض بالدفءِ والحنان الزوجي فقط.
اقترب منها حتى وقف خلفها، ثمّ وضع شيئًـا ما على أذنها جعلها تنتفض فزعًا وتنظر ليده التي امتدت إلى أذنها لتتصل بالهاتف، وملامحه ... كانت لا تُفسر!!!
قطّبت جبينها استغرابًا وهي تتساءل بعينيها " من؟ "، لكنّ جمود وجهه وتيبّس شفتيه لم يُهدِها الإجابة.
وللتو كادت تتحدث، للتو كادت تسأل من، لكنّ الصوت الرجولي الذي اندفع إلى أذنيها جعل عيناها تتسعان، وحدقتيها تلقائيًا نظرت إليه باستفهام.
الطرف الآخر : ألـو ... أخت جيهان؟؟
فغرت شفتيها وهي تنظر لفواز مُستفهة، الصوت الذي تسمعه الآن لم يعبر أذنها قبلًا، لم يمرّ على مسامعها ليُخلَّد حتى تسترجعه إن قابلها مجددًا، إذن لمَ قد يجعلها فواز تُحدثه؟
هتف الرجل : ألـو ... تسمعيني؟؟ ...... فواز!
حين لم تجد الإجابة من فواز، داهمها بعض الغيظ فردّت لتُزيل توهانها : نعم
الرجل : السلام عليكم
لم ترد جيهان على سلامهِ بل هتفت باستفهام : مين معي؟
الرجل : معك الدكتور عناد
ارتسم على وجهها مائةُ علامة استفهام وعيناها وللمرة الثالثة ربما تتجهان لفواز الجامدةِ ملامحه وهي تسأل : دكتور؟!! ... دكتور إيش؟
عناد بهدوء : دكتور نفساني
,
ارتشفت من القهوة رشفةً ثمّ وضعت الفنجان على الطاولة لتردّ على سؤال زوجها عبدالرحمن : كانوا شاكين في البداية ... وانت عارف إنّ أي شك في الرضاع يلغيه من أساسه
قطّب عبدالرحمن حاجبيه والأمر لم يدخل رأسه برمّته، ثم عاد وسأل : ومين الحرمة اللي قلتِ إنها الشاهدة الوحيدة على عدد الرضعات؟
ابتسم أميرة لترد ببراعةٍ وثقة : ما أعرفها زين ، بس كل اللي أعرفه إنها من معارف هالة القديمين واللي صاير لها فترة ما تقابلت وياها، بس يوم سمعت إنّ ياسر وإلين بيتزوجون انصدمت وتصرفت بسرعة بإنها بلغت هالة ونبهتها
لوى عبدالرحمن فمه بتفكير، وهو ينظر لوجهها بحيرةٍ يُخالطها عدم التصديق الكُلي، وكما توقعت هاهو يسأل من جديد : فيه مرة ما تركز بعدد الرضاع بالله؟؟؟
أميرة : قلت لك كانت شاكة ... والشك ينفي الرضاع من أساسه
هزّ رأسه نافيًا وهو يتنهد بحنق، ثم وقف لافظًا : يا شين ما سوّت يوم إنها بغت ترضع وتنسى! ... الله يهديها بس كان ظلمت البنت كل هالسنين
عقدت أميرة حاجبيها وهي تتفكر، بالفعل! لمَ كانت صامتةً طيلة هذه السنين؟ ما الدافع الحقيقي لصمتها؟ ما الدافع لتجاهلها حُرمة ياسر على إلين والمخاطرة بهذا التهور؟
كان ذنبًا أن تسكت، والآن هاهي تُعاقب لذنبها بما يعتري صدرها بعد كشف الحقيقة، وبالتأكيد ما يعتريه ليس راحةً إطلاقًا.
,
تجلس على السرير مُمددةُ القدمين والحاسوب يستقر على فخذيها، بينما أختها تمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة، كحالها منذ أيامٍ وهي تُحاول تقليب المسألةِ في رأسها غيرَ مُصدقة.
وهاهي ترفع رأسها لأماني ككل يومٍ بعد أن تُكمل جولتها : أماني ... تصدقين اللي صار والا مثلي؟؟
تأفأفت أماني بملل، ثم نظرت إليها مُقطبة الحاجبين راجية : رانيا واللي يعافيك ترى أبثرتيني!
رانيا : بس شلووون؟ والله العظيم ماني مصدقة للحين
أماني بملل : المفروض تكونين مبسوطة مو هذا اللي كنتِ تبغيه؟
رفرفت بأهدابها مرارًا قبل أن تقترب فجأةً وتجلس بجانب أماني مُتناولةً الحاسوب منها.
أماني باستغراب : خيييير!
رانيا وهي تضغط الأحرف لتكتب في محرك قوقل " الشك في الرضاع " : لحظة بتأكد من شيء
نظرت أماني لما تكتبه رانيا مُقطبة الجبين : حكم الشك؟ ليه تبحثين تراه واضح
رانيا : أبي أتأكد
تمعنت في ما تقرَؤه، ومعها أماني الملاصق كتفها لكتف رانيا، ليرتفع صوت أماني في النهاية هاتفًا : قلت لك واضح .. ماله داعي هالبحث والتنقيب
زمّت رانيا شفتيها وهي تنظر للشاشة وعمق الشفقة يكبر داخلها، عمقُ الشفقة على إلين.
منذ أن علمت بحقيقة كونها أختًا لياسر وقليلٌ من البغض تجلى لتحلّ الشفقة محلّها، بالرغم من كونها مُقتنعةً بعدم إخلاصها في حب ياسر، مُقنتعةٌ أنها لا تحب للحب بل لمصالح دنيويةٍ أخرى، لكن أن تعيش سنين بهويةٍ لا تُمثلكَ أمرٌ صعب/مُحزن، كصعوبة ابتلاع الصديد، وكم هو مرٌّ أن لا تتلبس بهويتك وتتحلى بثوبٍ مُهترئٍ ليس ملكك، كم هو مُحبطٌ أن تكون الدنيا صغيرةً بهذا الحجم، بالحجم الذي جعل اثنان كادا أن يتزوجان إخوةً ضامهما الشك.
زفرت بضيقٍ وما وصلها هو ذاته ما وصل إلى مسامع عائلتها أجمع ولربما أناسٌ غيرهم، شكّ هالة في رضاعها وشهادةُ أخرى كشفت الستار بعد سنين. وكم هو مؤلمٌ حين يُرفع الستار عن مسرح الخيبات.
,
كانت تصرخ بجنون، والهاتف قد رمته بعد أن أغلقت في وجه عناد، لا تصدق ما حدث، لا تُصدق من كانت تُحدث، كيف لـفواز هذا القدر من القسوة ليراها مجنونةً أو معطوبةٌ عقليًا حتى يُحوّلها إلى طبيبٍ نفسي بهدف مُعالجتها.
صرخت وهي تهزّ رأسها بغضب، بغيظٍ من تفكيره : مــااااني مجنووووونة .... ماني مجنوووووونة عشان تخلي طبيب نفساني يكلمني
تنهد فواز وهي يمسح وجهه وصراخها مزّق طبلة أذنه، ثمّ صوّب حدقتيه إلى وجهها مُباشرة وهو يهتف بحدةٍ وثقة : منتِ مجنونة، تطمني ... مو كل من يتجه لطبيب نفسي مجنون! اصحي على تفكيرك واتركي عنك الصراخ والشوشرة
شدّت على أسنانها غضبًا ومُغلتيها تُصارعان الدموع، مُقتربةً منه وشفتيها تهتزتان بعبرةٍ وجنون، ليست مجنونة، ليست مجنونة، هيَ واللهِ ليست مجنونةٍ فـلمَ إذن يجعلها تُحدث طبيبًا؟ هي فقط أذنبت قليلًا في الأيام السابقة، أذنبت في حق والدها بمعاملتها القاسية، أذنبت في حق فواز بجفائها معه، لم تفعل شيئًا آخر، لم تُذنب أكثر ليُعاقبها بهذه القسوة، لم تفعل شيئـًا، لم تفعل شيئًا تُقسم بذلك، فلمَ يكون قاسيًا في عقابه وهي لم تقسو عليه إلى هذا الحد؟ لمَ يقسو عليها بنظراته الجادةِ الآن وهي التي ارتاحت إليه البارحة؟
لا تجعلني أكرهك، أرجوك لا تدفعني لهذا الشعور، لا تُعاقبني بهذه القسوة على ذنبٍ لا يستحق فأكرهك حقًا، لا تُمت شعور الأمان الذي اعتراني البارحة بقربك، أرجوك لا تفعل ذلك .... أرجوووووك.
أمسكت بقميصه البني بكفيها الناعمتين وعيناها تُطلقان رجاءً موجعًا، هامسةً من بين شفتيها برجاء : ماني مجنونة . . تكفى فواز لا تظن فيني كذا! لا تسوي فيني هالشيء والله ماااني مجنونة
لا تخليني أكرهــك .... الله يخليك لا تخليني أكــــــرهك
أمالت رأسها إلى صدرهِ وأناملها مُتشبثةٌ بقميصه، كرصاصةٍ اخترقت قلبه كانت أناملها، ليتيبس في مكانه مُنتظرًا خروج الروح، وصوتُ بكائـها الذي ارتفع بسقوط دمعها وصل إلى أذنيه كصريرٍ آذاه، كموجاتٍ فوقَ صوتيةٍ لم تحتملها أذناه.
فغر شفتيه يجتذب الهواء، يشد على ظهرها بكفه اليُمنى من الخلف ليلتصق جسدها كُليًا به. يجب ألا يتراجع، يجب ألا يجعل إنهيارها دافعًا ليتراجع للخلف، وهذه هي الخطوةُ المُثلى، هذا هو الطريق الأأمن لهما دون تفرعات، دون تعرقلاتٍ وتعثرات، لذا لن يتراجع، لن يتراجع وسيقسو إن تطلّب الأمر.
هتف بهدوءٍ وهو يرفع يدهُ الأخرى ليُعانقها : جيهان ... لا تخافين ، لجوء الشخص لطبيب نفسي ما يعني جنونه! أنتِ بس محتاجة تبوحين عشان تتخلصين من الشحنات السلبية جواتك، محتاجة تفضفضين لخبير بس مو معناه إنك مجنونة! . . لا أنتِ عاقلة فتطمني
رفعت وجهها المُبلل بالدمع عن صدرِه، تنظر له بعينين مُتوسلتين، عينان برقتا ببحر دموعها، عينان اخترقتا عينيه ليُخلفا عذابًا لا يُقاوم.
همست بتوسل : بفضفض لك ، راح أبوح لك وأفرغ شحناتي لك وحدك ... بس لا تسوي فيني كذا، لا تخذلني يا فواز .... تكفى
نظر لعُمق عينيها وكلماتها مؤثرةٌ بشكلٍ موجع، ونطقها لـ " لك " كان آسرًا لقلب أيّ عاشق، هي الآن تُثبت مليكته لها، تُثبت أنه حاكمها وإن لم يكن لقلبها!
اخفض رأسه قليلًا ليصل لعينيها، ثمّ قبلهما كلًا على حدةٍ ليهمس أخيرًا : ولأني ماودي أخذلك ... بسلمك له، عشانك بس!
,
تمشي على إحدى أرصفةِ بروكسيل بخطواتٍ مُرتبكة، ترفع يدها دون شعورٍ لتسوّي حجابها ثم تقف فجأةً وتستدير للخلف، لكن لا أحد! إذن لمَ تستشعر تلك العينين؟ لمَ تستشعر لؤلؤتين سوداوتين تُحدقان بها بذات النظرات السابقة، حقدٌ يختلط بنظرةٍ ما مُبهمة!
إنه يراقبها، هي مُتأكدةٌ من ذلك، يمشي خلفها ليختفي حين تستدير، دارسًا جميع تحركاتها ومُتوقعًا لكل ما قد تفعله .... لمَ يفعل كلّ هذا!!!
تشبّثت بالكيس الذي في يدها وهي تعود لتُكمل خطواتها، لكن هذه المرة بشكلٍ أسرع قليلًا، تشعر بالتوجس من تتبعه لها، تشعر أنها مُحاصرةٌ بعينيه . . وهي الساذجة التي لطالما كانت تتجاهل مراقبته لها ليس لشيءٍ سوى ابتعادًا عن المشاكل، لكن يبدو أن صمتها جعله يتمادى كثيرًا، جعله يتجاوز جميع الحدود.
وصلت للمنزل، والذي كان لا يبعد كثيرًا عن المكتبة التي عادت منها، وما إن تراءى المنزل لعينيها حتى أكملت ركضًا من شدة خوفها، وحين دخلت تنفست الصعداء وقلبها ينبض بجنونِ الخوف والإضطراب الذي كان يعتريها.
وضعت يدها على صدرها تُثبّطُ أنفاسها، ثم تلقائيًا دون أن تشعر استدارت تنظر للباب، أيعقل أن يلحق بها إلى هذا المكان أيضًا!!!!
أغمضت عينيها وهي تُبلل شفتيها بلسانها، تستغفر مرارًا حتى يزول رعبها هذا، وما إن شعرت ببعض الراحةِ حتى تصاعد رنين هاتفها.
رفعت الهاتف مُقطبة الجبين، ليظهر أمامها رقمٌ غريب، كانت ستتجاهل الرد في حالتها هذه، لكنّ شيئًا ما غبيًا جعلها ترد.
تدافع صوتٌ رجوليٌّ قبل أن تلفظ بكلمةٍ من الجهة المقابلة، هامسًا كان بدرجةٍ أثارت القشعريرة في جسدها : شكلك بالزهري يذبح.
ارتعش جسدُ جنان وعيناها تتسعان تدريجيًا، دون تصديق، دون استيعاب
هـــيــــثــــم!!!
فغرت شفتيها والكلمات انسحبت منها دفعةً واحدة، ودون شعورٍ أغلقت الهاتف بعد لحظتين من صدمتها، ووجهها يرسم تعابيرَ الذعر واللا تصديق.
تمــادى، تمادى كثيرًا باتصاله الآن! ما الـذي يريده؟ ما الذي يرتجيه من تتبعه لها دائمـًا بعيني الصقر؟؟!!
رفعت كفها لتضعها على جبينها وهي تُفكر، تتنفس ببطءٍ غيرَ مستوعبةٍ بعد، هل وصل تماديه للحدّ الذي يجعله يتصل، للحد الذي يجب فيه أن تُحدث فارس؟ أم من الأفضل لها السكوت ابتعادًا عن المشاكل؟
كانت صامتةً مُنذ البداية، والآن هاهي حائرةٌ لا تدري ما الذي يجب فعله.
لكن ماذا عن خالها أمجد؟ ألا تكفي الفجوةُ التي بينها وبينه؟ هي لا تنتظر أن تُضاعفها بالشكوى على ولده بل تتمنى اضمحلالها، لكن أمنِ الحكمةِ أن تسكت؟؟؟
رفعت رأسها حين سمعت صوت خطوات، وما إن رأت سامي ورامي أخويها حتى زفرت براحة، ما بها خايفةٌ إلى هذا الحد؟ لا يمكن أن يتجرأ ويدخل بكل وقاحةٍ هكذا.
سألها سامي بطفولية : وين كنتِ؟
أغمضت عينيها بقوةٍ وتنفست ببطءٍ تحاول العودة لطبيعتها، ثم فتحتهما لتنظر لهما بابتسامةٍ مُزيفة : توني جاية من المكتبة عشان آخذ كم غرض للرسم
رامي : مو كنتِ تعبانة؟
جنان بابتسامةٍ مُهتزة : مجرد زكام بسيط وراح
تحركت مُتجاوزةً لهما لتُردف وهي تمشي مُديرةً ظهرها إليهما : أبوي وفارس راحوا المستشفى والا لسا؟
رامي : طلعوا من شوي وأخذوا وليد معاهم * عبس ليردف * ليه ما ياخذونا احنا كمان؟
استدارت إليه بذات الإبتسامةِ الزائفـة : وشولها الغيرة؟ عادي ياخي خلوهم ياخذوه لا تصيروا بزران ... مو هم أمس أخذوه بعد وتركوني؟
عبس الآخر أيضًا : مو على قولتك احنا بزران؟ أجل بزران بزران ليه ما ياخذونا؟
ضحكت بخفةٍ وهي تكمل طريقها : مناك بس
,
اقتربت الساعة من السابعة والنصف مساءً، كانت تتصفح مجلةً للأزياءِ في يدها حين تصاعد رنين هاتفها، لم تنظر إلى الهاتف القابع بجانبها على الأريكة المُفردة، فقط لأنها تُدرك من المتصل، تُدرك وقد ملّت من هذا الروتين الممل واتصاله الدائم بُها ليس لشيءٍ سوى لمصالحه.
غزل تتنهد بضيقٍ وهي تتناول كوب قهوةٍ وترتشف منه ثم تعود لتضعه على الطاولة البيضاء أمامها. تجاهلت الهاتف تمامًا ولم تُعره اهتمامها، فهي تدركُ جيدًا ما سيكون محور الحديث، وتُدرك جيدًا مدى الخذلان والخيبة اللتان ستواجهانها إن هي ردت.
حين طال الرنين، نظرت للهاتف ورفعته، فقط لتضعه على الوضع الصامت كي لا يُزعجها، ثمّ نهضت بصمتٍ لتخرج من غرفتها، مُتجهةً للمطبخ وقد أصابها الجوع، تُدرك جيدًا أن الثلاجة أصبحت مُمتلئةً بما سيُشبعها، فعلاقتها بسلطان أصبحت صامتة، لذا هو يُحضر لها كلّ ما قد تحتاجه، وعلاقةٌ كهذه أيُمكن أن تدوم أو تطول؟ . . وهذا ما هي تريده، هذا ما تطمح إليه، وهو بالتأكيد لن يحتمل لسنةٍ كاملة وسيُطلقها في أقرب وقت.
قد كانت مُشكلتها الكُبرى منذ البداية أنها تقيّدت بهذا الزواج لسنة، لكنّ علاقتهما الآن لا تؤهل، وهذا ماهي سعيدةٌ لأجله، حتى وإن شعرت في بعض الأوقات بالرهبةِ منه إلّا أنها في النهاية ستتحرر، لتعود لمـا هو أقسى! لكنّه الأفضل بالنسبة إليها فهي قد اعتادته، اعتادت القسوةَ والجفاء، اعتادت القسوة والبرود، لكنها هنا وإن كانت ستعتاد إلا أنها بالقُربِ من رجلٌ هو زوج لها، وذلك الخطـــر بعينه!.
فتحت الثلاجة لتنظر لما فيها أولًا، ثمّ مدّت يدها لتتناول عصير برتقالٍ طازج، بالرغم من شدّة جوعها إلا أنها ستقتصر على عصيرٍ وحسب فلا رغبةَ عظمى لديها لأيّ شيءٍ آخر.
تراجعت بعد ما أخذته لتجلس على أقرب كرسيٍّ في المطبخ، ثم تنهدت وهي تتأمل في الأفق، تغيب بعقلها وبريقُ عينيها طغى عليهما الحُزن، طغى عليهما الضياع.
معاذ الله أنّ الحياة تغفو عند عينين دامعتين، معاذ الله أن الدنيا تتقلص حين يُنزعُ الإيمان بالخالق من قلب إنسيّ . . ما هذا الفراغ الذي تعيشه؟ ما هذا اليأس الذي يغتالها مائةَ مرةٍ في كل ثانية؟ ما هذه الوحدة التي يعيشها قلبها؟
من يسكن قلبها يا الله ليبطش به ويجرحه بنصلٍ حادٍ مسمومٍ في كل يوم؟ من هذا الجائر الذي يسدّ مغلتيها لحبس الدموع فلا تبكي حينما تحتاج؟ بل تبكي حين يريدُ كبرياءها المزعوم! من هذا الذي يقف في حنجرتها ليمنع صوتها من الصراخ برجاء : توقفــوا عن التنكيل بي!
لو أنها تبكي متى أحتاجت، لو أنها تصرخ، لكانت أقلّ حُزنًا وبؤسًا، لكان نصيبها من السعادة ولو قطرة! .... أم أنها تحتاح أمرًا آخر غير الصراخ والبكاء؟؟
في تلك الأثناء كان سلطان يقف على عتبة باب المطبخ، واقفًا في مكانه ينظر لبؤس عينيها، ينظر لمدى الخيبة في ملامحها، ينظر للتيه الذي يسكن حدقتيها!
هي لا ذنب لها، لا ذنب لها، وهو لا ذنب له أيضًا بذاك الحقد الذي يتصاعد في قلبه تجاهها، لا ذنب له في كرهها ... كلانا لم يكن له الذنب يا غزل، كلانا لم يُخطئ، والذنب انسلخ عنا لينتمي للطريق الذي عبرناه سويًا، لم أُخطئ حين تلبّست بالمثالية لأُنقذكِ من مجتمعٍ لا يرحم، ولم تُخطئِي حين كان مُناكِ العيش بسلام.
كلانا كان بريئًا من ذنبنا، كلانا لم يتعمد الخطأ بعلاقةٍ لا أمل فيها، لكنّ الماضي اقترب منا، بل كان قريبًا منذ البداية ليُذنب في حقنا.
كان ذنبي أن كُنتُ ابن أخيه ، وكان ذنبك أن كُنتِ ابنة صديقه وشريكِه.
أغمض عينيه بقوة، ثمّ استدار ينوي الخروج بعد أن عاد لأمرٍ مُستعجل، مُحدثًا نفسه بكلماتٍ يرى أنها الحق الآن " ما أذنبت يوم كانت نيتي ما أظلمك بذنب غيرك، بس أذنبت يوم صرتِ أنتِ زوجتي ... هالمهزلة لازم تنتهي، لازم تنتهي بس شلون؟ شلون ومو أنا اللي ممكن يرجع عن كلامه!! "
,
مساءَ الخير، أما بعد : فقد انسلخت يا قلبي وانصهرت، صيّرتُك عدمًا بخطئٍ لا يُغتفر
لم تُخطئ في اتخاذِكَ الحُب خليلًا، بل كان خطأك أن اخترت أن تُحب - فلانًا -
لـذا كان فرضًا أن يكون هذا هو الأمثل مصيرًا!
أغمضت عينيها بقوةٍ ثمّ فتحتهما وهي تتجه للإعدادات، تنوي إغلاق حسابها في الفيس بوك نهائيًا، بإصرار عينيها على الخضوع للحقيقة، بإصرار عقلها على صهر قلبها، هذا إن لم يكن قد انصهر تلقائيًا بالنار التي تدفقت منذ أيام.
همّت بإلغاءِ حسابها نهائيًا لكن طرقًا على الباب قاطعها، لتُحيد عينيها عن الحاسوب بعد أن كانت قد اعتادت ألا تستخدم إلا هاتفها في الفيس بوك، لكن عبدالله رفض أن يُعيد هاتفها وإلى الآن : مين؟
هالة : أنا
صُدمت ما إن سمعت الصوت، وتشتت عيناها بتحرّك حدقتيها هنا وهناك غير مستوعبة، ماذا تُريد منها؟ وكيف لها كل تلك الجرأةِ لتأتيها حتى هنا!!
عضّت شفتها بقوةٍ وهمت بالصراخ بـ " اذلفي "! لكنّ لسانها ورغمًا عن عقلها استقر في سقف فمها مُحيلًا محاولاتها للفشل، وقد كان المسيطر في تلك الأثناء هو قلبها، قلبها الذي بدأ يُحدثها بما هو غير مرغوب.
- إن كُنتِ عاتبة، إن كُنتِ حاقدة ، فهذًا أبدًا لا يُهديك الحق لترمي جميع فضائلها عليكِ كلّ تلك السنين
حينها بدأت طاقة عقلها بالرد، خوضًا في حوارٍ جنونيٍّ بين عقلها وقلبها، خوضًا في صراعٍ مصيريٍّ سيكون نتيجته طريقة التعامل مع هالة!
- أيّ فضائل بالله عليك! أيّ فضائـل تلك التي تسمح لي بنسيانِ فعلةٍ فاقت فضائلها أضعافًا؟؟
- فضائلُ تكفي لتمشي سويّةً على تعاملكِ معها، ويكفي فضلًا أنكِ أصبحتِ بهويةٍ أرقى من قبل على يديها
اهتزت شفتاها عند ذاك التفكير الذي تدفق من قلبها، مُحــال! لن تكون بهذا الرُخص لتبيع اثنتانِ وعشرين عامًا خلت لأجلِ هويّةٍ أقالتها للجحيم! ما الرُقيّ في هذه الهويـة؟ وما العيب في كونها عاشت سابقًا دون هوية؟ ما العيب في قضاءِ الله؟ ما العيب في أنها ولدت وكبرت دون نسب؟ ما العيب يا الله لتكون صغيرةً الآن في عين نفسها لما أُطلق من قلبها؟ ما العيب يا الله في نفسها التي آمنت بقضائـكَ ولم تتذمر لما كُتب لها حتى ظهرت تلك الأم التي كشفت كل شيءٍ عن ماضيها ومن ثم حقيقتها هنا من فمِ هالة؟ ما العيب لتُصبح الآن مُشتتةً ما بين قلبها وعقلها!
إن الأيام تذبل في عينِي بعد أن حلّ الخريف دون أن تتساقط، دون أن تهوي لقاعِ اليأس. إنّ الأيـام يابسةٌ في غصنها لم تسقط، لازالت تحتضر وإنّي على الموتِ ساعٍ! إنّي على الموتً راضيـةٌ إن كان راحةً تُسافر بي بعيدًا عن هذا الضباب الذي أصبح يعربد في صدري الآن. مزقني يا الله بعيدًا عن هذا العالم المُخزي، عن هذا العالم المؤذي، عن هذا العالم الفتّاك!
طُرق الباب مرّةً بعد مرّة، لكنّها تيبّست في مكانها ولم ترد أو تقُم، وهناك خارج الغرفةِ كانت هالة تقف دون اهتمامٍ إن كان سيراها أحدٌ أم لا، إن كان سيراها عبدالله أو غيره، المهم أن تتحدث معها، المهم أن تراها.
وفي تلك الأثناء كان ياسر يصعد حاملًا " البالطو " الأبيض على كتفه والإرهاقُ بادٍ على عينيه، وما إن رأى أمّه تقف عند باب غُرفةِ إلين حتى توقف في مكانه غيرَ مُستوعب، ما الذي تريده أمــه بعد؟؟؟
هرول مُسرعًا إليها حتى يُمسك كتفها، فاستدارت إليه بوجومٍ بينما هو تحدث بوجومٍ أعنف لكنّ صوته كان خافتًا : يمه شتسوين عند باب غرفتها؟ اتركي البنت منك تكفين، وبعدين والله لو أبوي يشـ..
عقدت حاجبيها غضبًا وهي تقاطعه : أبي أحكِي معها ضروري فكني منك ومن أبوك بعد!
عضّ طرف شفته وهو لا يفهمها، وما إن استدارت لتطرقَ من جديدٍ حتى رفع هو يده ليًمسك بكفها ويمنعها : يمه تعوذي بالله ، غلط منك تواجهينها بعد اللي سويتيه، أنا لو مكانك والله ما يكون لي وجه
احتدّت نظراتها بقوّةٍ وهي تنظر له بغضب، رافعةً صوتها في حين غفلةٍ منها لتُفجر قنبلتها في وجهه : أنـا اللي المفروض ما يكون لها وجه؟ أنا تقولي كذا يا ياسر وتنسى فعلتك معها؟
اللي المفروض ما يكون له وجه يشوفها هو انت! انت مثل ما المفترض هي بعد ما يكون لها بعد سواتكم
اتسعت عيناه بصدمةٍ وهو يتلقى هذا الكلام الضخم منها، غيرَ مُصدقٍ لكلّ تلك الظنون المُحرّمةِ التي تُصدَر من عقلها، الآن أصبحا مُذنبين في نظرها؟ الآن أصبحا مُخطئيْن وهي التي نسيت حتى أن تُحذرهما حين ظنّت هذا الظن! وهي التي تجاهلت أمرَ حقيقةِ إلين حين ظنّت بهما سوءً.
كلماتها لم تخترق أذنا ياسر فقط، بل تجاوزتهما لتصل للقابعة في تلك الغرفة، والتي سقطت دموعها ما إن سمعت ما سمعت. يكفي أرجوكِ، يكفي عذابًا فأنا لستُ كـ ياسر الذي ظننتِ بهِ فقط، أنـا بالفعل مُذنبة، أنا بالفعل قَد " سَوِّيت وانتهيت " من هذا الذنب الذي بقيت آثاره بكُرهي له! لذا يكفي، يكفي عذابًا أرجوكِ.
هتف ياسر بغيظ، عاقدًا حاجبيْه غير مُصدق : الله يسامحك يا يمه ، الله يسامحك بس على سوء ظنك فينا
إذا كنا بنظرك غلطانين واحنا ما سوّينا شيء فأنتِ أكبر غلطانة يوم سكتي وفي بالك الشينة! أنتِ أكبر غلطانة يوم فضّلتي حفظ سرّك وتطنيش الغلط اللي في بالك!
هزّ رأسه نفيًا وهو ينظر لها بعتب، ثمّ أردف بجملةٍ قصيرةٍ واحدة " إتركيها بهالفترة مو عشانها بس عشانك! "
ثم ابتعد عنها بعد تلك الجملةِ تاركًا لها واقفةً أمام الباب، عقلها يتخبط بكلماته، إلى أن انسحبت أخيرًا مُبتعدةً عن غرفة إلين.
,
جالسِين مع بعضهم البعض في الصالة، وهي كانت جالسةً بجانبه ولا يفصل بينهما الا بضع سانتيمترات.
ارتشفت من كأس الشاي الذي في يدها ثمّ ابتسمت لأم سيف تردّ على سؤالٍ أطلقته لها : لا والله بالعكس حلوين ويطيرون العقل
ام سيف : هم صح الأطفال حلوين بس يغثون شوي ، وهذي انتِ ورطتي نفسك بروضه
ضحكت ديما دون أن تتجه عيناها لسيف وهي تفهم تمامًا ما مقصد أمه، لكنّ ما يحدث بينهما لم يكن ليُهديها الجرأة حتى تنظر إليه وتتكلم، هناك فجوةٌ بينهما، فجوةٌ كبيرةٌ لا تعلم إن كانت ستضمحل أم لا، لا تعلم إن كانت ستُردم أم ستبقى بينهما.
رفع سيف حاجبه الأيمن : يعني أنـا كنت غثيث والا شقصدك؟
ضحكت أمه ببراءة ثمّ نظرت لديما : الحين أنا قلت اسمه
اكتفت ديما بابتسامةٍ دون أن تتكلم، لتُردف أمه : رحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه ، هذا انت بلّغتنا انك كنت غثيث وأنا ما قلت هالحكي
سيف : أنا غثيث؟؟؟
ام سيف ترفع كتفيها بابتسامة : انت اللي قلت ماهو أنا
ابتسم سيف : مقبولة منك ، أكون لك مليون غثيث لو تبين
هذه المرة نظرت إليه ديما وهي ترفع حاجبًا، لينظر إليها وقد فهم ما معنى نظراتها " من يومك مليون غثيث بس معاي "
لكنه ابتسم وهو يرفع حاجبًا كما فعلت دون مبالاةٍ ثمّ عاد ينظر لأمه : بس لعلمك يمه لا كنت غثيث فأنا ماخذ هالصفة منها
لفظ جملته وهو يُشير لديما لتتسع عيناها وتُطلق شررًا منهما.
ام سيف : لا عاد الا ديوم
ضحك سيف بخفةٍ وهو ينظر لديما نظراتٍ لم تفهمها : صدقي أو لا تصدقي ، من عاشر قومًا أربعين يومًا صار منهم، وزين وقفت السالفة على كذا وأنا معاشرها ثلاث سنين
اتسعت عينا ديما أكثر ليشتعل لسانها الأنثوي الفتاك : نعم! المفروض أنا اللي أقول هالحكي ، زين مني ما صرت أنانية ومتسلطة مثلك وأنا معاشرتك ثلاث سنين!
سيف بضحكة : وزين ما صارت أعصابي تنفلت بسرعة وأنا معاشرك ثلاث سنين
صدّت عنه وهي تدرك أنه يستفزها فقط في هذه الأثناء وقد نجح في ذلك، بينما هو في أقصى حالات " الروقان " عكسها تمامًا، من السهل عليه اللعب بأعصابها كما يشاء، من السهل عليه أن يجعلها كما كانت في الظهيرةِ لا تفقه شيئًا من الأبجديات، ومن السهل عليه أيضًا أن يستفزها في لحظة، أن يُفرحها في لحظة، ويُحزنها في لحظات!
ام سيف بجبينٍ مُقطب : لا تقلبوها جد الحين
وضع سيف ساقًا على أخرى وهو يهتف بأريحية مُستفزة : مروق ولله الحمد
وقف ديما فجأة، ووجهها ممتعضٌ بشدةٍ لتبتعد عنهم صاعدةً لجناحها، لتستدير ام سيف بغضبٍ إليه : عجبك الحين؟
سيف بلا مبالاة : تطمني شوي وتروق
زفرت أمه بغضبٍ لتقوم هي الأخرى تاركةً المكان، وهو بقي جالسًا في مكانه مُقطَّب الجبين، إلى أن هتف دون مبالاةٍ وهو يقوم من مكانه : حريم! يبون يمازحون من غير ما يمازحهم أحد ... والله حالة
,
" بتصل عليه الحين " ... هتف بتلك الجُملةِ وهو يجلس بجانبها على السرير، وهي قد كانت تنظر لحجرها حين دخل إليها بعد أن تركها وخرج في خضم تلك الساعات حتى يتركها لتفكر بأريحية.
والآن ما إن سمعت تلك الجملة حتى رفعت رأسها بسرعةٍ لتنظر إليه، وعقلها ينطق بكلمةٍ واحدة " مُستحـيــــل "
جيهان برفض : لا تتصل ، لأني ماراح أكلمه
فواز : مين قال رأيك مهم الحين؟ أنتِ ما تعرفين مصلحة نفسك عشان كذا أنا أقولك ما أخيرك!
هزّت جيهان رأسها بالرفض وهي تنظر إليه بنفور : ما ودي
تجاهلها فواز وهو يضغط زرّ الإتصال، وفي تلك اللحظةِ كانت يدُها تمتد لتُمسك بالهاتفِ بُعنفٍ وترميه حتى تفكك لأجزاءٍ بعنفِ رميها له ... صارخةً بجنون : مـــا ودي ما ودي
شدّ فواز على أسنانه غضبًا، لكنه لم يرد وهو ينهض مُتحركًا باتجاه الهاتف، وما إن وصل إليه حتى جلس الفرقصاء ليتناوله، وقد كانت الشاشة سليمةً لحسن الحظ بعد هذا الرمي العنيف، تناول البطارية ثمّ ألحقها بالهاتف ومن ثمّ تناول الغطاءَ ليُغلقه.
بينما هي كانت تنظر إليه بنفور، بغضبٍ ترجمته عيناها، بحقدٍ وخيبةٍ تراءى على صفيحةِ حدقتيها، كيف له أن يظنّ بها هذا الظنّ السيء؟ كيف له أن يراها مجنونةً وهي سليمةٌ لا علّة بها؟
وقف فواز بذات هدوئِـه ثمّ استدار ينظر إليها بحزم، مُتجاهلًا مساراتِ نظراتها، لافظًا بحدّةٍ وأمر : بتركك الحين ، بس من بكرة غصب عنك راح تنصاعين للي بقوله لك، سواءً كان بكامل رضاك أو لا
شدّت جيهان على أسنانها قبل أن تصرخ : مانــي مجنونة
فواز بحدة : ومحد مختلف بهالشيء ... قلت لك من قبل يا جيهان مو كل من يلجأ لدكتور نفسي مجنون!
تشبثت بمفرش السرير وهي تقوّس شفتيها استعدادًا للبكاء، إلى أن هتفت أخيرًا بتوسل : ما ودي ، تكفى لا تجبرني يا فواز
تنهد فواز بعمق، ثمّ استدار عنها ليخرج من الغرفةِ تاركًا نظراتها تلك التي هو مقرٌّ أنها لن تؤثر به ليتراجع، لكنه بات يخشى، بات يخشى أن يحدث العكس من ذلك ويتعاطف في أمرٍ لا يحتمل التعاطف، لـذا هو مُضطرٌ للإبتعاد في الساعاتِ القادمة، ومُضطرٌ للقسوةِ إن احتاج ذلك!
,
تجلس في الصالة وحيدةً وفي يدها الهاتف، تُرسل إليه من باب اللباقة، لا بل من بابِ القلق! حتى وإن كانت لا تريده إلا أنها قلقت عليه، قلقت عليه من باب الإنسيانية ومن باب عاطفتها الأنثوية الحساسة.
أرسلت إليه في الواتس أب " شاهين "
انتظرت لثوانٍ قليلة، ولم تجد منه ردًا، كانت تراه مُتصلًا وقد فتح المحادثة لكنه لا يرد!
لذا أرسلت من جديد " انت بخير؟ وش صار أمس "
هذه المرة رأت " جاري الكتابة " لتتسع عينيها قليلًا وتعتدل في جلستها توترًا
شاهين : " تطمني أنا بخير "
تنهدت براحة، ثم عادت لتُرسل : " طيب وش صار؟ "
شاهين : " ما صار شيء ، كان صدام بسيط انحشت منه "
عقدت حاجبيها : " انحشت منه؟ "
ابتسم شاهين وهو يتذكر ما حدث البارحة : " اي انحشت منه، وقت ما كنت بتفاهم مع الرجال جاني اتصال اضطرني عشان أنحاش "
أسيل : " أها "
شاهين : " بس أها! "
احمرت وجنتيها ارتباكًا وهي لا تعلم بمَ ترد، لكنه سبقها قبل أن تفكر : " تدرين إنّ أها ذي تعتبر تصريفه كتابية؟ "
بللت شفتيها ارتباكًا قبل أن ترد : " لا والله مو قصدي "
شاهين : " أجل؟ "
أسيل : " بس حبيت أتطمن عليك "
شاهين : " بس؟؟ "
أسيل : " اي "
ابتسم شاهين بعبثٍ وهو يعتدل في جلسته في حين كان جالسًا على كرسيّ مكتبه، ثم كتب : " طيب تدرين إن * اي * هذي تعتبر تصريفه بعد "
رفعت أسيل حاجبيها : " من متى؟ حتى وإن كانت أنا ما أقصد كذا "
شاهين : " لا اعترفي قصدك تصرفيني، طيب تدرين إن * ما أقصد * تعتبر بعد تصريفه "
فغرت شفتيها وحاجبيها انعقدا، ثم همست بينها وبين نفسها : وش يهبب ذا؟
وقبل أن ترد كانت رسالةٌ منه قد وصلت لتقرأها : " إذا انكتبت ما أقصد بفراغ بين الكلمتين فهذي تصريفه لأنك تبيني أروح وأبعد مثل ما أبعدتي بين الكلمتين .. بس لا كتبتي ماأقصد فكذا تكونين صادقة وما قصدك تصرفيني لأن الكلمتين لاصقة ببعض "
اتسعت عيناها للحظات غير مستوعبة، وما إن أفاقت حتى انسابت ضحكةٌ خافتةٌ من بين شفتيها وقد فهمت عبثه جيدًا، لترسل وهذه المرة بابتسامةٍ زيّنت شفتيها : " من وين تجيب هالتفسيرات الأسطورية انت؟ "
ابتسم شاهين وهو يرد : " من علم النفس "
أسيل : " علم النفس تبعك هاه! قاعد تخلق تفسيرات بكيفك وتنسبها لعلم النفس "
ضحك شاهين بدوره بخفوت، ثم رد فقط بـ : " ههههههههههههه "
ضحكت أسيل مع رؤيتها لحرف الهاءِ مُتكررًا، لترد بدورها : " طيب تدري إن أغلب اللي يكتبون * هههههههه * في المحادثات النصية يقصدون فيها انهاء المحادثة والتصريف؟ "
اتسعت ابتسامته برسالتها التي تدفقت عفويةً دون نفور، ثم رد : " ماأقصد <- وشوفيني كتبتها ملتصقة "
ابتسمت دون شعورٍ لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها وهي تتنبه لنفسها، تتنبه لطريقة مُحادثتها له، لطريقة ابتسامتها المُستمتعة وهي تُحدثه، ودون أن تشعر خرجت من المحادثة والواتس بأكمله وهي تزفر بذعر.
ما بالها نسيت نفسها في لحظة؟ ما بال استدراجِـه لها حازَ بفائدة؟ ما بال أسلوبه العابث حقق نجاحًا أوليًا في علاقتهما؟ .... و .. ما بالها أخذت الأمر بحساسيةٍ هكذا بينما كانت قبل ثوانٍ تتحدث معه كما لو أنه زوجٌ مرغوبٍ فيه بالكامل؟ أتبخل على نفسها بعلاقةٍ جديدةٍ وتتصنع الوفاء أم ماذا؟ أتكون قراراتها السابقةِ مع نفسها مجرد تلفيقٍ وكذب؟ لكنها بالفعل لا تريد خيانة متعب! لا تريد أن تحب بعده، لا تريد أن تُخالف الإناث في صفة الوفاءِ لمن تُحب، لا تريد أن تكون شاذةً عن القاعدةِ ولا توفي له، لـذا ستحاول، بل ستصرّ على ألا تجعل لشاهين منفذًا ليُأثرَ بها.
.
.
.
انــتــهــى
* مقتطفاتٌ من الجزء القادم
استدارت إليه وقد كان على بعد خمس خطواتٍ تقريبًا منها : وش تبي مني ملاحقني بكل يووووم؟
،
سلمان : في عيونك ما كنت متصنع
سلطان : عساها تحترق هالعيون!
سلمان : أفا! تدعي على نفسك يا سلطان؟
،
برجاءٍ ورُعب : لا لا ، تكفى ... الا بطني، الا بطــنــي يا سيف
انتظروني يوم الخميس ()
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|