كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضـا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافيـة
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(83)*1
" متأكدين من كونه رجَع .. مافيه شك من هالموضوع "
عقدَ حاجبيهِ من خلفِ البابِ الذي كان يقفُ عندهُ وقدْ شدّهُ اسـم " متعب "، ينبعِثُ صوتُ سـالمْ بحدِيثه الذي يهدأ تارةً، ويحتدُّ تارةً أخـرى كالآن وبعدَ ثلاثِ ثوانٍ من الصمتِ من خلفِ جملته تلك : وبعدين مع هالكلام! .. ترى كل اللي أنت فيه من قبله أحمـد ، ماهو أنـا .. هو اللي فتّح العيون من سنين ... متعب مو مقيـاس على مين الغلطـان بيننا، بطّل تكرر هالكلام على راسي.
صمتَ قليلًا وهو يزفـر بصبْر، مرّت لحظـاتٌ قليلـةٌ على صمتِه حتى لفظَ أخيرًا : بلاقيـه ، بوقتها ما راح يحدنِي شيء على موته ، هالمرة بقتله بيديني أنا وأتأكد إنّه انتهى.
اتّسعت عينـا سندْ من الجهـةِ الأخـرى، متعب! .. يتحدّثون عن متعب!! أخُو شاهين بعينيهِ أم مجرّد تشابهِ أسماء! زمّ شفتيه وهو يبتعدُ عن البـابِ أخيرًا بعدَ أن سمعَ صوتَ سالِم يودّع الطـرف الآخر، كـاد أن يبتعد، إلا أنه تراجـع عن قراره، واقتربَ أكثر من البـاب، طرقَه دون تردّدٍ ليصله صوتُ سالِم الذي كان لا يزال محتدًا : ادخـل.
فتحَ سند البـاب ليدخـل، ابتسمَ سالم على مضضٍ ما إن رآه وهو يلفظ : تفضل اجلس .. وش عندك؟
سند بهدوءٍ اقتربَ حتى جلسَ على الكرسيّ الذي كـان أمام مكتبِه، وبنبرةٍ ثابتة : آسف .. سمعتك بالغلط وقت ما كنت واقف ورى الباب عشان أدخـل.
اتّسعت عينـا سالمْ متفاجئًا في بادِئ الأمـر، إلا أنه سرعـان ما ابتسـم ابتسامةً حادّةً خطـرة ، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ بارد : تتجسّس؟
سند يهزّ رأسه بالنفي : لا .. بس أعترف لك شدّني اسـم متعب.
تصلّب سالِم الذي كـان جالسًا وهو يوسّع عينيه دون فهم، وبتساؤلٍ هادئ : ليه شدّك؟
سندْ بشك : أنت كنت تقصد متعب محمد نفسه؟
هذهِ المرّة وقفَ سالـم بانشداهٍ وهو يسندُ كفّيه على سطحِ المكتب، وبخفوتٍ لفظ : أفهـم من سؤالك عنه إنك تعرف شيء حديث ومهم وإلا مجرد أمور قديمة مالها معنى!
سند يبتسم : ليه اخترتني؟ أتوقع تدري إنّ أخوه عدوِّي .. اختيارك لي عشان أشتغل معكم ومعرفتي الحين إنّ فيه لكم علاقة مع متعب تخليني أشك بالوضع.
سالم يتراجـع للخلفِ كيْ يسندَ ظهرهُ على الكرسيّ المكتبي وهو يبتسِم : لا تعتبر هذا سبب أساسي .. قول اللي عندك.
سند : أدري إنّه حـي.
اتّسعت ابتسـامة سالِم أكثر وأكثر : حلو ... حلو مرّة .. يعنِي تدري بأشيـاء أكثر ... قولها عشان ما أشك فيك.
سند بثقة : هذا كل اللي أعرفـه ... بس اللي ممكن أفيدك فيه إنّه قبل فترة جانِي أخوه شاهين يسألني عنّه .. وكان سؤاله يقول إنّه شاك بحقيقة كونه عايش.
ظلّ سالِم صامتًا للحظـةٍ وهو ينظُر لسطحِ المكتبِ بتفكير، يبتسِم ، ولابتسامتِه حكاياتُ مكـرٍ وشرْ . . وقفَ بعدَ لحظـاتٍ وضحكةٌ تنفلتُ من بين شفتيه قبل أن يرفعَ عينيه إلى سند وهو يلفظُ بنشوة : كنت شاك عالعموم وأنت أكدت لي .. انتظر مُكافئتك . .
*
اتّسعت بسمتـهُ وهو يقفُ أمـامهُ بكلّ ثقـة، يردُّ نظراتهُ الحاقـدةَ بأخـرى ماكِرة .. مرّر شاهين لسانـه على شفتيه، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ جامِد : اكلمك بعدين.
كـادَ يُنهِي مكالمته مع متعب إلا أن صوتَ سندْ جـاءَ بسرعةٍ يسبقه : تكلم متعب؟ ممكن تخليني أكلمه وأتحمّد له بالسلامة؟!!
اتّسعت عينـا شاهين بصدمـة، إلا أنه وبسرعةٍ كـان يُغلـق الهاتِف قبل أن يجيء ردّ متعب الذي يكـادُ يجزم بأنه سمِع حديثه، نظـر لسند بحدّة، ما الذي يفهمه ممّا قالـه؟ لا يعتقِد أنّه استطـاع استنتاجَ عودتِه في آخـر مرةٍ التقيـا فيها؟ إذن ما علاقتـه بالأمر!!!
رغـم أنّ فكرَه تشوّش لكنّه لم يسمَح بأن يشردَ طويلًا أمامه، رفـع عينيهِ إليه بثقةٍ وهو يهتفُ بصوتٍ ثابِت : محشوم متعب من صوتك ... ولو إنّي ما أدري ليش استنتجت إنّه هو بشكل خاص! وأيش قصدك من أتحمّد له بالسلامة !!
غمزَ سندْ بمكرٍ وهو يفهـم جيدًا ما معنـى أسئلته تلك وهدفـه الذي لم يكُن سوى تضييعه من الفكرة الخطيرة " أنّه يتواصَل مع متعب "، لم يكُن يريد أن يثبتَ أن متعب عاد وهو قريبٌ جدًا منه .. يأخذ حذره منه بما أنه لا يثق بِه ! .. هتفَ بنبرةٍ خبيثة : علينـا دكتور شاهين؟ أنـا شبـه واثِق إنّ سؤالك ذاك اليوم عن متعب ما جـاء من فراغ، كـان راجـع وطالـع لك مثل الشبح عشان كذا كنت تبي تتأكد مني؟
استشعرَ شاهين الخطرَ من صوتِه ونظراتِه .. اتّسعت عيناه قليلًا بشكّ، هل لهُ يدٌ فيهم؟ فيمن آذوا متعب؟ لا معنـى للريبـة التي يستشعرها تجاه صوتِه ونظراتهِ إلا هذا ، أنّ لهُ يدًا معهم !!
رغـم أنّه شعـر في ذاك الوقتِ برغبـةٍ في ضربهِ إلا أنه ابتسمَ ببرودٍ تصنّعه ومن وراءِ ابتسامتِه تلك نيرانٌ اندلعَت تريد أن تؤذيه كما فعلوا بمتعب، وبجمود : طالع مثل الشبح؟ هالكلمـة ما تنقـال عن متعب يا حبيبي ... قول طالع مثل حياة ثانية ! كذا أنت تحط كل شخص بمكانه الصحيح ..
سند يضحكُ بعبث : طيب ممكن أعرف مكاني أنا وين دام الدقّة لي؟
شاهين باحتقـار : بجهنم إن شاء الله.
سند : هههههههههههههههههههههههه أفا !!
شاهين يتحرّك مبتعدًا قبل أن يقتلـه بشكلٍ فعلي، لكنّ سندْ كـان قد تبعهُ بعجلٍ وهو يلفظُ بضحكـة : لحظـة .. بنعطيه قرصـة أذن بسيطة.
استدار شاهين باستهجانٍ وعينيهِ تلتمعـانِ بشرر : نعــــم !!
سند : هذي للتحيّة بس.
لم يكَد يستوعب بردّةِ فعلٍ دفاعيـةٍ حتى كـانت يدهُ التي امتدّت إليه أسرعَ وهي تحمـل جهازًا أدرك أنها " صاعقٌ كهربائي " .. أصابته في صدرِه قبل أن يرتدّ للخلفِ ويبتعد، تشنّج جسدهُ وعضلاته في لحظـةِ ذهول، بينما ابتعدَ سند للخلفِ وارتفعَت قبضـةُ يدهِ اليُمنـى لتتّجه لصدرِه مباشـرةً وتصيبَ أضـلاعهُ بقوّة أدرك معها أنه كان يرتدِي شيئًا صلبًا جعل قوّةَ قبضته كافيَةً لتحطِيم أضلاعـه ... جلسَ شاهين على ركبتيه وهو يضعُ كفيه على صدرِه ويسعلَ متقيّئًا دماءه .. اختنـاقٌ حبَس القدرةَ على التنفّس فيه، انحنَى إلى الأرضِ وهو يريد أن ينهضَ إليه ويردَّ ضربته التي غدرهُ فيها لكنّه لم يستطِع .. بينما ابتسمَ سندْ بنشوةٍ وهو يتراجـع ببرودٍ للخلف ... هاتفًا بصوتٍ مستخف : لنا لقـاء ثانـي ... هذا قرصـة أذن بس ... وأنصحك ما تقول اسمي لأحد ، عشان سلامة متعب بس.
،
عمّ الصمتُ في البقيّة البـاقيـةِ من مسـافةِ الوصول، كان حديثًا سريعًا ما قُرِئ من عيونه وما لُفظَ من حرارةِ غضبـه، انتهزَ ثانيـةً فقطْ استطـاع فيها أن يرسـل إلى عقلـها وعيدهُ لهـا تجاه ما تسبّبت بِه، تجـاه الضيـاع الذي كـانت ستساعدهُ ليتشبّث في حيـاةِ غيداء، أو على الأحـرى صارَ يُلامسـها وإن لم يُمسكْ بها بشكلٍ كليّ.
أغمضَت عينيها بعدَ أن وصَلت رسـالتهُ الصقيعيّة إليها، ورغـم أنّ اضطرابها تضاعفَ إلا أنّها هدأتهُ قسرًا، لن تهتمّ كثيرًا لغضبـه، لن تهتمّ كثيـرًا لكرهه لها أكثـر، لن تهتـم لكونِها تكْذِب على نفسها الآن !!
أغمضَت عينيها وهي تقاومُ العبراتِ التي تدافعَت إلى حنجرتها وبنَت فيهِ سدًّا من خـرابٍ مسّ انتظـام أنفاسِها . . دقـائقُ لم تكُن طويلـةً جدًّا حتى وصلوا ، أوقفَ السيّارةَ في اللحظـةِ التي كـانت فيها غيداء تنظر لحجرها منذُ زمـنِ الاعتذَارِ الذي جـاءها من غزل، من بعدِه وهي تتوهُ في ضياعِها أكثر! تتعمّقُ في أفكـارها التي أحالتـها لبؤسٍ أكبـر، تشعُر أنها تريد الذهـاب إلى أمّها كي تعتذِر منها لكنّها في الوقتِ ذاتِه لا تريدُها أن تعلـم بما حدَث، لا تريد أن ترى في عينيها العتَب، كمـا أنّها تخشـى رؤيتها بعدَ التمرّد الذي كـان فيها وبعدَ الكمّ الكبيرِ من التمادِي معها . . ويبقَى سؤالٌ واحِدٌ رغـم أنّها تنفي الإجابـة فيه بـ " نعم " لكنّه يزعزعُ طمأنينتها مهما حاولت : هل يحتقرون كونها ابنتهم بالفعـل كما قالت سارة؟ هل ما حدَث لها سابقًا دافـعٌ كيْ تُبنـى بينها وبينهم أسوارٌ من البُعـد؟
رفعَت رأسها حين شعرَت بكفِّ غزلْ تمسكُ كفّها التي كانت تستقر في حُجرها، وبصوتٍ حنونٍ هتفَت : وصلنا غدو .. انزلي.
نظـرت لها غيداء في بادِئ الأمـر بضيـاع، إلا أنها رمشَت بعينيها مرارًا ومن ثمّ أومأت كي تستدير إلى البـاب وتفتحه كيْ تنزِل .. تردّدت غزل قليلًا قبل أن تمدّ يدها لبابِها في اللحظـةِ التي كانت تسمعُ فيها صوت بابِ غيداءْ يُغلـق، تنفّست بحشرجة، ومن ثمّ وجهت نظراتها نحو سلطـان الذي نظـر إليها وابتسمَ بسخرية : انزلـي .. في النهاية محتـاج إنّك تكونين معها دامك بنت مثلها وممكن تحتاجك.
ابتلعَت ريقها بارتباك، أشاحَت عينيها عنه وهي تلفظُ بخفوت : بس الليلـة ، رجّعني قبل الفجـر.
سلطـان باستخفاف : يصير خير.
زمّت شفتيها وهي تمدّ يدها أخيرًا للبـابِ وتفتحه لتنزل، بينما قـام سلطـان بالمثـل، وقتذاك كـانت غيداءْ تقفُ عند بابِه بارتبـاكٍ وهي تعانِق عضدَها الأيسـر وتنظُر للأرض .. ابتسـم سلطـان بعطفٍ وهو يقتربُ منها، وقفَ بجانِبها ليمرّر يدهُ اليسرى من خلفِ ظهرها إلى كتفها الأيسر ويمسك بهِ بكفٍّ دافئة، بينما يدهُ اليُمنـى كانت قد عانقَت كتفها الأيمـن وصوتهُ يخترقُ مسامعها بخفوتٍ حنون : ليه أحسّ إنك خايفة مني؟
غصّت بشهقـةِ بكاءٍ سرعـان ما انسابَت من حنجرتها بعد أن غصّت فيها، عضّت شفتَها السُفلـى تكتُم بكاءها، لكنّها لم تستطِع وبدأت بالأنينِ من جديدٍ ليجذبها سلطـان إلى صدرهِ وهو يهمسُ لها بحنان : تعالي.
تحرّك وهو يشدُّ على كتفيها، اتّجه للبـاب، بينما تابعتهُ غـزل بعينينِ بائستين، شعرَت باختلاجاتٍ عنيفةٍ في صدرِها، ابتلعَت المرارةَ التي غصّت بها، ومن ثمّ تحركتْ من خلفِهما وهي تشعُر أنّ جسدها يتشنّجُ وإبرٌ تغزو مساماتِها وتخزُها.
بعدَ دخولِه اتّجـه مباشـرةً بها نحو الصـالة، التقـى بسالِي في طريقه والتي كانت قد عقدَت حاجبيها ما إن رأته ومعه غيداء، لم تنتبه لغـزل التي كـانت على بعدِ خطواتٍ منهم .. نظـر سلطـان إليها بحزمٍ ليلفظْ : جهزّي وحدة من الغرف.
أومأت ببلاهـةٍ ومن ثمّ تحرّكت كي تذهبَ للأعلـى إلا أنها تجمّدت فجأةً وهي ترى غزلْ التي ابتسمَت لها ببهوت. سالي باستنكـار : ماما غزل !!
سلطـان يلتفِتُ إليها بحدّة : استعجلي سالي، اتركيك من غزل الحين.
ارتبكت سالي لتومئ برأسها ومن ثمّ تحركت نحو الدرج كي تصعَد وتجهّز إحدى الغرف، بينما جلَس سلطـان على الأريكةِ وبجانِبه غيداء التي كـانت تبكِي بخفوتٍ مختنـق، مسحَ على رأسها وهو يضمّها إلى صدرِه، وبحنان : مع إنّي معصب منك بس تهزمني دموعك .. تعرفين شلون تلعبين بمزاجِي.
لم تردّ عليه بل بكتْ بصوتٍ أعلـى وكأنها كانت في تلك اللحظـةِ تشعُر بذنبٍ عميقٍ من نفسِها ومن تهوّرها وسذاجتها .. فتحَ نقابها ليرميهِ بجانِبها ومن ثمّ أرخـى من طرحتها وهو يلفظُ بهدوء : ما أبـي أحاسبك وأنتِ بهالحالة ولا تظنين إنّي بسكت لو بكيتي ... اسكتي عشان أهاوشك وما أحس بالذنب.
غيداء باختنـاق : آسفـــة ..
ابتسم : اعتذرِي لنفسك مو لـي ، أنا ماني زعـلان منّك ، زعلان عليك عاد هالزعـل خاصَةً كايد ، شلون بتراضيني الحين؟
ابتعدَت عنه قليلًا لترفعَ وجهها المنتفـخ إلى وجهه، كـانت عينيها قد انتفختـا من بكائِها، شفتيها ترتعشـانِ وصوتُها مبحوحٌ غـادرهُ الوضوحُ من عبراتِها : أنا غبيّة .. ولو إنّه صـار شيء أستاهل .. من البداية ما كنت أسمع كلام ماما وأعاندها . .
سلطـان بحزم : لا تقولين هالكلام .. وش أستاهل وما أستاهل هذي !! امسحي دموعك وبسّك بكا .. بخلّي سالي تحضّر لك شيء تاكلينه الحين وبعدين نتفاهم زين .. بعرف شلون بالضبط عرفتيها ومن متى وليش محد حدّك لهاليوم.
لم تقُل شيئًا وهي تتراجـع للخلفِ بعدَ أن نهضْ، دمعٌ كثيفٌ يغطّي عينيها ويشوّش انحناءَ حدقتيها، رفعَت يدها كي تمسحَ دموعها، شهقةٌ انسلّت من صدرِها دون أن تستطِيع حتى الآن أن تتحكم بشهقاتِها، زفـر سلطـان وهو يقفُ أمامها مباشرةً ليمدَّ كفيه ويحيطَ وجهها، بدأ بمسحِ دموعها بإبهاميه وهو يهمسُ لها بحزمٍ رقيق : يكفي بكاء .. وإذا خايفة منّي أو من امي أو حتى عنـاد فمافيه داعـي لهالخوف ، تدرين إنّنا نحبك ومستحيل نقسي من باب القسوة. . . عيونك الحلوة ما تناسبها الدموع ، ابتسمي أشوف.
حاولَت أن تبتسِم، ولم تستطِع سوى أن تميل بفمها قليلًا ليبتسمَ سلطـان بالمقابلِ ويقبّل جبينها بحنان، في حينِ وقفَت غزل على مقربةٍ منهما، تراقبُ حنـانه الذي اشتاقته والذي فقدته في ظلِّ الأيـامِ السابقـة، رغـم حسرتها في فقدِه ابتسمَت، رغـم الحُزنِ في صدرِها ابتسمَت، رغـم كلّ الأوجـاع كانت تبتسِمُ لأجلِ غيداء، وتغبطُها في اللحظـةِ ذاتها، تبتسِم .. لأجلها، وتمتّعًا بحنانِه وكأنها تتذوّقه بنفسِها.
تراجَعت عنهما لتخرج، اتّجهت للمطبَخِ كيْ تحضّر شيئًا لتأكله غيداء، لم تكُن لتتهوّر في الطبـخ لذا استقرَت على دهن التوست بالجبنـة، وقهوةٌ جاهـزةٌ أضافت لها الماءَ والسكّر .. شغّلت الغلايـة الكهربائيّة ووضعَت الكوبَ بجانِبها تنتظرُ غليان المـاء، وبجانِب الكوب صحنٌ يحمـل شريحتيْ التوست المحمّصة والمدهونة بالجُبن.
أسندَت مرفقيها على الرخـامِ وهي تتنهّد، كيف اعتلَت خيبتها أكثر؟ كيفَ عادَت في غمضـةِ عينِ إلى هنـا، تشتمُّ من الجدرانِ رائحتـه، وتسمـع من الزوايـا حفيفَ أنفاسِه، كيفَ عادَت إليه وكأنه الهُدى؟ ولأنه الهدى ، هو فعلًا طريقْ، كيفَ يُهدى الضـلالُ بذاتِه إليه؟ .. عضّت شفتها وهي ترفـع عينيها إلى المـاءِ الذي كـان يرتفـع في غليـانه، تتابـعهُ وصورةٌ مشوّشـةٌ لها تنعكـس، ومن خلفِها .. سُلطـان! .. استقرّ المـاءُ أخيرًا وهدأ ثورانُه، ابتلعَت ريقها بصعوبـة، لم تلتفِت إليه وهي تحمل الغلّاية، تتجاهـل رائحتـه العنيفة التي استشعرتها هذهِ المرّة بقوّةٍ بعد أن فقدَت الشعور بها في سيّارته، يدغدغُ حاسّة الشمّ ويعنّفها، تنسـى كل الروائح عدا حضوره القاسِي على قلبها، القاسـي واللذيذ في ذاتِ اللحظة ! . . صبّت من المـاءِ في الكوبِ بينما كان سلطـان يقتربُ منها بصمتٍ وهدوءٍ حتى وقفَ خلفها، ارتعشَت أصابعها حتى كـادت تُسقطُ الكوب والغلّاية معه، أخفضَت رأسها، كـانت لا تزالُ ترتدِي عباءتها، خلعَت طرحتها ونقابها وحسب بينما عباءتها تغطّي جسدها الذي اعتنَت في إبرازِ فتنتِه اليومَ كنوعٍ من التغيير .. كتّف سلطـان ذراعيه إلى صدرِه وهو يرمقها ببرود، راقبَ أصابعها المضطربة بوضوحٍ رغـم أنها كانت تشدُّ على مقبضِ الغلاية كي تسترُ اضطرابها، بيـاضُ طـلاء الأظـافر انعكـس بجاذبيّة على بشرتها السمراء .. وضعَت الغلاية في مكانها، ومن ثمّ تحركت للخلفِ قيد أنملةٍ وعادَت لتقف بتوتّر، يقفُ قريبًا منها جدًا لذا توقّفت بخوفٍ من الالتصـاق بِه .. لفظَت بخفوتٍ حاولت أن تجعَل نبرتها فيها ثابتةً لا تُظهر وهنها بقربه : ممكن تبعد شوي؟!
ابتسمَ سلطـان ابتسامةً باردةً وهو يتراجـع للخلف، تنهّدت براحـة، كـانت تشعر أنها في سباقِ مارثون من الإرهاقِ الذي هزّ جسدها، قُربه ليسَ عاديًا، قُربه يستفزُّ كل معالِم الجمودِ ويحوّلها إلى ذرّاتٍ تتناثـر مبتعدَةً عن قلبِها، يُرعِشها مهما حاولت الصلابة.
حملَت الكوب، لم تكَد تمدُّ يدها للصحنِ الذي كان يحمل التوست حتى وصلها صوته الهادِئ هدوءً مُرعبًا! : وش مسوّية لها؟
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تشتّتُ عينيها، وبنبرةٍ واهِنة : ولا شيء ... كوفي جاهز وتوست.
سلطان : همممم حلو .. ما ودّي تذوّقينها مرارة أكلك بعد ما ذوّقتيها مرارة قناعاتك.
أغمَضت عينيها بقوّة، جــاءَ وقتُ الحسـاب منه سريعًا، سريعًا لم تتمكّن حتى من استيعابِ كونها تكلّمت بكل جرأةٍ أمامه. هتفتْ بنبرةٍ متشنّجةٍ وهي تشدُّ بقوةٍ على عينيها : ما كنت أقصد أضرها.
سلطـان : قناعاتك بكبرها ضرر. وش اللي قلتيه لها بالضبط عشان تتعرف عليها وتصير قريبة منها؟
لم ترد، بل صمتت وهي تشدُّ على الكوبِ بقوّةٍ وصدرها يرتفعُ ويهبطُ بشدّةِ توتّرها. تصلّبت ملامِحه أكثر وقسَت عيناه وهو يكرّر بصوتٍ يخفتُ بقسوة : الجرأة اللي خلّتك تحكِين قدامي بالسيارة وين راحت عنك الحين؟ ورّيني غزل القويّة اللي تتصنّعينها.
فتحَت عينيها قليلًا، كـانت أجفانُها مُسدلةٌ كستارٍ أسودَ لا حولَ لهُ ولا قوّةَ إلا السقوطُ والارتفـاع معلنًا بداياتِ خيبة دون الانتهاء! لا ينسدِل كنايـةً عن انتهاءِ مسرحّيتها، بل ينسدِل مضاعفًا لها.
استدارَت بهدوءٍ كـان في الحقيقةِ صعوبةً في حركتِها، نظرتْ لملامِحه وأجفانها لا تزالُ متهدّلة بتلك الطريقة الخائبة، زمّت شفتيها بألمٍ قبل أن تهمسَ بصوتٍ خافِت : كونِي حرّة، لا تخضعين لأحد.
رفـع ذقنـه بغضب، ضيّق عينيهِ بحّدةٍ وهو يسمعها تُتـابعُ ببحةِ حُزن : ألـزم ما عليك حريّتك .. لا تهتمين لكلام أخوك المعقّد ..هو يبي يضيّق عليك وبس! ... استانسي.
شدّ على أسنـانه وفي لحظـةٍ خاطفـةٍ اقتربَ منها وهو يزفُر زفـرةً أقرب لزمجرةِ أسدٍ غاضِب، انتفضَت بقوّةٍ بعدَ اقترابِه المُرعبِ ذاك، ومن فرطِ الانتفاضةِ التي هزّتها كـان صوتها يعتلِي بصرخةٍ مذعورةٍ مع كفّها التي اهتزّت وتنـاثرَ نصفُ القهوةِ بلسعتِها الحارةِ على يدِها وبطنِها.
أمسكَ سلطـان بكفّها التي احترقَت بقوّة، شدّها إليهِ بغضب ليهتفَ بنبرةٍ حادّةٍ غاضبـة امتزجَت مع صوتِ تحطّم الكوبِ وتنـاثره على الأرضِ شظـايا : حريّة؟ حريـــة؟!! أيّ حريّة هذي؟ أي ضرر تبينها توصل له! تبينها تصير مثلك؟ وحدة بدون شرف !! هذا اللي تبينه هاه! هذا اللي تبينه يوم إنّك حثّيتيها على قناعاتك الحقيرة!!
عضّت شفتها بألمٍ من يدِه التي تكـادُ تحطّم معصمها وقبلها الحرارة التي ابتلعَت جلدَها بهيمنةٍ مؤلمـة، لم تتأوّه، حكـى عنها صراخها الأوّل ملخصًا آلامها الجسديّة والنفسيّة، تركَ سلطـان يدها بغضبٍ وهو يتراجعُ للخلفِ ويلفظُ بصوتٍ مشدودٍ وغاضب : منتِ أحرص عليها من عنـاد ومنّي .. بأي وجه رحتِ تنصحينها وأنتِ فاقدة كلْ شيء يدل على شرفك وأخلاقك! بأي وجه رحتِ لها؟ بــأي وجه وجّهتيها للخراب؟!!!
أخفضَت وجهها وهي تُغمـض عينيها بقوّة ، تحتـرق ، تحتــرق ، ليسَ احتراقًا من لسعـةِ سائلٍ ملتهبٍ بحجمِ ما كـان احتراقها براكينَ تثورُ في قلبها ... آلام الجسدِ تسقُط يا الله أمام ألـمِ قلبي، تسقُط! .. ما الذي يشرحُ مقدارَ احتراقِي؟ ما الذي يشرحُ ترمّدِي بعدَ أن أصبحتُ غابةً خضـراءَ في عينيه؟ هل أسمّي ما يعتري لحظـاتي – سوء منقلب -؟ وأنا التي كُنت بعيدةً عنك يا الله والآن أدركت طريقَ الهدى، وخسرته من الجهةِ الأخرى! فهل ما أصابني سوءٌ منقلب! أم أنّ الدنيا بدناءتها لا نحصـل فيها على كلّ ماهو خيـر .. وهو خير، أثقُ يا الله أنّه خيرٌ وخسرته.
فتحَت عينيها بقوّةٍ ما إن سمعَت صوتًا مبهوتًا غير صوتِ سلطـان حضر، كـانت غيداء التي دخَلت للمطبـخِ مذعورةً من صراخ غزل وصوتِ تحطّم الكوب : وش صــار !!!
فتحَت غزل عينيها، بينما استدارَ سلطـان نحو غيداء بوجهه المتصلّب والذي يشرحُ تمامًا كيفَ هو مزاجُه الآن، أفرجت غيداء شفتيها وهي تنظُر لوجه سلطـان بارتبـاكٍ تحاول فهم سبب هذهِ الملامِح التي ابتسمَت لها إلا أن ابتسامتها لم تُخفِي غضبها، وقبل أن ينطُق شيئًا سبقته غزل بصوتٍ واهنٍ وهي تنخفضُ للأرضِ كي تحملَ أجزاءَ الكوبِ المكسور : ما صار شيء ، الكوب طاح من يدّي بس وأنا انخرشت ... هذا اللي صار.
غيداء تنظُر لها بخوف : احترقتي؟
غزل بصوتٍ باهتٍ مغمور، وباختنـاقٍ لا تدري لمَ أصابَ صوتها فجأة : لا ، روحي اجلسـي على ما أجيب لك شيء تاكلينه.
فتحَت غيداء فمها كي تعترض، لكنّ حالتها النفسيّة كانت سيئةً تحتـاج أن يكون أحدًا بجانِبها، لا تنكـر أنها جائعة، ولا تنكـر أنها تريد الراحـة ، وأن تنـام أيضًا. لذا أومأت بصمتٍ ومن ثمّ ابتعدَت لتعودَ حيثُ كانت تجلس، قلبها لازال خائفًا، لكنّها تحاول أن تُخفِي خوفها، وتجلسَ وحدها.
جمعَت غزل الأجزاء المكسورة، رمتها في حاويـةِ القمامـة ومن ثمّ اتّجهت للخزانـةِ لتُخرجَ ظرفًا آخر تصنع بهِ قهوةً عوضًا عن القهوةِ التي ذهبَت أدراجَ السقوط، لم تحتَج أن تعيدَ تسخينَ المـاء، أضافت السكّر سريعًا من ثمّ أخذَت الصحنَ وتجاوزَت سلطـان الذي كـان قد استدارَ إليها بعدَ خروجِ غيداء وظلّ يراقبها بنظراتٍ غريبـة ... خرجَت من المطبـخ، وقلبها ينبِضُ بجنون .... لمَ كان صامتًا بعدَ خروجِ غيداء! ما سببُ هدوئه!!
يُتبــع ..
|