كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم :)
صباحكم / مساؤكم سعادة لا تنضب
كيفكم آل ليلاس؟
ان شاء الله تكونون بأتم صحة وعافية
هالجزء بيكون إهداء للجميلة ( لست أدري )
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
لا تشغلكم عن العبادات
(16)*2
بدأت تحب المكان الذي هم فيه ليس لشكله أو لفخامةٍ يحتويه، يكفي أن هذا المكان أهداها فرصة الإبتعاد عن سلطان وأخذَ حريتها أكثر، يكفي أنه قلل من حدة خوفها منه ومن قربه.
زفرت وغرفة نومها تعجّ بالهواء البارد والذي ينخر عظامها لكنها بالرغم من ذلك تستمتع بهذه البرودة كما عادتها، تفضل أن تتجمد أوصالها من البرد وألّا تغلق التكييف أو تُخفضه.
احتضنت كوب القهوة بين كفيها لتبعث بعض الدفء إليهما، وشفتيها تتمتمان كلماتٍ لأغنيةٍ حفضتها عن ظهر غيب، أوليست هي العاشقة للأغاني وبإمكانها حفظ كلمات كل أغنيةٍ تمرّ عليها في عدة سماعات!
الساعة الآن اقتربت من العاشرة مساءً والغريب أن سلطان هادئٌ حتى أنها شكت في وجوده، في العادة سيحاول الحديث معها واستدعائها لتجلس معه خارجًا، لكن هذا أفضل لها، سترتاح من حديثه وجذبه لها نحو حنانه المُزيف.
كانت تجلس على أريكةٍ مُفردة من الفرو الأحمر المدموج بالأبيض، ترتدي بيجاما حريرية بيضاء انسدلت على جسدها بجاذبية، وشعرها الطويل الليلي أخذ حريته بعشوائيةٍ على ظهرها، شكلها وإن بدا جريئًا بعض الشيء في حالةٍ كحالتها مع سلطان إلا أنها تعلم أنه لربما سيوقع به، لكنها لن تهتم! تُقنع نفسها أن قوتها عادت ولن تظهر ضعيفةً أمامه، لن تضعف لتُهديه الفرصة لاستغلالها.
ارتشفت القليل من القهوة ثم وضعت الكوب على الطاولة وعادت للخلف لتسند ظهرها على ظهر الأريكة باسترخاء، ثم زفرت بأريحيةٍ لتغمض عينيها حتى استغرقت في النوم دون أن تشعر.
في الغرفة الأخرى
مُستلقٍ على السرير، هاتفه يرنّ، وهو يضع ذراعه على عينيه يشعر بالصداع ولا رغبة له بالرد، كان سيتجاهل لكن الرنين أثبت إصرار صاحبه لعدم توقفه، تأفأف ليتناوله من الكومدينة التي بجانبه ليرد دون أن ينظر لهوية المُتصل حتى : هممممم
عناد بحماس : سلطوووووووووون يا الدب وينك؟
رفع ذراعه عن رأسه ليجلس وعلى وجهه اعتلا الملل لكن لم تخفى ابتسامته السعيدة بسماع صوته : سلطون في عينك يا الخايس ، وينك اشتقت لك يا القاطع
عناد بابتسامة : مين القاطع أنا والا انت؟ من تزوجت وانت ناسينا
ابتسم بسخريةٍ وأي زواجٍ هذا! لكنه أجاب بطبيعية : وايش تتوقع مني؟ عندي اللي ينسيني اسم عناد
ضحك عناد بسعادةٍ لأجله ليهتف : نقول مبسوط؟
صمت سلطان ولم يجد الدافع ليكذب، كيف يقول له " اي " وهو لا يشعر معها إلا بالشفقة والمسؤولية ولا شيء آخر، يشعر أنها أُرسلت إليه لينقذها وحسب.
أردف عناد بعد ثانيتين وابتسامته لم تختفي بعد : ربي يسعدك يا الشيخ ، إن شاء الله ترجع تفكر كويس بخصوص إتمام زواجكم إذا كنت مرتاح معها، انسى أبوها ومشاكلك لأنه مالها خص فيها
سلطان بهدوءٍ ظاهري : إن شاء الله
قال جملته تلك ثم حاول تغيير محور حديثهما بعيدًا عن غزل، عن تلك الغزال التي يرتسم الجرح في عينيها، عن أوراق الربيع التي جففها الخريف دون أن تمرّ بالصيف، عن معزوفةٍ تقطعت خيوط القيثارة التي تعزفها فانقطعت دون أن تكتمل.
هي الجمال الذي انصهر تحت وطأة نار وقاحتها، وهو من سيكون الهواء البارد الذي يعيد ترميمه.
نظر لباب غرفته بعد أن أغلق الهاتف، بما أنه الآن غير نائم ولا رغبة له بالنوم من الأساس فلمَ لا يطلب منها الجلوس معه! .. وقف ليخرج ثم اتجه لباب غرفتها المفتوح قليلًا، ليدفعه بهدوءٍ دون أن يصدر صوتًا، وحين لم يجدها على سريرها ابتسم، أدرك أنها لم تنم بعد، لذا بدأت عيناه بالبحث هنا وهناك، لتستقر على ذاك الجسد الساكن، المُغمض عينيه كملاكٍ نائم، وقد قالها مرةً في نفسه، هي في منامها أجمل، أكثر عذوبة، نقيةٌ عكس ما تكون في صحوتها، تُجبره على تمعن النظر بها، على التمعن بهذا النائم والغير طبيعيٍّ في جاذبيته.
تنهد بخفوتٍ وهو يقترب منها، وحين وقف أمامها انحنى قليلًا ليحملها بين ذراعيه، قاصدًا أخذها لسريرها.
,
تُحرك أناملها أمام مُقدمة شعرها بقوةٍ تشعر أن رأسها سينفجر من الصداع، لم تأكل شيئًا منذ ما حدث، وحقيقةً هي لا تشعر بالجوع من الأساس، لا رغبة لها بالطعام وكيف يكون لها بعد كل هذا؟
زفرت لتتجه للحمام بتعثرٍ وهي تُغطي فمها بكفها، وحين وصلت لم تُغلق باب الحمام بل اندفعت للمغسلة لتتقيأ سائل معدتها الخاوية، تشعر أن روحها ستقتلع لا محالة ومعدتها تتقطع. سعلت طويلًا ثم مسحت وجهها المُنتفخ من كثرة بكائها.
أدركت حقيقتها التي لا خلاف عليها، هي ضعيفةٌ بقدرٍ كبير، لا بريق أملٍ في أن تصبح أقوى وفي كل مرةٍ يزداد ضعفها بدل أن يقلّ، أيكون ضعفها هذا الذي يتضاعف لابتعادها عن الله في الأيام الأخيرة؟؟
أغمضت عينيها الحمراوين بقوة، متى آخر مرةٍ قرأت فيها القرآن؟ قبل ثلاثة أيامٍ تقريبًا، حتى صلواتها لم تعد تُؤديها كما السابق، تتأخر عن بعضها والأُخرى تؤديها كما لم يجب. ارتعشت كفاها ثم بدأت بغسلهما تحت الماء، ستتوضأ لتُصلي ركعتين لربما ستزيلان همومها، لربما ستعود كما السابق، رغم همومها إلا أنها كانت مُتعلقةً بربها مما قلص ضيقها.
فرشت سجادتها باتجاه القبلة بعد أن خرجت من الحمام، ثم ارتدت رداء صلاتها وبدأت تُصلي بخشوعٍ ركعتان تزيل كل ضيقها وهمومها أو على الأقل للتقليل منهم. لتعود إلين المُتعلقة بربها قبل كل شيء.
في ذات المكان لكن خارجًا.
همست وهي تضع كفها بمواساةٍ على كتفه : باخذها معي لو ما تبيها بهالوقت
تنهد وهو يمسح بكفه على ملامحه ليهمس بأسى : مين قال ما أبيها؟ لو كانت الظروف عكس كذا كنت فرحت والله يشهد على كلامي
بس شلون؟ شلون رضت وسكتت وهي بنتها وبنتي؟ شلون سكتت وخلتها كالغريبة وهي اخت ياسر واخت هديل؟
ويلها من الله كان سوت سواتها وندمت، ويلها من الخالق كان طمعت فيها بنت لها ويوم صارت خجلت منها.
لو تبين تاخذين شخص خذيها هي، مالي خلق لها ولا لشوفتها … هالة غلطت غلط كبير ولو ما العمر وياها وكبر عيالها كنت مطلقها من يوم اعترفت باللي سوته
تشوفنا نِقدم على الحرام وتتردد بالكلام!!!
وقف بانفعالٍ بعد كلماته تلك ينوي الذهاب إليها، الذهاب لابنته التي لم يدرك أنها كذلك إلا قبل أيامٍ قليلة، وتلك قطبت جبينها بضيقٍ بعد ذهابه، هي أيضًا باتت تفكر كثيرًا، لمَ فعلت هالة ما فعلت؟ لا تستطيع الإقتناع بعذرها ذاك ومن قد يقتنع؟
خوفها من زوجها لا يُحتم عليها ما فعلته، لا يُحتم عليها إخفاء حقيقة كون إلين ابنتهم.
وذاك صعد للأعلى حتى وقف أمام غرفة من هي ابنته، أيطرق الباب عليها ويبدأ بأول خطوةٍ تهدم الحواجز بينهما؟ ... كانا كأبٍ وابنته لكن هذا ما كان إلا وهمًا يتصنعانه، والآن هاهو أصبح حقيقةً، وسيكون تصرفه معها كالأب هذه المرة وليس كشخصٍ يعتبرها ابنته.
طرق الباب طرقتان فقط ثم انتظرها قليلًا، وتلك التي كانت تقرأ القرآن توقفت لتنظر للباب بتوجس، أليست هي من قال أن ضعفها مبنيٌّ على ابتعادها عن الله؟ لمَ إذن تشعر بالضعف الآن؟ لمَ لا تريد أن تفتح الباب؟ لمَ تشعر بخواء معدتها لكن الجوع لا يُصاحبها ولا تريد أن تملأ فراغ تلك المعدة؟
أليست هي من أيقن أنها ستكون قويةً وسيزول القليل من ضيقها عندما تُصلي ركعتين ثم تقرأ وجهين من القرآن؟ إذن ستنهض وتواجههم جميعًا، ستقول لهم أنها لا تحتاجهم، لن تحتاجهم وستتركهم للأبد، وماذا ترتجي من عائلةٍ كانت لهم ابنةً وبقيت سنين عمرها معهم تظن العكس من ذلك! ماذا تنتظر بعد كل هذا الخذلان منهم؟ ماذا تنتظر أكثر؟
هي لديها عائلةٌ لم تعترف بعد بها لكن يكفي أن لها ذاتُ الدمِ منهم، وإن لم يصدقها أدهم الآن سيُصدق والده الذي هو والدها حين تُصبح أمامه.
وقفت ثم اتجهت نحو الباب لتضع كفها على قفله، وترددٌ أصابها غفلةً منها، يريد منها أن تتراجع، يريد منها أن تضعف.
استنشقت الأكسجين بنهم ، هي أقرت بينها وبين نفسها بعدم الضعف وسيكون ذلك، يجب عليها أن تشحذ نفسها بالقوة والإندفاع.
أدارت القفل وهي بذلك تحاول أن تدير ضعفها وترددها إلى القوة، وحين فتحت الباب ورداء الصلاة لازال عليها رأت من هو والدها أمامها، ودون أن تشعر بدأت بالتأكد أن شعرها كله مُغطى، ورداء الصلاة تركته على رأسها كما اعتادت طوال هذه السنين، هي اعتادت طوال حياتها أن يكون شعرها مُغطًا عنه وعن ياسر، ولن تقوم بتغيير عادةٍ اضطرت إليها بسبب كذبةٍ من أحدهم.
حين رآها عبدالله لم يستطع إخفاء ابتسامةٍ حنونة من اللمعان على شفتيه، وهي قابلته بالجمود، بالرغم من أنها اهتزت داخلها من تلك الإبتسامة الحاملة لمشاعر أشد عمقًا من كل مرة … أغمضت عينيها بقوة ... كم تمنتها، كم تمنت نظرةً أبوية حنونة تُنسيها كل شائبةٍ في حياتها، تُنسيها كل حزنٍ ودمعةٍ أُهدرت تحت وطأة الأحزان، تُنسيها كل خذلانٍ واجهها في حياتها. لكن لا! لن تبني أحلامها لتجعلها واقعًا، هي ستغادر ولن تخضع لمشاعر داهمتها حين حدث مالا يتمناه غيرها، هم لا يريدونها جميعًا ولن تكون هي الشوكة العالقة في حلقهم.
همس لها بحنان : كيفك يا بنتي؟
انتفضت أطرافها لتخفض رأسها وكلمته تلك انتشلت كل الغضب والإصرار على التراجع بعيدةً عنهم، جعلت مشاعرها تنتفض بوحشيةٍ لتلفظ كل شعورٍ بالنفور تجاههم. كم قالها مراتٍ لها لكنها الآن أعمق وأصدق، كم قالها مراتٍ لكنها الآن أكثر تأثيرًا.
لا تقُلها، لا تقُلها حتى لا يهتزّ إصرارها، لا تقُلها حتى لا تضعف أكثر وهي التي تصنعت القوة وشحذت نفسها بالقليل من الطاقة فلا تزحزحها الآن، لا تقُلها وهي التي لا تريد تصديقها بعد مضي هذه السنين.
تراجعت بضعفٍ وشفتيها ارتعشتا، لتهمس بنفور : ماهي حقيقة، مستحيل أكون كذا بعد كل هالسنين فلا تصدقوا شيء ما تأكدتوا منه
قطب جبينه، لها الحق في عدم الإستيعاب فكيف لها التصديق وقد مرت كل هذه السنين وهي ليست سوى مكفولةٍ لديهم؟ هو ذاته لم يكن ليصدق، الموضوع ليس بهذه السهولة وأيّ شكٍ يجعله غبارًا لكن غير منسيًّا.
تنهد وهو يقترب منها : يابنـ..
قاطعته برفض : ماني بنتك لا تقولها
تراجعت أكثر لتسقط دموع الخيبة والخذلان على وجهها : ماني بنتك .. لا تقولها وتوهم نفسك وتوهمني بهالشيء، لا تقولها واللي يعافيك، ما ودي أنسى نفسي وأصدق شيء غلط
أغمضت عينيها بقوةٍ ودموعها تتساقط، تتساقط دون أن تتساقط خيباتها معها، وماذا بعد الخيبات غير الأسى والبكاء على أطلاله؟ وماذا بعد الخيبات والبشر قوامون على الأحزان، أوفياء حين يتعلق الأمر بالدموع فيهدرونها دون هواده.
تراجعت أكثر والضعف تخلخل أعماقها، لتُغلق الباب باندفاعٍ غير مُباليةٍ بمن يقف خلفه، ليست بذا قدرةٍ على المواجهة الآن وقد تخلخلها الخذلان حتى أضعف كل جزءٍ منها، تحتاج القليل من الوقت، القليل فقط حتى تشحذ طاقتها وتواجههم.
تنهد هو في الخارج ليهمّ بالذهاب، سيأمر هديل بجلب الطعام لها فمتى آخر مرةٍ أكلت بها؟؟
,
المنزل مُظلم، كظلامه حين غادره، ساكنٌ كسكونه حين رحل منه آخر مرة، هادئٌ ككل ساعةٍ يمرّ فيه عدا ساعات الليل، موحشٌ حتى صراصير الليل ابتعدت عنه. ضغط الكُبس ليُنير الصالة الخارجية، المرتبة والساكن كُل شبرٍ فيها وكل جزءٍ منها، لا دليل على أن والده أحضر صحبهُ الطائشين ككل ليلة.
تنهد براحة، وفي ذات الوقت هو مُستنكرٌ لعدم وجود أي دليلٍ يُثبت قدومهم، أيعقل أن تمرّ ليلةٌ دون أن يعمّ ضجيجهم في المنزل!
هزّ رأسه ينفض تلك الأفكار ولم تخفى ابتسامة الراحة عن شفتيه، ثم تحرك ليصعد للأعلى، لغرفة والده، وقف أمام بابه لكن سرعان ما قطّب جبينه وقد فكر قليلًا، ولمَ لا يكونون قد غيروا مقرّ اجتماعهم في كل ليلة؟
أصابه الضجر من تلك الفكرة لكنه لم يُرد أن يُفسد راحته بأمرٍ قد لا يكون حقيقيًّا، ودون أن يطرق الباب دخل.
هاجمته رائحةٌ عفنه اختلطت بالكحول حين دخل، ولا شعوريًّا غطى أنفه وفمه بكف يده اليُسرى، ماهذه الرائحة؟ لا يعقل أن تكون الكحولات وحدها فرائحتها التصقت بجيوبه الأنفية ويستحيل ألا يُميزها.
اقترب بتوجس، ودون أن يشعر بدأت أطرافه بالإرتعاش، والده كما تركه آخر مرة، ظرف النقود بجانبه على الكومدينة، لم تتحرك من مكانها، بل لم تتزحزح سانتيمترًا واحدًا.
والرائحة! ماهي؟ أيعقل أن تكون! .... اتسعت عيناه وهو يهزّ رأسه بالنفي، قدماه تيبستا في مكانهما، لم يعد هناك دمٌ يجري في جسده، لم يعد هناك قلبٌ ينبض بين أضلاعه، لم يعد هناك أعصابٌ ترسل إلى مُخه الشعور. جفّت عيناه حين أطال فتحهما باتساعهما، أرادت منه أن يعتق أجفانها لترتخي، لتُعيد إليهما الرطوبة والماء المالح، لكنه بات كجُثةٍ تصلّبت ولم تعد قادرةً على الحركة، لم تعد تشعر بجفاف عينيها.
مضى على غيابه أكثر من ثلاثة أيام، وإذا حسبنا اليوم الذي ترك به هذا المنزل سيصبح خمسة أيامٍ تقريبًا.
لا ... لا يُمكن، يستحيــــــــــل ذلك!! يستحيـــــــــــــــــــــــــل
,
دخل غرفة نومه بعد أن تأكد من نوم أمه، يشعر بإرهاقٍ كبير سببه الضغط في عمله هذا اليوم، بات يضغط على نفسه حتى ينسى كذبة سند تلك، كذبته التي قلبت كيانه رأسًا على عقب، شتته وأشعرته بالتناقض فلم يعد يعلم .. أهو سعيدٌ أم حزين لهذا الخبر!
زفر وهو يرمي بجسده على السرير، ثم أغمض عينيه ليغطيهما بذراعه، يريد سماع صوتها البائس، يريد التلذذ بنغمته الهادئة والخافتة، المتخلخل بها الذنب والخشية، كأنما تُحدث رجلًا غريبًا عنها وليس بزوجها.
لم يترك رغبته هذه دون أن يُحققها، لذا تناول هاتفه من جيب بنطاله الجينز والذي لم يُغيره بعد ليتصل بها دون تردد، وما لبث ثوانٍ حتى سمع صوتها المُتردد : ألــو .. شاهين!
ابتسم ابتسامةً صغيرة، غريبٌ أن تكون ردت عليه دون عناد! ... لكنه تنحنح ليعتدل ويجلس هاتفًا : أهلين ، شلونك أسيل؟
صمتت لبرهةٍ قبل أن تهتف بتوجس : كويسة ... * لتردف بعد ثانيتين * صاير شيء؟
اتسعت ابتسامته، لكن هذه المرة بسخرية، أتوقع مُحادثةً طبيعية بينهما كما بين المتزوجين؟
شاهين ببرود : لا، ليه؟ .. يعني احنا لازم نتصل على بعض إذا صار شيء؟
عضت طرف شفتها بحرجٍ لتهمس : ماهو قصدي بس ... انت آخر مرة في المستشفى حسيتك تبي تقول شيء وسكتت
قطب جبينه يُحاول التذكر، ولم تُسعفه بالوقت الكافي لتردف : وش كان قصدك بجملتك هذيك؟
عقد حاجبيه، وحين تذكر أرخاهما قليلًا، أمازالت تذكرها؟ .. هو الأحمق الذي اندفع بحديثه دون أن يتأكد، وهذه هي نتيجة اندفاعه وليتحملها. هتف ببرودٍ عكس ما بداخله : انسي اللي قلته
قطبت جبينها ولم ترد، لا تدري لمَ باتت الكلمات تخونها كثيرًا معه، وحين أطالت الصمت لفظ ببرود : وين رحتي؟
ابتلعت ريقها باضطرابٍ لتهمس بصوتٍ كاد ألا يصله : موجودة
لا تشعر أنها مستعدةٌ الآن للحديث معه بطبيعيةٍ وهي التي لازالت تحت وطأة رفضها له والذي مع أنه أصبح أقلّ وزنّا عليها إلا أنها تحتاج للقليل من الوقت، القليل فقط.
هتفت باندفاع : تبي شيء شاهين؟ مضطرة أقفل
بدا الغيظ على ملامحه، وقد ظهر حين عضّ طرف شفته وقعد بانفعال، هو يتحملها ويصبر كثيرًا عليها وهي لا تساعده بل تزيد الطين بلّةً في كل مرة، يستشعر رفضها المقيت له إلا أنه يصمت، فـ إلى متى سيصمد صبره عليها؟
همس بسخرية : لهالدرجة يعني مقطعك هالوفاء؟
ازدردت ريقها لتخفض رأسها، ماذا فعلت؟ وعدت أمها بأن تتقبله ومن المفترض منها أن تجاريه حتى يحصل ذلك.
ضحك بخفوتٍ ولم تخفى عليها السخرية اللاذعة في صوته، ليردف بهمسٍ أشبه بفحيح أفعى ساخرةٍ من خصمها : نوستالجيا
بهتت للحظاتٍ حتى كلماتها خانتها للمرة الألف، لم تفهم معنى كلمته تلك، وجبينها ظهر عليه خطوطُ الإعوجاج إثر تقطيبها له، ما الذي يقصده بكلمته هذه؟ كادت ستسأله ما المعنى لكنها تراجعت لتبتلع الحروف الناقصة باندفاعها.
وهو ارتفع ضحكه قليلًا ليهتف بخفوت : مو مضطرة تقفلين؟ .. أجل باي باي يا زوجتي العزيزة
أغلق دون أن يُضيف حرفًا واحدًا، اليوم نفد صبره ونثر عبق قهره منها، وهي الأخرى تستحق، تمادت كثيرًا وهو لا ينوي معاقبتها، لكن لا بأس في أن تدرس حالتها ولو قليلًا لتدرك مدى سذاجتها.
,
اليوم التالي - الحادية عشرة صباحًا
وقف أمام المبني العالي للحظات، كفيه مخبأتان داخل جيبي بنطاله، ينظر إليه بنظراتٍ باردة / حاقدة، كان قد طُرد من هذا المكان مرة، ذلّ هنا ومن ذا الذي ذلّه؟ كان هو، كان سلطان ولا شخص سواه، لكنه لن يكون إبراهيم إذا لم ينتقم منه، لن يكون هو إذا لم يرد له الصاع صاعين.
أدار المبنى ظهره لترتفع زاوية فمه بابتسامةٍ ساخرة، ثم تحرك بخطواتٍ ضيقة مُبتعدًا عن هذا المكان البائس، مُقرًّا في نفسه بأنه سيصبح أكثر بؤسًا على يديه هو ولا أحد سواه.
بينما في داخل المبنى ذاته.
كان يجلس أمام مكتبه على كرسيٍّ جلديٍّ أسود، أمامه على ظهر الطاولة تقبع العديد من الأوراق ولا رغبة له بالنظر إليها حتى، زفر بضيقٍ وهو يتلاعب بقلمٍ يتراقص بين أنامله، وصورة ذاك العم تتراءى أمام عينيه، لن تلفظه مقلتيه وإن رآه أمامه ميتًا، لن يستطيع تجاوزه وكيف عساه ذلك؟
رباه كيف له تجاوز شخصٍ كان له الأب الوحيد طوال خمسة عشر عامًا؟ كيف له أن يلفظه من حياته وقد كان له الملاذ في يومٍ ما؟ كيف له أن يختم نهاية صفحته معه بختم النسيان وهو الذي كان له كل الذكرى حتى بوالده؟
حتى حين يتذكر والده يكون هو في خضم الذكرى! حتى حين يتأمل صورًا له مع والده يكون هو بينهم وإن لم يكن جسدًا يراه روحًا أمامه، يراه ينبض أمامه بالحضور الدائم، يتوعده بعدم الرحيل، بعدم مغادر عقله الباطن.
إنه ختمٌ طبع على جبينه، وشمٌ رُسم على عقله ولن يُخفيه شيء.
أغمض عينيه بقوةٍ لينفض رأسه من هذه الأفكار العقيمة، وحين لم تغادره صرخ وهو يرمي بالقلم : روووووح الله لا يردك في ذكرى
استنشق الأكسجين بنهمٍ وهو يُعيد جسده للخلف حتى يسترخي على ظهر الكرسي، ليرفع رأسه للأعلى قليلًا ويُغمض عينيه.
ولم يلبث ثوانٍ حتى سمع صوت هاتفه ينبض برسالةٍ وصلت إليه، فتح عينيه وتنهد، ثم مسح على ملامحه بكفه ليتناول الهاتف ويفتح تلك الرسالة التي قطعت عليه هدوءه، والتي لم تحتوي سوى على كلمةٍ واحده، أو بالأحرى حرفين
( ست )
قطب جبينه، لكن لم يكن له الرغبة ليفكر ما المعنى أو ليتحقق من أرسل هذا الحرفين، بل فكر أنه قد يكون عبثًا من شخص ما، لذا رمى الهاتف على الطاولة وعاد يحاول التركيز في عمله.
,
" نوستالجيا .. نوستالجيا .. نوستالجيا " زمت شفتيها بقهرٍ وهي تتذكر كلمته تلك، ما كان يقصد؟ أيعقل أنه يقصدها هي؟ بالتأكيد فلا معنى آخر لكلامه.
كانت بعد مهاتفتها له قد اتجهت لـ " قوقل " وأحرف تلك الكلمة لم تغب عن بالها، كانت مُبهمةً بالقدر الكافي الذي جعلها تتوجه للبحث عن معناها، وحين قرأت المعنى أصابها فتورٌ غريب، ومن ثم شعرت بالنيران تتأجج داخلها. يقصدها هي، فهمت ذلك وذلك ما أثار غيظها. لكنّ جزءًا منها شعر بالذنب، كيف كان لها الجرأة في جعل زوجها يُدرك حبها وحنينها المريض - من وجهة نظره -؟ أيعقل أن لها من الجرأة بل من الوقاحة ما يجعلها لا تهتم من هو الذي تتحدث معها حتى تُفصح عن حبها بكل أريحيةٍ ودون الشعور بالذنب!
تنهدت بضيقٍ وهي تدفن رأسها تحت وسادتها التي كادت تتقطع من شد أناملها لها فوق رأسها.
ليس ذنبي أن أحبه، وليس ذنبهم أن يروا أن ما بي ليس إلا مرضًا، إنني امرأةٌ شرقية عشقت لأول مرةٍ ورأت أن العشق تلاشى من بعده، إنني امرأةٌ شرقية تعلمت فنون العشق المعنوي على يديه هو دون الحسي فكيف أتجاوز من علمني العشق الأسمى؟ كيف لي أن أتجاوزه وهو الذي رأيت به حياةً أخرى دون عبوسٍ ودموع؟ كيف أتجاوزه وأنا التي سردت له حبي الخجِلِ أيامًا طالت تحت كنف ابتسامته؟
رباه إنه يأتي كوميضٍ يجعلها تتبسم حتى تضحك كصبيةٍ لم تعرف معنى الرجال يومًا، كصبيةٍ تعلمت الحياء على يديه ولم تكتسبه.
عضت شفتها وهي تغمض عينيها بقوة، لم يكن ليتزوج من بعدها، لا تريد أن تقتنع بذلك، تحاول التكذيب لكن أتقوى على ذلك؟
,
صرخت بذعرٍ وهي تتراجع للحمام، والمنشفة التي كانت تُجفف بها شعرها المبلول سقطت عن شعرها إلى كتفيها ثم إلى الأرض، ومعها سقطت كل نظرةٍ حيّة، ستموت، جاءها الموت أخيرًا، جاءتها المنية أخيرًا وسترحل، سترحل!
النيران تتأجج أمامها دون هوادة، تقتلع كل شبرٍ في الغرفة وقد احتجزتها بينها وبين حمامها ... لكن كيف؟ كيف تصاعدت النيران هكذا دون أن تنتبه؟ كيف تصاعدت دون أن تشعر بسخونتها؟
تراجعت أكثر وعيناها مُتسعتان، الموت يقترب، الموت يتجه إليها، من سيُنقذها الآن؟ من سيقاتل الموت ليبتعد عنها؟ عاشت العديد من سنين عُمرها وحيدة، وهاهي ستموت وحيدةً أيضًا، ستموت دون أن يكون هناك من يتذكرها، دون أن يكون هناك من يبكي عليها، ستموت دون أن يكون لها عزيزٌ يمشي في جنازتها، يُنزلها إلى قبرها ومن ثم يُدخلها في اللحد، ستموت دون أن يكون لها عزيزٌ يصلي عليها بعد أن يُغطيها التراب!!
رباه إنها تمنت الموت كثيرًا لكنه حين جاء تدافعت الغصات في حلقها، رباه إنها تمنته لكنها تراجعت الآن، لا تريد الموت حتى تضمن شخصًا واحدًا على الأقل سيبكي عليها / يحزن عليها / يتذكرها.
أيعقل أن تموت هكذا دون أن يشعر بها أحد؟ أيعقل أن تموت بهذه الطريقة؟
هزت رأسها بالنفي وهي تتراجع أكثر … لن يعلم أحدٌ بموتها حتى تتلاشى جُثتها، لا أحد سيستنكر اختفاءها ومن قد يكون له القدرة على ذلك؟ هي وحيدةٌ طوال عمرها وستبقى وحيدةً حتى تموت. حتى سلطان ليس هنا ليُنقذها، حتى هو لن يكون لها الحامي والمُنقذ، لن يكون لها المنفذ لتعيش.
ستمــــــوت . . . ستمــــــــــــــــــــوت
.
.
.
لا إله إلا الله سبحانك إني كنت من الظالمين
انــتــهــى
وموعدنا يتجدد يوم الخميس إن كتب الله ذلك
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|