كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم سعادة ورضا من الرحمن
مساؤكم فرحٌ لا يزول
إن شاء الله تكونون بأتم صحة وعافية
اللهم اكتب للمسلمين الخير في كل مكان
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(18)
صمامات طفايات الحريق تتجه عند نافذة تلك الشقة، وإلى الآن هو ينتظر بلهفة، لكن لمَ ينتظر؟ إن كانت غاليةً عليه حقًا فلمَ لا يندفع داخلًا ليبحث عنها؟ أخذ شهيقًا وأعصابه نفدت كما نفدت الحياة في عينيه . . ألا عيناه كوني غطاءً عن قلبه كما كنتِ وكما يجب أن تكوني، ألا عيناه أنتِ مضيتي تعكسين جلمودًا ضعيفًا فلا تُبدي ضعفه أكثر، إنهم يتربصون بي، يُراقبون كلّ حركةٍ في جسدي، أستشعر تلك العيون ولا قدرة لي على العثور عليها، أستشعر تلك العيون ولا مجال للقبض عليها فكوني يا عيناي غطاءً سميكًا. ويا لهفتهم بنزع هذا الغطاء فلا تخونيني وترتفعي.
زفر بنفاد صبر، والجحيم يرتسم في عينيه، إن كان ماضيه هو الأشدّ حرارةً في جسده فلمَ يخاف هذه النار؟ .. الجنون تسلل إليه، الجنون انتشل العقل والحكمة في هذه الأثناء، سيدخل وسيكون من الأفضل لو مات مُحترقًا!!!
تقريبًا النار بدأت بالسقوط رويدًا رويدًا، وسقوطه الأكبر سيكون بانتظار رؤيتها، سيبحث عنها بنفسه، سيُخرجها من بين النيران بنفسه، ,إن كان هناك جنونٌ في نظره فهو في الإنتظار، إن كان هناك صبرٌ فبالتأكيد لن يقترن بالإنتظار، وأيّ صبرٍ يأتي على انتظارِ موتِ عزيز؟ أيّ صبرٍ ذاك الذي يتحلى به في هذه الأثناء؟ إنكِ الأم ما قبل الأخيرة، حيّةٌ للآن كوني، وشخصٌ مثلي لم ينعم بأمٍ حقيقيةٍ كيف عساه يفرط بأخرى؟ كيف عساه التكاسل الآن لإنقاذكِ من حريقٍ تافهٍ بالنسبة له قد يُزيلك من الوجود؟ ..أنتِ ممن زرع الحياة في عينَي، أنتِ ممن زرع الأمل في ذبذبات صوتي، ألا تريدين انتظار راضي؟ ألستِ التي كنتِ مُتيقنةً بتواجده في هذه الدنيا؟ إذن كيف لكِ التفريط به بعد صبرٍ دام خمسة عشر عامًا؟
اندفع للداخل وصراخٌ تصاعد من خلفه، صراخٌ من أفواهٍ عديدةٍ تصاعد الجنون به حتى توهم صوته، صوت العمِ الأب، صوت القاتل الأب، صوت الأخِ الأب، صوت المُجرم الأب، أيأتي الجنونُ في لحظاتٍ بأصواتٍ لأناس تمناهم في لحظات - تمنّي -؟ كان ولازال ممن قذفهم من حياته ولا مجال للعودة حتى في جنونه، لا مجال للعودة فلا تحاول يا سلمان.
اندفع داخلًا من بوابةِ المبنى مُتجاهلًا كل صوتٍ اندفع من ورائه ، " يا رجَال " " يا أخّ " " الحقوه بيدخل " ... كلماتٌ عديدة خرجت من أفواهِ من لا يعرفونه، لكنّ اسمًا واحدًا خرج من فم شخصٍ يعرفه حقّ المعرفة " سلطـــــــــــــــــان "
,
وجهك ضَو ، وجهك نور ، وجهك سعادة ما تنتهي ، وجهك راحة وجهك أمان ، وجهك روح ما تختفي ، وجهك رسم يا سبحان الله ، وجهك جمال منتشي ، حتى عيوني قالت ببعثرة : وجهه لوين ينتمي؟
تمتمت بها بين نوبات هذيانها، بلحنها السريع بعض الشيء والذي اعتادت عليه منه هو. وهو قطّب جبينه ما إن سمع تلك الكلمات ولحنها المحفوظ قي قلبه، لحنها المحفوظ بين طيّات ذاكرته كما كلماتها العتيقة، ألا زالت تذكرها؟ ألا زالت تحفظ تلك الكلمات؟ ألا زات تذكر اللحن الذي صنفته ضمن أجمل المعزوفات حتى بتهوفن لم يصل إلى جمالها كما تقول في " مهايطاتها " الدائمة؟
عجبي منكِ يا جيهان! تظهرين في كلّ مرةٍ كفراشةٍ أخرى غير السابقة، تظهرين في كلّ مرةٍ بحلّةٍ جديدة حتى بتّ أُصدق جنونك.
اقترب منها ما إن سمعها تنادي باسمه، ذكريات ذاك اليوم الأسود خلّفت وراءها العديد والعديد، ورغبةٌ جامحةٌ أصابتها لتُفضفض، لتتحدث قليلًا وتُعاتب، لتنهار حصون الصمت والبرودة الدائمة بينهما، ملّت من حياتها التعيسة وهي التي لا تستطيع صُنع سعادتها من العدم، لا تستطيع تصنع الإبتسامة بينما هي بداخلها عابسة.
كان شبهَ مُتمددٍ بجانبها يستند على جانبه الأيمن، وهي مُتمددةٌ على ظهرها وقطعةُ قماشٍ مُبللةٍ استقرت على جبينها . . . همست بصوتٍ مبحوح : تذكرها؟
ابتسم ابتسامةً باهتة، وكيف عساه ينساها؟ .. أردفت ببحة : كنت دايم تغنيها لي قبل لا أتغطى عنك ... الكل كان يقول عني شينة وملامحي ماهي حلوة بس كنت أردد هالأغنية اللي انت مألفها عشاني، حسيت إنّ كلماتها تزرع فيني ثقة كبيرة ... وبعد ما تغطيت عنك ولا عاد سمعتها منك، حسيت بفراغ كبير ، ترديدي لها ما كان كافي، كنت أحب أسمعها من أخوي وولد عمي اللي أحبه أكثر من كل أقاربي ، ثقتي تزيد، فخري بوجهي الشين في وقت مراهقتي يزيد
والحين مع إنّ ملامحي تغيرت ونضجت إلا انها ما تعتبر حلوة إلا بنظرك انت
أغمضت عينيها بقوةٍ وهو يستمع لها بصمت، وأين الكلمات منه؟ غادرته وفضلّت جعل أذنيه تتلذذان بصوتها المبحوح، منذ مدةٍ لم يتجه حديثهما لمحورٍ غير الحقد والكره، منذ مدةٍ لم يتجه حديثهما سوى للنفور وكأنهما شحنتان متساويتان بينما هما في الحقيقة العكس من ذلك، هما مختلفان، مختلفان فلمَ لم ينجذبا؟
أردفت بهمس : ليه كنت وما زلت تشوفني حلوة؟
اقترب أكثر ليستشعر جسده حرارة جسدها، هما الآن كالماء والنار، حرارتها تلسعه ليتلذذ بها، وبرودته بالنسبةِ لجسدها تلسعها لترتعش ... لمَ تأتي القوانين الفيزيائية عكس ما ذُكر حين يتعلق الأمر بقلبين؟ أليس من الأجدر به أن يتبخر الآن؟ أليس من الأجدر أن يتلاشى تحت وطأة حرارتها القاسية؟ .. أو كان منها أن تبرد وتنخفض حرارتها للدرجة الطبيعية فلمَ لم يحدث أيٌّ من هذان؟
همس بالقرب من أذنها، بصوتٍ انساب كالماء في رقته، بصوتٍ شابه القطرات في وطأتها الناعمة : لأن المعشوق دايم حلو بنظر العاشق، لأن اللي يشوفك هو قلبي ماهي عيوني
لم تفتح عينيها، والأكسجين اندفع بجنونٍ إلى رئتيها، صدرها ارتفع بشهيقٍ قويّ ليهبط بزفير ضَعُف ولم يجد طاقةً تُعيله . . لكن، العبرة في لحظةٍ كهذه جاءت كشوكةٍ في بلعوم الحياء المفروضِ قسرًا في لحظةٍ كهذهِ أُشبعت بكلماتِ غزلٍ منه، الغصة داهمتها لتبكي، لتئن تحت وطأة ماضيها ... هاتفةً بعتاب : ليه طيب كسرت قلبي؟ ليه حسستني بالرخص؟
فواز ، أنا عمري ما حبيتك إلّا كأخ ، بس مو لدرجة إنّي أرفضك أو ما أفرح فيك كزوج ... بس ليه؟ ليه خليت فرحتي تنقص بكلماتك وهروبك؟
تجعد وجهه دون رضا، كومضاءٍ مرّ ذاك اليوم في عينيه، كبريقٍ تلألأ الحزن في شفتيه اللتين ارتعشتا، لكنه وبالرغم من ذلك لم يندم، لم يندم ولمَ عساه يندم؟ هي المُخطئة وليس هو، ماذا كانت تتوقع منه في تلك الحال غير ما فعل؟ ماذا توقعت منه وما ردة الفعل التي ظنتها؟
لفظ بهدوء : أشوف شخص يحاول يغتصب بنت عمي قبل لا تكون حبيبتي، وبكل وقاحة داخل البيت اللي كان فاضي ، ولما أنوي أتكلم قدام عمي باللي صار ترفضين! .. وكأنك تدافعين عنه ، كأنك تخافين من شيء! تخافين نمسكه! أو تنكشفين!!! ... وش تتوقعين تكون ردة فعلي؟ الشكوك قتلتني، نحرتني، تخيلت إنّك انتِ اللي كنتِ رخيصة بالشكل اللي دفعه يتمادى! وش تتوقعين مني يا جيهان؟ وش تتوقين من ولد عمك؟
يومتها أنا ما كنت العاشق ، كنت ولد العم، ولد العم يا جيهان
,
بعض الممرات أُشبعت بالنيران، وبعضها تهاوى سقفها الخشبي حين أُحرقت بعضٌ من أجزائها، وهو أيهتم للخطر الآن؟ كم فقد ولن يحتمل أكثر، وكثيرًا ما يتصنع الرجل القوة حتى مع نفسه، لكنه ضعيفٌ جدًا ليتصنع ذلك أمام نفسه، وكيف للمرء أن يكذب على نفسه؟ حتى المنافقين يكذبون أمام الناس لكنّهم مع نفوسهم لا يكونون إلّا صادقين، لذا هو يعترف لنفسه بكل صدق، هو ضعيفٌ جدًا، يتصنع القوةَ أمام غيره، يتصنع اللا مُبالاة والبرود لكنه مع نفسه صادق ... هو ضعيف، ضعيفٌ جدًا.
وصل للطابق الثالث وهو يسمع خطواتٍ من خلفه لكنه كان يتجاهلها ولا يستدير، صوتٌ ينادي لكنه ينكره، ينكره وكيف عساه التصديق؟ إنه الصوت الذي غدر به فكيف عساه يكون موجودًا الآن ليُنقذه من تهوره؟ إنه الصوت الذي خانَ فكيف عساه يكون هنا مُنقذًا لمن خان ولمن غدر؟
صرخ من خلفه بغضب، وكفه وصلت إلى كتف سلطان لتقبض عليها بقوة، وبنبرةٍ تأجج بها الغضب وشتائمه وكلماته الآمرة هذه لطالما لفظها له حين يكون غضبه في أوج اشتعاله : أنا لما أقولك وقف توقف وانت حمار ... ويييين رايح يا غبي؟؟؟
صدره كان يرتفع ويهبط بانفعال، عيناه متسعتان لا يُصدق ما يسمع، أهو هنا حقًا؟ لم يكن يتوهم صوته ولا مناداته له! لم يكن يتوهم ملاحقته له ليُنقذه!! ... استدار ببطءٍ إليه، وكأن الدنيا أُعتمت في عينيه، وكأن الدنيا غابت عن عقله، لم يعد يرى سواه، كان هو، يقف ووجهه غاضبٌ منه، غاضبٌ من تهور طفله المعهود، رباه أيتوهم وجوده أم أنّ عيناه المُشتاقتان تتوهمان ذلك؟ أيتوهم صوته الغاضب أم أن أذناه المتلهفتان تصنعتا سماع صوتِه؟؟
أغمض عينيه للحظات، وأنفاسه في صراعٍ جنوني، تلفظُ هواءهُ باندفاعٍ خارق، تلفظُ روحه إلى جحيمٍ حارق، يشعر أنّ حباله الصوتية تحتك ببعضها لتُصدرَ صريرًا مؤذي، لا يريد أن يتكلم الآن فهو ليس إلا متوهمًا، لا يريد أن يفتح عينيه حتى تنجلي تلك الصورة الخادعة.
نظر سلمان لوجهه بغضب، وبسخرية : لهالدرجة يائس من حياتك؟ تشتهي الموت يا سلطان؟؟
زمّ سلطان شفتيه، ثم فتح عينيه ببطءٍ ليرى أمامه عمه الغاضب والساخر، يا الله ، لم يكن يتوهم لا صوته ولا صورته! لم يكن يتوهم قدومه، ما الذي جاء به؟ أيعقل أنه يريد إنقاذه؟ أيعقل أنه يخاف عليه؟ .. لا ، لا يصدق ، يستحيل أن يكون هذا هو ما يريد، يستحيل أن يكون هذا ما يريده شخصٌ قتل أخاه فكيف بابنه؟
همس بصوتٍ لا حياة بِه : وش جاي تبيه؟
سلمان ببرودٍ ساخر : جاي أنقذ ولدي من الموت
اصطكت أسنانه بضعف، وعيناه غامتا بمشاعر عديدةٍ لا تريد أن تموت. ليس وقت الضعف الآن، فنبرة السخرية تجلت في صوته كما في ملامحه، وكما توقع فهو ليس هنا لإنقاذه وهل يعقل أن يُفكر سلمان في ذلك، هو هنا يسخر ومن يسخر لا ينوي الإنقاذ!
سلطان بحدة : مشكور محنا بحاجتك ... وياليت ما تقول ولدي تراها تقرف بالدرجة اللي تخليني اشمئز من نفسي
أردف بقهرٍ وهو ينفض يد سلمان بقسوةٍ عن كتفه : وانقلع من وجهي أو ضف نفسك بالنار يكون أحسن
استدار ينوي الذهاب، سيكمل بحثه وهذا السلمان يؤرقه الآن، لكنّ سلمان شدّ على عنقه من الخلف بكفٍ واحدةٍ ليُعيد وجهه لوجهه، وبحدة : ما أروح إلا وانت معاي، رجلي على رجلك وأبوك يا حبيبي تسمع كلامه غصبًا عن خشمك
قال جملته الأخيرة بسخريةٍ لاذعة، لاذعةٍ بالقدر الذي جعل كل خلاياه ترتعش انفعالًا، إنّه الآن يضغط عليه نفسيًا ليضعف أكثر، يستفزه ليظهر بصورةِ الضعيف أمامه، وهو الضعيف حقيقةً فهل يرتجي رؤيته أضعف من ذلك؟
همس بحقدٍ تجلى على صوته : تخسى الا انت تكون أبوي
ابتسم سلمان وهو يرى إمارات القهر على وجهه، ليهمس له بصوتٍ اختفت به السخرية : ليه تبي تنقذها؟ تخاطر بحياتك عشانها! بتكون احترقت بالكامل الحين صدقني
اتسعت عيناه، بهت وجهه للحظات، وكلماته انغرست في عقله، ما الذي يقصده؟ هناك معانٍ كثيرة استشعرها خلف كلماته، أيعقل ان يكون له يدٌ في ذلك؟ أيعقل أن يكون السببُ فيما حصل؟
ازدرد ريقه قبل أن يهمس، بصوتٍ خشيَ صاحبه زيادة محصول سلمان السلبي في قائمته السوداء : وش تقصد؟ ... لا يكون
زفر سلمان ببرودٍ ودون مبالاة، ونظراته تمركزت على ملامحه، باردةٌ كانت تلك النظرات لتنخر عضامه ببرودتها، بركانيةٌ كانت لتقتلعه من جذور العقل، تلبسه الجنون، تلبسته الصدمة بالقدر الذي جعله يُمسك بمُقدمة ثوب سلمان هامسًا دون تصديق : مو معقول .. مو معقول ... انت! انت السبب؟؟
صرخ بقهرٍ وحقد، وعيناه التمعتا بدموعٍ حاول قمعها، أيأتي الآن لينتشل البقية الباقية من أحبائه؟ أيأتي الآن بكل بلادةٍ قاصدًا قلع جذور ليلى من الدنيا؟ : تجاوزت حدودك ... تجاوزت حدودك يا سلمان .. * ارتفع صوته أكثر * ليييييه؟ ليه تقتلها لييييييييييييييييييييه؟ وش سوت لك؟ وش ضرتك فيه عشان تقتلها؟ لا عندها مركز تطمع فيه ولا هي كاشفة سواياك عشان تخاف تفضحك ... ليه قتلتها لييييييييييه؟؟
زفر سلمان بملل، ليرفع يديه يُمسك بيدي سلطان المُتشبثة في ثوبه ينوي ابعادهما، وتلك البرودة استفزت سلطان بالقدر الكافي لجعله يرفع إحدى كفيه ولأول مرةٍ ليلكم سلمان، ليلكم الرجل الذي رعاه لسنين طوال، الرجل الذي أنشأه كما يريد، الرجل الذي كان من المفترض أن يكون الأحنّ عليه والأحب له، وهو بتلك اللكمة يمحي كلّ أثرٍ بقي له في قلبه، تزحزحت كل مكانةٍ له ولم يبقى سوى الحقد، الحقد الذي تولد لينمو الآن أكثر وأكثر.
أيأتي الكره كومضاتٍ حتى يستقر في لحظةٍ ما؟ ... يكرهه، يُجزم أنه يكرهه وكرههُ له تولد منذ عرفه على حقيقته والآن هاهو ينمو وينمو ليصبح ناضجًا، ينمو ليمحي كل أثرٍ حلوٍ مرّ في حياته معه.
والكره يمسح كل شيءٍ ماضي، يُجفف اللحظات دون أن يسعفها بقطرة ماء. انتهينا يا أبي وانتهت قصتنا، انتهينا وانتهت كل لحظةٍ قد ترتفع بها ضحكاتٌ بيننا، انتهينا وانتهى الجسر الممتد بيننا، وأنت من هدمه، أنت من قذفني بعيدًا، أنت من غدر لننتهي بفعل الغدر، انتهينا، انتهينا وهل بعد النهاية بداية؟؟
همس بقهر، بحقدٍ كان صادقًا هذه المرة، دون أيّ غصةٍ قد تداهمه، دون أيّ أسى قد يعتريه وهل ينفع الأسى الآن؟ هل تنفع الأمنيات بكون كل هذا كابوسٌ في منامٍ لعينٍ سيستيقظ منه؟ : حقير، مجرم ... بدفعك الثمن، صدقني بخليك تآكل أصابعك من الندم يا حقيــــــــــــــر
ابتسم ، وتلك الإبتسامة كانت تحمل الكثير من السخرية، ابتسامةٌ ضاعفت من قهره، من حقده، من كرهه الوليد له.
استدار سلمان برأسه بعد أن كان للكمته الأثر ليُدير وجهه جانبًا، هامسًا باستفزازٍ ساخر، عاتب : كذا يا سلطان؟ كذا تعلمت تتعامل مع أبوك؟؟
ولا زال يُمارس ضغطه عليه، لكنه الآن لن يُفيد، لن يُفيد فسلمان الأب انتهى، انتهى من قلبه، انتهى من عقله، ولم يبقى سوى سلمان العم الغادر والقاتل.
سلطان بحدةٍ حاقدة وهو يُخفض يديه : حاشاه أبوي تكون في مكانته ... حاشاه يكون بنفس القيمة الحقيرة اللي انت فيها!
تقتلها؟ تقتلها يا سلمان؟ لهالدرجة وصلت فيك يا رجّال يا قوي؟ تطلّع مواهبك على مرة؟؟
سلمان ببرود : وش تهمك فيه؟ ترى زوجها راح من قبلها وأكيد هي ودها تلحق فيه
ما إن أنهى جملته تلك حتى تلقى لكمةً أخرى من سلطان ليرتفع ضحكه عاليًا وعاليًا، ليرتفع من بين النيران المّارة من حولهما دون أن تكون وصلت إليهما بعد.
سلطان من بين أسنانه وضحكهُ يستفزه أكثر : وعمي راضي بعد! .. قتلته؟ ... وبكل جراءة تقولها قدامي، بكل جراءة تتكلم وناسي إنّي أقدر أفضحك وأرميك بالسجون؟؟!
توقف ضحك سلمان فجأة، ومن ثم نظر لملامح ابن أخيه بحدة، ونارٌ اشتعلت فجأةً في عينيه، وحشٌ نهض ليصبح سلطان فجأةً يلاصق ظهرهُ صدر سلمان وذراعه التفّت خلف ظهره بقوةٍ تحت وطأة كف سلمان القوية.
شدّ سلمان على معصم سلطان أكثر وهو يهمس بخفوتٍ قرب أذنه : تهددني؟ تهددني يا ولد فهد وناسي انّي عايش 15 سنة بأمان وبدون ما أحد يقدر يمسكني بتهمة قتل قديمة وبايخة؟ تهددني وأنا اللي أقدر أطلّع نفسي من أيّ مشكلة مثل ما تطلّع الشعر من العجين!!
هه .. شكلك ما عرفتني كويس يا سلطان، ما عرفت اللي تحكي معه بهالطريقة عشان تحسب له ألف حساب
زمّ سلطان شفتيه بغيظٍ وهو يشعر بالعجز في تحرير ذراعه من يد سلمان القوية، ونار الغضب اشتعلت في صدره لوصفه لتلك الجريمة بـ " تهمة قتل قديمة وبايخة " .. أأصبح قتله لوالده تهمةً " بايخة " كما يقول، أأصبحت جريمةً لا معنى لها؟؟
وذاك أكمل بهمسٍ بارد : بطلع من هالمكان … ولازم تطلع انت بعد معي .. لازم ما تموت الحين، مو الحين
,
بين الأطفال كانت تجلس على الأرض، تاركين مقاعدهم كما يحبون في حصتها هي، وهي تاركةٌ لمكتبها لتمتعها بالجلوس معهم على الأرض، يا الله كم تعشق الأطفال، لم تمضي سوى خمسة أيامٍ على بدئها لعملها لكنهم تعلقوا بها جدًا لمعاملتها الحنونة معهم، وهل توجد معاملةٌ أخرى مع الأطفال غير هذه؟
هاجمتها فجأةً صورة زياد لتتلاشى ابتسامتها الدائمة مع أطفالها هنا، كيف تقرّ أن لا معاملة مع الأطفال سوى هذه وهي التي تكره زياد بالقدر الذي يجعلها تتمنى ابتعاده عن محور حياتهم، أن يبتعد عن والده حتى!
زمّت شفتيها وهي تنفض أفكارها تلك، وأحد الأصوات الصغيرة اقتلعتها من أفكارها : استاذه ديما
انتبهت لتنظر للطفلة الجالسة بجانبها وأمامها كراسةُ رسم، لتبتسم لها بفتورٍ هاتفة : نعم حبيبتي
الطفلة : شوفي رسمي حلو؟
قابلت الطفلة بابتسامةٍ نقية، وبإعجاب : الله .. حلوة كثير حبيبتي ، شاطرة
ابتسمت الطفلة بفخرٍ وشهادة معلمتها تُنمي ثقتها أكثر وأكثر، بينما أكملت ديما جولتها بين الأطفال وهي تحاول نزع صورة ذاك الطفل المكروه من قبلها من رأسها.
,
للتو انتهت حصّة التاريخ المُفضلة لديها، وهي المعروفة باجتهادها عوضًا عن شقائها وعنادها الدائم مع معلماتها.
سمعت صوت صديقتها الجالسة بجوارها تتحدث معها بضحكة : شفتي أبلة مزنه ، وأخيرًا بدّلت شوزها
ضحكت غيداء بشقاء : حسبي الله عالعدو ، ما تتركين الحش في خلق الله
صديقتها نجوى : عشتو .. غيداء بقدر جلالتها وعظمتها تقول هالكلام
تنحنحت غيداء بفخر : اسكتي بس أنا تطوّعت .. كلمة ثانية منك عن الأبلات وبنشر في المدرسة انك خارجة عن الإسلام
لتتبع كلامها ذاك بضحكةٍ مُجلجلةٍ وتلك كشرت بوجهها : انتِ آخر وحدة ممكن تتطوّع
غيداء : ليه؟ تنتظرين اللحية والثوب القصير!
نجوى : لا أنتظر اللسان المُتنعم بذكر الله وانتِ الصادقة
هزّت غيداء رأسها بالنفي في حركةٍ تمثيلية وهي تُغمض عينيها : الله يثبتنا على طاعته ويلهمنا الذكر في كل الأوقات
نجوى : آمين .. والله انك محتاجة هالدعوات الله يهديك بس
فتحت غيداء عينيها لتنظر إليها بترفّع : نعم نعم!
اعتدلت نجوى بسرعةٍ وهي تهمس : اسكتي اسكتي وصلت أبلة الدين
اعتدلت غيداء وهي تستشعر الهيبة المُتدفقة من تلك المعلمة، مما يجعلها تحترمها ليس لهيبتها فقط، بل للبشاشة المتعلقة في ملامحها وطريقة معاملتها لهم.
من خلفهم بصفوف، تحديدًا الصف الأخير، تجلس وبجانبها أخرى تطابقها في صفاتها لكن بشكلٍ أرحم، ونظام صفهم يقوم على أن تجلس كل اثنتين بجانب بعضهما، بالرغم من أنّ هذا النظام انتقده الكثير من المعلمات بسبب شغب هذا الصف تحديدًا إلى أنهم لطالما قاموا بإشعالِ - مُظاهراتٍ - كما يُسمونها بمبالغةٍ منهم حتى تتراجع الإدارة عن قراراتها دائمًا.
همست سارة بخبثٍ للجالسة بجوارها : تدرين يا العنود ، والله لو نكسبها بنحصّل من وراها فلوس وش كثرها
العنود : تقصدين غدو البزرة؟؟
سارة بخبث : اي ، حالتها مناسبة، لا تنسين إنها الحين ماهي بعذراء، ولو حشّينا راسها شوي وأقنعناها أكيد بنحصل من وراها مكسب
قلّبت العنود ملامحها، وكلام سارة لا يروقها : حرام عليك سارة، البنت طفلة ، وبعدين وش دراك إنها ماهي بعذراء؟ لا تنسين إنّ القصة متداولة من مجموعة بنات حتى إنها ما انتشرت بشكل كبير، وهذا ما يدل الا على إن القصة كلها كذب
سارة بإصرار : لا انا متأكدة ، لأنها بنفسها متصلة علي وقاصّة علي سالفة عشان تفهم اللي صار لها .. في البداية صدقت قصتها الكاذبة بس بعدين فهمت لما سمعت الحكاية الحقيقية من البنات ، وتدرين وش اللي قالته؟
ثمّ بدأت تقصّ عليها ما قالته لها تفصيلًا لتُفهمها أنها حقيقةً ليست عذراء!
,
تتصفح مجلةً بين يديها من شدة مللها، وفي أثناء تصفحها جذبها عنوانٌ باللغة الفرنسية في جانب إحدى الصفحات
( إعلان للتسجيل في نادي الحورية الإسلامي للنساء ) - نادي الحورية = اسم وهمي -
شدّها العنوان، وحين قرأت المحتوى جيدًا علمت أنه نادٍ رياضي للنساء فقط، إسلاميٌّ وهذا ما شدّها للموضوع أكثر، جيد ، ستجد ما تتسلى به.
فجأةً تذكرت ليان لتعبس بملامحها، ومن سيهتم بها إن هي فكرت في نفسها قبلًا، تأفأفت وهي ترمي المجلة جانبًا، حياتها أصبحت مملةً جدًا، تتمنى لو لم يُغادروا الرياض لتصبح حياتهم على هذه الوتيرة الخانقة، نظرت للساعة ووالدها في هذا الوقت دائمًا ما يكون في الخارج، إذن لمَ لا تأخذ ليان وتخرج!
لكنها تذكرت فجأةً أمر والدها لهم بعدم الخروج من دونهم بعد ما حدث لها آخر مرة .. يـــــا الله! ستختنق من حياتها هذه.
,
صوته يثير الإشمئزاز، أنفاسهُ مقرفةٌ كما هو، كفه المُمسكة بمعصمه يشعر أنها ليست سوى نجاسةٍ تشبثت به، باختصارٍ كلّه يثير الإشمئزاز، والعزاءُ الوحيد يا أبي أنه يشبهك في ملامحه، العزاء الوحيد أن له ذات الملامح، كم من العقود يحتاج ليتجاوز هذا الشبه؟ كم من الضربات اللازمة والموجهة إليه حتى ينسى شبهه لوالده في ملامحه بعيدًا عن الصفات؟
وهو الذي كان يفتخر به، وهو الذي كان يقول له : شبيه أبوي
شبيهه حتى في الصفات كما اعتقد وها قد جاء العَام الذي جعله يدرك مدى الإختلاف. إلهي كيف كنتُ قد أهديتُه لقب الأب وهو لا يستحق؟ كيف ذلك؟ .. النار تصهر قلبه، صدره يحترق، عيناه تنصهران بملحٍ صلبٍ لا يريد الذوبان، وأنت يا سلمان لست إلّا مثالًا من صنف شبيهي البشر، من لا يحقّ لنا البكاء عليهم أو بالأحرى من لا يحقّ لهم التنعّم ببكائنا، لست إلّا سحابة صيفٍ سأتجاوزها، أقسم لكَ سأتجاوزك، سأتجاوزك.
سلطان بهمسٍ حاقد : ماني بطالع الا وهي معي … أو الموت أفضل دامك تبي حياتي الحين
ابتسم سلمان ابتسامةً صغيرة، ليهمس : محتاجينك … فوق ما تتصور يا الغالي ، وحياتك الحين مهمة
أداره بسرعةٍ ليلكمه في معدته بقسوة، وبصوتٍ بارد : تدري يا سلطان ، تدري لو قلت لك إنّك غالي عن حقيقة ، و 15 سنة في الواقع ماهي قليلة، بس أنـا أشتغل على أساس مبدأ واحد … نفسي نفسي!
ونفسي قبلك يا سلطان .. مالك لزوم لو كنت بتشكل عليها خطر … بس مو الحين موتك، مو الحين تدري ليه؟ … لأنّ نفسي محتاجتك
لم ينتظره ليبدأ بالدفاع عن نفسه، بل سدد له لكمةً أعنف حتى يُضعفه، وسلطان انحنى ليضع كفيه على معدته، ليردف سلمان وهو يقبض على كتفه بإحدى كفيه بقوة : الحياة تعتمد على أساس واحد … البقاء للأقوى وبس
وانت ضعيف، عاطفتك تحركك، وهذي العاطفة ما تنفع في قانون الحياة … البقاء للأقوى، للأقوى يا سلطـــــان
,
كان يُحدثها في الهاتف وابتسامةٌ تعلو محياه، وتلك الأم منذ أيامٍ تطلب منه ذات الطّلبِ وهو بالرغم من كون الموضوع راق له إلّا أنه لا يعلم ما رأيها هي.
علا بإصرار : طيب دامها هي خجلانة منك أنـا بكلمها عنك
شاهين يومئ برأسه والفكرة حازت على إعجابه، لربما إن حدّثتها أمه ستوافق .. ابتسم بخبث … وهذا ماهو يريد، لن يبقى كالمعتوه يترقب تقبلها له، لكنه أيضًا لن يتحلى بالقسوة معها وهذا ماهو مستحيل في قاموسه : طيب يا نظر عيني كلميها ما عندي مانع .. مشكلتها خجولة وبالحيل ترد على اتصالاتي
علا بحماسٍ بعد موافقته : من عيوني حبيبي اليوم أكلمها
شاهين بابتسامة : تسلملي عيونك يا الغالية … يلا أستأذنك عندي مرضى ينتظروني
أغلق وابتسامته تُزيّن ثغره، وهل سينتظرها أكثر حتى تتقبله؟ وخير وسيلةٍ للدفاع هي الهجوم، ضحك بخفوتٍ وهو يتذكر تلك المقولة، منذ متى أصبح الزواج حربًا يا أسيل؟ .. جعلتني أبدو كمجنونٍ في الحب بينما أنا في الحقيقة لستُ بعاشق، لكنّ ذلك لا يجعلني أُنكر أنّ لك مكانًا ما في قلبي جعلني أتمسك بك.
يتبــع ..
|