لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-11-14, 10:56 PM   المشاركة رقم: 176
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر

 




اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حنان الرزقي مشاهدة المشاركة
   ماشاء الله تبارك الله ياابنتي فاجأني سنك الذي ذكرته في تعليق سابق مع مالمسته من موهبة متميزة وابداع أخّاذ في روايتك ظننته متأت من كاتبة ثلاثينية او اربعينيّة خاصة قدرتك الرائعة على استبطان الشخصيات وكشف جوانبها النفسية الخفية رغم تعددها واختلافها ومن اصعب الامور فعليا هو ان تجعلي القارئ يرى كل ذلك من خلال كلمات فحسب فترتسم في ذهنه صور ومشاهد شتى وتلك هي وظيفة السرد الملغم بالحوار والوصف فيصبح صاحب الرواية ليس كاتبا فقط بل هو مخرج تلفزي ايضا ,استمتعت فعلا بقراءة الفصول العشرين في ليلة واحدة تقريبا ولكن في منتدى اخر و انا بانتظارك ان شاء الله واخيرا اتمنى ان اجد قلما مبدعا كقلمك في اوراق تلاميذي فاسعد به وشكرا ياابنتي


رباه ما أجملك!
قرأت تعليقك ببطء وتمعن من شدة جمال حكيك اللي وصل قلبي ()
ممتنة لك وممتنة لقلبك الزين ياعسى ربي يحفظك
كلك ذوق والله ، أحرجتيني بكلامك الحلو ()

لكِ خالص احترامي عزيزتي

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 21-11-14, 11:02 PM   المشاركة رقم: 177
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر

 


اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لست أدرى مشاهدة المشاركة
   يا أهلا بك كدو ... حمدا لله على سلامتك ياقمر


حبيبتى ... زى ماتشوفى وضعك يسمحلك قررى انت ... وفى كل الاحوال تأكدى انى معاك وبانتظارك .


سلامات ياقلبى


حبيبتي والله :*
ربي يسلمك ويحفظك من كل شر
ممتنة لك ولقلبك الطيّب
أنتِ من الأعضاء اللي من بدوا معي وهم ما تخلّفوا عن ترك بصماتهم بين كل بارت وبارت
لذلك أنا ممتنة لك جدًا وممتنة لأمثالك اللي صار تواجدهم في الروايـة شيء أساسي عندي

لكِ حُبي ()

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 22-11-14, 11:53 PM   المشاركة رقم: 178
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر

 





سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم سعادة وراحة بال


بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !


لا تلهيكم عن العبادات




(20)*2





الخامسةِ والنصف مساءً
كان جالسًا بصمت، على إحدى أرائك الصالة المواجهةِ لباب الجناح، يهزّ ساقه علامة الغضب، وأسنانه وطأت على طرف شفته السُفلى.
كان تحديًا، عنادًا منها، خروجها دون أن تنتظره ومع السائق هو بمثابةِ تحدٍ لفروضه، لقوانينه التي أنشأها منذ أن دخلت حياته وقلبه، لكلّ قمعٍ فرضه في حقها.
بدأت تنساب رويدًا رويدًا من بين براثن طاعته، بدأت بسلسلة عصيانٍ لا يعلم إن كانت ستطول، أينتظر أكثر؟ أينتظر انتهاء سلسلة تمردها حتى تصل لما قد يُنهي ما بينهما؟ وذاك مالا يريده، ذاك مالا قد يحتمل وطأته.
وهو الذي سيكون فاشلًا إن لم يحافظ على علاقته هذه كما لم يُحافظ على سابقتها، سيكون رجُلًا ضعيفًا إن فُكّت قيوده الملتفة حول عنقها كحبلِ مشنقةٍ يُحتم عليها الوقوف دون حركة، دون محاولةٍ للهرب والقفز حتى لا تموت!
إنّها فراشته الصغيرة التي تدور في فلك حرارته، يُحرقها كيف يشاء وهي المُنجذبة لنوره الآسر لعينيها، الحارق لقلبها.
أغمضَ عينيه بقوةٍ حين سمع صوت الباب وانفعالاته كُبتت قسرًا، كبتها حتى لا يثور في وجهها، ليس رحمةً بقدر ماهو تأنٍ، وتمردها اليوم سيكون الأخير ... يُقسم بذلك.
ما إن رأته حتى تشبثت بحقيبتها وخوفها سطعَ رُغمًا عنها، لكنها أخفته بمهارتها التي اكتسبتها حديثًا في علاقتها معه، بات سهلًا أن تتظاهر بالكره أو الشجاعة وهي العكس من ذلك، وعظَمةُ ما واجهته معه من تقلباتٍ أكسبها مهارةً في التصنّع.
تجاوزت نظراته تنوي الذهاب لغرفتها وهي تدعو أن يكون غضبه واقفًا عند الحد الذي ينظر فيه إليها بتلك النظرات الحارقة دون أن يقترب، دون أن ....
أغمضت عينيها بقوةٍ وهي تشعر بخطواته المهرولة باتجاهها، كم كانت غبيةً حين فكرت في أنه قد يتركها، وكأنها لا تعرف من هو!!
وقف أمامها والغضب يتراقص في عينيه، وما بينهما من مسافةٍ لا يتعدى السانتيمترًا الواحد، بينما المسافة بين قلبيهما تتباعد قسرًا، الأمان منه في قلبها يطير ورُبما دون عودة.
ويا للأسى حين يكون هو مصدر ذهاب الأمان، كان من المفترض أن يكون العكس من ذلك، كان من المفترض أن راحتي تكون بكَ ومعك، كان من المفترض بك أن تحميني حتى من نفسك! لكنّ القلق يتصاعد فيّ كلما تراءت أمامي تلك النظرات القابعة في عينيك، أترجّل كل قصائد الرثاء لموت ما قد أشعر به من راحةٍ معك، وهاهو قلبي يعزف لحن الأشطر وعيناي قافيةٌ لم تستوي لبطش عينيْك، لتمرد أحرف لسانك القاسي ولقسوة العضلة القابعة بين أظلعك.
هتف بخفوتٍ وهو ينظر في عمق عينيها : ليه صايرة تحبين العناد كثير؟
بللت شفتيها قبل أن تُشتت نظراتها الضعيفة عنه، المُنسلخ عنها قوةٌ زائفةٌ لا تفتأ أن ترحل في غياهب قسوته.
لكنّها رغم الخوف المُتمركز في قلبها رفعت عينيها إلى عينيه في مواجهةٍ عكسية، وشفتيها انفرجتا عن كلماتٍ قويةٍ رغم ضعف صوتها : صحتي أهم من موعدك مع ابنك!
قست عيناه وامتدت يده ليجذبها من عضدها إليه، وبكلماتٍ غاضبةٍ وصل مداها عبر أنفاسه الحارة : صعبان عليك تنتظرين كم دقيقة؟ والا هي فرصة واستغليتيها!!!
رغم الغضب في صوته، رغم كلماته المُستفسرةِ بقسوة، إلا أن عيناها بقيتا مُتّصلتين بعينيْه في تحدٍ جحيمي! ما كل تلك القوة التي تشعر بها رغم خوفها الذي يزلزل قلبها؟ هل حمل جنينٍ في بطنها يُكسبها كل تلك الشجاعة والرغبة في المواجهة؟ يُكسبها قوةً لا تطول في العادة!!
همست بحدة : مو مسألة فرصة واستغليتها ... بس الموضوع بكبره مثل ما حكيت عنه ... صحتي أهم من موعدك مع طفلك!! إذا كنت تلتقي فيه بكل يوم فأنا موعدي يوم واحد مايفرق معك تختلي لي؟ أجل أنا بعد ما تفرق عندي إذا عصيتك في كم ساعة!!
شد على أسنانه ولفظُ اسمها خرج من بين شفتيه بـ ( مي )، في العادة إن كان غاضبًا فهو يناديها باسمها لا بالإسم الذي ألقاه عليها، لكنّ لسانه في هذه المرة شذّ عن القاعدة فألقى في قلبها غلًّا وغضبًا أكبر
أعد إليّ هويتي التي مزقها لسانك، أعد إليّ - ديما - التي انطفأ نورها بشفتيك! ديما التي افتقدتها أذناي وحلّ محلها مي، ديما التي غابت عن علاقتنا بعد أن دهستها ببطشك.
عضت شفتها بقوةٍ حتى كادت أن تدميها، ثم رشقت باسمها غضبًا في وجهه : ديما .. ديمــا .. ديـــمــــــا
لفظت بالأخيرة صراخًا ليخنق صراخها بكفه، ووجهه اقترب أكثر ليهتف بخفوتٍ غاضب : لسانك محتاج قص! بس أكيد بعد ما أقص رجولك اللي صايرة تعاندني كثير هاليومين!
أمسكت بمعصمه لتُزيل كفه عن فمها بعنفِ الغضب بداخلها : وإن شاء الله الأيام القادمة كمان
قالت جملتها تلك ثم تجاوزته تنوي الإبتعاد عنه، قُربه بات يُغضبها أكثر، يُقلقها أكثر، ويقهرها كثيرًا!!!
لكنّ يده امتدت ليقبض على معصمها قبل أن تبتعد، ثم أعادها أمامه هاتفًا بغضب : على وين؟ يعني ترمين الكلام وتروحين! بدون حساب ولا شيء!!!
نظرت إليه ووجهها تشنج بغضبها، عيناها الخائنتان بدأتا بالإحتقان بدموعها الكريمة، ونظراتها المُنكسرة وصلت إلى عمق عينيه كسهامٍ مسمومة.
زمّ شفتيه قبل أن يشتت نظراته عن عينيها، ودموعها يجب ألا تُؤثر به فما الذي قد يختلف الآن؟ هل سينصاع الآن إلى عينيها؟ . . وعيناها ملاذها لكن ليس منه! ليس مني يا ديما فلا تذرفي تلك الدموع الآن فقلبي لن يرق لعينيك، قلبي لن يلين وهذا ما تعلّمه مع مرّ السنين
سيف ببرودٍ قاسي : تعاندين وتعصين كلامي وبعدها تتبكبكين! وتظنين ان كل كلمة ترمينها مجرد طق وسلام ... صايرة تتمردين بشكل لا يُطاق، بشكل أنتِ اللي راح تدفعين ثمنه! .... * أعاد نظراته لعينيها ليردف بحدة * محتاجة ترويض مم جديد يا مي!
عضت طرف شفتها وعيناها أطلقتا دمعها، وبالرغم من ضعف عينيها إلّا أن لسانها انطلق بتحدي : تراهن؟
سيف بحدةٍ وقد بدأت أعصابه تُتلف أكثر بتحديها : على
ديما : طفــــل
اتسعت عيناه، وبريق الشرّ تتلألأ في حدقتيه ... دفعها بقوةٍ جعلتها تتراجع خطوتين فقط وصوته اندفع إلى أذنيها عبر صراخه : ديــــــــمـــــــا
صرخت هي الأخرى بعد أن استقامت بطولها : هذا حقي ... حقي اللي مو بكيفك تمنعني منه ... حقي اللي أخذته مني بس أنا اللي بسترجعه غصبًا عنك
قبض على فكها بقسوةٍ حتى كاد أن يُحطمه، وصدره يرتفع ويهبط بجنون غضبه الذي وصلها بسهولة، لكن لن تنصاع، لن تضعف أمام ظلمه هذا.
هتف في وجهها بغضب : قلتلك من قبل .. طفل ما أبيــه ... سواءً منك أو من غيرك
وانتهى هالكلام من سنين ماله داعي هالعناد منك * وبقسوةٍ أكبر * لأنه انتهى ... فاهمة؟!
قال كلمته الأخيرة وهو ينزع قبضته عن فكها بقوةٍ أدارت رأسها، بقوةٍ حطمت قلبها لتُذرف دموعها بكرمٍ حاتمي.
سمعت صوت خطواته الغاضبة تبتعد، إلى أن تعالى صوت إطباقه للباب الخارجي للجناح بينما قدميها اتجهتا لأقرب أريكةٍ حتى تجلس، تشعر أن طاقتها كُلّها هدرت في هذه المواجهة، تحديدًا بعد كلماته الأخيرة، كلماته التي أثبتت كلام أمه، من غير الحكمة أن يعلم الآن، من غير الحكمة أن تتهور بتحديها فتخبره.
لكن وما معنى أن يرفض طفلًا! هاهو طفلها بين أحشائها، سواءً رضي أم لا، سواءً وافق أم رفض، لا يُهمها تبعات ذلك لأن سعادتها به ستكون كافية، ستكون مُضادًا لكل ما قد تمرّ به من قِبله.
مسحت على بطنها بباطن كفها وعيناها تتلألآن بحنينِ أمٍ تنتظر طفلها وقدومه، بحنين أنثى انتظرت هذا الشعور العظيم ليأتيها بعد سنواتٍ جافة، بحنين امرأةٍ تتمنى طفلًا تحمله بين يديها وتُرضعهُ من حليبها.
همست من بين أسنانها بحدةٍ وهي تمسح على بطنها وكأنها تطمئن جنينها : بيرفضك بهالوقت .. بس آخرته بيرضى ... بترضى يا سيف، بترضى


,



راقبها ببرودٍ وهي تضع كأس الشاي على الطاولة الزجاجية أمامه، أنفها مُحمرٌ والشحوب بادٍ على ملامحها، لم تكن لديه أيّ رغبةٍ في الجلوس حين عرف أنّ والدها وفارس غير موجوديْن، لكنّ دافعًا غريبًا داخله جعله يبقى، جعله يقعد مع أكثر البشر قُبحًا لديه، ولطالما سأله ناصر مغتاظًا : ماذنب فتاةٍ أنا ظلمتها؟؟
بلل شفتيه بطرف لسانه، ونظراته الباردة اتجهت للكأس المندفع منه دخانٌ يجاري الحرارة الكامنةَ بداخله، يُجاري ما يشتعل في قلبه من صراعٍ واحتكاكِ عدّة مشاعر لينتج عن هذا الإحتكاك شرارة حقد! شرارة غضب.
بينما كانت تنظر له هي عن بعد خطواتٍ لا تتجاوز الإثنتين، شحوب ملامحها إثر المرض ازداد بزيارته، وازداد أكثر ببقائه ... وبقائها هي بمفردها معه!
تحركت شفتاه، بعد دقائق طالت بصمتهما، بعد دقائق كانت رحيمةً لها بصمته، بصوتٍ كان صقيعه قاتل! : وبتظلّين واقفة طول اليوم قدامي؟؟
قطّبت جبينها لتبتلع ريقها بتوتر، وما فهمته من كلامه هو أن تخرج، أن تختفي من ناظريه، وهي لا تمانع إطلاقًا.
لكنّ صوته الذي أكمل بهمسٍ حاقد جعلها تفهمه جيدًا وتفهم ما أراده بحديثه، صوته الذي اندفع بسهامٍ مسمومةٍ أصابت قلبها في مقتل : ما تختلفين عن أمك أكيد، كانت تعامل الضيوف بطريقة غلط! وانتِ الحين واقفة قدامي مثل الصنم وكأنّي زبون في مطعم تشتغلين فيه * وضع ساقًا على أخرى لترتفع نظراته الحادة هذه المرة إلى عينيها * وراه ما تجلسين؟ تراني ما آكل!
عضّت طرف شفتها بحنقٍ لم يظهر لعينيه المُتربصتين بأقلّ حركةٍ منها، كيف له أن يتكلم عن أخته الميتة بهذا الشكل؟ كيف له أن يذُمها وهي التي تقطن في قبرها الآن ... والسؤال الأهم في هذه الأثناء ، أيعقل أنه يكره أخته!!!
اختلطت العديد من الأفكار في تلك الثواني وعقلها لم يستطع ترجمة الكلمات القليلة التي ذكرها، والمغزى الذي وصلها من حديثه، أنه يكره أمها - والتي هي أخته - كما يكرهها!!
لمَ هو قاسٍ هكذا؟ قاسٍ حتى على أخته كما هو قاسٍ معها، قاسٍ حتى على نفسه وهذا ما يظهر لعينيها.
جلست على بُعدٍ ليس بقليلٍ عنه، وكأنه وباءٌ قد يصيبها إن هي اقتربت، والحقيقة أنه يعاني من وباءٍ لا تظنّ أن له علاج.
زمّت شفتيها بصورةٍ سريعة قبل أن تشحذ لسانها بالشجاعة لتنطق بصوتٍ اندفع فجأة : خالي
ارتفع حاجبه قبل أن تحتد نظراته دون أن يُجيب وهو ينظر إليها، ينتظر اكتمال حديثها دون أن يُرهق نفسه بالرد على من لا يرى أنها تستحق.
ابتلعت ريقها ببطءٍ قبل أن تتردد، وبوجع : ليه تكرهني؟؟
تيبست نظراته للحظاتٍ بعينيها اللتين تشتتا في لحظةٍ وكأنّ شجاعتها انسحبت دفعةً واحدة من أرض المعركة، أهذا وقت الهروب؟ أهذا وقت التراجع؟ أهذا وقت الخوف من نظراته القاسية تلك؟؟
التوت شفتيه في لحظةٍ بابتسامةٍ قاسيةٍ ساخرة، ليهتف بصوتٍ اندفع كفحيحِ أفعى متسلطة : على أساس لك الحق تدخلين مزاجي أول! لا دخلتي مزاجي يا بابا هنا ممكن أتقبل وجودك
ابتلعت غصتها وغضبٌ تأجج داخلها من كلماته التي انبعث بها كبرياءٌ مقزز، وكأنه لا يتحدث إلا مع حشرةٍ لا قيمة لها . . نظرت لعينيه بحدة لتردّ بصوت خرج مغتاضًا : ذابحك الغرور مع احترامي لك
تجاهل جملتها بملامح عادت لبرودِها، ثم وقف فجأةً دون أن يكون قد ارتشف رشفةً من الشاي، دون أن يكون أعطاه الفرصة ليبرد حتى! . . بينما ملامحها احتفظت بقسوةِ القهر فيها، بقسوة الظلم منه، ما الذي فعلته ليكون معها بكل هذه البجاحة والقسوة؟ ما الذي فعلته له ليكون بكل هذا التعالي معها؟
هتفت بالقهرِ الذي احتفظت به سنين، بالقهر الذي نتج بسببه، بصوتٍ اندفع به الكثير من الحسرة : ترى الغرور مو بصالحك ... لأنه ماراح يزعج الا أنت فانتبه!
تجاهلها وللمرة الألف، تجاهل نبرتها المتحدية وكأنها لم تلفظ إطلاقًا، تجاهلها وهل عساه يردّ عليها الآن وهو الذي قد يندفع في أيّ لحظةٍ ليكشف كل مستور؟!!!
توقف عند الباب يُديرها ظهره وببرودٍ يُعاكس ما بداخله في هذه الأثناء : لا جاء ناصر يا ويل لسانك يعلّمه بتواجدي ، دامي جلست معك فاللي بيكون في عقله عن اللي صار بيننا تصوّر ثاني بعيد كثير عن الحقيقة!!!
فغرت شفتيها وليس تهديده ما أثار انفعالاتٍ وصراعاتٍ داخلها، بل كلماته هذه التي كانت تحمل العديد من المعاني التي لم يستطع عقلها إدراكها.
" فاللي بيكون في عقله عن اللي صار بينتا تصوّر ثاني بعيد كثير عن الحقيقة "!!!


,


تأفأفت وهي ترى رقمه يُنير شاشة هاتفها، مضت عدة دقائق وهو مُصرٌّ على مكالمتها بينما هي تتجاهل الردّ تمامًا، ويبدو في الحقيقة أنه مُعاندٌ لا مصرْ!
" أففففف " ... نطقتها للمرة الألف، لينجذب اهتمام والدتها وتتجه نظراتها إليها بعد أن كانت تقرأ في إحدى الكُتب التاريخية القابعة في يدها، وضعت الكتاب جانبًا على الأريكة التي تلوّنت بالقرنفلي الناعم، وبحاجبين انعقدا تساؤلًا : وش فيك تتأففين من ساعة؟ مضايقك شيء!
" وفيه غيره " ... كلمتان ودّت لو تصرخ بهما من شدّة الغضب والحنق المُتأججان في صدرها، المُسيطران على أيّ شعورٍ آخر ليكونا البارزين في بعض المحادثات بينهما.
منذ آخر لقاءٍ كان في عيْنيها جريئًا وهو لا يملّ من محاولة الحديث معها، وتارةً ينال ما يريد وأخرى تتجاهله به، والآن ما عسى أن يكون قرارها، أتتجاهله أم تغضّ الطرف عن ماضيها لترد عليه؟
تنهدت بضيق، ثم عاودت النظر لهاتفها بعد أن كانت عيناها مُتجهتان لأمها، وقد كان رقمه وقتذاك قد اختفى.
أسيل بهمس : مافيه شيء
نهضت لتُردف : معليش يمه عندي مكالمة برد عليها
ابتسمت أمها وقد استوعب عقلها بعض الشيء أن المعنِيّ بالأمر هو ( شاهين )، لذا هتفت : خذي راحتك
اتجهت أسيل لغرفتها، وفي أثناء صعودها عتبات الدرج أُنير هاتفها باتصالهِ كما توقعت، ردت عليه وهي تكمل طريقها، رُبما جزءٌ منها يشعر بالذنب، لذا ردّت عليه بصوتٍ هامس بالرغم من أنها حقيقةً لم تكن تريد الرد : ألو
وصلها صوته الخافت : يا هلا ... على بالي بتعاندين بعد!!
صمتت قليلًا، وطرف لسانها مررته على شفتيها باضطراب : كنت مشغولة شوي ، و ...
قاطعها : ولازلتي مشغولة وبتقفلين .... كذبة قديمة!!
احمرّت وجنتاها والتوتر غشى ملامحها، وفي أثناء ذلك كانت قد توقفت أمام باب غرفتها والكلمات تتنافر من حولها بكثافة الحرجِ الذي تغلغلها.
سمعت صوت ضحكاتٍ مكتومةٍ قبل أن ترتفع قليلًا ليطغى صوته على صوت مزامير السيارات من حوله، وذاك ما جعلها تدرك أنه يقود في هذه الأثناء ... كم هو مجنون! ... جملةٌ طرأت على تفكيرها، بل كانت مُستقرةً هناك في مركز ذاكرتها، مع جُملٍ عديدةٍ وصورٌ لا تبارح ذكرياتها، لا تبارحُ خلواتها، كصوته الذي طُبع في أذنيها كختمٍ خالدٍ لن يموت مادامت هي حيّة، كصورته التي لا تبارح ناظريها، كشخصه هو الذي احتلّ عرشها.

*

" يا مجنون! لا تكلم وانت تسوق " ... صرخت بتلك الجملة غاضبةً ليندفع صوتها إلى أذنيه عبر الهاتف كنصلٍ حاد جعله ينتزع الهاتف بعيدًا عن أذنيه لثوانٍ، وصوت ضحكاته تجلجلت في أنحاءِ سيارته قبل أن يُعيد الهاتف هاتفًا بضحكة : حشى مو صوت آدمية
أسيل بغضب : وهالراس اللي عندك مو راس إنسان .... شلون تفكر بالله؟
ضحك متعب بعبث : معليش أنا أفكر بعقلي مو براسي
أسيل بحدةٍ حانقة : متــعــب!!
ارتفعت ضحكاته أكثر، ليرتفع صراخها من الجهة الأخرى مما دفعه ليكتم صوت هذه الضحكات حتى تسلم أذنيه.
عقد حاجبيه وابتسامته حلّت محل ضحكاته : اتقي ربك ، إذا كان راسي مو راسي إنسان فإذني شاذة عنه
هتفت أسيل بحدةٍ يشوبها بعض القلق : اسمع ... أنا الحين بقفل ... وأول ما توصل اتصل فيني، مو ناقصني يصير لك شيء
ابتسم متعب بمحبة : تخافين عليْ؟
أسيل : شرايك؟
متعب : يا بعد قلبي والله ، أقـ
قاطعته بحدة : لا تطولها ... مع السلامة
أغلقت الهاتف مباشرةً ليجفل للحظاتٍ قبل أن تنفرج شفتاه عن ضحكاته، وجنونها المُتمركز في خوفها عليه من أشدّ ما يُحب، من أشدّ ما يروق له ويجعلها في عينيه الأنثى الفريدة من نوعها.

*

بللت شفتيها بلسانها، ورغمًا عنها اندفعت هذه الذكرى إلى عينيها، وكأنما ترى نفسها في ذاك اليومِ وهي واقفةٌ في منتصف غرفتها تُكلمهِ بغضبِ القلق داخلها، وليس ذنبها أن يحتلّ تفكيرها وهي معه! ليس ذنبها أن تفكر بغير شاهين في هذه الأثناء، ليس ذنبها أن يُشبهه في العديد من الأمور المنفرة بالنسبة لها وهي التي كانت تُؤمن أن لا اثنين منه فما الذي اختلف الآن؟ لمَ تراه في شاهين؟ لمَ يخونها عقلها حين تكون معهُ صوتًا أو جسدًا؟
همست دون شعور : معليش متـ * تداركت نفسها لتردف بارتباك * آمم ، شاهين ..... بقفل ولا وصلت للبيت كلمني
لم ينتبه للجزء الأول من جملتها في حين كان يضرب مزمار سيارته لتتحرك السيارة التي أمامه بعد أن فُتحت الإشارة، قطّب جبينه باستغرابٍ لطلبها، وصوتها كان صادقًا ليُدرك أنّها لا تتهرب من محادثته.
شاهين بتساؤل : وليه؟ لا تقولين مشغولة ومن هالحكي، عارف إن هالأعذار تقليدية وكاذبة
شتت نظراتها بقلقٍ من أن يكون قد انتبه لما كانت ستقول، لكنّ صوته كان طبيعيًا بدرجةٍ بثّت بعض الراحة إليها.
أسيل بهمس : ما أحب أكلم أحد وهو يسوق
اضطربت نظراته، وقد أدرك دون ذكاءٍ من هو ( الأحد ) هذا، وكيف قد لا يدرك وهو المرتبط بهذا الأحد من كل الجوانب حتى في زواجه!!
خانته شفتيه هذه المرة، ليهمس بخفوتٍ يرجو ماسيكون توهمًا : تخافين علي؟
صمتت للحظات، وترددها جوابٌ كافٍ يُشبع أذنيه ويُضاعف خيبته بها، من المؤلم أن لا تحمل زوجتك مشاعر خاصةٍ تجاهك، ليس المهم أن تكون حبيبتك لكن يكفي أنها زوجتك / ملكٌ لك! وكيف لهذا الملك أن يكون بهذا الإنحياز؟ أيكون الجلاد القاسي حتى تستوي؟ أم يكون الرقيق لتتمادى؟ ... وماذا إن كان مابين الإثنين؟؟؟!
للتو انفرجت شفتاها بعد أن درست الرد الذي ستطلقه على مسامعه، ردٌ برقةٍ كافيةٍ يكون عادلًا في علاقةٍ كعلاقتهما، علاقةٍ مفروضةٍ تُحتم على الطرفين الكثير والكثير.
لكنّ صوتًا قويًا صدر من جهته، صوتٌ ألجم لسانها عن النطق، صوتٌ مصدره احتكاك إطارات السيارة بالطريق بقسوةٍ ومن ثم صوتُ اصطدامٌ يتخلخله صراخ شاهين!!


,


قبل ذلك بدقائق
وهو الآخرُ كان يتحدث في الهاتف أيضًا، يستشعر حنق الطرف الآخر من أنفاسه المُهدرةِ بشدّة الغيظ فيه، لكنه وبالرغم من استشعاره لحنق هذا الشخص إلا أنه هتف ببرود : وش جوابك؟
أدهم بحدةٍ تشرح غضبه : قلت لك من البداية مافيه أي فايدة من كل اللي قاعد تسويه، محسسني إني جاي من المريخ ورى هالتحقيقات! تراني أدهم عبدالله ماني مخلوق من كوكب ثاني
عبدالله يتجاهل كل ما يقول ليركز على أمرٍ واحد : ايه .. انت أدهم بس منو عبدالله؟
صرخ ادهم بانفعالٍ وقلة صبر : إبليييييييس
عبدالله يهزّ رأسه بقلةِ حيلة عابسًا دون رضا وأيُّ ابنٍ يتحدث عن والده بهذه الطريقة؟، الآن يستطيع القول " غاسل يدي منه "
عبدالله بتأنٍ استفز أدهم أكثر : وأمك وش قصتها بعد؟
أدهم : لا هذي يبيلها جلسة مخصوصة! شرايك نتقابل في أي مطعم وبسرد لك شجرة العائلة من إلى وأألف لك قصة حياتي في قصيدة؟؟؟
أغمض عبدالله عينيه بقوةٍ وهو يحرك شفتيه دون صوت " يا صبر أيوووووب "
أدهم يردف بغل : بس هاه لو كان عندك صبر تسمع ألف بيت بجيك طاير
هتف عبدالله من بين أسنانه : لو ما عندي صبر بتكون سامع صوتي الحين؟!!
أردف مُسيطرًا على أعصابه : أدهم اسمعني كويس ، الموضوع مو مجرد طق وسلام! خلينا نتفاهم شوي
أدهم : هالموضوع ما فيه تفاهم ... ماني مجرم حتى تستجوبني بهالطريقة التافهة! أختي وودي آخذها أجرمت بشيء؟؟
عبدالله : لا ما أجرمت .. بس من سابع المستحيلات أسلمها لك بكل هالبساطة بدون ما أتأكد مين انت!!!
اتسعت عيناه بغضبٍ ليهتف من بين أسنانه غاضبًا : أدهم عبدالله السامي ... ولد روزالين ويا عساني بحريقة لأني حمار قاعد أكلم شخص مثلك ..... اشبع بالأسماء ودوّر عليها في جيبك
أغلق الهاتف بعد انفجاره ذاك وحاجبي عبدالله انعقدا بقلة حيلة، أيّ نوعٍ من الرجال هذا؟
" روزالين "! ، اسمها وحده مُثيرٌ للريبة، أتكون أجنبيةً أم أنه مجرد اسمٍ عابر لا علاقة له بجنسيتها؟


,


توقفت سيارته بعد ذاك الصدام الذي لم يكن بالعنف الكافي ليؤذي الطرفين، حتى أنه لم يلفت أنظار أحدِ الناس.
أنفاسه تسارعت بذعرٍ وقد ظنّ أنّ الموت حان، ظنّ أنه ملاقٍ لأخيه، ظنّ أنه السابق وهو اللاحق في وقتٍ أبكر بكثير، بأكثر مما قد يتخيله العقل. هو هكذا الموت، يجيء في وقتٍ يراه البشر مُبكرًا، يجيء لتحلّ الصدمة على كلّ من حوله، كما أصابه هو حين مات أخيه!
ابتلع ريقه ثمّ زمّ شفتيه ويديه اللتين لازالتا مُتشبثتان بالموقد ترتعشان، شدّ عليهما أكثر ليحل وثاق السكون، ليُقيّد ذعرَهُ إلى الجحيم، ليتناول جرعاتٍ مُسكنّةٍ تُثبط من عزيمة ذاك النابض بين أضلاعه.
زفر بقوّةٍ بعد أن استطاع السيطرة قليلًا على أنفاسه، ثمّ بهمس : الحمدلله يارب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
شكر ربه عديدًا، غافلًا عن هاتفه الذي سقط وقت اصطدامه وأسيل لازالت معه، انحنى حين انتبه ليأخذ الهاتف وكما توقع كانت لاتزال على الخط، وما إن وضع الهاتف على أذنيه حتى انساب صوتها الخائف والمُنادي لاسمه بنغمةٍ ناقوسيّة متميزةٌ بنبرتها، والتميز يكمن في ترددات صوتها الغير مدونةٍ في الفيزياء! والتي لم تُدرَس على مرّ التاريخ لصعوبة دراستها، كمُعضلةٍ اجتمع الحُنكاءُ لحلها ولم يستطيعوا! ككيمياءٍ غير محدودة الهوية مجهولة النتائج، تلك النتائج التي كانت هو مُمثلها!
هتف وأنفاسه لم تستقر بعد : تطمني ... أنا بخير
أغلق دون أن يسمع إجابتها وفي لحظاتٍ كان صوت ضرباتٍ على النافذة قد صَدر ليُثير انتباهه، استدار عشوائيًا ليرى شابًا يقف عند باب السيارة والواضح من ملامحه الغاضبة أنه لا ينوي خيرًا.
استدار ثانيًا لينظر للسيارة المصتدمة به من الزاوية الأمامية اليُمنى، وحين لم يرى السائق أدرك أنه هذا الواقف الغاضب عند بابه. تنهد بضيقٍ وهو يتساءل، أهذا وقته!
عاد ليستدير إليه حين تصاعد ضغط الضربات، ليُنزل النافذة دون أن يُفكر حتى بالنزول إليه، فهو يعلم تمامًا كيف أنه لا تُناسبه الأجواء الشبابية المشحونة حتى لا يندفع بتهوره.
شاهين بهدوءٍ ولباقة : أعتذر منك أخوي ، ما كنت مركز كويس بالطريق
رفع الواقف حاجبًا بحدةٍ وفظاظة، ثم بصوتٍ خرج وكأنّه يُحلل ماقيل الآن : ما كنت مركز!! * وبسخرية * يا الله من جد معذور
بلل شاهين شفتيه دون أن يرد على سخريته تلك، بهدوء قد يتحول في أيّ لحظةٍ إلى عاصفةٍ هوجاء : بعوض لك لو فيه خسائر، وهي من غير بسيطة مافيه داعي للمُبالغة!
نطق كلمته الأخيرة بتشديدٍ عميق، وذاك احتدت نظراته أكثر ليهتف ساخرًا : سحبت كلامي، عذرك ماهو مقبول، أجل كنت بتذبحني وتقول بعوضك وماكنت مركز ومدري إيش من خرابيطك؟ قولي بالله عليك وش بيكون التعويض لا صار لي شيء
الغرور ينبعث منه دون هدوء، هذا ما استشعره شاهين في كلماته، نظراته نظراتُ عابثٍ لا يهتم للإبتعاد عن المشاكل بل على العكس هو يبحث عنها، وقد وقع مع الشخص الخطأ!
بردت نظراته فجأةً ليهتف بخفوتٍ مُحذر : تراك تتلاعب مع الشخص الغلط يا أخ! وش تبغى أكثر من اعتذاري وتعويضك؟
إزداد ارتفاع حاجبيه ببطءٍ لتتسع ابتسامته الساخرة أكثر وأكثر، وبخفوتٍ ساخر : على قولتك، قاعد أتلاعب! تدري ليه؟ لأني طفشان وكنت معصب من قبل لا أشوف رقعة وجهك فقلت أتسلى معاك شوي!
وصلَ إلى أقصى حدودِ الصبر، وبحدّةِ ارتفاع حاجبه الأيمن هتف : متأكد تبي تتسلى معاي أنا!!!
ارتفعت زاوية شفتيه بابتسامةٍ ساخرةٍ ليُردف : ياشين حظك كانه رماك بطريق الشخص الغلط
امتدّت يده لقُفل الباب، وفي تلك الأثناء سمعا صوت خطواتٍ من خلفهما وصوتٌ اندفع مُتعجبًا : أدهــم!!
استدار الواقف ببطءٍ بعد أن استطاع تمييز صوته بسهولةٍ تامة، كيف لا وهو الذي تشاجر معه قبل أيام خلت، كيف لا وهو الذي كاد يقتله في شجارٍ قاتل!
وذاك تيبّس للحظاتٍ واسم " أدهم " انساب إلى أذنيه كانسياب رصاصٍ صُهرَ ليُعذبه، انساب إلى أذنيه وكأنما ما انساب ليس علَمًا تكوّن من أربعة أحرف، ليس مجرد اسمٍ بل كان أكبر من أن يتجاوزه دون توقف، أكبر من أن يتجاوزه بأدني بساطةٍ تُذكر.
وكيف عساه اسمٌ جاء من الماضي القريب أن يمرّ؟ كيف عساه يتجاوز أذنيه كنسيمٍ رقيق؟ لن يمرّ! لن يمرّ وإن مرّ لن يكون مروره مرورَ الكِرام، لن يكون نسيمًا بقدر ما سيكون سَمومًا حارقة، هواءٌ ساخنٌ يصهر أذنيه في اللا زمان!
" تشابه أسماء! مجرد تشابه يا شاهين، لا تنفعل، لا تِهتم، مجرد تشابه وبس!!! "
حاول أن يُقنع عقله بتلك الكلمات وبالكاد استطاع امساك زمام نفسه من الإندفاع ليسأله بتهورٍ إن كان يعرف شخصًا اسمه " متعب "، حينها سيكون سهلًا عليه تعرّف صحة ذلك من ردّة فعله قبل أن يفكر بالكذبِ عليه.
لكن كيف عساه لا يهتم يا الله؟ كيف عساه يتغافل عن السؤال والتأكد؟ كيف عساه أن يلزم الصمت في زمنٍ نسيَ الصمت نفسَه وتلاشى؟
تحجّرت نظراته بحجرِه بينما انساب إلى أذنيه حديثهما.
خالد بسخرية : ما تترك عادتك يا المشكلجي
رمقه أدهم باستحقارٍ قبل أن يدقق في ملامحه ويلحظ أثار كدماتٍ تكاد لا تُرى، وبمكر : شلونك اليوم؟ طيّب؟؟
خالد بقهرٍ وحقد : ولد عُرف شنتوقع منه؟ بس تفكر في المشاكل وتظنّ إنك تلفت الأنظار لما تجيبها لك
اتسعت نظرات أدهم مُحذرة، وبفحيحٍ أشبه بفحيح الأفعى : انتبه لكلماتك
ابتسم خالد بتحدي : وشاللي بتسويه يعني؟ تراك في المرة الماضية تقوّيت بحجة إنّي اللي بديت وبكذا ربحت شهادة الشباب ضدي، بس هالمرة أوعدك ماراح أمد يدي لحتى تمد انت .... يا ولد الأجنبية!!!
أدهم بحدة : ما عليه يا ولد الأصول ... وين الشهود طيب؟ ترى العالم ماهم مركزين معانا ومحد بيشهد على هواش مشوش بالنسبة له!
ارتفعت نظرات شاهين لتتثبت بعيني خالد وقد فهم مغزاه، حينها ابتسم بسخريةٍ ليفتح الباب ويترجل عن السيارة، هاتفًا ببرود : مو ناقصني وجع راس ... لا خلصتوا نادني يا الحبيب عشان ننتهي من موضوعنا ، وياليت غضبك يتفرغ مع هاللي قدامك لأنك منت ناقصني بعد .... ودي انتهي من سالفة الصدام بسرعة
لفظ كلماته تلك ومن ثم ابتعد عن المكان قليلًا بعد أن قام بتأمين سيارته، قليلًا بحيث يستطيع رؤيتهما وهما لا، فماالذي يجعله يضمن أن ما يحدث الآن ليس خطةً لإيقاعه وسرقته! خصوصًا أن أحدهما ... " أدهم "
الإسم الذي قد يكون حامله هو الرجل الذي بحث عنه طويلًا، الإسم الذي أرهق عقله بالتفكير به، ولربما رحمته الأقدار لتوقعه في طريقه، رحمته لينتهي طريق البحث الذي طال وجدًا.
رنّ هاتفه في تلك اللحظات وهو يرى مشاداتٍ في الحديث بين أدهم وخالد، رفعه ليتراءى أمام عينيه رقم أمه، كان سيتجاهل لأن المكان والزمان لا يُعينان للتحدث مع أمه خاصةً، لكنه رد بنية الإنتهاء من الإتصال بسرعةٍ فقط ليعلم ماذا تريد.
شاهين : ألو ... هلا يمه ...
قاطعه الصوت الأنثوي من الجهة المقابلة، صوتٌ لم يكن صوت أمه بل كان ... سوزان!!!
سوزان بقلق : استاز شاهين
قطّب جبينه باستغرابٍ من اتصالها هي به ومن رقم أمه!! وقبل أن يستوعب كان صوتها قد اندفع إلى أذنيه مُهرولًا : بترجاك أستاز تعال بسرعة ... إمّك تعبانه كتييير
اتسعت عيناه وجفل للحظاتٍ دون أن يرمش بجفنيه، توقف الزمن وهو يفكر أنّ هناكَ خطرًا يحوم حولَه، خطرٌ يسمى - الفقد - يعيد تدوير نفسهِ من جديد.
ظلّ مُجفلًا إلا أن نبّهه صوتها : بسرعة
أغلق مُباشرةً ودون تفكيرٍ اتجه لسيارته مُهرولًا، دون أن يكون استوعب كُليًا الأمر لكن يكفي أن أمه تعبَةٌ وهذا يُلخصُ الخطر بأكمله.
وصل للباب مٍتجاهلًا كل من حوله، مُتجاهلًا أدهم ومن معه، مُتجاهلًا التعويض الذي ذكره ومُتجاهلًا - أدهم الماضي - برمّته.
انتبه إليه أدهم ليقطب جبينه بوحشيةٍ وهو يراه يفتح باب السيارة ينوي الذهاب مُستعجلًا، لذا سحبه من خلفية ياقتِه بفظاظةٍ هاتفًا : وين وين؟ كذا عيني عينك تهرب!!!
استدار إليه شاهين بوحشيةٍ هو الآخر ليلكمه لكمةً أردته ساقطًا على الأرض، ولم يكد أدهم يستوعب الوضع مُتسِع العينين حتى كان شاهين يركب سيارته ويُغلق الباب.
صرخ أدهم بغضبٍ حقيقيٍّ هذه المرة وهو يقف ليُسرع ويلحق به : هييييييه ياحماااااااار
لكن شاهين كان قد تحرك بسرعةٍ مُتجاهلًا له بل لم يكن معه من الأساس.
وقف أدهم في مكانه لثوانٍ وهو متسع العينين بصدمةٍ لا يستوعب ما حدث، كيف استطاع شاهين خداعه بهذه البساطة وهرب؟ كيف احتال عليه وجعله يثق بعدم هربه ليهرب أخيرًا؟؟؟
شدّ على أسنانه بغيظٍ وهو يشعر بالحماقة تتخلخله، لتُصدَر صوتُ ضحكةٍ خافتةٍ من الخلف كانت ضحكة خالد الساخرِ منه، ثم بدأت الضحكة بالإرتفاع تدريجيًا حتى استدار أدهم صارخًا في وجهه بغضب : وانت يا الحمار الثاني ... اقسم بالله ذابحك اليوم ، ذابحـــــــك
رفع خالد حاجبيه بتحدي، ثم رفع هاتفه ليتظاهر أنه يُكلم شخصًا قاصدًا السخرية اللاذعة به : ألو ... تدري يا الحبيب، عندي شخص واقف قدامي كان يلعب الغميضة مع صاحبه وقدر صاحبه يهرب منه بكل بساطة وهو يضحك عليه .... هاه ، لا لا اسمه أدهم مو تكسّرت سيارتي وانضحك علي، ههههههههههههههههههههههه
ضحك أكثر وأكثر، وهو يقصد بذلك إغاظة أدهم أكثر مما هو عليه، وقد كان له ما أراد، إذا اندفع إليه أدهم بغضب الأرض ضاربًا له بقهرٍ من كل ما يحدث من حوله، بينما بقي خالد واقفًا يتلقى الضربات دون أن يُدافع عن نفسه، ولم يكن ليتوقف ضربه له لولا تدخّل القليل من الكثير اللذين انتبهوا للشجار الذي يحدث أمامهم.
أزاح رجُليْن أدهم عن خالد المتكور على بطنه بعد أن رفسه أدهم حين أمسكا بيديه ودفعاه عنهُ قليلًا، ليلفظ بغضبٍ وقهر : خلوني عليه الـ*** الـ*** ... أنا اليوم ذابحه ذابحه
شدّ خالد على أسنانِه ليبدأ بما كان يُخطط له منذ البداية، وبتساؤلٍ مقهورٍ - مُتصنع - : نعم! جاي لعندي وتضربني كِذا بدون سبب وبعدها تتلفظ علي!!
أدهم بغيظٍ وهو يحاول تحرير يديه : تفوووو عليك يا المايع يا الدلووووع
مسح خالد على وجهه وكلماتُ أدهم أشعرته بالغضب والحنق لكنه تحاملَ على غضبه لينطق : ماراح أرد على واحد مثلك، تحاول تستفزني عشان أضرب! لا الحمدلله ما وصلت لهالهمجية بس ان شاء الله موعدنا مع الشرطة
شعر بكفٍ على كتفهِ ليستدير لصاحب الوجه الوقور والذي هتف بمودة : خذ العفو وأمُر بالعرف ، لا تكبرها يا ولدي وسامح والله بيعطيك ثوابك
نظر إليه خالد ثمّ هتف بقهرٍ لبق : بس ياعم هذي ماهي المرة الأولى اللي يعتدي علي فيها بدون سبب
اتسعت عينا أدهم وهو يلفظ باستحقارٍ له : اي يا ابني الصغيرون روح بعد اشتكي للماما أكيد بتبكي عليك وتساندك
كشّر بوجهه مُردفًا بازدراء : تخسى تكون رجال انت
كان خالد ليردّ بغيظٍ لكن الرجل منعه ناصحًا برقة : ما عليك منه يا ولدي .. المرجلة ما تكون بالأيدي ، خلك أحسن منه وسامح
صمت خالد قليلًا، وعقله وكلّ مافيه يرفض فكرة أن يُسامح وهذه هي فرصته ليردّ له الدين، لذا هتف برفض : معليش يا عمي ، لو سكت له مرة ومرتين فالثالثة ثابتة، وقتها راح يقتلني بطيشه أكيد
ابتسم أدهم ساخرًا، وبفحيحٍ أشبه بفحيح أفعى ماكرةٍ تُحاول إغاظته بصوتها : ما عندي مانع يا ولد الماما ... شرايك نروح للشرطة الحين؟ صدقني بمشي بكامل رضاي
تكلّم الرجل قاصدًا أدهم : استهدي بالله يا ...
قاطعه أدهم بفظاظة : محد طلب نصيحتك
هزّ الرجل رأسه بيأسٍ وهو يدعي له بالهداية، ثمّ نظر لخالد هاتفًا قبل أن ينسحب : كون أحسن منه
نظر خالد لأدهم مطولًا، وابتسامةٌ ضئيلةٌ ارتسمت على شفتيه، ثمّ اقترب منه ببطءٍ ليهمس بوعيد : موعدنا عند الشرطة ، وهالمرة كل شيء بصالحي أنا


,


الساعة الثانيةَ عشرة - منتصف الليل
نظرت للساعة بصمتٍ غيرَ مُرحبٍ به، مضت الساعات ولم يعد! لكن لمَ قد تقلقُ عليه، هو ليس طفلًا حتى تخاف عليه، وبالتأكيد سيعود خلال دقائق.
وقفت بعد أن كانت جالسةً أمام مرآةِ التسريحة تُمشط شعرها لتتركه في النهايةُ حرًا ينساب على ظهرها بتموجاته الناعمة، ثمّ اتجهت للسرير ونور الأبجورة وحده ما يضيء الغرفةَ إضاءةً خافتة.
واليومُ وإن كانت في مُعظم ساعاته بعيدةً عنه إلا أنه من أسعد أيامها معه وكيف لا يكون وحلمها بدأ مسيرة التحقق؟ كانت تمشي بخطواتٍ بطيئةٍ وكفها تعبر تضاريس بطنها بشغف، ثمّ تنهدت وهي تغمض عينيها تتخيل الكثير والكثير، يومًا ما ستبدأ حركاته بمضايقتها في نومها، في صحوتها، وما أجملها من مضايقات، يومًا ما ستبدأ بسماع صوت نبضاته فتبتسم لنبضاتٍ هي لها إحياء،
ويومًا ما سيكون بين يديها فلا تحرمها من هذا الشعور يا الله!
استلقت بعد أن نزعت الروب الأسود عنها ليظهر قميص نومها الطويل، وملامح وجهها تجعدّت بقلقٍ بعد أن كانت مُسترخيةً بسعادة، وعيناها تلقائيًا اتجهت للساعة، وهكذا تكون حين تستلقي وهو ليس بجانبها، هكذا تكون حين يأتي موعد النوم وهو خارج البيت غاضبًا، لكن لمَ تهتم؟ فليغضب فهي المظلومة أخيرًا وليس هو، لا يجب أن تشعر بالذنب لأنه هو من أذنب في حقها وآذاها حد الوجع النفسي.
هو من كان الجلاد لقلبها، وأصبحت هي الواقفة على حُبه الهش، حبه الذي باتت تخشى أن ينكسر فتسقط، تخشى أن يتصدع أكثر مما هو متصدعٌ الآن بفعل طاحونته - شفتيه - القاسية.
والإنتماء بين يديْك فكيف عساي أغترب عن وطني؟ أتكون خيانة الوطن في عينيّ هيّنـةً لأُسافر عنه؟
وأنت دمِي إن لم تكن وطني، فهل لجسدي القدرة على تجفيف ذاته منك فـ يعيش؟
تقلّبت كثيرًا وعيناها بين كل ثانيتين تتجه إلى ساعة الحائط، وقلبها في هذه الأثناء بات كالساعة يُصدر دقّاتٍ تعدّها أذنيها لتضيِيع الوقت، لمحاولة جلب النوم وهل تستطيع؟
اتجهت العقارب للـثانيةَ عشرة وخمس عشرةَ دقيقة، والنوم انتظره كما تنتظر هي، انتظر قدومه ليأتيها.
أغمضت عينيها تحاول تجاهل رغبتها في انتظاره وجلب النوم قسرًا، لكنها ما إن أغلقت عينيها حتى صدر صوت انشراع باب الجناح الخارجي ليقفز قلبها بنبضاته وتفتح عينيها.
لكنها سرعان ما أغلقتهما تحاول تثبيط عزيمة النابض هناك بين أضلعها، إن كانت تهتم لأمره فسوف تتظاهر بالعكس، إن كان حبّه مُتمكنًا منها فسوف تتظاهر بالكره ... وهكذا يكون النزال بين قلبين في حين كانت المشاعر فيهما مُتناقضة. والتناقض الأعظم يكمن فيها وليس فيه حقيقةً، فمن ذا الذي يُحب من يأخذ ولا يُعطي؟ من ذا الذي يُحب من ينتظر الكثير ولا يُجازي؟
وما بيدها إلا أن تُجاري هذا التناقض لتنظر إلى أيّ مدًى قد تصل. والحُب لعينيك فرضٌ إن لم أقم بهِ أهلكاني، والكُره لهما مُهلكةٌ أشدّ، فحُزنٌ يُحيِي ولا فرحٌ يُميت.
أغمضت عينيها بصورةٍ أشد حين سمعت صوت خطواته المُقتربة من السرير، وقد كانت قد تركت باب الغُرفة مشرّعًا له لما لا تعلم! والآن هاهي تواجهه بظهرها المُغطى بلونٍ قال في يومٍ من الأيام أنها - ملكةٌ به -
وقف للحظاتٍ ينظر إليها من ارتفاعه، ولم يكُن صعبًا عليه أن يُدرك صحوتها فصوت أنفاسها يكاد يخترق أذنيه.
ابتسم ابتسامةً تكاد لا تُرى، ابتسامةٌ بلا معنى ثم تجاوزها ليتجه للحمام في حين خوفٍ منها، خوفٌ لا تعلم ما مصدره تحديدًا! ولمَ تخاف منه الآن؟ بل لمَ تتصنع النوم وهي التي كانت تنتظره منذ ربع ساعةٍ خلت؟
دقائقُ قصيرة كان بها في الحمام، وكانت تلك الدقائق كافيةً لجلب النوم لعينيها بعد أن ذهب قلقها أدراج الرياح بعودتِه، ارتخى جفناها وقد بدأ عقلها بالغياب إلى عالم الأحلام حتى أنها لم تشعر به حين تمدد جانبها بعد أن بدّل ثوبه ببجامته المُعتمة.
اقترب منها وهو لا يستطيع الآن تبيّن إن كانت لا تزال تتصنع النوم أم نامت فعليًا، فأنفاسها هدأت بعكس ثورانها حين دخوله.
همس : لسا ما نمتي؟
لم ترد عليه ليضع أنامله على كتفها برقة : إذا ما نمتي ودي أتكلم معك بخصوص اللي تمشكلتي فيه معي قبل لا أطلع.
عبس حين لم ترد، فلفَـظ " مي " وهو يعلم أن نطقه لهذا الإسم يستفزها بالحجم الذي يجعلها ترد عليه. لكنها أيضًا لم ترد! ليتأكد أنها بالفعل نائمة وغير مُتصنعة.
زفر بصمت، ثم اقترب منها أكثر لتُلامس أنفاسه أذنها، وبهمس : عاندي ... مثل ما تبين ، لأن كل هالعناد ماراح يتجاوز مجرد تفكير .... لأنك قول بدون فعل! وهذا اللي يريحني من ناحيتك!
اقترب أكثر حتى لامس أذنها بشفتيه هذه المرة، وبوعيد : بس الا هو .. قلتي وما فعلتي، لكن صارت المرة الثانية اللي تقولين فيها معصية وتسوينها
بتكون هذي الأخيرة يا ديما ... بتكون المرة الأخيرة اللي تركبين فيها مع شخص غيري ... صدقيني

*

: وين كنتِ؟
نظرت إليه بعد أن وضعت حقيبتها، بعينين كان بريق التمرد فيهما أشد من بريق جمالهما، أو ربما هذا البريق هو ما يُهديهما الجمال!
بُثينة بهدوء : كان عندي موعد مع صديقتي وما كان عندي وقت أنتظرك أو أتصل فيك
عقد حاجبيه دون رضا، وبغضب : ما كان عندك وقت تتصلين فيني! بس كان عندك الوقت عشان تتصلين في السواق مو؟
بثينة ببرود : مين قال؟ هو كان موجود من غير
ضرب بقبضته على الطاولة أمامه ثمّ وقف بعد أن كان جالسًا : كذااااابة ... كنت مرسله لشغلة في الوقت اللي طلعتي فيه
قطّبت جبينها بغضبٍ هي الأخرى : طيب إيش فيها؟ وليه الحين قاعد تصارخ بوجهي كأني أجرمت بشيء!!! بغيت أطلع واتصلت على السواق عشان يوصلني صار شيء؟
سيف بغضبٍ حاد : صار أشياء مو شيء ... تحررك صار أكبر من علاقتنا وعنادك لي أكبر جريمة!
تأفأفت بثينة هاتفةً بقلة صبر : علاقتنا علاقتنا ... أبثرتني بهالعلاقة اللي صايرة تخنقني! حاسة نفسي مسجونة مو متزوجة
أمسك سيف بمعصمها وحاجبيه مُنعقدان بغيظ : بثينة .. استهدي بالله وخلينا نعيش مرتاحين، حالتك ماهي عاجبتني وفيه فرق بين العزباء والمتزوجة! متى ناوية تفهمين هالشيء؟؟؟
شدّت بثينة على قبضتها لتهتف بخفوتٍ غاضب : ما ودي أفهم .. ارحمني من تشددك يا سيف
ضغط على معصمها أكثر بصبرٍ انتهى ونفد، وبغضب : متشدد؟ تعتبريني متشدد وانتِ تطلعين وتدخلين على كيفك؟ وهالسواق الثاني صاير خاتم في اصبعك يتستر عليك ويظنني أهبل ما أدرك اللي يصير حولي!!!
أردف وهو يشدّ على معصمها أكثر وأكثر حتى كاد أن يُحطم عظامها : شخص غيري كان بيفهم الأمور بمنحنى ثاني! بس لأني أعرفك كويس تفكيري التزم حدوده، بس هالحدود ما تشفع لك ... ما تشفع لك يا بثين!
فيه حدود بين المرة والسواق، وانتِ بمجرد ما صرتي تغريه بالفلوس وتحركيه بكيفك تجاوزتي كل معقول ... تجاوزتيه كثييييير يا زوجتي!!
في تلك الأثناء اعتلا صوتُ بُكاء زياد البالغ من عمره سنتين ونصفًا، حينها ترك معصمها بغضبٍ هادر لتفرك المنطقة التي كاد أن يحطمها بكفها الأخرى، بملامح تصاعد بها التمرد والغيظ، وبريق عينيها جعله يُدرك أنها ستعانده ... أكثر وأكثر.
لذا كان صباح اليوم التالي هو صباح ترحيل السائق وإطلاقه من عمله!!


,


ساعدها في الإستلقاء بيدٍ حنُون وهو ينظر إليها بقلق : بشويش يا الغالية جعلني ما أذوق فرقاك
ابتسمت له بحُبٍ هامسة : الله لا يحرمني من برك
لم يردّ لها الإبتسامةَ بدوره، بل نطق بقلقٍ وجدية : سمعتي وش قال لك الدكتور؟ ياليت بس تسمعين له يا يمه ، ياليت بس
لم تختفي ابتسامتها الحنون من بين تجاعيد وجهها وهي تهتف بخفوت : ما دام عندي ولد اسمه شاهين بعد الله فأنـا متأكدك اني بكون بخير
ابتعد قليلًا وهو يرسم الحدة على ملامحه : يمه ، الحياة ماهي لعبة والحذر واجب، وش اللي خلاك بالله تدخلين المطبخ وتشتغلين؟ هذا وانتِ عارفة هشاشة عظامك وإن ما وصلت لمرحلة ما تسمح لك بالحركة إلا أنها كافية عشان تلتزمين بالقواعد الطبية، وكفاية إنك من الأساس ما تشربين دواك بانتظام وهذا اللي ما يسمح بعلاجك.
عبست بعتابٍ هاتفةً بغنج : ليه تعاتبني الحين؟ ربي كتب أطيح تبيني أعترض على قدره؟
شاهين : والنعم بالله بس ربي قال ولا تلقوا بأيديكم للتهلكة، وانتِ عارفة إنّ أي اصابة في عظامك ماراح تلتئم بهالعمر!
زفرت وهي تمطّ فمها من هذا الحوار الذي أثار مللها، ثم رسمت ابتسامةً ودية وهي تلفظ : وين سوزان ما أشوفها؟
استقام شاهين واقفًا وهو يجاريها بتغيير دفّة الحديث : أكيد بغرفتها، تعرفينها مستحيل تجلس في مكان أنا فيه
ضحكت بخفوت : فديتها على هالتحفّظ ، وربي يجازيها بالجنة تعبت معي اليوم في المستشفى، كانت رافضة فكرة رجعتها الا معي
ابتسم لها وهو يلفظ محاولًا إنهاء الحديث لتنام : طيب يلا يا بعد دنياي ارتاحي الحين، وأنا رايح للمطبخ أسوي لك حليب مع قشر البيض عشان تشربيه
كشّرت لكن صوته قطع كُل سُبل المُعارضة : وبدون اعتراض ... بتشربيه كلَّه


,


مُمددةٌ على سريرها دون أن يكون النوم يُداعب جفنيها، كانت تتأملُ سقف الغرفةِ بنقوشاته بصمتٍ وتفكيرٍ عميق. إنّ حياتها شائكة! تشعر بأن شخصيتها مُتناقضةٌ مُتصنعَة، والتناقضُ يكمن أولًا وليس أخيرًا في بريق عينيها اللتان تعكسان ماليس في داخلهما، تعكسان الدلال والترف والتمرد، بينما هي في داخلها العكس من ذلك تمامًا، هي في داخلها خاويةٌ تُجاري الدرك الأسفل في الحياة! وماذا تتوقع بعد ذلك؟ إن كانت الدنيا بما فيها قد خانتها أتتوقع وفاءً من نفسها حتى؟ وهي التي باتت تحذر حتى من نفسها التي خانتها مرارًا ومرارًا، نفسها التي خانتها آخر مرةٍ حين كُتبَ لها تدمير ذاتها، لتُصبح الآن ملكًا لرجلٍ وهي التي كرهت الرجال حتى أماتتهم من تفكيرها.
رفرفت أهدابها الكثيفة بحركةِ أجفانها تُداري بعض الدموع التي لا تُبارحها أثناء خلوتها، دموعها التي لربما ستكون هي الوفيّة الوحيدةُ لها، وكم تتمنى ألا يكون عكس ذلك!
ودايمًا ما تضلُّ الطريق في فكرها قبلًا، لـذا هي مُتأكدة .. ستخونها دمُوعها يومًا!
سمعت صوت رنين هاتفها القابع بجانب وسادتها وتجاهلته، تجاهلت ضجيجه مُغمضة العينين لتنام! أوَضجيجُ هاتفٍ أكبر من ضجيج ذاتها؟ . . لـذا كان رنين الهاتف - لا شيء - في أذنها.
انتظرت انقضاء الرنين، فقط لتقوم بعادتها، وهي وضع السماعات في أذنها مستمتعةً بمزامير الشيطان والنومِ بكل أريحيةٍ حتى تهرب من واقعها.
لكن من بين ضجيج الهاتف اعتلا ضجيجٌ آخر، ضجيجٌ رجوليّ دفعها لفتح عينيها وتوجيهِ نظراتها للباب.
في حين كان سُلطان يتحدثُ في الهاتف بصوتٍ عالٍ بعض الشيء، يشتمُ ويشتم! حتى أنّ الفضول داهمها لتنهض وتتجه للباب لتفهمَ ما سببُ هذا الغضب.
فتحت الباب قليلًا، فقط بالدرجة التي تجعلها ترى هيئـته، وقد كان يطوف ذهابًا وإيابًا كأسدٍ حبيس، يتحدث بغضبٍ حتى أنّ الكلمات تداخلت في عقلها ولم تفهم سوى ( حريق و سلمان )
قطّبت جبينها تُحاول الربط بين الإسمين، وبهمسٍ مُتسائل : يعني لازم اسم سلمان ما يرتبط الا بالحرائق؟؟؟
هزّت رأسها يمينًا ويسارًا ببطءٍ وهي تمطّ فمها، وقد ارتبط اسم سلمان سابقًا بحريق منزل ابن أخيه، ومن ثمّ إحدى مخازنه ... والآن ماذا؟؟
رُغمًا عنها أشفقت على سلطان، هي لا تعلم الكثير عن التفاصيل، لكن يكفي أن تعلم أنه خُذل .. تمامًا مثلها!
وماذا إن خُذل؟ أيُعقل أنها تشفق عليه الآن؟ إنـه في النهايةِ رجل، عكسها تمامًا، يستطيع أن يُقوّم حياتـه دون أحد، ليس مثلها، وليس كبقيةِ الإناث اللاتي لا يستطعن الإستناد إلا على رجل، لكن هي ستُحيد عن القاعدة، لن تنتظر رجلًا حتى تستند عليه وستستند على أرجلها فقط ... وليذهب سلطان إلى الجحيم!
عقدت حاجبيها وغضبٌ تجلى دون مُبرر، غضبٌ دفعها لفتح الباب والهتف بوقاحة : خفّض صوتـك ... ودي أنام
لم يلتفت إليه سلطان وهو يُغلق الهاتف وقتامةُ ملامحه وحدها نذيرٌ كافٍ ليبتعد كلّ شخصٍ عنه. لم يُجبها، ولم تتحرك حدقتيه باتجاهها حتى، وكأن لا أثنى تقف قريبةً منه أو صوتها اتجه إليه.
ازداد انعقاد حاجبيها وغضبها وإن كان في البداية دون مُبرر إلا أنه الآن جاء لتجاهله لها، تُريد منه الردّ لترد بما هو أعنف، تريد منه الردّ لتُفرّغ الشحنات التي تجتاحها بِه.
زمتّ شفتيها بخفةٍ قبل أن تهتف : أطــرش
أغمض عينيه ببطءٍ وهو يُكمل مسيرةَ تجاهله لها، وبعد لحظتين تحرك لتنتفض دون شعور، لكنها بقيت على موقفها وهي تنظر له بعين القطة، بينما اتجهت قدماه إلى غرفته ... ببساطة!
فغرت شفتيها قليلًا وبعض الراحة داهمتها، كانت تُريد منه الرد، لكنها في الحقيقة ارتاحت بعدمه!
وأيّ تناقضٍ تعيشه؟ أيّ صراعٍ هذا الذي يجتاح شخصيتها المهزوزة؟ إنها كقطرة ماءٍ في بحر، كحبةِ رملٍ في صحراء، إن غابت لن يتأثر الكون ولن تهتزّ الطبيعة، لذا كان حريًا أن تكون بتناقضٍ مُثيرٍ للشفقة، تتصنع القوةَ تارةً بكونها قطرة/حبة رمل، لتضعف حين تتذكر أن - غيابها لن يضر -


,


الحاديةَ عشرةَ بتوقيت بروكسيل
كانت مُستلقيةً على جانبها الأيمن، أغمضت عينيها وهي تُهدي فواز ظهرها، وهو كان العكس من ذلك، يواجه ظهرها بوجهه، يتأمله طويلًا في حين كانت نائمةً أو ربما كانت نائمة!
بل على الأحرى لم تكن نائمة، كانت تشعر به يتطلّع بها، تشعر بنظراته التي لا تُفسر، نظراته التي تصبّ جامَ لا تفسيرها عليها! تخترق ظهرها لتمنعها من النوم مطولًا. غادرها النوم كما غادرتها الحياة قبلًا لتُصبح جثةً تمشي بلا شعور، لتُصبح " زومبي " حيْ! ومنذُ أن صرّح لها برغبته في عودتها معه للرياض وهي مُشتتةٌ ذهنيًا، لن تيأس، ستُحاول إنحاءهُ عن رغبته وتركها أو البقاء!
شدّت جفنيها بقوةٍ على مرآةِ عينيها تُحاول جذب النوم إليها، لكن كيف لها ذلك ونظراتُه ضجيجٌ كافٍ ليضيع النوم بين تردداته؟
أما هو ... فقد كان ينظر إليها بصمت، نظراتٍ لا تُفسّر وفكرةٌ ما طرأت عليه، خطوةٌ لاحقةٌ يفكر أيخطوها أم لا؟ ورجلٌ شرقيٌ مثله قد يصعب عليه أن يندفع بخطواته لهذا الطريق، لكن لأجلها، لأجلها فقط والأهم هو ما نهاية الطريق، الأهم هو الهدف لذا لن يلتفت للأشواك أسفل قدميه، المهم هو ما ستؤول إليه علاقتهما فيما بعد.
سمع صوت أنفاسها تُثار باستنشاقها للأكسجين بعنف، ثم استدارت إليه فجأةً ليتبس تفكيره للحظاتٍ قبل أن تهتف بعنفٍ وعُنف الإحراج في عينيها أكبر : لا عاد تناظرني بهالشكل، أبي أنام
ارتسم شبح ابتسامةٍ على شفتيه، وعينيه تسيران على ملامحها التي تضاءل بياضها في عتمة الغرفة، ثمّ بهمس : نامي ، عيوني ما منعتك هي بس تتأملك
ارتبكت نظراتها مُشتتةً حدقتيها، وتلقائيًا عادت لتستدير عنه وتواجهه بظهرها : ودك تتأمل ظهري تأمله ما عندي مانع
اتسعت إبتسامته على نبرةِ الحرج في صوتها وهو يمدّ يده لتقع على رأسها، حينها ارتعش جسدها بخفةٍ ولُجم لسانها وهي تستمع لصوته الهامس : كِذا والا كذا عيوني تتأملك، وتتأمل سحر شعرك خصوصًا
ازدردت ريقها ببطء، وكفّهُ كتيارٍ مررَ الكهرباءَ في جسدها لترتعش ويرتعش تفكيرها.
فواز يُردف بابتسامةٍ وهو يشعر بتأثيرهِ عليها : قد قلت لك قبل إني أعشق شعرك؟ تراه ياخذ جزء بسيط من عشقي لك فما بالك بكِلّك؟!
ابتعدت عنه بسرعةٍ وكأن كلامه قد لسعها برقته، لسعها بحنانه الذي لا تستطيع ردّهُ له.
همست بغصة دون أن تواجهه بوجهها : الله يخليك فواز .... خلاص
لكنّ كفه كانت الأسرع قبل لسانه ليُعيدها بقربه بل أكثر، حتى أن جسدها قد التصق بهِ كُليًا وصدرهُ يشارك ظهرها في دفئه.
ارتعشت بعنفٍ وهي تشعر بقواها قد خارت أمام دفئه، وعقلها يسألها مرارًا وتكرارًا " أتكرهينه حقًا؟ "
أتكرهه بالفعل أم ماذا؟ وإن كانت تكرهه بالفعل فلمَ إذن لا تبتعد الآن؟ لمَ لا تشعر بأي رغبةٍ في مواجهته بعنفٍ والإبتعاد؟
لا ، لا .. هي لا تكرهه، هي فقط عاتبة، عاتبةٌ لا غير، لكنها أيضًا لا تحبه! مشاعرها تجاهه .... أخويةٌ لا غير!!!
والمشاعر الأخوية قد تدفعها لقبوله وحُبّه كزوجٍ مستقبلًا، لكنّ عتابها يطغى على مشاعرها الأخوية تلك وعقلها الباطن يُقنعها أبدًا أنه هرب من واقعه معها يومًا! شكّ بها يومًا! أحزنها وأشعرها بالنقص وبالكثير حتى وإن لم يكُن يقصد ذلك، لـذا هي عاتبة، عاتبةٌ لكن ليس بالقدر الذي يجعلها تصدّه مطولًا وتكرهه، لكنّها عاتبةٌ بالقدر الذي يدفعها للإقتناع بأنها تكرهه!
همسَ لها وهو يُحيط خصرها بإحدى ذراعيه ويدهُ الأخرى تُداعبُ خصلات شعرها : تذكرين وش قلتِ لي مرة؟ ... ماراح تمنعيني من حقوقي.
اضطربت أنفاسها وفغرت فاهها، بينما استرسل هو : بس أنا الحين ما أبي منك شيء!
تدرين ليه؟ لأنّي أبي أشوفك بالأبيض قبل، من حقك تجيني بالشكل اللي تتمناه كل بنت ... كاملة بالأبيض.
وأنا ماودي أسلب منك هالحق، ولاراح أستغل الظروف بحجة حقوقي!
زمّت شفتيها بعبرةٍ وهي لا تدري بمَ ترد، وكمية الحنان الذي يُغرقها به في كلماته سلب منها أيّ قُدرةٍ على الرد.
شدّ على خصرها أكثر وهو يُكمل همسَه في أذنها : بس لهذاك الوقت اللي تلبسين فيه الأبيض، أنا حاب إن مكانك يكون هنا وقت النوم ... بحضني
تنفّست باضطرابٍ بينما أغمض هو عينيه وأنفه مدفونٌ خلف أذنها يستنشق رائحة جنونه، يستنشق رائحة شعرها.
فواز بخفوت : نامي
أغمضت عينيها تلقائيًا مع أمره اللطيف ذاك، بتشتتٍ وأسنانها تلامس شفتها السُفلى رغبةً في العضّ بقوةٍ حتى يُطرَد هذا الشعور بشعورها بالألم، شعور الأمان والراحة بين أضلاعه، شعورها بالإستسلام إليه، شعورها بالضعف بين حناياه!
وفي تلك الليلةِ شعرت أنها تخوضُ حربًا مع أفكارها وذاتها، تلك الليلةِ تحديدًا كانت طويلةً نائمًا هو بعد هذا القرب، وهي المُتيقظةٌ لحضنه وحسب!
إنّ الطريق يطُول لتعذيبي، والمواقف تتشابك في ذهني حتى تُرهقني ... وأستسلم!


,


الساعة السادسة صباحًا.
رفعت شعرها القصير برباطٍ أبيض يتماشى مع لون قميصها الفضفاض، ثمّ نظرت لملامحها الشاحبة مطولًا وهي تفكر في الكثير، مُستقبلها وأحلامها تضيع بحُزنها السخيف على ماضيها الضائع .... السخيف! رُبما بل بالتأكيد ستكون هذه الكلمة اجحافًا في حق حزنها، فأيّ سخافةٍ قد تكون؟ وأين فرحها من كل هذه الصدمات والضغوطات الحياتية؟ إنها بشر، وهم يهلكونها يومًا بعد يوم بصدماتٍ لا يحتملها آدمي.
واليوم هي ستكون فولاذًا مُتهالكًا تجاه هذه الصدمات لتعيش فترةً وجيزة إلا أن ترحل من هنا وتُريح نفسها وتريحهم أيضًا منها ومن حملها الذي سمح للبعض منهم بظلمها.
تناولت عباءتها لترتديها كما اعتادت قبل تلك الحقيقة، لن تنزل إليهم بغير ما اعتادته وهي في نظرها إلين المكفولة فقط!
اتجهت للباب بعد أن غطّت شعرها وأخذت حقيبتها ثم فتحته وهي ترسم على وجهها برودًا صقيعيًا. كانت ستتجه لغرفة هديل أولًا لكنها شعرت بالغرابة في ذلك عكس العادة، هاهي فقدت عفويتها حتى مع هديل! وأيّ عفويةٍ قد تظلُّ بعد أن سُلبت هويتها المُعتادةُ بينهم؟ بعد أن سُلبت مكانتها التي هي في نظرها مرموقةٌ أكثر من مكانتها حاليًا!
نزلت بخطواتٍ باردة تعكس نظراتها الميتة، ولسوءِ الحظ كان ياسر وقتها مُتجهًا للباب حتى يخرج لكنه توقف حين انتبه إليها.
قطّب جبينه قبل أن يرسمَ ابتسامةً ودودة، ثم اقترب منها لتتراجع تلقائيًا وهي تنظر إليه نظراتٍ لا تفسر، وشعورها في هذه الأثناء هو الذي لا يُفسر! وهاهي أفكارُها المؤلمةُ والمُعذبِة تعود إليها من جديد لتلسعها بحرارة الخِزي والخجل.
أكنتُ أحبك يا من تُسمى أخي؟ هل كان قلبي يحمل كل ذلك الإنحلال حتى فقد بصيرته ليُحبّ من هو مُحرمٌ عليه؟ ليحبّ بتلك الصورة البشعة!
وفرضٌ عليّ الآن أن أكره نفسي وقلبي قبل أن أكره ذاك الحب الذي تحول لصورةٍ بشعةٍ من الكُرهِ الآن كما أكرهك أنت أيضًا!!
هتف بمودة : أوصلك في طريقي؟
قطبت جبينها دون رضا أو بالأحرى بكرهٍ لا تعلم كيف حلّ على قلبها لمن لا ذنب له، لكنها قاومت ذلك الكُره لترد بصوتٍ بارد : مشكور .. بروح مع هديل
ياسر : بس هديل كان ببالها ماودك تداومين لذلك داومت من غيرك
نظرت إلى وجهه بينما كانت قبلًا مشتِتةً نظراتها عنه، ليردف هو مُستدركًا : كانت بتسألك بس أنتِ صار لك فترة ما داومتي عشان كذا قلت لها تتركك
ازداد انقطاب وجهها، لتهمس ببرودٍ مُنفر : خلاص ماله داعي تاخذني بطريقك، غيرت رأيي ما ودي أداوم
استدارت لتعود أدراجها إلى غرفتها لكن يده امتدت ليُمسك بكفها، حينها استدارت إليه بعنفٍ ونظراتها المصدومة جعلته يُفلت يدها بهدوءٍ ورقة : الجامعة بطريقي ... يعني مافيه أي حرج
صمتت مُطولًا وهي تقبض على كفها أسفل صدرها وكأنها تخافُ أن يمد يده مرةً أخرى ويُمسك بها، كانت ستُفصح بعنفٍ أنها لا تريد الخروج معه لكنها تراجعت عن عنفها الغير مُبرر لتهمس : طيب ... الحين بلحقك
ابتسم لها ثم هتف بمودة : أنتظرك
اختفى في ثوانٍ عن أنظارها لتبدأ بالتفكير مُطولًا، أتلحق به أم تُظهر نفسها بصورةٍ قبيحةٍ بتجاهلها له!
لكن ما ذنبه لتكرهه؟ هي من أحبته قبلًا وليس هو من أجبرها على ذلك! هي من تمرد قلبها ليخوض في الحب وياليته لم يفعل، يا ليته لم ينبض له وبه! وماذا تفيد ليت الآن بعد أن سلكت ذاك الطريق الماجن ولا أمل في العودة للخلف وقد تحولت إشاراته المرورية لحمراءَ أبدية!
زفرت تستجمع خلاياها الدماغية، تُفكر بعقلانيةٍ أن لا ذنب له بل هي في الحقيقةِ من أذنبت لذا يجب عليها أن تدوس على كرهها كما داست على حُبها من قبل وأسدلت عليه ستارًا ليُحجَب عن كل من حولها.
استغفرت عديدًا، ثم قررت أخيرًا أن تذهب معه بما أنها أعلمته بذلك، غطّت وجهها بنقابها أخيرًا واتجهت للباب لتخرج.
ركبت في الخلف، وهو تجاهل الأمر ولم يحبذ أن يُجبرها بعد أن اعتادت واعتاد هو على هذه الحدودِ بينهما.
تحرّكت السيارة والصمتُ كان مُبالغًا به للدرجة التي جعلت صوت أنفاسهما سهل الإنتشار مع جُزئيات الهواء، وأيّ صوتٍ قد تحجِب جُزيئاتـه صوت أنفاسهما في هذه اللحظات؟
مدّ يده ينوي تلويث هذا الجو الصامت بتشغيله للإذاعة لتتعالى صوتُ الأغاني القديمة في هذا الوقت المُبكر من الصباح. حينها تغضّن جبينها، وانتظرت على أمل أن يُغيّر الإذاعة لكنه لم يفعل.
لو أنها ركبت معه قبل شهرٍ على الأقل، في هويتها السابقة، في لباسها القديم والأجمل في عينيها، لكانت طلبت منه بعنفٍ أن يُبدّل القناة. لكن ما الفائدةُ من التمني؟ هاهي بحلتها الجديدة والقبيحة، حلّتها التي أوجبت عليها رسم الحدود بينها وبين هذه العائلة، الحلّة التي باتت كالستار الذي يحجب عفويتها معهم، والحلّة التي منعتها الآن من أمره بغضبٍ أن يُيبدّلَ القناة.
وليت - ليتَ و لو - يُبدلان الأحوال والزمان، ليتهما يُبدلان الوضع الكئيب لما هو أجمل وأنقى.
أسندت رأسها بصمتٍ على زجاج النافذة، تحاول السفر بعقلها إلى تفكيرٍ آخر لتغييب عن واقعها وتغييب أذناها عما تسمعان.
لكنّ صوتَهُ جاء ليُغلّف شرودها الوهمي ويثير اهتمامها إليه : ما ودك تحكين بشيء؟
صمتت لثوانٍ تنظر إليه عبر فتحة النقاب ببرود، وبانزعاجٍ من صوت الأغاني التي اعتادت بُغضها وغُلّف قلبها بكرهها : بـ إيش أحكي؟
ياسر بهدوء : احكي أي شيء يثبت إن إلين لساتها عايشة!
زمّت شفتيها حين ارتعشتا بعبرة، والغصةُ كانت حاجزًا في بلعومها أخرح صوتها مُختنقًا : طيب قفل الأغاني أول
شعر بالحرج لتمتد يده مُباشرةً ويُغلق الإذاعة، كيف نسي أنها لا تستمع للغناء؟
ياسر بحرج : معليش ، ما أسمع الأغاني كثير بس صارت عادة عندي اسمعها في طريقي للدوام بس.
لم ترد مُباشرةً، وهي تنظر إلى ملامحه عبر المرآة أمامها حيث كان هو أيضًا ينظر إليها عبرها. وكيف لو أنها كانت في ظروفٍ أخرى كـظرفٍ حلمت بهِ كثيرًا أن تكون - زوجةً له -!
ستكون الآن بجانبه، تبتسم له وتنظر إليه نظرةً مُختلفةً عن نظرتها له الآن، كانت لـ ...
" استغفر الله ، استغفر الله " ... استغفرت عديدًا داخلها وهي تحاول طرد هذه الأفكار، يكفي حُلمًا لم يُكن ليتحقق وإن لم يكن بالفعل أخاها، يكفي تجاوزًا يا عقلها! فلذةُ التفكير قبلًا كانت مُنعشةً عكس تفكيرها الحارق الآن، إنه أخاها! فـ حرامٌ هذا التفكير، حرامٌ عليها أن تفكر حتى كيف لو كان في حالٍ أخرى.
أيقظها صوته المازح من تفكيرها، يُحاول إخراجها من هذا الصمت الكئيب : عاد يقولون إن إلين ساكتة والجو كئيب
لم تُشح بنظراتها عنه، نظراتها اللا مُعبرةَ عن ما تشعر به حاليًا، نظراتها التي يُغلفها الكثير من البرود.
تنهد بضيق، ثم بجدية : إلين ... ودي أحكي معك شوي بخصوص اللي صار
أشاحت بوجهها عنه في ضيق، وبأسى : يا ليت ما تفتح هالموضوع ياسر .. لأنه يضايقني بما فيه الكفاية
ياسر : أنا ما راح أبرر اللي سوته أمي لأنه مافيه سبب مقنع يخليها تسكت كل هالسنين! بس بغيت أقولك إننا معك حتى تتجاوزين اللي صار وتعيشين بطبيعية، احنا دايم معك سواءً كنتِ بنتنا أو لا
تهدّل جفناها بعبرةٍ إلى أن انسدلا على لؤلؤتيها، لتحجبا بريق الدمع فيهما، لتحجبا تلألأ الأسى فيهما. إنّـه لمن العارِ أن تبغض شخصًا يكون بهذه الشفافية معك، وأعظم عارٍ هو أن تكره شخصًا لذنبٍ لم يقترفه هو بل أنت من اقترفه!
همست وهي مُغمضةُ العينين، وقطرةُ دمعٍ برقَت في زاويةِ عينها اليُسرى، بصوتٍ كان به الكثير من الإمتنان والشكر : مشكور ... مشكور يا ياسر
ابتسم لها عبر المرآة ثمّ وجه نظراته إلى الطريق وهو يُجيبها بلطف : العفو ... العفو يا أختي


,


وقت الفسحة اقترب من نهايته، وهي اعتذرت من صديقاتها لتتجه للحمامات بمفردها، دخلت لتدخل تلك من خلفها وتُغلق الباب الرئيسي بكل وقاحة، وهي ذُعرت من صوت إغلاق الباب لتستدير وتراها أمامها.
للحظاتٍ رفرفت بجفنيها وهي لا تدرك لمَ أغلقت الباب واستندت بظهرها عليه تمنع أيّ شخصٍ من الدخول خلفهما. وبلعثمةٍ مذعورة : افتحي الباب
لوت سارة شفتيها قبل أن تهمس : بغيتك بشيء أول، شيء يفيدك انتِ أولًا وأخيرًا
ازدردت غيداء ريقها وهي لا تعلم لمَ تشعر بكلٌ هذا الذعر الكافي ليجعل صدرها يرتفع ويهبط بعنف، الهواء ينسحب تدريجيًا، والضعف يتخلخلها لتهتف أخيرًا باستسلامٍ حتى تنتهي تلك الدقائق التي تقيدهما معًا هنا : بخصوص إيش؟
سارة بخبث : بخصوص الفلة والوناسة
قطّبت غيداء جبينها قبل أن تتمتم باضطراب : نعم!!
تحولت ابتسامة سارة للودّ قبل أن تندفع من بين شفتيها كلماتٌ رقيقة : عندي بكرة عزيمة للبنات في بيتي، وحابة اعزمك انتِ بعد ... فـ شرايك بهالشيء؟
للحظاتٍ جُفلت لتتشتت نظراتها في المكان عنها، بكل شيء عداها وهي تفكر، ما معنى ذلك!!
طالت الثواني بعض الشيء قبل أن تنظر إليها هامسة : أعتذر ، ما أطلع بنص الأسبوع عشان الدراسة
زمّت سارة شفتيها دون رضا، ثم ابتعدت عن الباب لتقترب منها وصوتُ رنين الجرس انساب إلى أذنيهما مُعلنًا انتهاء موعد الفسحة، ظهر الإرتباك على ملامح غيداء الطفولية لتتراجع خطوةً وتتوقف، لمَ تشعر بالخوف عند رؤية نظراتها التي تُشبه نظرات ثعلبةٍ ماكرة؟ وما كل تلك الطاقة السلبية التي تنتابها حين تُحدثها؟؟
توقف سارة قربها لترتفع كفها وتستقر على كتفها، وبتودد : مافيها شيء، بأجله للخميس، وياويلك تقولين عندك شيء!
قالت كلماتها تلك ومن ثم تراجعت بسرعةٍ حتى تخرج كي لا تعطيها المجال الكافي لترفض، وهي وقفت مُتجمدةً في مكانها للحظاتٍ وملامحها لا تُفسر، انسحبت جميع التفسيرات وذبلت نظراتها ، بقيت في مكانها واقفة، غير مُطنئنة، متوجسة .... ماذا تريد منها !!!

.

.

.

يُتبع بالجزء الواحد والعشرين
الفجر بيكون موجود بس محتاجة شوية وقت عشان أكمل مراجعته :$






 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 23-11-14, 04:19 AM   المشاركة رقم: 179
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر

 





(21)





الواحدة ظهرًا.
دخل البيت بخطواتٍ مُرهقة، وملامحه ترسمُ الإرهاق بعينه، وهاهو يعودُ للبيتِ الخاوي بعد أن كان في الأيامِ السابقة ينام في الخارج، في أيّ شقةٍ وإن كانت قذرة! المهم فقط ألا يعود، ألا يعود .... ويرى الوحدةَ ترتسم في سكون المنزل، في صوتِ الرياح التي تعبر صدره فقط، بعد أن غاب صدر والده الذي على الأحرى لا يستحق لقب " الأب ".
إنّ الفقد يكمن عند البعض في الشعور بالوحدة بعد موت الشخص وليس لموته!
طيلةَ الأيامِ التي عاشها فيها والدهُ لم يشعر بوجوده أصلًا، لكنه أيضًا لم يكن يشعر بالوحدة! لم يكن يهتم كثيرًا لو نام والده في المنزل أم أنه لا زال يتسكع خارجًا مع رفاقِ السوء. إلا في بعض اللحظات الخائنـة! بعض اللحظات التي يُصبح فيها على سريره مُستعدًا للنوم، مُتأملًا، مُتأملًا .... إلى أن يشعر أن هناك ما ينقص في هذا البيتِ الكئيب!
لكنه بعد أن مات والده، بعد أن رحل، شعر بالفقد والوحدة لأنه سينام في الأيام التاليةِ وحيدًا، دون أن يُفكر في بعض اللحظات هل نام والده في المنزل أم لا!
ضغط على صدغه وهو يشعر بصداعٍ يخترق رأسه لفقدانه النوم بأريحية، وبالرغم من شعوره بالوحدة الآن، وبالألم من جهةٍ أخرى بسبب رأسه ... إلا أن الغضب في صدرهِ كان أعنف. يتمنى لو يستطيع الإمسك بذاك الخالد وسحق عنقه بين قبضتيه.
في البارحة وبعد ذاك الشجار سُحب للشرطة بالفعل بعد استدعائـه، كان خالد قد اشتكى عليه ولحسن حظ خالد وسوءِ حظه هو أن كانت كل الظروف في صالحه، فهو ضربَ لكن لم يُضرب من قبله، والشهود كثير.
لذا أُجبر على توقيع مُعاهدةٍ بعدم إيذائه مرةً أخرى وقد كان جيدًا أن الأمر توقف عند هذا الحد، لا بل ليس جيدًا! فهو قد أدرك مقصد خالد من كل ذلك، كانت نيته فقط هي إهانته لا غير، وقد نجح.
عضّ شفته وهو يُطلق شتيمةً ما من بين شفتيه، ثمّ تحرك صاعدًا لكنّ صوتًا ما صدر من المطبخ ليتوقف وهو يُقطب حاجبيه، من سيكون هنا يا تُرى!!!
توجّس تفكيره، وقدماه اتجهتا للمطبخ مُباشرةً لينظر ما قصة هذا الصوت؟ رُبما تكون قطة، لكن لربما لا تكون!
دخل المطبخ مُندفعًا، ليُجفل واقفًا وهو يرى جسدَ امرأةٍ تقف أمام المغسلة وتنظف الصحون القليلة التي تراكمت هنا قبل أسابيع، وقلّتها أكبر دليلٍ على عدم سكن أصحاب البيت الدائم فيه، بقي واقفًا للحظاتٍ وعقله لم يستوعب من تكون هذه التي تُديره ظهرها و" آيشارب " ليمونيٌّ شفاف التفّ على رأسها.
كانت تغسل بصمت، بتفكيرٍ عميقٍ وملامحها خطّت معالم الحزن، وحين تحرك خطوةً فاضحةً من خلفها فُجعت لتستدير بسرعةٍ وهي تضع كفّها على صدرها.
اتسعت عيناه وهو يرى ملامح ليست غريبةً عنه، ملامح لم تتغيّر إلا قليلًا لتُظهر فقط عُمر صاحبتها التي ناهزت الثلاثين، وشفتيه بدورهما تحركتا دون صوت، دون استيعاب
عـــمـــتـــي سُـــهـــى!!!
أمّا هي الأخرى فلم تنتظر كثيرًا لتستوعب من الواقف أمامها، وكيف لها ألّا تعرف من ترعرت معه وكانت له الأخت قبل أن تكون العمة؟ كيف لها ألّا تعرف من حاربت عائلتها لتأتيه وتقف معه؟
اندفعت بسرعةٍ إليه وهي تلفظُ اسمه من بين شفتيها بخفوتٍ مُعذب، تُطوّق وجهه بكفيها و " الآيشارب " انسحب عن شعرها إلى كتفيها ثمّ إلى الأرض، تستطيل على أصابع قدميها العاريتين لتستطيع الوصول إلى طوله الذي يسبقها بمراتٍ حتى تُقبل وجنتيه، ثم جبينه وأخيرًا عينيه الشبيهتين بعينيها.
أطالت في تقبيل عينه اليُسرى ودمعها يسبق نحيبها في السقوط، يسبق مقدار الحُزن والخيبة.
بينما هو كان واقفًا، مُجفلًا لا يستوعب ما أمامه، يشعر بقبلاتها الحنون ولا يردّ بشيءٍ يُثبت أنه يراها.
وأخيرًا استيقظ على صوتها الباكي، على عتابها وهي لا تزال تُمسك بوجهه : كِذا يا ولد أخوي؟ كذا يا أدهم تقطعني ولا تسأل عني؟
ازدرد ريقه وهو يُشتت نظراته عنها، ثم بعد لحظتين أعادها لوجهها حتى يتأكد، أهــي بالفعل أمامه؟ أم أنّ وحدته جعلته يتخيّل أشياءً ليست حقيقية! أمنياته تجعل عقله يُصوّر له ماليس بأمامه!
همس بغصّةٍ مُتسائلًا، يريد التأكدَ أنها بالفعل هي وعيناه لا تتوهمان، بصوتٍ مُثيرٍ للشفقة هزّ أعماقها : عمتي سُهى ... هذي من جد انتِ؟؟؟
زمّت شفتيها قبل أن تهمس بشبح ابتسامة : اي هذي أنا ... عمتك سهى يا القاطع
أدهم دون استيعاب : بس ، بس شلون ... شلون جيتي وأنتِ ...
قاطعته حين فهمت ما يعنيه : جدك كان رافض بس أنا جيت بالغصب ، مو من حقهم أبدًا يتركون حفيدهم بسبب أفعال أبوه
أخفضت عيناها بحزنٍ هامسة : واللي مقطع قلبي أكثر ، إن ولدهم مات وهم ما مشوا في جنازته ... يا قو قلبهم شلون قدروا؟؟؟
أدار رأسه عنها وهو يُغمض عينيه، كان قد أرسل إلى جدهِ من باب التبليغ فقط، كان يعلم أنّ أحدًا منهم لن يأتي للصلاة على ابنهم السكير والمُخزي لهم كابن!
لكن ذلك موجع، موجعٌ حدّ النخاع، كيف كان لجده كلّ تلك القسوة حتى يترك ابنه؟ كيف كان له ذاك القلب الصقيعي حتى في موت ابنه؟
رفرفت سهى بعينيها حُزنًا قبل أن تهمس : تدري ، مع إنّ أبوي كان قاسي يوم رفض يجي، بس كان يبكي كل يوم قبل لا ينام!
رفع أدهم حاجبيه غضبًا وهو ينظر إليها : ربي يجزيه بالخير سوّى اللي عليه وزود!
نظرت إليه سهى بعتاب : لا تقول كذا يا أدهم، هو رفض يجي بس ما رفض يدفنه! الذنب على محمد ما رضى يقول له بموت أخوي، وما درى إلا بعد ما اندفن
قطّب أدهم جبينه : عمي محمد؟ بس أنا أرسلت لجدي
سهى : وجدك تعرفه ما يعرف يقرا، عشان كذا خلى محمد يقرا له وياليتني كنت بهذاك الوقت جنبه عشان اقرا له أنا
شفت قسوة عمك؟ سكت وما بلغ أبوي الا بعد ما اندفن
أظلم وجه أدهم وهو ينظر للفراغ، ما كلّ هذا الحقد؟ ما كلّ هذا الكره؟ كيف لأخٍ أن يقوم بكل هذا لأجلِ امرأةٍ لم يحصل عليها؟؟؟
أكملت سهى بحسرة : يا ليتك شفت أبوي بعد ما درى، قوّم الدنيا ولا قعدها، شلون رضى محمد يسكت ولا يتكلم؟ ظل متحسر ويوم قلت له خلنا نروح على الأقل لأدهم وعشان العزى رفض من شدة قهره ... قال يكفي يستقبل المعزين في بيته
التوت زاوية فمه بسخرية : هه .. ماني محتاج وقفته
استدار عنها ينوي الذهاب، لكنّ يدها امتدت لتمسك بزنده وتهتف عاتبة : وش هالقسوة يا أدهم؟ ترى جدك ما كان القاطع بس أبوك هو القاطع وانت أدرى بعناد عبدالله
وبعدين هذا استقبال بالله؟ تدري كم صار لي يوم هنا؟ .. صاير لي يومين وأنا بروحي منتظرة رجعتك، حتى رقمك اللي غيرته ما عطيتني هو! ولو إنّي ما كنت عارفة عادتك بدسّ المفتاح الإحطياتي تحت مفرش الباب ما كنت دخلت.
جايب هالقساوة من وين؟؟ أنا وش ذنبي عشان تتجاهلني وتقطعني؟
لم ينظر لوجهها بتاتًا، ويدهُ تيبّست تحت كفها المُتشبثة بِه، وذكرياتٌ تصاعد مداها في عقله لتُهيّض حزنه بوحدتهِ مُجددًا، لتُشعره بالأسى ولا شيء سوى الأسى.
تقدّمت لتقف أمامه، ثمّ ابتسمت وهي تُمرر سبابتها على جُرحٍ صغيرٍ بجانب حاجبه : ما تترك عادتك من كنت صغير ، بس تتهاوش مع خلق ربِي ولا تهتم بالعواقب
اتسعت ابتسامتها لتُردف مُحاولةً إخراج نظرة الحُزن من عينيه : وبعدين وش هالتكشيرة؟ وجهك مخيّس من غير ماله داعي تخيسه زيادة
رُغمًا عنه ابتسم وهو يرفع حاجبه الأيمن، ثمّ رفع سبابته ليضعها أمام عينها اليُمنى : وانتِ عيونك لازالت صغيرة! متى بتكبر بالله؟؟
عضّت طرف شفتيها بغيظٍ ولطالما كانت هذه الجُملة تستفزها : تراها نفس عيونك
أدهم بتداركٍ يُصحح لها وهو يبتسم : مع اختلاف بالحجم
سهى : اختلاف بسيط
أدهم : بس تبقى عيوني هي الأحلى
سهى بغيظ : من زينها
ضحك أدهم بخفوتٍ وهو يرد : تراها نفس عيونك
رفعت حاجبيها وهي تهزّ رأسها بالإيجاب : مع اختلاف بالحجم
ردّ أدهم بعد موجةِ ضحكةٍ هاجمته : خلاص غلبتيني
ابتسمت سهى برقة، ثمّ أمالت حاجبيها وهي تهمس بحنين : ملامحك ، لازالت هي نفسها من كنت صغير ، قاسية تشبه ملامح عبدالله!
اختفت ابتسامته وهو يتنهد بعمقِ التأثُرِ الذي يواتيه، لطالما كان يتمنى في صغره لو أنه كان يُشبه أمه التي لا يعرف عنها الا صورة! صورةٌ تحتضن ملامح أُنثى جميلةٍ بعينين خضراوين وشعرٍ بُنيٍّ شديد النعومةِ والجمال.
أمه الذي ترعرع خلف كذبة موتها، أمه التي لم يعرف عنها شيئـًا سوى صورتها حتى كبِر وأدرك الحقيقة من فم والده نفسه، وقد قال له بقسوةٍ ذات يوم " أنت بالنسبة لناس ابن غير شرعي "!!!
أغمض عينيه بقوة وهو يتفكر بأمه التي لا يحمل تجاهها أيّ مشاعر ملموسةٍ سوى أنها أمه ومن الفطرة أن تكون شخصًا استثنائيًا، لـم يُكن ذنبها أن تلاعب والده بها وتزوجها بطريقةٍ خاطئـة لينكرها في لحظة! ولم يكن من المُنصف أن يكُون هو نتيجةَ هذا الزواج حتى يحمل الذنب، حتى يعبر الإتهام جسده ولا يتجاوزه.
تنهد بضيق، ثم رفع ناظريه إلى ملامحها ليُحاول تغيير مجرى هذا الموضوع الذي يصدّ دفاعات روحه النازفة : طيب وش جايبك الحين للمطبخ ... تعالي نطلع برى نسولف على رواق
سهى برفعةِ حاجب : المطبخ مكتوم وفيه مجموعة مواعين واضح إنّ لها فوق الشهر ... واضح إن البيت بيتك! عشان كذا بنتهي من اللي بقى وانت روح نام ، واضح على وجهك التعب
ابتسم ابتسامةً تكادُ لا تُرى، يا الله، إنها لازالت كما هي، تفهمه من تعابيره، لا زالت تُدركُ أدقّ تفاصيله، لم يؤثر بها البُعد ولا الفارق الزمني بين آخر لقاءٍ بينهما، لم يؤثر بها الطريق الذي امتد بينهما كما يعتقد أنه لربما أثر به!
همس : زين حسيتي فيني لأني خجلت أتركك الحين وأنام ... يلا باي
ابتعد مُباشرةً خارجًا من المطبخ لتضحك بخفوتٍ وهي تهمس وسعادةٌ ما اجتاحتها برؤيته بعد غياب : واضح خجلان ... حتى انك ما صدقت خبر


,


دخلت وبرفقتها هديل، كانت هديل تُحدثها كثيرًا وهي لا ترد إلا بابتسامةٍ ثابتةٍ لا تحمل أدنى شعور، أو ترد ببضع كلماتٍ مُختصرة، ولم يكُن صعبًا على هديل أن تُلاحظ هذا البرود لكنها تلتمس لها العذر، وكيف لا تلتمس لها وهي ظُلمت من قبل والدتها سنين طوال!!
هتفت إلين بخفوتٍ بعد أن دخلت : بطلع أنام .. ما ودي بالغداء
هديل تُقطّب حاجبيها برفض : لا لا وشوله ما تاكلين شيء ... بتمشين معاي أكيد الغداء جاهز الحين والعالم منتظرينا
صمتت إلين بانزعاجٍ وهي لا ترغب بشيءٍ أبدًا، لكنها أومأت برأسها موافقةً دون أن تكون موافقةً في داخلها فعلًا، وكأنها باتت رجلًا آليًا ينصاع بسرعة.
ابتسمت هديل برقة : ولأني ما أثق في عبطك وعارفة إنك ممكن لما تطلعين تبدلين راح تفكرين تلعبين علي عشان كِذا بتاكلين وبعدين تبدلين
لم ترد إلين سوى أنها تحركت تجاه غُرفة الطعام ومن خلفها هديل التي تنهدت بضيقٍ لهذا البرود المُرهق، لكنها تبعتها بصمتٍ ولا رغبة لها في الضغط عليها.
ما إن دخلتا غُرفة الطعام حتى تراءى لأعينهمَا عبدالله الجالس في مقعده وعلى بعد مقعدين تجلس هالة بصمتٍ وملامح لا تُفسر.
وقفت إلين مكانها، وقد تغيّرت ملامحها مائةً وثمانين درجة وقدميها كادتا تتحركان لا شعوريًا لتخرج، لكن يد هديل كانت الأسرع لتقبض على معصمها وهي تبتسم : مساء الخير
انتبه لهما كلٍّ من عبدالله وهالة بعد أن كانا غارقين في تفكيرهما لصمتهما الذي سبقته شُحنةٌ لسانية قبل أن تكون من نوعٍ آخر.
ابتسم عبدالله وقد انتفخت أوداجه برؤيته لإلين : يا حيّ الله بنتي .. تعالي تعالي يا حبيبتي اجلسي جنبي
تكتفت هديل بغيظ : بدينا بحركات التفضيل
ورغمًا عن إلين ابتسمت شفتيها ابتسامةً تكاد لا تُرى ووجه عبدالله الباسم جعلها تخطو خطواتٍ مُتضائلـة لتجلس أخيرًا بجانبه.
هديل بعبوس : لنا الله بس
ثمّ تحركت تنوي الجلوس بجانب والدها من الجهة المُقابلة، لكنّها وما إن رأت ملامح أمها التي غطّاها البرود وهي لا تنظر لأيٍّ منهم شعرت وكأن سكين العطف غرس نصله في قلبها، ولم تكن رؤيتها بهذا الشكل وكأنها غريبةٌ بينهم سهلًا عليها لتتجاوزه، لم يكن من السهل ألّا يرفّ لها جفنٌ وهي تراها بهذا المنظارِ الموجِع لقلبها.
لذا غيّرت وجهتها لتجلس بجانب أمها وابتسامةٌ حنون غلّفت شفتيها، هاتفةً بخفوتٍ وبعض الدلال وهي تطوّق عضدها : شلون مامتي الحلوة
ابتسمت هالة دون تعبيرٍ وهي تُمرر أناملها على خُصلات شعر هديل المُتحررة من خمارها : الحمدلله بشوفتك ... ليه ما فسّختي عبايتك وبدلتي قبل؟
هزت هديل كتفيها : مافيه سبب بس كذا
بينما من الجهةِ الأخرى، كانت غصّةٌ قد هاجمت حُنجرتها جعلت حتى ابتلاعها لريقها صعبًا، تفهم شعور هديل ولا تلُومها، تفهم كيف هي العاطفةُ بين الأم وابنتها ولا عتب على هديل فيما تقترفه الآن في حقّ قلبها.
هي لم تفهم شعورَ الأمّ يومًا، لم تشعر بكلّ تلك العاطفة تجاه أمٍ لها، لم تبرق عيناها يومًا بقُربها من أمها، لكنها تُدرك جيدًا أن هذه العاطفة كافيةٌ لتكُون الأم في عيني الولد/الإبنة تستحق أنقى مُعاملةٍ وإن لم يكُن شخصها نقيًا، تستحق أن تكون ملكةً وهم عرشها وإن أخطأت يومًا في حق أحد أفراد الشعب!


,


: آآآآآه يا ربي
لفظت بذلك وهي ترمي بجسدها على أقرب أريكةٍ في الصالة وإرهاقها كافٍ ليسحق جسدها سحقًا.
والآخر دخل من خلفها وقد وصل إلى أذنيه صوت تأوهها ليبتسم ساخرًا : هذي ضريبة الشغل ... تحملي
نظرت إليه ثمّ صدت بصمتٍ ومنذ أن استيقظت وهي تتجاهل الرد عليه تمامًا بينما هو لم يُعر الموضوع أهمية. تحرك صاعدًا وبقيت هي جالسةً في مكانها تُمسد كفًا بأُخرى، وعبوس وجهها يُوازي بؤس تفكيرها، إنّ وضعهما وإن كان لبعض مثيلاتها من النساءِ لا يُطاق إلّا أنها ترى جمال حياتها به! وكم هي بائسةٌ بتفكيرها هذا، هي كالشكولاة وهو كالقهوةِ المرّة، بالرغم من اختلاف المذاق إلا أنهما معًا يتناسبان كما يتناسب السالب والموجب فينجذبان إلى بعضهما!
ازداد عبوسها بتفكيرها السخيف، ودّت لو تُقطع خُصلات شعرها لتفكيرها الدائم عنه، لبحثها دائمًا وأبدًا عن الأعذار لأجله في كل خطأ يقترفه، بالتكفير الدائم عن ذنوبه وانسلاخها من كبريائها لأجله.
تنهدت بضيق : طيب مين يكفّر عن ذنوبي في حق نفسي؟؟
زمّت شفتيها قبل أن تتجه كفها لمحور السعادة في جسدها، هامسةً له ببضع كلماتٍ حنون وهي تُمرر كفها ببطءٍ ورفقٍ وكأنها تخشى أن تؤذيه : راح تكون انت مو؟ ... أهم شيء لا تطلع على أبوك وتتعب مرتك بعدين
ضحكت من بعدها وهي تتخيل ذلك، رباه كم من السعادة تجتاحها حتى باتت تتخيل ما سيكون مُستقبلًا، حتى باتت تتحدث مع نفسها... لا بل معه! فهو روحٌ ستأتي ليكون التعويض المُرضي من سيف بعد كل ما أثاره في حياتها من عذاب، سيكون الدواء الذي يُبرء جروحها، سيكون المُطهر لكل ذنوبها في حق نفسها، كما كانت المُطهر لذنوب سيف.
نهضت بعد أن ارتسمت ابتسامةُ سعادةٍ على وجهها ثمّ اتجهت للدرج لتصعد للأعلى حتى تبدّل ملابسها وتنام، فهي تشعر أنّها تريد النوم يومين مُتتاليين من شدّة الإرهاق الذي تشعر به.
لكنها توقفت بغتةً حين سمعت صوت أم سيف من خلفها : رجعتوا؟
استدارت ديما إليها، بابتسامةٍ مُشرقةٍ تختلف عن ابتسامتها السابقة، كيف لا وهناك حنانٌ يتدفق في صدرها لما سيكون في أحضانها بعد عدةِ أشهر : اي رجعنا خالتي
ابتسمت أم سيف وهي تُلاحظ شروق ملامحها : طيب الخدامة الحين تجهز الغداء ... لا تتأخرون
بالرغم من أنها لا تحمل أيّ رغبةٍ الآن في الطعام بل رغبتها في النوم أقوى إلا أنها أومأت ثمّ أكملت طريقها صاعدةً للأعلى.

دخلت غرفة النوم لتراه لتوّه يخرج من الحمام بعد أن بدّل ملابسه بلباسٍ بيتيٍّ مُريح، أمعنت به للحظات، بملامحه الرجولية الحادة، بقمحيةِ بشرته التي تُعاكسها هي بسمارها، أوَلم تقل من قبل أنهما مُختلفان؟ مختلفان بالقدر الذي يجعلهما مُتناسبان، مُختلفان بالقدر الذي يجعل كلًا منهما لا يكتمل إلّا بالآخر، وهذا الإختلاف هو من أكثر ما يهدي حياتهما نكهةً خاصة، لذيذةٌ وإن كانت حارقةً بعض الشيء للسان قلبها.
انتبه إلى نظراتها ليبتسم ويصدّ عن ملامحها يُسوّى ياقة قميصه الأبيض أمام المرآة : مضيّعة شيء بوجهي؟؟
تدافعت الحُمرة إلى وجنتيها لتصدّ عنه بسرعةٍ وهي تُبلل شفتيها بلسانها ارتباكًا، ليتها تفقئ عينيها ... ليتها!!
ضحكَ بخفوتٍ وهو يقترب منها برضًا تام بعد أن لاحظ نظراتِ - العاشقة - التي ترويه حدّ النضوح، ثمّ وقف أمامها مُباشرةً لا يفصل بينهما سوى أنفاسهما، أنفاسهما التي تراجعت لتُصبح أنفاسه هو وحده!
قُربه يخنقها، يُسيطر على عمل رئتيها فيتعطلان لثوانٍ مُرسلان إشارة الموت إلى عقلها، فلا يرتوي إلا بدمٍ مُختلطٍ بهِ لا بالأُكسجين.
إنّه الحياةُ برمّتها، إكسير الحياة فما معنى الأُكسجين والماء إن كانت عيناه ارتواءٌ كافٍ، إنّه المُحرك لدورتها الدموية بجرعات حبه المجنونةِ ورفرفات أهدابه الآسرة.
لم تنظر إلى عينيه بل قلبها الذي بدأ التغزل بمرآهما، ويدُه امتدت ليقبض على ذقنها يُدير ملامحها السمراءَ إليه، يتأمل تضاريس وجهها قبل أن ينفُث برقةٍ فيه لتُغمض عينيها تلقائيًا.
ثمّ تتلون شفتيه بابتسامةٍ عابثة : تدرين ... دايم لو نمت وأنا معصب منك بسبب حركاتك المجنونة أصحى وغضبي كله طار
رفرفت أهدابها ثم فتحت عينيها لتنظر لوجهه بضياع، ليقترب أكثر حتى كادت أنفهُ تُلاصق وجنتها : عيونك تكفير كافي لكل أخطائك
ازدردت ريقها بعصوبةٍ وهي تُغمض عينيها لمواجهتها قرصيّ الشوكلاة المُبحرتان في بياض عينيه، بينما هو ينظر إلى انحناءِ أهدابها بعينين انخفضتا لهجوم موجها الوردي المُنبعث منها، مُقتربًا قليلًا حتى تُلامس شفتيه أهداب عينها اليُمنى، ثمّ تنحدر إلى شفتيها بهدوءٍ مُقبلًا لها بحنانٍ كافٍ لتفتح عينيها ببطءِ استنشاقها لأنفاسه، ببطءِ استيعابها لحنانه المُهلكِ هذا، ببطءِ إرادتها في تطويق عنقه كعاشقةٍ تتشبث بعشيقها أمدًا غير معلوم.
لقد علقتُ في مأزق حُبكَ وانتهيت، شرّعت أبواب الخيبةِ وأضعت جميع المفاتيح عمدًا كي لا أُغلقه، فخيبةٌ لو كان مصدرُها - سيفًا - كُسرَ الغمد كي يبقى السيف حرًا طليقًا حتى يبطش بقلوب العذراوات من الحب مثلي ويتلطخ بدمائهن كما حدث معي، كما حدث لقلبي حين اخترقهُ نصلكَ الحاد ... هي خيبةٌ مُختارة، كما اخترت الإستسلام إليك بنفسي، كاستسلامي لحنانكَ في هذه اللحظات، كاستسلامي لتياراتك الجارفة مُتجاهلةً جميع العواقب.
ابتعد عنها قليلًا وهو يطوّق وجهها بلمسةٍ حنونةٍ كقُبلته، ينظر لعينيها بعينين باسمتين وأجملُ اللحظات لا تكون إلا معها، حين يُصبح بعفويته التامة ليصعد برفقتها إلى جنّات الحُب تاركيّن الدرك الأسفل من الحياةِ البائسة، الحياة التي أفقدته عفويته التي ما عادت تعود إليه إلا قليلًا، وهاهي تعود الآن، كما كانت تعود قبلًا معها ثم ترحل كضيفةِ شرف، تبقى لثوانٍ وتختفي لأعوام!!
حكّ شفتيه ببعضهما البعض، ثمّ ابتسم وهو يحرك إبهامه على نعومة وجنتها، ليهتف أخيرًا بعبث : ولأنّ عيونك كفّرت عن كل ذنوبك السابقة والكثيرة ... هذي هي انتهت مدة صلاحيتها
غمز بعينه ليُردف : عشان كِذا حاولي ما تعصين مرة ثانية ولا تزعلين حبيبك ... أوكي
فغرت شفتيها والكلمات تُسرق منها دفعةً واحدة لتكون كالبكماء في حضور كلماته الرقيقة/المُحذرة ..... ما هــذا الأسلــوب المسيطــر!!!!!
لم يستطع منع نفسه من الضحك وهو يُشاهد " تبلمها " في حظرة كلماته، ضحكته كانت عابثةً بالقدر الذي جعلها تُشتت نظراتها تبحث عن الأبجديةِ لترد، تبحث عن حصنٍ لتبنيه أمام هجومه المُسيطر عليها بهذا القدر الذي يجعلها - ضعيفةً لسانيًا -!!!
تحركَ سيف مُتجهًا لخارج الغرفة، وحين جاورها عبث بشعرها بكفه ليقف للحظتين هاتفًا بأريحية : تراني حذرتك بس بأسلوب ثاني .. عاد ما فاد معك الأسلوب السابق قلنا نغيّر شوي
ضحك أكثر وهو يبتعد، يبتعد، يبتعد ... حاملًا مقدارًا كبيرًا من سكونها ليحتقن وجهها غيظًا دون تصديقٍ لما حدث، في لحظةٍ رفعها لأعلى مراكز الحبور بحنانه، وفي لحظةٍ أخرى نقلها إلى أعلى مراكز الغيظ/الضياع.
لتصبح واقفةً الآن في مكانها بعباءتها/خمارها الذي استراح على كتفها، ونقابها الذي كانت تحمله في يدها حين دخلت أين أصبح؟! أضاع كما ضاعت الكلمات منها حين غفلةٍ من مخارج الأحرفِ لديها؟ أضاع بفعل تياراتهِ الهوائيةِ أم أن قُربه تحكّم بنسبة الأدرينالين لترميه!!!.
ببلاهةٍ بدأت تبحث بعينيها عن نقابها في الأرض، ثم رفعت عينيها للأعلى فجأةً وهي تهمس من بين أسنانها : هدي ... هدي ... مايسوى والله ما يسوى
عضت شفتها بقوةٍ حانقةٍ وهي تُغمض عينيها بقوةٍ وتجذب الأنفاس ببطءٍ قسرًا، فقط لتهدأ ويهدأ اضطرابها الآن، فقط لتتجاوز لمسة شفتيه الحانية وكلماته العابثة، فقط لتُلملم نفسها بعد هذا التشتت والتخبط.

بينما كان يتخطى العتبات والتواءُ شفتيه أصبح دون معنًى ملحوظ، وهو منذ تزوج بها وضياعها بين يديه يُرضيه أشدّ الرضا، يُشبع غروره الرجولي ويُنسيه كل ما فاتَ من حماقاتها، المهم أنها بالرغم من كلّ ما حدث لازالت هي، لازالت الضائعةِ به والمُلملَمُ شلمها تحت حكمه، لازالت الضعيفة إليه والمُقيّدةُ به، لازالت هي " مَي " التي يُحب فيها ضياعها.


,


يتحدث في هاتفه جالسًا أمام التلفازِ المُغلق، بينما كانت هي في غرفة النوم ترتب ملابسها في الخزانة، واليأس رغمًا عنها يعتريها، تفكيرها يُنبئُها أنها لن تعود أبدًا لعائلتها وسيكون فواز هو العائلـة لها منذ أن حلّت عنده.
سمعت صوت خطواته تقترب من الغرفة، ليُداهمها الخجل رُغمًا عنها وهي تتذكر قربها منه البارحة، قربهما من بعضهما البعض بدرجةٍ غير أخويةٍ - كما تعتبره -، قربٌ يفيض بالدفءِ والحنان الزوجي فقط.
اقترب منها حتى وقف خلفها، ثمّ وضع شيئًـا ما على أذنها جعلها تنتفض فزعًا وتنظر ليده التي امتدت إلى أذنها لتتصل بالهاتف، وملامحه ... كانت لا تُفسر!!!
قطّبت جبينها استغرابًا وهي تتساءل بعينيها " من؟ "، لكنّ جمود وجهه وتيبّس شفتيه لم يُهدِها الإجابة.
وللتو كادت تتحدث، للتو كادت تسأل من، لكنّ الصوت الرجولي الذي اندفع إلى أذنيها جعل عيناها تتسعان، وحدقتيها تلقائيًا نظرت إليه باستفهام.
الطرف الآخر : ألـو ... أخت جيهان؟؟
فغرت شفتيها وهي تنظر لفواز مُستفهة، الصوت الذي تسمعه الآن لم يعبر أذنها قبلًا، لم يمرّ على مسامعها ليُخلَّد حتى تسترجعه إن قابلها مجددًا، إذن لمَ قد يجعلها فواز تُحدثه؟
هتف الرجل : ألـو ... تسمعيني؟؟ ...... فواز!
حين لم تجد الإجابة من فواز، داهمها بعض الغيظ فردّت لتُزيل توهانها : نعم
الرجل : السلام عليكم
لم ترد جيهان على سلامهِ بل هتفت باستفهام : مين معي؟
الرجل : معك الدكتور عناد
ارتسم على وجهها مائةُ علامة استفهام وعيناها وللمرة الثالثة ربما تتجهان لفواز الجامدةِ ملامحه وهي تسأل : دكتور؟!! ... دكتور إيش؟
عناد بهدوء : دكتور نفساني


,


ارتشفت من القهوة رشفةً ثمّ وضعت الفنجان على الطاولة لتردّ على سؤال زوجها عبدالرحمن : كانوا شاكين في البداية ... وانت عارف إنّ أي شك في الرضاع يلغيه من أساسه
قطّب عبدالرحمن حاجبيه والأمر لم يدخل رأسه برمّته، ثم عاد وسأل : ومين الحرمة اللي قلتِ إنها الشاهدة الوحيدة على عدد الرضعات؟
ابتسم أميرة لترد ببراعةٍ وثقة : ما أعرفها زين ، بس كل اللي أعرفه إنها من معارف هالة القديمين واللي صاير لها فترة ما تقابلت وياها، بس يوم سمعت إنّ ياسر وإلين بيتزوجون انصدمت وتصرفت بسرعة بإنها بلغت هالة ونبهتها
لوى عبدالرحمن فمه بتفكير، وهو ينظر لوجهها بحيرةٍ يُخالطها عدم التصديق الكُلي، وكما توقعت هاهو يسأل من جديد : فيه مرة ما تركز بعدد الرضاع بالله؟؟؟
أميرة : قلت لك كانت شاكة ... والشك ينفي الرضاع من أساسه
هزّ رأسه نافيًا وهو يتنهد بحنق، ثم وقف لافظًا : يا شين ما سوّت يوم إنها بغت ترضع وتنسى! ... الله يهديها بس كان ظلمت البنت كل هالسنين
عقدت أميرة حاجبيها وهي تتفكر، بالفعل! لمَ كانت صامتةً طيلة هذه السنين؟ ما الدافع الحقيقي لصمتها؟ ما الدافع لتجاهلها حُرمة ياسر على إلين والمخاطرة بهذا التهور؟
كان ذنبًا أن تسكت، والآن هاهي تُعاقب لذنبها بما يعتري صدرها بعد كشف الحقيقة، وبالتأكيد ما يعتريه ليس راحةً إطلاقًا.


,


تجلس على السرير مُمددةُ القدمين والحاسوب يستقر على فخذيها، بينما أختها تمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة، كحالها منذ أيامٍ وهي تُحاول تقليب المسألةِ في رأسها غيرَ مُصدقة.
وهاهي ترفع رأسها لأماني ككل يومٍ بعد أن تُكمل جولتها : أماني ... تصدقين اللي صار والا مثلي؟؟
تأفأفت أماني بملل، ثم نظرت إليها مُقطبة الحاجبين راجية : رانيا واللي يعافيك ترى أبثرتيني!
رانيا : بس شلووون؟ والله العظيم ماني مصدقة للحين
أماني بملل : المفروض تكونين مبسوطة مو هذا اللي كنتِ تبغيه؟
رفرفت بأهدابها مرارًا قبل أن تقترب فجأةً وتجلس بجانب أماني مُتناولةً الحاسوب منها.
أماني باستغراب : خيييير!
رانيا وهي تضغط الأحرف لتكتب في محرك قوقل " الشك في الرضاع " : لحظة بتأكد من شيء
نظرت أماني لما تكتبه رانيا مُقطبة الجبين : حكم الشك؟ ليه تبحثين تراه واضح
رانيا : أبي أتأكد
تمعنت في ما تقرَؤه، ومعها أماني الملاصق كتفها لكتف رانيا، ليرتفع صوت أماني في النهاية هاتفًا : قلت لك واضح .. ماله داعي هالبحث والتنقيب
زمّت رانيا شفتيها وهي تنظر للشاشة وعمق الشفقة يكبر داخلها، عمقُ الشفقة على إلين.
منذ أن علمت بحقيقة كونها أختًا لياسر وقليلٌ من البغض تجلى لتحلّ الشفقة محلّها، بالرغم من كونها مُقتنعةً بعدم إخلاصها في حب ياسر، مُقنتعةٌ أنها لا تحب للحب بل لمصالح دنيويةٍ أخرى، لكن أن تعيش سنين بهويةٍ لا تُمثلكَ أمرٌ صعب/مُحزن، كصعوبة ابتلاع الصديد، وكم هو مرٌّ أن لا تتلبس بهويتك وتتحلى بثوبٍ مُهترئٍ ليس ملكك، كم هو مُحبطٌ أن تكون الدنيا صغيرةً بهذا الحجم، بالحجم الذي جعل اثنان كادا أن يتزوجان إخوةً ضامهما الشك.
زفرت بضيقٍ وما وصلها هو ذاته ما وصل إلى مسامع عائلتها أجمع ولربما أناسٌ غيرهم، شكّ هالة في رضاعها وشهادةُ أخرى كشفت الستار بعد سنين. وكم هو مؤلمٌ حين يُرفع الستار عن مسرح الخيبات.


,


كانت تصرخ بجنون، والهاتف قد رمته بعد أن أغلقت في وجه عناد، لا تصدق ما حدث، لا تُصدق من كانت تُحدث، كيف لـفواز هذا القدر من القسوة ليراها مجنونةً أو معطوبةٌ عقليًا حتى يُحوّلها إلى طبيبٍ نفسي بهدف مُعالجتها.
صرخت وهي تهزّ رأسها بغضب، بغيظٍ من تفكيره : مــااااني مجنووووونة .... ماني مجنوووووونة عشان تخلي طبيب نفساني يكلمني
تنهد فواز وهي يمسح وجهه وصراخها مزّق طبلة أذنه، ثمّ صوّب حدقتيه إلى وجهها مُباشرة وهو يهتف بحدةٍ وثقة : منتِ مجنونة، تطمني ... مو كل من يتجه لطبيب نفسي مجنون! اصحي على تفكيرك واتركي عنك الصراخ والشوشرة
شدّت على أسنانها غضبًا ومُغلتيها تُصارعان الدموع، مُقتربةً منه وشفتيها تهتزتان بعبرةٍ وجنون، ليست مجنونة، ليست مجنونة، هيَ واللهِ ليست مجنونةٍ فـلمَ إذن يجعلها تُحدث طبيبًا؟ هي فقط أذنبت قليلًا في الأيام السابقة، أذنبت في حق والدها بمعاملتها القاسية، أذنبت في حق فواز بجفائها معه، لم تفعل شيئًا آخر، لم تُذنب أكثر ليُعاقبها بهذه القسوة، لم تفعل شيئـًا، لم تفعل شيئًا تُقسم بذلك، فلمَ يكون قاسيًا في عقابه وهي لم تقسو عليه إلى هذا الحد؟ لمَ يقسو عليها بنظراته الجادةِ الآن وهي التي ارتاحت إليه البارحة؟
لا تجعلني أكرهك، أرجوك لا تدفعني لهذا الشعور، لا تُعاقبني بهذه القسوة على ذنبٍ لا يستحق فأكرهك حقًا، لا تُمت شعور الأمان الذي اعتراني البارحة بقربك، أرجوك لا تفعل ذلك .... أرجوووووك.
أمسكت بقميصه البني بكفيها الناعمتين وعيناها تُطلقان رجاءً موجعًا، هامسةً من بين شفتيها برجاء : ماني مجنونة . . تكفى فواز لا تظن فيني كذا! لا تسوي فيني هالشيء والله ماااني مجنونة
لا تخليني أكرهــك .... الله يخليك لا تخليني أكــــــرهك
أمالت رأسها إلى صدرهِ وأناملها مُتشبثةٌ بقميصه، كرصاصةٍ اخترقت قلبه كانت أناملها، ليتيبس في مكانه مُنتظرًا خروج الروح، وصوتُ بكائـها الذي ارتفع بسقوط دمعها وصل إلى أذنيه كصريرٍ آذاه، كموجاتٍ فوقَ صوتيةٍ لم تحتملها أذناه.
فغر شفتيه يجتذب الهواء، يشد على ظهرها بكفه اليُمنى من الخلف ليلتصق جسدها كُليًا به. يجب ألا يتراجع، يجب ألا يجعل إنهيارها دافعًا ليتراجع للخلف، وهذه هي الخطوةُ المُثلى، هذا هو الطريق الأأمن لهما دون تفرعات، دون تعرقلاتٍ وتعثرات، لذا لن يتراجع، لن يتراجع وسيقسو إن تطلّب الأمر.
هتف بهدوءٍ وهو يرفع يدهُ الأخرى ليُعانقها : جيهان ... لا تخافين ، لجوء الشخص لطبيب نفسي ما يعني جنونه! أنتِ بس محتاجة تبوحين عشان تتخلصين من الشحنات السلبية جواتك، محتاجة تفضفضين لخبير بس مو معناه إنك مجنونة! . . لا أنتِ عاقلة فتطمني
رفعت وجهها المُبلل بالدمع عن صدرِه، تنظر له بعينين مُتوسلتين، عينان برقتا ببحر دموعها، عينان اخترقتا عينيه ليُخلفا عذابًا لا يُقاوم.
همست بتوسل : بفضفض لك ، راح أبوح لك وأفرغ شحناتي لك وحدك ... بس لا تسوي فيني كذا، لا تخذلني يا فواز .... تكفى
نظر لعُمق عينيها وكلماتها مؤثرةٌ بشكلٍ موجع، ونطقها لـ " لك " كان آسرًا لقلب أيّ عاشق، هي الآن تُثبت مليكته لها، تُثبت أنه حاكمها وإن لم يكن لقلبها!
اخفض رأسه قليلًا ليصل لعينيها، ثمّ قبلهما كلًا على حدةٍ ليهمس أخيرًا : ولأني ماودي أخذلك ... بسلمك له، عشانك بس!


,


تمشي على إحدى أرصفةِ بروكسيل بخطواتٍ مُرتبكة، ترفع يدها دون شعورٍ لتسوّي حجابها ثم تقف فجأةً وتستدير للخلف، لكن لا أحد! إذن لمَ تستشعر تلك العينين؟ لمَ تستشعر لؤلؤتين سوداوتين تُحدقان بها بذات النظرات السابقة، حقدٌ يختلط بنظرةٍ ما مُبهمة!
إنه يراقبها، هي مُتأكدةٌ من ذلك، يمشي خلفها ليختفي حين تستدير، دارسًا جميع تحركاتها ومُتوقعًا لكل ما قد تفعله .... لمَ يفعل كلّ هذا!!!
تشبّثت بالكيس الذي في يدها وهي تعود لتُكمل خطواتها، لكن هذه المرة بشكلٍ أسرع قليلًا، تشعر بالتوجس من تتبعه لها، تشعر أنها مُحاصرةٌ بعينيه . . وهي الساذجة التي لطالما كانت تتجاهل مراقبته لها ليس لشيءٍ سوى ابتعادًا عن المشاكل، لكن يبدو أن صمتها جعله يتمادى كثيرًا، جعله يتجاوز جميع الحدود.
وصلت للمنزل، والذي كان لا يبعد كثيرًا عن المكتبة التي عادت منها، وما إن تراءى المنزل لعينيها حتى أكملت ركضًا من شدة خوفها، وحين دخلت تنفست الصعداء وقلبها ينبض بجنونِ الخوف والإضطراب الذي كان يعتريها.
وضعت يدها على صدرها تُثبّطُ أنفاسها، ثم تلقائيًا دون أن تشعر استدارت تنظر للباب، أيعقل أن يلحق بها إلى هذا المكان أيضًا!!!!
أغمضت عينيها وهي تُبلل شفتيها بلسانها، تستغفر مرارًا حتى يزول رعبها هذا، وما إن شعرت ببعض الراحةِ حتى تصاعد رنين هاتفها.
رفعت الهاتف مُقطبة الجبين، ليظهر أمامها رقمٌ غريب، كانت ستتجاهل الرد في حالتها هذه، لكنّ شيئًا ما غبيًا جعلها ترد.
تدافع صوتٌ رجوليٌّ قبل أن تلفظ بكلمةٍ من الجهة المقابلة، هامسًا كان بدرجةٍ أثارت القشعريرة في جسدها : شكلك بالزهري يذبح.
ارتعش جسدُ جنان وعيناها تتسعان تدريجيًا، دون تصديق، دون استيعاب
هـــيــــثــــم!!!
فغرت شفتيها والكلمات انسحبت منها دفعةً واحدة، ودون شعورٍ أغلقت الهاتف بعد لحظتين من صدمتها، ووجهها يرسم تعابيرَ الذعر واللا تصديق.
تمــادى، تمادى كثيرًا باتصاله الآن! ما الـذي يريده؟ ما الذي يرتجيه من تتبعه لها دائمـًا بعيني الصقر؟؟!!
رفعت كفها لتضعها على جبينها وهي تُفكر، تتنفس ببطءٍ غيرَ مستوعبةٍ بعد، هل وصل تماديه للحدّ الذي يجعله يتصل، للحد الذي يجب فيه أن تُحدث فارس؟ أم من الأفضل لها السكوت ابتعادًا عن المشاكل؟
كانت صامتةً مُنذ البداية، والآن هاهي حائرةٌ لا تدري ما الذي يجب فعله.
لكن ماذا عن خالها أمجد؟ ألا تكفي الفجوةُ التي بينها وبينه؟ هي لا تنتظر أن تُضاعفها بالشكوى على ولده بل تتمنى اضمحلالها، لكن أمنِ الحكمةِ أن تسكت؟؟؟
رفعت رأسها حين سمعت صوت خطوات، وما إن رأت سامي ورامي أخويها حتى زفرت براحة، ما بها خايفةٌ إلى هذا الحد؟ لا يمكن أن يتجرأ ويدخل بكل وقاحةٍ هكذا.
سألها سامي بطفولية : وين كنتِ؟
أغمضت عينيها بقوةٍ وتنفست ببطءٍ تحاول العودة لطبيعتها، ثم فتحتهما لتنظر لهما بابتسامةٍ مُزيفة : توني جاية من المكتبة عشان آخذ كم غرض للرسم
رامي : مو كنتِ تعبانة؟
جنان بابتسامةٍ مُهتزة : مجرد زكام بسيط وراح
تحركت مُتجاوزةً لهما لتُردف وهي تمشي مُديرةً ظهرها إليهما : أبوي وفارس راحوا المستشفى والا لسا؟
رامي : طلعوا من شوي وأخذوا وليد معاهم * عبس ليردف * ليه ما ياخذونا احنا كمان؟
استدارت إليه بذات الإبتسامةِ الزائفـة : وشولها الغيرة؟ عادي ياخي خلوهم ياخذوه لا تصيروا بزران ... مو هم أمس أخذوه بعد وتركوني؟
عبس الآخر أيضًا : مو على قولتك احنا بزران؟ أجل بزران بزران ليه ما ياخذونا؟
ضحكت بخفةٍ وهي تكمل طريقها : مناك بس


,


اقتربت الساعة من السابعة والنصف مساءً، كانت تتصفح مجلةً للأزياءِ في يدها حين تصاعد رنين هاتفها، لم تنظر إلى الهاتف القابع بجانبها على الأريكة المُفردة، فقط لأنها تُدرك من المتصل، تُدرك وقد ملّت من هذا الروتين الممل واتصاله الدائم بُها ليس لشيءٍ سوى لمصالحه.
غزل تتنهد بضيقٍ وهي تتناول كوب قهوةٍ وترتشف منه ثم تعود لتضعه على الطاولة البيضاء أمامها. تجاهلت الهاتف تمامًا ولم تُعره اهتمامها، فهي تدركُ جيدًا ما سيكون محور الحديث، وتُدرك جيدًا مدى الخذلان والخيبة اللتان ستواجهانها إن هي ردت.
حين طال الرنين، نظرت للهاتف ورفعته، فقط لتضعه على الوضع الصامت كي لا يُزعجها، ثمّ نهضت بصمتٍ لتخرج من غرفتها، مُتجهةً للمطبخ وقد أصابها الجوع، تُدرك جيدًا أن الثلاجة أصبحت مُمتلئةً بما سيُشبعها، فعلاقتها بسلطان أصبحت صامتة، لذا هو يُحضر لها كلّ ما قد تحتاجه، وعلاقةٌ كهذه أيُمكن أن تدوم أو تطول؟ . . وهذا ما هي تريده، هذا ما تطمح إليه، وهو بالتأكيد لن يحتمل لسنةٍ كاملة وسيُطلقها في أقرب وقت.
قد كانت مُشكلتها الكُبرى منذ البداية أنها تقيّدت بهذا الزواج لسنة، لكنّ علاقتهما الآن لا تؤهل، وهذا ماهي سعيدةٌ لأجله، حتى وإن شعرت في بعض الأوقات بالرهبةِ منه إلّا أنها في النهاية ستتحرر، لتعود لمـا هو أقسى! لكنّه الأفضل بالنسبة إليها فهي قد اعتادته، اعتادت القسوةَ والجفاء، اعتادت القسوة والبرود، لكنها هنا وإن كانت ستعتاد إلا أنها بالقُربِ من رجلٌ هو زوج لها، وذلك الخطـــر بعينه!.
فتحت الثلاجة لتنظر لما فيها أولًا، ثمّ مدّت يدها لتتناول عصير برتقالٍ طازج، بالرغم من شدّة جوعها إلا أنها ستقتصر على عصيرٍ وحسب فلا رغبةَ عظمى لديها لأيّ شيءٍ آخر.
تراجعت بعد ما أخذته لتجلس على أقرب كرسيٍّ في المطبخ، ثم تنهدت وهي تتأمل في الأفق، تغيب بعقلها وبريقُ عينيها طغى عليهما الحُزن، طغى عليهما الضياع.
معاذ الله أنّ الحياة تغفو عند عينين دامعتين، معاذ الله أن الدنيا تتقلص حين يُنزعُ الإيمان بالخالق من قلب إنسيّ . . ما هذا الفراغ الذي تعيشه؟ ما هذا اليأس الذي يغتالها مائةَ مرةٍ في كل ثانية؟ ما هذه الوحدة التي يعيشها قلبها؟
من يسكن قلبها يا الله ليبطش به ويجرحه بنصلٍ حادٍ مسمومٍ في كل يوم؟ من هذا الجائر الذي يسدّ مغلتيها لحبس الدموع فلا تبكي حينما تحتاج؟ بل تبكي حين يريدُ كبرياءها المزعوم! من هذا الذي يقف في حنجرتها ليمنع صوتها من الصراخ برجاء : توقفــوا عن التنكيل بي!
لو أنها تبكي متى أحتاجت، لو أنها تصرخ، لكانت أقلّ حُزنًا وبؤسًا، لكان نصيبها من السعادة ولو قطرة! .... أم أنها تحتاح أمرًا آخر غير الصراخ والبكاء؟؟
في تلك الأثناء كان سلطان يقف على عتبة باب المطبخ، واقفًا في مكانه ينظر لبؤس عينيها، ينظر لمدى الخيبة في ملامحها، ينظر للتيه الذي يسكن حدقتيها!
هي لا ذنب لها، لا ذنب لها، وهو لا ذنب له أيضًا بذاك الحقد الذي يتصاعد في قلبه تجاهها، لا ذنب له في كرهها ... كلانا لم يكن له الذنب يا غزل، كلانا لم يُخطئ، والذنب انسلخ عنا لينتمي للطريق الذي عبرناه سويًا، لم أُخطئ حين تلبّست بالمثالية لأُنقذكِ من مجتمعٍ لا يرحم، ولم تُخطئِي حين كان مُناكِ العيش بسلام.
كلانا كان بريئًا من ذنبنا، كلانا لم يتعمد الخطأ بعلاقةٍ لا أمل فيها، لكنّ الماضي اقترب منا، بل كان قريبًا منذ البداية ليُذنب في حقنا.
كان ذنبي أن كُنتُ ابن أخيه ، وكان ذنبك أن كُنتِ ابنة صديقه وشريكِه.
أغمض عينيه بقوة، ثمّ استدار ينوي الخروج بعد أن عاد لأمرٍ مُستعجل، مُحدثًا نفسه بكلماتٍ يرى أنها الحق الآن " ما أذنبت يوم كانت نيتي ما أظلمك بذنب غيرك، بس أذنبت يوم صرتِ أنتِ زوجتي ... هالمهزلة لازم تنتهي، لازم تنتهي بس شلون؟ شلون ومو أنا اللي ممكن يرجع عن كلامه!! "


,


مساءَ الخير، أما بعد : فقد انسلخت يا قلبي وانصهرت، صيّرتُك عدمًا بخطئٍ لا يُغتفر
لم تُخطئ في اتخاذِكَ الحُب خليلًا، بل كان خطأك أن اخترت أن تُحب - فلانًا -
لـذا كان فرضًا أن يكون هذا هو الأمثل مصيرًا!

أغمضت عينيها بقوةٍ ثمّ فتحتهما وهي تتجه للإعدادات، تنوي إغلاق حسابها في الفيس بوك نهائيًا، بإصرار عينيها على الخضوع للحقيقة، بإصرار عقلها على صهر قلبها، هذا إن لم يكن قد انصهر تلقائيًا بالنار التي تدفقت منذ أيام.
همّت بإلغاءِ حسابها نهائيًا لكن طرقًا على الباب قاطعها، لتُحيد عينيها عن الحاسوب بعد أن كانت قد اعتادت ألا تستخدم إلا هاتفها في الفيس بوك، لكن عبدالله رفض أن يُعيد هاتفها وإلى الآن : مين؟
هالة : أنا
صُدمت ما إن سمعت الصوت، وتشتت عيناها بتحرّك حدقتيها هنا وهناك غير مستوعبة، ماذا تُريد منها؟ وكيف لها كل تلك الجرأةِ لتأتيها حتى هنا!!
عضّت شفتها بقوةٍ وهمت بالصراخ بـ " اذلفي "! لكنّ لسانها ورغمًا عن عقلها استقر في سقف فمها مُحيلًا محاولاتها للفشل، وقد كان المسيطر في تلك الأثناء هو قلبها، قلبها الذي بدأ يُحدثها بما هو غير مرغوب.
- إن كُنتِ عاتبة، إن كُنتِ حاقدة ، فهذًا أبدًا لا يُهديك الحق لترمي جميع فضائلها عليكِ كلّ تلك السنين
حينها بدأت طاقة عقلها بالرد، خوضًا في حوارٍ جنونيٍّ بين عقلها وقلبها، خوضًا في صراعٍ مصيريٍّ سيكون نتيجته طريقة التعامل مع هالة!
- أيّ فضائل بالله عليك! أيّ فضائـل تلك التي تسمح لي بنسيانِ فعلةٍ فاقت فضائلها أضعافًا؟؟
- فضائلُ تكفي لتمشي سويّةً على تعاملكِ معها، ويكفي فضلًا أنكِ أصبحتِ بهويةٍ أرقى من قبل على يديها
اهتزت شفتاها عند ذاك التفكير الذي تدفق من قلبها، مُحــال! لن تكون بهذا الرُخص لتبيع اثنتانِ وعشرين عامًا خلت لأجلِ هويّةٍ أقالتها للجحيم! ما الرُقيّ في هذه الهويـة؟ وما العيب في كونها عاشت سابقًا دون هوية؟ ما العيب في قضاءِ الله؟ ما العيب في أنها ولدت وكبرت دون نسب؟ ما العيب يا الله لتكون صغيرةً الآن في عين نفسها لما أُطلق من قلبها؟ ما العيب يا الله في نفسها التي آمنت بقضائـكَ ولم تتذمر لما كُتب لها حتى ظهرت تلك الأم التي كشفت كل شيءٍ عن ماضيها ومن ثم حقيقتها هنا من فمِ هالة؟ ما العيب لتُصبح الآن مُشتتةً ما بين قلبها وعقلها!
إن الأيام تذبل في عينِي بعد أن حلّ الخريف دون أن تتساقط، دون أن تهوي لقاعِ اليأس. إنّ الأيـام يابسةٌ في غصنها لم تسقط، لازالت تحتضر وإنّي على الموتِ ساعٍ! إنّي على الموتً راضيـةٌ إن كان راحةً تُسافر بي بعيدًا عن هذا الضباب الذي أصبح يعربد في صدري الآن. مزقني يا الله بعيدًا عن هذا العالم المُخزي، عن هذا العالم المؤذي، عن هذا العالم الفتّاك!
طُرق الباب مرّةً بعد مرّة، لكنّها تيبّست في مكانها ولم ترد أو تقُم، وهناك خارج الغرفةِ كانت هالة تقف دون اهتمامٍ إن كان سيراها أحدٌ أم لا، إن كان سيراها عبدالله أو غيره، المهم أن تتحدث معها، المهم أن تراها.
وفي تلك الأثناء كان ياسر يصعد حاملًا " البالطو " الأبيض على كتفه والإرهاقُ بادٍ على عينيه، وما إن رأى أمّه تقف عند باب غُرفةِ إلين حتى توقف في مكانه غيرَ مُستوعب، ما الذي تريده أمــه بعد؟؟؟
هرول مُسرعًا إليها حتى يُمسك كتفها، فاستدارت إليه بوجومٍ بينما هو تحدث بوجومٍ أعنف لكنّ صوته كان خافتًا : يمه شتسوين عند باب غرفتها؟ اتركي البنت منك تكفين، وبعدين والله لو أبوي يشـ..
عقدت حاجبيها غضبًا وهي تقاطعه : أبي أحكِي معها ضروري فكني منك ومن أبوك بعد!
عضّ طرف شفته وهو لا يفهمها، وما إن استدارت لتطرقَ من جديدٍ حتى رفع هو يده ليًمسك بكفها ويمنعها : يمه تعوذي بالله ، غلط منك تواجهينها بعد اللي سويتيه، أنا لو مكانك والله ما يكون لي وجه
احتدّت نظراتها بقوّةٍ وهي تنظر له بغضب، رافعةً صوتها في حين غفلةٍ منها لتُفجر قنبلتها في وجهه : أنـا اللي المفروض ما يكون لها وجه؟ أنا تقولي كذا يا ياسر وتنسى فعلتك معها؟
اللي المفروض ما يكون له وجه يشوفها هو انت! انت مثل ما المفترض هي بعد ما يكون لها بعد سواتكم
اتسعت عيناه بصدمةٍ وهو يتلقى هذا الكلام الضخم منها، غيرَ مُصدقٍ لكلّ تلك الظنون المُحرّمةِ التي تُصدَر من عقلها، الآن أصبحا مُذنبين في نظرها؟ الآن أصبحا مُخطئيْن وهي التي نسيت حتى أن تُحذرهما حين ظنّت هذا الظن! وهي التي تجاهلت أمرَ حقيقةِ إلين حين ظنّت بهما سوءً.
كلماتها لم تخترق أذنا ياسر فقط، بل تجاوزتهما لتصل للقابعة في تلك الغرفة، والتي سقطت دموعها ما إن سمعت ما سمعت. يكفي أرجوكِ، يكفي عذابًا فأنا لستُ كـ ياسر الذي ظننتِ بهِ فقط، أنـا بالفعل مُذنبة، أنا بالفعل قَد " سَوِّيت وانتهيت " من هذا الذنب الذي بقيت آثاره بكُرهي له! لذا يكفي، يكفي عذابًا أرجوكِ.
هتف ياسر بغيظ، عاقدًا حاجبيْه غير مُصدق : الله يسامحك يا يمه ، الله يسامحك بس على سوء ظنك فينا
إذا كنا بنظرك غلطانين واحنا ما سوّينا شيء فأنتِ أكبر غلطانة يوم سكتي وفي بالك الشينة! أنتِ أكبر غلطانة يوم فضّلتي حفظ سرّك وتطنيش الغلط اللي في بالك!
هزّ رأسه نفيًا وهو ينظر لها بعتب، ثمّ أردف بجملةٍ قصيرةٍ واحدة " إتركيها بهالفترة مو عشانها بس عشانك! "
ثم ابتعد عنها بعد تلك الجملةِ تاركًا لها واقفةً أمام الباب، عقلها يتخبط بكلماته، إلى أن انسحبت أخيرًا مُبتعدةً عن غرفة إلين.


,


جالسِين مع بعضهم البعض في الصالة، وهي كانت جالسةً بجانبه ولا يفصل بينهما الا بضع سانتيمترات.
ارتشفت من كأس الشاي الذي في يدها ثمّ ابتسمت لأم سيف تردّ على سؤالٍ أطلقته لها : لا والله بالعكس حلوين ويطيرون العقل
ام سيف : هم صح الأطفال حلوين بس يغثون شوي ، وهذي انتِ ورطتي نفسك بروضه
ضحكت ديما دون أن تتجه عيناها لسيف وهي تفهم تمامًا ما مقصد أمه، لكنّ ما يحدث بينهما لم يكن ليُهديها الجرأة حتى تنظر إليه وتتكلم، هناك فجوةٌ بينهما، فجوةٌ كبيرةٌ لا تعلم إن كانت ستضمحل أم لا، لا تعلم إن كانت ستُردم أم ستبقى بينهما.
رفع سيف حاجبه الأيمن : يعني أنـا كنت غثيث والا شقصدك؟
ضحكت أمه ببراءة ثمّ نظرت لديما : الحين أنا قلت اسمه
اكتفت ديما بابتسامةٍ دون أن تتكلم، لتُردف أمه : رحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه ، هذا انت بلّغتنا انك كنت غثيث وأنا ما قلت هالحكي
سيف : أنا غثيث؟؟؟
ام سيف ترفع كتفيها بابتسامة : انت اللي قلت ماهو أنا
ابتسم سيف : مقبولة منك ، أكون لك مليون غثيث لو تبين
هذه المرة نظرت إليه ديما وهي ترفع حاجبًا، لينظر إليها وقد فهم ما معنى نظراتها " من يومك مليون غثيث بس معاي "
لكنه ابتسم وهو يرفع حاجبًا كما فعلت دون مبالاةٍ ثمّ عاد ينظر لأمه : بس لعلمك يمه لا كنت غثيث فأنا ماخذ هالصفة منها
لفظ جملته وهو يُشير لديما لتتسع عيناها وتُطلق شررًا منهما.
ام سيف : لا عاد الا ديوم
ضحك سيف بخفةٍ وهو ينظر لديما نظراتٍ لم تفهمها : صدقي أو لا تصدقي ، من عاشر قومًا أربعين يومًا صار منهم، وزين وقفت السالفة على كذا وأنا معاشرها ثلاث سنين
اتسعت عينا ديما أكثر ليشتعل لسانها الأنثوي الفتاك : نعم! المفروض أنا اللي أقول هالحكي ، زين مني ما صرت أنانية ومتسلطة مثلك وأنا معاشرتك ثلاث سنين!
سيف بضحكة : وزين ما صارت أعصابي تنفلت بسرعة وأنا معاشرك ثلاث سنين
صدّت عنه وهي تدرك أنه يستفزها فقط في هذه الأثناء وقد نجح في ذلك، بينما هو في أقصى حالات " الروقان " عكسها تمامًا، من السهل عليه اللعب بأعصابها كما يشاء، من السهل عليه أن يجعلها كما كانت في الظهيرةِ لا تفقه شيئًا من الأبجديات، ومن السهل عليه أيضًا أن يستفزها في لحظة، أن يُفرحها في لحظة، ويُحزنها في لحظات!
ام سيف بجبينٍ مُقطب : لا تقلبوها جد الحين
وضع سيف ساقًا على أخرى وهو يهتف بأريحية مُستفزة : مروق ولله الحمد
وقف ديما فجأة، ووجهها ممتعضٌ بشدةٍ لتبتعد عنهم صاعدةً لجناحها، لتستدير ام سيف بغضبٍ إليه : عجبك الحين؟
سيف بلا مبالاة : تطمني شوي وتروق
زفرت أمه بغضبٍ لتقوم هي الأخرى تاركةً المكان، وهو بقي جالسًا في مكانه مُقطَّب الجبين، إلى أن هتف دون مبالاةٍ وهو يقوم من مكانه : حريم! يبون يمازحون من غير ما يمازحهم أحد ... والله حالة


,


" بتصل عليه الحين " ... هتف بتلك الجُملةِ وهو يجلس بجانبها على السرير، وهي قد كانت تنظر لحجرها حين دخل إليها بعد أن تركها وخرج في خضم تلك الساعات حتى يتركها لتفكر بأريحية.
والآن ما إن سمعت تلك الجملة حتى رفعت رأسها بسرعةٍ لتنظر إليه، وعقلها ينطق بكلمةٍ واحدة " مُستحـيــــل "
جيهان برفض : لا تتصل ، لأني ماراح أكلمه
فواز : مين قال رأيك مهم الحين؟ أنتِ ما تعرفين مصلحة نفسك عشان كذا أنا أقولك ما أخيرك!
هزّت جيهان رأسها بالرفض وهي تنظر إليه بنفور : ما ودي
تجاهلها فواز وهو يضغط زرّ الإتصال، وفي تلك اللحظةِ كانت يدُها تمتد لتُمسك بالهاتفِ بُعنفٍ وترميه حتى تفكك لأجزاءٍ بعنفِ رميها له ... صارخةً بجنون : مـــا ودي ما ودي
شدّ فواز على أسنانه غضبًا، لكنه لم يرد وهو ينهض مُتحركًا باتجاه الهاتف، وما إن وصل إليه حتى جلس الفرقصاء ليتناوله، وقد كانت الشاشة سليمةً لحسن الحظ بعد هذا الرمي العنيف، تناول البطارية ثمّ ألحقها بالهاتف ومن ثمّ تناول الغطاءَ ليُغلقه.
بينما هي كانت تنظر إليه بنفور، بغضبٍ ترجمته عيناها، بحقدٍ وخيبةٍ تراءى على صفيحةِ حدقتيها، كيف له أن يظنّ بها هذا الظنّ السيء؟ كيف له أن يراها مجنونةً وهي سليمةٌ لا علّة بها؟
وقف فواز بذات هدوئِـه ثمّ استدار ينظر إليها بحزم، مُتجاهلًا مساراتِ نظراتها، لافظًا بحدّةٍ وأمر : بتركك الحين ، بس من بكرة غصب عنك راح تنصاعين للي بقوله لك، سواءً كان بكامل رضاك أو لا
شدّت جيهان على أسنانها قبل أن تصرخ : مانــي مجنونة
فواز بحدة : ومحد مختلف بهالشيء ... قلت لك من قبل يا جيهان مو كل من يلجأ لدكتور نفسي مجنون!
تشبثت بمفرش السرير وهي تقوّس شفتيها استعدادًا للبكاء، إلى أن هتفت أخيرًا بتوسل : ما ودي ، تكفى لا تجبرني يا فواز
تنهد فواز بعمق، ثمّ استدار عنها ليخرج من الغرفةِ تاركًا نظراتها تلك التي هو مقرٌّ أنها لن تؤثر به ليتراجع، لكنه بات يخشى، بات يخشى أن يحدث العكس من ذلك ويتعاطف في أمرٍ لا يحتمل التعاطف، لـذا هو مُضطرٌ للإبتعاد في الساعاتِ القادمة، ومُضطرٌ للقسوةِ إن احتاج ذلك!


,


تجلس في الصالة وحيدةً وفي يدها الهاتف، تُرسل إليه من باب اللباقة، لا بل من بابِ القلق! حتى وإن كانت لا تريده إلا أنها قلقت عليه، قلقت عليه من باب الإنسيانية ومن باب عاطفتها الأنثوية الحساسة.
أرسلت إليه في الواتس أب " شاهين "
انتظرت لثوانٍ قليلة، ولم تجد منه ردًا، كانت تراه مُتصلًا وقد فتح المحادثة لكنه لا يرد!
لذا أرسلت من جديد " انت بخير؟ وش صار أمس "
هذه المرة رأت " جاري الكتابة " لتتسع عينيها قليلًا وتعتدل في جلستها توترًا
شاهين : " تطمني أنا بخير "
تنهدت براحة، ثم عادت لتُرسل : " طيب وش صار؟ "
شاهين : " ما صار شيء ، كان صدام بسيط انحشت منه "
عقدت حاجبيها : " انحشت منه؟ "
ابتسم شاهين وهو يتذكر ما حدث البارحة : " اي انحشت منه، وقت ما كنت بتفاهم مع الرجال جاني اتصال اضطرني عشان أنحاش "
أسيل : " أها "
شاهين : " بس أها! "
احمرت وجنتيها ارتباكًا وهي لا تعلم بمَ ترد، لكنه سبقها قبل أن تفكر : " تدرين إنّ أها ذي تعتبر تصريفه كتابية؟ "
بللت شفتيها ارتباكًا قبل أن ترد : " لا والله مو قصدي "
شاهين : " أجل؟ "
أسيل : " بس حبيت أتطمن عليك "
شاهين : " بس؟؟ "
أسيل : " اي "
ابتسم شاهين بعبثٍ وهو يعتدل في جلسته في حين كان جالسًا على كرسيّ مكتبه، ثم كتب : " طيب تدرين إن * اي * هذي تعتبر تصريفه بعد "
رفعت أسيل حاجبيها : " من متى؟ حتى وإن كانت أنا ما أقصد كذا "
شاهين : " لا اعترفي قصدك تصرفيني، طيب تدرين إن * ما أقصد * تعتبر بعد تصريفه "
فغرت شفتيها وحاجبيها انعقدا، ثم همست بينها وبين نفسها : وش يهبب ذا؟
وقبل أن ترد كانت رسالةٌ منه قد وصلت لتقرأها : " إذا انكتبت ما أقصد بفراغ بين الكلمتين فهذي تصريفه لأنك تبيني أروح وأبعد مثل ما أبعدتي بين الكلمتين .. بس لا كتبتي ماأقصد فكذا تكونين صادقة وما قصدك تصرفيني لأن الكلمتين لاصقة ببعض "
اتسعت عيناها للحظات غير مستوعبة، وما إن أفاقت حتى انسابت ضحكةٌ خافتةٌ من بين شفتيها وقد فهمت عبثه جيدًا، لترسل وهذه المرة بابتسامةٍ زيّنت شفتيها : " من وين تجيب هالتفسيرات الأسطورية انت؟ "
ابتسم شاهين وهو يرد : " من علم النفس "
أسيل : " علم النفس تبعك هاه! قاعد تخلق تفسيرات بكيفك وتنسبها لعلم النفس "
ضحك شاهين بدوره بخفوت، ثم رد فقط بـ : " ههههههههههههه "
ضحكت أسيل مع رؤيتها لحرف الهاءِ مُتكررًا، لترد بدورها : " طيب تدري إن أغلب اللي يكتبون * هههههههه * في المحادثات النصية يقصدون فيها انهاء المحادثة والتصريف؟ "
اتسعت ابتسامته برسالتها التي تدفقت عفويةً دون نفور، ثم رد : " ماأقصد <- وشوفيني كتبتها ملتصقة "
ابتسمت دون شعورٍ لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها وهي تتنبه لنفسها، تتنبه لطريقة مُحادثتها له، لطريقة ابتسامتها المُستمتعة وهي تُحدثه، ودون أن تشعر خرجت من المحادثة والواتس بأكمله وهي تزفر بذعر.
ما بالها نسيت نفسها في لحظة؟ ما بال استدراجِـه لها حازَ بفائدة؟ ما بال أسلوبه العابث حقق نجاحًا أوليًا في علاقتهما؟ .... و .. ما بالها أخذت الأمر بحساسيةٍ هكذا بينما كانت قبل ثوانٍ تتحدث معه كما لو أنه زوجٌ مرغوبٍ فيه بالكامل؟ أتبخل على نفسها بعلاقةٍ جديدةٍ وتتصنع الوفاء أم ماذا؟ أتكون قراراتها السابقةِ مع نفسها مجرد تلفيقٍ وكذب؟ لكنها بالفعل لا تريد خيانة متعب! لا تريد أن تحب بعده، لا تريد أن تُخالف الإناث في صفة الوفاءِ لمن تُحب، لا تريد أن تكون شاذةً عن القاعدةِ ولا توفي له، لـذا ستحاول، بل ستصرّ على ألا تجعل لشاهين منفذًا ليُأثرَ بها.

.

.

.

انــتــهــى


* مقتطفاتٌ من الجزء القادم

استدارت إليه وقد كان على بعد خمس خطواتٍ تقريبًا منها : وش تبي مني ملاحقني بكل يووووم؟

،

سلمان : في عيونك ما كنت متصنع
سلطان : عساها تحترق هالعيون!
سلمان : أفا! تدعي على نفسك يا سلطان؟

،

برجاءٍ ورُعب : لا لا ، تكفى ... الا بطني، الا بطــنــي يا سيف



انتظروني يوم الخميس ()

ودمتم بخير / كَيــدْ !


 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 23-11-14, 05:12 AM   المشاركة رقم: 180
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر القيد التاسع عشر

 




أتمنى يروقوا لكم الجزئين
ترى كل واحد فيهم عن بارت ونص لو ما كان بارتين


+ بكون سعيدة لو اللي خلف الكواليس يظهرون نفسهم لو بتقييم بسيط
ودي أعرف اذا متابعين كيد في ارتفاع كبير أو لا
وإن ماكان لهم عضوية بالمنتدى بيسرني تعليق بسيط في الآسك أو الكِك


تحيــاتي ()

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ليلاس, لغز, أكشن, القدر, الكاتبة كيد, انتقام, يوسف, رواية رومانسية, سلطان, غموض, عانقت, قيود, كيد
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t195238.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 02-10-16 06:32 AM


الساعة الآن 11:35 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية