كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
في البداية شكرًا لكل اللي تفهّمني وللي قالوا لي أجليه أكثر للجمعة ، بس للأسف ما كنت أقدر أأجل أكثر من وقت - ما بعد منتصف الليل للفجر -
من أولها أنا مأجلة البارت يوم زيادة - للخميس - عشان فيه أجزاء مهمة ما كان ودي أبترها وما وصلت لها، بس صار إنه بعد ما أعلنت التأجيل بسناب والآسك - انحذف كله اللي كتبته امس مع اللي قبله - يعني البارت كامل :( فوق كذا زيادة يوم بالتأجيل بتأثر على جزء الأحد اللي قرّرته كتعويض شامل عن هذا.
اللي ما ودها تقرأ بارت تنقصه بعض الشخصيات تجمع بارت اليوم مع الأحد " بعد بكرا " لأنه ماراح يرضيها، رفضت انزله الأربعاء عشان نقص - الأهم - بس لما انحذف كامل اضطريت أأجل مواقف روتينية وبعضها مواقف لها وقعها مثل حضور " أدهم & إلين / سعود / سلمان ... الخ " وركزت بالأهم اللي بتعرفونه اليوم.
ما أقول البارت قصير وخالي تمامًا من الأحداث!، بس يعني طوله متوسط ورُبما ما يرضي البعض منكم. تمنيت بصراحة يكون من البارتز الواو اللي دايم بعد ما أنزلها أكون مبتسمة وأتلهف للأراء، بس حدّني الموقف اللي كانوا متابعيني بسناب شايفينه - عشان محد يكذبني - وصورت لهم سنابة وانا احاول افتح الوورد ويقولي غير موجود والطلاسم اللي طلعت لي مع تغيير صيغة الملف.
^ واضح إنّي كثرت حكي :$ رجعت ثرثارة السموحة :P ، قراءة ممتعة وأرجع وأكرر اللي ممكن ما يرضيها بارت اليوم مع انه من البارتز " المُنتظرة " تجمعه مع بارت الأحد.
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات.
مطـر.. معـلق .. بنـصف السـما .. لا ينـهمـر.. ولا يرتـفع ..
وكل ما بغـينا نجـتمع.. تحـت المصابيح الزرقـا.. يطيح منه رذاذ ..
اما انـهمـر فرقا .. و الا تـقـطع وصـل .. يا مـاطـر الليـل ..
لا تاقـف بوسـط الـسـما ..
لك هـالـشـوارع .. انما تـكـفيـك.. سـاعـه .. سـاعـتيـن ..
بنـشـيب وحـنـّا واقـفين.. تحت المظله .. ماهو خـوف من البـلل ..
لكن حـنيـن .. للمصابيـح الزرقـا.. ولليلةٍسـمراء.. سـماهـا صافيه..
ومـوعـد لعـيونهـا..
والله غـرفنـا دافـيه..
ولهـا شـبابيـك وسـتايـر..على البـروق .. لكن .. زهـقـنـا بيـوتنـا ..
واللي يخـليـك .. اما انهـمـر.. والا ارتـفـع ..
* المميّز : بدر عبدالمحسن
(79)*1
صبّت من العيُونِ فقدًا، سكبَت من الأجفـانِ حُمرةَ شفقٍ يعنِي المغيب، داعبَت بالهدبِ الهواءَ واهتزّ بجزيئاتِه ليشعُر بربكتِه من حولِه وهو يتوقّف بخطواتِه عن المسير ، عن الخروجِ الذي قرّره ، وصوتُها الملغومُ باختناقٍ وحشرجةِ فقدٍ يجيئُه بنبرةٍ مقهورةٍ حاقـدة : اخترته؟! .. بالنسبـة لك الوضع اختيار؟!!!
عقدَ حاجبيه، ومن ثمّ شدّ على قبضتيهِ وهو يستدِيرُ ببطءٍ إليها ، نعم! الوضعُ ليسَ اختيارًا ، من يخيّر في الحب؟ هي مسيّرة ، مسيّرةٌ بعينينِ أصابهما عمـى الحُب ولم تبالي ... يا الله لم يكُن تفكيرها بأن تحبّ سواه مؤلمًا كما اليوم ! لم يكُن مؤلمًا!!!
زمّ شفتيهِ بوجَع، ومن ثمّ نظـر بعينينِ فارغتينِ إلى وجهها الشاحب، والذي كـان رغمَ شحوبِه وتعبِه متشنّجًا مشدودًا بحقد ، ابتسمَ دون حياة ، ومن ثمّ همسَ بصدقٍ ورغمَ صِدقه إلا أنه كان يدفـع الكلماتَ غصبًا : ماني واقف بطريقك ، تطمّني.
رفَعت أسيل ذقنها وهي تعتدلُ كيْ تجلسَ وحركتها تلك آلمتها لكنّها تجاهلت الألم وهي تلفظُ بحدة : الحمدلله على سلامة متعب.
شاهين دونَ أن يفقدَ ابتسامته الخالية من الحيـاةِ تلك : الله يسلمك ... قرّة عينك.
أسيل بسخرية : قرة عينك أنت وخالتي ، أنا ما يهمني !
اتسعت عيناه بصدمة ، لم يستوعبْ معنى ما قالت وملامحـه تبهُت كمـا نظرةُ عينيه التي ثبتت على شفتيها وهي تردفُ بكبرياءٍ وبنبرةٍ شامخـة : إذا اختفـى من غير لا يهتم فيني أو حتى وش بيكون مصيري ... فبظهوره أنا اللي ما راح تهتم !
تصَلّب جسده ، وأجفانهُ تتّسعُ بفعلِ مـا سمِع، لحظَت نظراته المستغربـة ، بالتأكيد كان متأكدًا من أنها ستفرح، وهي التي لم توضِح لهُ يومًا عن حُبٍ تجاهه! بالتأكيد يجب أن تكون غارقةً حتى الآن في بحرِ عشقِه ، لذا رأى أنّ مستقبلَ ما بعدَ معرفتها سيكُون في الفـرح ، واللهفـةِ له !! . . . زمّت شفتيها بألم، انشدّت كفها على بطنِها ورغمًا عنها سقطَت دموعها باختنـاق، كانت تشعُر بالوجِع يُترجَمُ في تضخّمٍ صلبٍ في حنجرتها حتى اختنقَت بالأكسجينِ لتشهقَ شهقةً تجتذبهُ بها إليها وكفّها تشدّها أكثـر ، خذلان ، خذلان .. خيبةٌ تقتُلها ، خيبةٌ تغرقُ فيها ولا تجدُ من ينقذها ، كلاهما خذلاها ! كلاهما كسراها .. كيفَ فعلاها بِها؟ كيفَ تلاعبَا بها بهذهِ الطريقة؟ كيفَ يكون حيًا ، ولم أملك الفرحَ الآن .. لأنّ الخذلان كان أكبر! كيفَ فعلتها بِي ، وغادرت لسنين ، دون أن تبالِي حتى بلمحـةِ وصيّةٍ بالانتظـار! لا تهمّ الأعذار، لا تهم! تركها لسنينَ حزينةً بِه .. على شيءٍ لم يحدُث! امتصّ منها رحيقَ السعادةِ وفي النهايةِ ماذا! حيْ!! طيلةَ هذهِ السنينِ حيٌّ ولم يبالِي بامرأةٍ ترمّلت خداعًا! لم يُبالِي بمصيرها !!!
شدّت على شفتِها السُفلى بأسنانِها، أغمضَت عينيها لوهلـة ، ومن ثمّ فتحتهما بانكسارٍ تنظُر بهما لكفّها على بطنِها الذي فرغَ منه، رفعَت وجهها رويدًا رويدًا إلى شاهين وهي ترى نظراته التي لم تكُن مصدّقةً لما قالت ، لم يستوعبها كما يجب! .. ابتسمَت بسخرية ، لم تكُن بسمةً في الحقيقةِ بل كان انكسارَ شفاهٍ تقوّست .. لفظَت بنبرةٍ باهتـة منكسرة : كان حي ! حي!!! .. شلون؟ شلون يكون حيْ؟ وأنا لسنينْ أبكيه؟ ما كنت أبكيه كنت أنكل بروحي لأني كنت ميتة! ميتة وتعذِّب نفسها بس ... وفي النهاية حي !! بعد كل هذا حي! وهو بكل لا مبالاة كان عايِش بمكان ثاني ولا هو مهتم إنّه ترك وراه مـره بمسمّى أرملة! كنت رخيصة عنده .. ما كنت أهمّه! كنت ولا شيء .. وهنت عليه بينما أنا نفسي هانت قدامي عشانه!!!
زمّت شفتيها بألم ، عيناها رغم انكسارها إلا أنها كانت تنظُر لشاهين بقوّة ، كـانت مجروحة ، مجروحةً كأنثـى أسدٍ خذلها ، ولم تضعف بل كانت حاقدة ، وحقدُها " قوّاها "، أردفَت بخفوتٍ متحسّرٍ وهي هذهِ المرّة تبتسمُ بصدق، تبتسمُ ابتسامةً لأجـل ملامحها التي تشقّقت أشهرًا لأجلـه في عبوس، لأجـل فمها ، الذي ظلّ متقوسًا لأجلـه طيلة مرحلةِ تعاستها : ليت الله ما ردّه ، أو مات هناك ... بدل لا أحسْ بهالوجع أضاف وينكسر بعيوني .. ليته ظل ذكرى وما صار خيبة!
انفرجَت شفاهه، وابتعدتا في زفـرةٍ مصدومـة ، لم يستوعِب ردّها ، لم يستوعِب وجهة نظرِ الحُزن في عينيها ، لم يستوعب أنها ما فرحَت بِعودتِه! أنها ، أنها تتمنّى لو أنّه مات ... مات !!! .. تشنّج فكّه ، ورغـم تشوّشِ أفكـارِه إلا أنه همسَ بنبرةٍ خافتـةٍ خرجَت من حنجرته كمعارضـة على ثورانِها بدعوةٍ تجاهه : لا تقولينها!
أسيل ترفعُ إحدى كفوفها بينما الأخرى لازالت معلّقةً حيثُ كانت ، - بطنِها - .. أعادَت خصلاتًا من شعرها الذي أشعثته فوضى الساعاتِ الماضية، ثبّتتها خلفَ أذنها ، وهي تردُّ ببسمةٍ متوجّعة : من حقّك تفرح فيه ، ومن حقّي أزعل وأنتقم لنفسي بكلامي ! .. أتمنى لو إنه ظـل ميت .. بغضّ النظـر عن كونك مبسوط ، ورخِصت بعينك ... مثله تمامًا!!!
مرّر طرفَ لسانه على شفتِه السُفلى ومن ثمّ شدّ بأسنانِه عليها وهو يضيّقُ عينيه ، وبخفوتٍ يبرّر لها : ما رخصتِ!
أسيل بنبرةٍ ارتفعَت فجأةً بقهر : إلا ! رخصت بعيونك .. كم لك راميني بدون لا تعطيني سبب؟ وأكيد طبعًا كنت مبسوط برجعته .. بس أنا أيش؟ مجرد لعبة بينكم ، هو تركني وراح من غير حس ، وأنت سافرت بفرحتك فيه ورميتني وراك بدون لا تبرر ... مين تظنون نفسكم؟ مين تظنوني بيديكم؟ لك حق تفرح ، وله حق يتركني .. بس مو بهالطريقة! مو بهالطريقة اللي استنفَدْت فيها أكثر من سنتين وكمّلت إنت من وراه بهالأيام .. عطوا قلبي خبر ، لا توجعونه بهالطريقة ! لا توجعون قلبي بهالطريقة !!!
تنفّس بشدّة ، ومن ثمّ ودون سابِق إنذار ، اقتربَ بخطواتِه منها بعدَ أن رآها ترفعُ كفّيها إلى وجهها لتغطّيه وتنخرطَ في بكاءٍ دامِس! دون سابِقِ إنذارٍ أيضًا ! بكاءٍ تشرحُ به انكساراتِها منهما وخذلانها، بكـاءٍ عن أخٍ له/بكاءٍ آخر، كـان يعاشِر روحها لأيـامٍ طويلة ، أيامٍ طويلةٍ جدًا، رأيتُ فيها بتلاتِي تنهمرُ بذبول، فكيفَ أستطيع الآن إدراكَ أنّ الندَى لم يكُن جافًا، لكنّه كان - مُجافيًا -، كيف أدرك ذلك بهدوءٍ ودون ألم؟ .. جلَسَ بجانِبها ، بعيدًا عن كلّ الأحداثِ من حولهما، وفي عالمٍ آخرَ اقتادتهما وحدتهما الآن إليه .. نعم ، وحيدين ، وحيدين وإن اجتمعنا ، وحيدينِ لأنّنا لسنا لبعضنا .. وبعيدًا عن هذا العـالم ، عانقها ، متناسيًا ، متغافلًا ، مسيّرًا إليها بصورةٍ عميـاء ، شدّها إلى صدرِه حين شعرَ بِها تُحاول أن تبتعدَ بنفور، دَفن وجهها مع كفوفها التي تغطّيه في كتِفه، نشجَت بخفوت، بينما مسحَ هو بيمينهِ على شعرها، هامسًا بصدق : ما ترخصين .. ولا تهونين بقلبي ... بس لما تتخيّرين بين الحيـاة والموت بتختارين أيش؟ بتختارين الحياة يا أسيل !
ارتخَت كفوفها لتبتسمَ بخيبةٍ وخذلان، ينتقصها ، هذا كلّ ما يعنيه، لم تكُن شيئًا أكبر لديه ومن قبله متعب! أخيه !!! . . همسَت بغصّةٍ ساخـرة : أنا موت بالنسبة لك وهو حياة !
ليسَت عادلـة ، تدرك أنّها ليسَت عادلةً حينَ تُخيّره بينها وبينَ أخيه ، لكنّهما زرعا في صدرها ألمًا من حجمها الضئيل لديهما ، زرعا فيها قهرًا ، لذا خيّرت بطريقةٍ غيرِ مباشـر ، كي تتألم أكثر!
أغمـض شاهين عينيهِ وهو يشدُّ رأسها وكأنه يريدها أن تدخُل لأضلعه ، بِعمقٍ متحسّر : ما قلت لك اخترت الحياة اللي هي متعب وما قلت لك أنتِ موت! أنتِ حياة ومن قبلها موت لذيذ! ، تضادات بعالـم ثاني بعيد عن عالمنا ، حياة بيضاء! وموت لذيذ .. هالعـالم أكبر مني، أكبر من إنّي أعيشه وهو بكلْ حالاته حلو! .... آسف لقلبك!
أسيل بسخرية : ومتعب؟!
شاهين بأسى : متعب الحياة اللي ما أقدر أتخلى عنها! .. لا تظلميني بهالأسئلة! أنا مو أناني بس وش تتوقعين؟ هذا أخوي يا أسيل مستحيل بيوم من الأيام أدرجه بخيارات حياتي لأنه قطعة مني.
عضّت أسيل شفتها السُفلى بقهر ، وضعَت كفيها على كتفِه ، ومن ثمّ دفعته عنها وهي تشهقُ بشهقـةِ بُكاءٍ مريرة ، عيناها تعلّقت بعينيهِ وهي تشتعـل ، تشتعـل خيبةً منهما ، ما ذنبها هي من كلّ هذا؟ ما ذنبها إن كـان متعب فعلها بِها قبلًا ليضطرّ شاهين الآن أن يتخلّى عنها لأجله! ما ذنبُها من كلّ هذهِ التجربةِ الظالمـةِ لها! ما ذنبــها !!!
أسيل بألم : ما تنلام ... أدري صعبـة عليك، وأتوقع متعب بعد تفكيره كذا .. صعِبت عليكم ، هالحياة كلها صعبَتْ علي بعَد!!! ... بس الله لا يسامحكم خصوصًا هو!
شاهين بجزع : كان مجبور على غيابه.
أسيل بابتسامةٍ مستهزئة : ليته انجبر طول عمره ولا رجع! ... الله لا يسامحه !!
لم يجِد شيئًا يردُّ بِه عليها ، لا يملك كلمةً تُنصِف مشاعرها المُستباحة، يدركُ شعورها، ومن الظـلم أن يلومها ، لذا ابتعَد عنها ووقف، قرّر أن يذهَب دون أن يودّعها حتى، لكنها لم تكُن قد انتهَت ، لفظَت بنبرةٍ منكسرةٍ تتساءلُ بكلمـاتٍ ينسلخُ منها الوضوح في معمعةِ الاختناق : وش مصيري بينكم؟
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي دون أن ينظُر إليها : لا تسأليني ، ردّي بيجرحك.
أسيل بابتسامةِ حسرة : ماني منتظرة منكم الجـرح أكثر من كِذا! .. عشان كذا أنا أنسحب بأكبر خسائر ... خسرت الجنين اللي كرهتَه واحتقرت وجوده !! الجنين اللي كنت مبسوطة فيه ، وميّتة الحين عشانه رغم الحقيقة وكل شيء!
نظـر لها وهو يعقدُ حاجبيه باعتراضٍ على كلامتها ، وبجزع : لا تحكمين على مشاعري من عقلك وتضرّين نفسك وبس! مين قال إنّي كرهته واحتقرته؟
أسيل بقهرٍ تضـع كفّها على فمها وتضغطُ على بطنِها بقوّةٍ حتى شعرت بالألـم : اعترف إنّك ما فرحت لما عرفت إنّي حامـل ... قولها عادي ما بقى لك شيء توجعني فيه غير هالكلمـة!
تنهّد شاهين بيأسٍ وهو يضغطُ على صدغيهِ بإبهاميه ، وبنبرةٍ خافتـة مُرهَقة : يكفي أسيل!
أسيل بصوتٍ يحتدُّ أخفضت كفّها عن فمها لتستقرّ على ذقنها : الجواب إيه .. أدري ، أدري فلا تسكت لأنه واصلني وخالص!
شاهين يشتّت عينيهِ عنها بضيق : إيه .. ما فرحت فيه .. شيء طبيعي بهالظروف وغصب عني! بس هذا ما يعني إنّي أول ما أجهضتيه ما زعلت !
أسيل باستخفاف : أووووه ما نسيت إنّه ولدك في النهاية!
شاهين بتعبٍ يُغمـض عينيه : يكفّي يا أسيل ! شلون تبيني أفرح وأنا وصلني الخبر ومتعب جنبي ! حتى لو ما كان جنبي .. شلون تبيني أفرح ، وزوجتي ... ما كانت أرملة .. مطلّقة ... عزباء بشكل عام! شلون أفرح وأنا عارف إنّ المصير ما بيكون وردي بيننا! شلون وأنتِ زوجـة أخوي .. اللي عايش!
عضّت شفتها بألم ، أغمضَت عينيها ، بينما اختنقَت كلمـاتهُ واضطرّ للصمتِ أخيرًا .. شدّت على أسنانها، والحقيقةُ لو أنها جاءت في زمنٍ آخر ، كانت لتكُون الحقيقة الأجمـل ، كانت لتكون فرحتها الكُبرى ، لكنّها الآن لم تشعُر سوى بالخذلان! بالضياع ، لم تتمنّى سوى " ليته كان ميت وما رجع "!
بعددِ الأشهـر التي قضتها حزينةً لأجلـه ، تتمنّى لو أن موتهُ كان وهمًا، لو أنّه كذبـة ، هاهي الآن تتمنّى لو كان حقيقة! ليته مات ، ولم يرجـع ! ليته لم يجرحها بهذهِ القسـوة ، ليُكمـل شاهين من بعدِه نثر الملحِ على جراحها .. ما ذنبي أنا من كل هذا؟ ما ذنبي؟!!
همسَت بصوتٍ مجروحٍ يئنُّ بملحِ كفيهما : ما أبي أضيف شيء من الكلام .. لأنّي بهاللحظة صدّقني بدعي يرجع للموت! غصب عنـي ... كرهته وكرهت طاريه! . . روح شاهين ، ما أقدر ألومك على ردّة فعلك ، فلا تلومني على كرهي لكم !!
،
انتظـر لوقتٍ طويلٍ قبل أن تبدأ ساعاتُ الزيـارة ، كان قد اتّصل منذ البدايـة بمن قد يسهّل عليه أمر اجراءاتِ الزيارة ويتجاوزها بسرعـة .. وصـل للمكانِ المطلوب ، التقـى بمن كان قد اتّصل بهِ ليصافحه ويبدأ بحديثٍ روتينيٍّ معه ، ومن بعِده سأله ذاك : ممم اسمه سعد حمدان اللي تبي تزوره؟
سلطان بهدوء : أيه ، عاد لا تقول مقدر أزوره!
بمداعبة : لا تقدر ولو ما تقدر أنا أخليها غصب.
سلطان بابتسامة : تسلم.
تحرّك ليتحرك معه سلطان ، وبتساؤل : وش صلتك فيه؟
سلطان : زمالة في الشُغل.
عقدَ حاجبيه : يعني ماهو قريب منك ليه مهتم تزوره!
سلطان الذي لم يكُن نفسه يعـلم لكنّه لم يحب إحراج عمّ سعد الذي أخبره بإصرارٍ أن سعد لا يريد سوى أن يلتقيه : ما أقدر أقول مجرد زميل .. يعني بيننا اللي يستاهل أزوره.
هو بأسف : ما أدري يعني وش أقول .. أنقهر لما أشوف مثل هالشباب يتورطون بجرائم تنهي حياتهم ! .. خصوصًا إنّه كان من المُتّهمين اللي ما حاولوا ينفون حتى ! كان من البداية معترف بكل ندم باللي سواه وما احتجنا نرفع البصمات أو شيء، وكالغالب السبب لحظـة غضب ... ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .... ضاع مستقبله عشان لحظة وبس!
كان سلطان يستمع باهتمامٍ وهو يسير معه، وصلا للغرفـة المخصّصة لزيارةِ السجنـاء ، فتح لهُ الباب وهو يلفظ : تفضل .. كنت مخليهم يجيبونه قبل وصولك.
سلطان بامتنان : مشكور ما تقصر يابو محمد.
ابو محمد : انت تامر يا سلطان.
دخـل سلطان لتصتدمَ عينـاهُ بسعد الذي نظـر لهُ بهيئةٍ صامتة/بائسة، ألقـى السلام بهدوء، ومن ثمّ تقدّم منـه ليجلسَ أخيرًا بينما تحرّكت شفاهُ سعد دون صوت ، رادًّا على سلامِه، اعتدلَ فوق الكرسيّ بهدوءٍ وهو ينظُر لملامحِه الشاحبة، هالةُ سوادٍ تُحيطُ عيناه، كان من الواضِح أنه لم ينَم ليلته كما يجب، كيفَ عساه أن ينام؟ وهو سكَن بين جدرانٍ جديدةٍ لم يعانقها بعينيه من قبل، خلفَ قصبانٍ من الفولاذ، وبلباسٍ لم يكُن له! لم يتوقّع أبدًا أن يصِل إلى هنا سريعًا، نعم! كان يتوقّع أنه سيأتِي هنا وهو الذي تورّط مع سالم .. لكن ليس بهذهِ السرعة، بهذهِ الطريقة، بوصمةٍ تعني الموت ، وليس هناك من عودة!
مرّر سلطان طرف لسانه على شفتيه ومن ثمّ لفظ : احترامًا لك ما راح أخوض بأسئلة ما تخصني ولا بتكلم عن موضوع وصولك لهنا ... ندخل في الموضوع مباشرة وش سبب رغبتك في شوفتي؟
سعد يبتسمُ بحسرة : بالأول تعرف مين الشخص اللي ذبحته؟
سلطان باهتمام : ما كنت قد سألت ... أعرفه؟
سعد : أيه ... إبراهيم، نفسه اللي كان يشتغل عندك.
عقدَ سلطان حاجبيه وصمَت دون أن يُلقِي كلمـة، ظنّ سعد أنه قد نسيَه، لكنّ سلطان لم ينساه، ليسَ ممّن اعتاد نسيان الأشخـاص الذين عرقلوا من وقتِه الكثير، لذا لفظَ بعد برهةِ صمتٍ بأسف : كنت تقدر تكون أكثر حِلم قدامه ، أعرفه مُستفز ، بس وش الفايدة اللي طلعت منها في النهاية؟
ابتسَم سعْد بأسى : استفزني بأختـي ، وأعتقد مقصدِي واضح لك.
كشّر سلطان بتقزّزٍ وقد فهمَ من نبرتِه ما يعني، شتّت عينيه لوهلةٍ بتفكير، ومن ثمّ أعادها إليه ليلفظ : كنتوا ربع؟
سعد : تقريبًا بس صار بيننا خلاف قبل شهور.
سلطان يومئ برأسه وهو يلفظ : هذا الموضوع اللي جايبني عشانه؟ ما أتوقع !
سعد يتنهّد بربكـة، لم يكُن الموضوع سهلًا ليقُوله، لكنّه مضطر، لذا تشجّع وهو يزرعُ في عينيه الثقـة، إن تزعزعَت ثقته فلن يملكَ سوى التكذيب من سلطان وقد تتّجه التهمـة مباشرةً نحوه! لذا رفـع ذقنه قليلًا بثقةٍ وهو ينطق بنبرةٍ ثابتةٍ لم تهتزّ : أكيد مو هذا الموضوع اللي طلبتك عشانه .. بس يتعلّق فيه.
سلطان يرفعُ حاجبه الأيسر وهو يلفظ بتساؤل : شلون يعنِي؟
سعد بذاتِ النبرةِ الواثقة : الشيء اللي خلى أعصابي تضييع قدام إبراهيم هو تهديده لي بكل وقاحة إنّه يضر أختي ... والسبب زوجتك!
اتّسعت عينا سلطان بانفعـالٍ وهو يقفُ بقوّةٍ جعلت الكرسيّ يترنّح للخلفِ ويسقط ، ارتبكَ سعد رغمًا عنـه، وهو يرى على جبينِه خطوط الغضب، يرى نارًا اندلعَت في زوايا عينيه وملامحه تصلّبت بشكلٍ جعله يدرك أنّه الآن لربّما يستعدُّ لتحطيم عنقه! لذا تداركَ ثقته التي تزعزعَت والربكـة التي هاجمته ليلفظَ بصوتٍ منفعـل : خلني أكمـل كلامي بالأول!
سلطان ينظُر له بحدّةٍ غاضبـةٍ وهو يقبضُ على كفيه، لفظَ من بينِ أسنانِه بحدّة : كمّل ، وبشوف وش آخرتها معك ..
رفـع اصبعه بتحذيرٍ ليُردف : لا تتخيّل مجرد تخيّل إن تواجدك بهالمكان يعني فرصـة لك تتواقح وتتجاوز حدودك !
سعد بهدوءٍ لازال يُحافظُ عليه : تطمّن بهالناحية.
لم يجلِس، بل بقيَ واقفًا في مكانِه وهو يرفعُ ذقنه ويلفظَ باحتقار : كمّل.
سعد بنبرةٍ متّزنـة : بصريح العبارة ، إبراهيم قال إنه بيضر أختي .. تعويضًا عن زوجتك اللي تركها بسببي قبل شهور .... أنا اللي تواجدت بذيك الليلة ، ووقّفته !
اتّسعت عينا سلطان بصدمةٍ ودون فهم، لم يستطِع الربط بين كلمـاته كما يجب، يقصدُ زوجته هو! غزل ، لكن ما المعنى من " تركها " و " أنا اللي تواجدت " وأوقفه !!! . . تشوّش عقله دون فهم، لذا لفظَ بتوجّسٍ وارتيابٍ وقلبه بدأ ينبضُ بانفعالٍ وكأنه خشيَ أن يكون قصده تلك الليلة تحديدًا، بالرغم من كونِ كلماتِه لم تتطابق مع الأحداث كما ينبغِي : شقصدك بالضبط! ما فهمت.
سعد يعقدُ حاجبيه قليلًا، كان يظنُّ أنه يعلَم بأنّ رجلًا ما جاء بعد إبراهيم وأنقذ زوجته، بالتأكيد هي تدرك ذلك، لذا ظنّ أنه يعلمُ بالقصة كما هي في عقله فزوجته كانت لتخبره بكلّ شيء على الأرجح!، استنكر استفساره ، لكنّه لفظَ بتوضيحٍ متروّي : قبل أكثر من ثلاثة شهور ، الليلة اللي تهجم فيها رجال على بيتك .. و ، ومرتك ، كان هو ... إبراهيم.
تصلّبت ملامحـه أكثر، تـابعَه بصمتٍ وهو يرى الأعاصير التي كـانت تولّد في عينيه، كان صامتًا بهدوء، الهدوء ذاته الذي يزخمُ بالضجيج ، الهدوءُ الذي يعنِي عاصفـةً هوجـاء ..
انخفضَ سلطان بجسدِه للأرض قليلًا، أمسك بالكرسيّ ليرفعه ويثبّته ومن ثمّ جلسَ وهو ينظُر لهُ بغضبٍ كارِه ، لقدْ وصَل لمن فعلها! وصـل إليهِ أخيرًا .. كـان هو ، سعد !!! لقد وصلَ إليه ، وصَل لمن فعلها ، وصـل لمنْ تجرّأ على زوجتـه وامتهنها .. أيقتله الآن! أيسحقُ عنقه ليثأر!!
رفعَ وجههُ بغضب، قرأ في ملامِح سعد الثقة، لكنّه لم ينصـع لها وهو يلفُظ بوعيد : كان أنت !!!
سعد بهدوءٍ مؤكد : أنا اللي أنقذتها.
سلطان بسخريةٍ وهو يقبضُ على كفيه فوق فخذيه بعنف، في هذهِ اللحظة كان كلّ ما تمنّاه هو أن يلتهمَ ملامحه بقبضتيه ويرسمَ عليه خريطةَ غضبـه، وجده، كـان هو! لكن كيفَ أحالته الظروف للعثورِ عليه في مكانٍ كهذا !!! شدّ على أسنانه بقهر، ومن ثمّ لفظَ بصوتٍ ساخِر : أنقذتها؟! ما توقعت تكون غبي لهالدرجة !!
سعد الذي كان يتوقّع تكذيبًا منه بطريقةٍ أو أخرى، لفظَ بصوتٍ لم تهتزّ نبرته حتى الآن : قبل لا تحكـم بكذبي ، عندك طريقة سهلة عشان تتأكد .. أكيد زوجتك بتكون عارفة ولو شوي عن الفرق بينه وبيني .. عقلها وإن ما كان واعي يومتها بشكل كامل بس كان متنبه ولو شوي ممكن لوجه إبراهيم أكثر ولو مجرد لمحة! فتأكد منها وخلها تعلمك وصف اللي تهجــ . .
قاطعه سلطان بصوتٍ قويٍّ لا يدري كيفَ قاومَ أن يصرخ في وجهه حتى الآن : يكفـي ... لا تستغلّ المكان وموت إبراهيم أكثر! ... كان أنت! * من بينِ أسنانه * أنت يا حقير؟! أنت اللي تجرأت تدخل بيني وتسوّيها؟!!
ارتبكَ سعد قليلًا، لكنّه بقيَ ينظُر إليهِ بثباتٍ وهو ينطُق نافيًا تلك الفكرة : كنت حاط ببالِي إنّك تكذبني وتظنّ هالظـن .. بس أيش مصلحتي من الكذب تحديدًا بهالوقت؟
سلطان بغضب : هذا هو ... أيش مصلحتك من الكذب؟
سعد بهدوء : من الصدق! هذي هي الفكـرة ، أيش مصلحتي من إنّي أعلّمك! ما قلت لك لله ومو عشان أقهرك بالموضوع ! أكيد لي مصلحة ، بغيتك تدري إنّه أنا اللي أنقذتها .. عشان تكون ممتنّ لي وتساعدني.
سلطان بسخرية : أساعدك بأيش بالضبط؟ لا تحلم كثييييير !
سعد يبتسم : ما أبي منّك تطلعني من هالمكان طبعًا.
سلطان يريد أن يعلـم إلى أين سيصِل : ووش تبي إن شاء الله!!
سعد بثقة : أهلي .. مالهم أحد من بعدِي غير عمّي ، هو اللي بيكون الوالي عليهم، ماراح أطلب منّك شيء غير منطقي وأبالغ! بس هو شُغله بسيط وزين راتبه يكفيه هو ومرته وعياله الست، عشان كذا أبيك تأمّن له شغل عندك ما يخليه يفكّر للحظة يهملهم بعذر المصاريف.
ابتسمَ سلطان باستخفاف : تبيني أساعدك على أساس كذبك؟!!
سعد يعدّل له : على أساس صدقي .. ما أدري ليه مصرّ لهالدرجة إنه أنا اللي سوّيتها .. أكيد عندك علم بكل اللي صار ليلتها! زوجتك ما اغتصبها إبراهيم ، ما سمحت له! كنت أدري إنّه حاقد عليك وممكن يضرّك بأي شكل من الأشكال عشان كذا لما لاحظت إنه يدور حول الحي اللي تسكن فيه شكّيت فيه وظليت ألاحقه لين الليلة ذيك ..
شدّ سلطان بكفيه على ركبتيه وحديثهُ بهذهِ البساطةِ استفزّه، أشعـره بالغضب ! حديثهُ عن - زوجته - يُشعل فيه نيران الغضب ، كلّ ذلك كذب! نعم ، كيفَ يصدّقه! كيفَ يظنُّ أنه قد يصدّقه ، لم تُخبره غزل بشيءٍ كهذا، حالتها النفسيّة ، مظهرها .. كلّ ذلك يُثبت كذبه !! .. كيفَ يتجرّأ أن يتلاعبَ بِه بعد أن تجرّأ على ما فعله بِها !!!
نهضَ بعنفٍ مُنفعـل، يكاد في هذهِ اللحظة أن يقتله ، سيقتله! سيفعلها ومن ثمّ يُصبـح بديلًا عنه خلف القضبان، سيفعله ويقتله !!!!
عند تلك النقطـة تراجع للخلف، قرّر أن يذهبَ قبل أن يفعلها بِه ويُنهِي حياته البائسة تلك! وصل عند الباب، ليوقفه سعد بصوتٍ هادئ واثق : تقدر تتأكد قبل يا سلطان ، اسأل زوجتك .. يمكن تتذكّر الملامح ... ملامح الشخص اللي تجرأ عليها .. إبراهيم !
،
خرجـا وأصابِع يدهِ اليُمنى تتخلخلُ أصابعها، نظـرت إليهِ من زاويـة عينيها ليضحكَ وهو يشدُّ عليها بعنـاد لافظًا بتسلية : صداقة !!
جنان بامتعاض : لا تصدّق نفسك كثير.
فواز : ههههههههههههههههه وش هالغرور ما ودك تعطيني وجه يعني؟
ابتسمَت رغمًا عنها : والله بصراحة يعني ما أبي.
فواز يبتسم وهو يرفعُ عينيه للسماء : شكلها بترجع تمطر ، شوفي السما كريمة وأنتِ بخيلة ! ليه يعني وش عندك مو عند السما؟
جنان بنبرةٍ خافتـةٍ وهي توجّه عينيها للأعلـى : أفضّل ما أرد، بنرجع للشد والجذب من جديد.
توقّف عند بابِ إحدى المحلّاتِ التي عكسَ زجاجُ نافذتها الواسِعة أجسادهم، انسلّت أصابعهُ من أصابعها ليسير نحو البابِ وهو ينظُر إليها ويبتسم : ماني متأخر.
عقدَت حاجبيها باستغرابٍ بينما ابتسامةٌ خافتـةٌ تظلّل شفاهه، أومأت بهدوء، بينما غابَ فوّاز عنها لتعُود أحداقها للارتفـاع نحو السمـاء، لتأمّل الزرقـة الملبّدتِ بسوادٍ فاحِمٍ في أجـزاء متباعدة ، غابَت الشمـسُ وراءَ إحدى الغيوم، في حينِ غابَ ذهنها لبعضِ الوقت، غابَت ابتسامتُها معه ، لا تدري أين سينتهي هذا! هل تغامـر بهذا الشكـل وتُقامر بالجفاءِ والصد في سبيلِ بعض الراحـة؟ ما النتيجة التي ستكُون؟
تنهّدت بهدوء، وفي لحظـةٍ انتفضَت ما إن شعَرت بكفّه على كتفِها، عقدَ حاجبيه ما إن نظرت نحوهُ بعيُونٍ متفاجئةً وكأنها لم تكُن في هذا العالِم فأفزعتها كفّه، نطقَ بتساؤل : شفيك وين رحتي؟
ابتسمَت جنان وهي تُخفضُ نظراتها لكفّه التي حملَت مظلّةً زرقاء : أبد سرحت شوي ... * أردفت وهي تعقدُ حاجبيها * ليه المظلّة؟
فواز يُمسك كفّها ليسير وهو يلفظُ ببساطة : احتمال ينزل المطر من جديد عشان كذا خذيتها للحيطة.
جنان تقطّب جبينها بانزعاج : ليه وحدة مو ثنتين؟
فواز يمازحها بشاعريّة : بنـشـيب وحـنـّا واقـفين.. تحت المظله .. ماهو خـوف من البـلل لكن حـنيـن ..
أردف برقّةٍ مازحـة : أبي أجرّب هالحنين ... تحت مظلّة واحدة!
ارتبكَت قليلًا لتُخفـِض نظراتها عنه وهي تمرّر طرف لسانها على شفتيها، أكملَت سيرها دون كلمةٍ أخرى، بينما ابتسمَ فواز وهو يلفظ : ترى أمزح لا تتحسسين.
جنان بنبرةٍ باهتةٍ دون أن تنظُر إليه : ما تحسّست ، بس مرة ثانية لا تجرّب الغزل معي!
فواز برقّة : تبشر عيُونك باللي تبي.
لم تردّ عليه بينما سقطَت أنظارهُ على محلٍّ للقهوةِ والحلوى، لفظَ بهدوء : بدون ما أبغى ... قهوتك أيش؟
جنان تتنهّد بيأسٍ وهي تُدرك أنّه لن يتراجـع : فرنسيّة سادة.
توجّها نحوه، لتمرّ دقائقُ قصيرةٍ قبل أن يُكمـلا سيرهما وكلٌّ منهما يحمِل قهوته، ارتشفَ منه رشفةً ومن ثمّ نظر إليها ليُردف : درستي جامعة؟
جنان تنظُر إليه نظرةً خاطفـة لتُعيد نظراتها نحو الطريق وتنطق : ما درست بكالوريوس .. دبلوم إدارة أعمال ووقّفت .. ما كان لي خلق وقتها بصراحة.
فواز يعقدُ حاجبيه : وش هالطموح الميّت! طيب دام مالك خلق ليه درستي دبلوم من الأساس؟
جنان تهزُّ كتفيها لترفـع الكوبَ إلى شفتيها وتلامسها أنفاسُ القهوةِ بحرارتها بينما أنفاسها هي تتسلّل إليها كيْ تزعزعَ الجزيئات الساخنـة فيها وهي تلفظ : بيني وبينك ما كنت حابة تفكيري وقتها ، فقلت أسلك لعمري وبعدها أكمل بكالوريوس.
فواز : ما عندك أي نيّة الحين تكملين؟
ارتشفَت رشفةً صغيرةً ومن ثمّ ردّت : ما أتوقع.
صمتَ فوّاز ولم يُضِف شيئًا عن دراستها، أكملا الطريقَ حيثُ منزلها الذي لم يكُن بعيدًا بأحاديثَ أخرى انسجما فيها ورآها بها تبتسمُ مرّات، ودّعها ، والمظلّة التي اشتراها لم يحتَجها في خضمِ تواجدها ، لكن وقبـل وصوله بقليل ، عـاد المطر يتساقط، والسمـاءُ تبكِي، بزرقتِها الشاحبـة، بغيابِ الدفء عنها ، بتظلِيل الغيومِ لها لتُغيّب شحوب زرقتها أكثر ، رفـع وجههُ قليلًا وهو يفتـح المظلّة، لكنّه لم يرفعها مباشرة، بل نظـر للسماءِ قليلًا بصمْت، انسكَبت القطراتُ على ملامِحه، أغمضَ عينيه بينما إحداها لامست شفاههُ ليتذوّق عذوبتها بلسانه في اللحظة ذاتها التي غطّى فيها رأسـه بالمظلّة عن بقيّة القطرات وأكمـل طريقه للداخِل.
في جهةٍ أُخرى ، كـانت تستمع لاصتدام القطراتِ بنافذتها، عينيها مغمضتان، لم يكُن هناك ماهو متأهّبٌ من حواسها سوى السمـع، كانت تفقد الاحساس بما حولها وشفاهُها تتحرّق دون أن تذوق بلسانها الصوت! : ما يهمني ، ما عاد يهمني ، ما عاد يهمني !!!
تأوّهت بقهرٍ ووجَعٍ رغمًا عنها، هذهِ المرّة بزغ صوتها، جلسَت، بعد أن فتحَت عينيها، واستعَادت حاسّة النظـر ، نظرت للنافِذة بصمتٍ كئيب ، لم تعُد تريد أن تقفَ أمامها! لم تعُد تريد أن ترى المزيد بعد الاحتراق الذي اندلَع في قلبها اليوم ، كانت لمجرّد التخيلات تحترق ، فكيفَ بالواقع؟ أن تراهما معًا !! ماذا بعد الاحتراق؟ بعد أن تنتهي لرمـاد، ماذا بعد يا فوّاز لم تفعله بِي؟
،
بحثَ عنها بعينيهِ بعد أن عاد للمنزل، كان يُدرك أنّ الأخبار ستكُون وصَلت إليها بالتأكيد، لذا تأخّر في عودتِه حتى تخفّ وطأة لأسى عليها والذي سيكُون قد أجّج غضبها منه.
وجدَها تجلسُ في الصالة، مرّر طرف لسانه على شفتيه ومن ثمّ اندفعَ إليها وهو يلفظُ بخفوتٍ مضطرب، مُتألّم : يمه.
استدارَت علا إليه في تلك اللحظـة مباشرة، كانت لربّما هادئـةً أو تملكُ بعض الهدوء، لكنّها ما إن رأته حتى توسّعت أجفانها ونهضَت واقفةً وهي تلفظُ بحسرة : بدري ، كان ما جيت.
تنهّد ليرفعَ كفّه ويمرّر أصابعه بين خصلاتِ شعره، وبأسى : دريتِ؟!!
عُلا وعينيها تشتعلان بالغضب الذي اختلطَ بالحُزن : لا طبعًا ، منتظرين بنفسك تجي وتعلّمني ما يدرون إنّك بس فالح تعاند وترفع ضغطي !
شاهين بجزع : بسم الله عليك.
عُلا بنبرةٍ تنفجـر : اذلف ، اذلف يلا جيب مرتك ... والله ما تروح حسرتي على الجنين كذا!! روح جيبها جعلك اللي ماني بقايلته يا قليل الخاتمة !!
اقتربَ منها وملامحه تتعجّن، يخشى عليها من الغضب الذي يمارسُ تجاعيدهُ على ملامحها التي شاخت، يخشى على حنجرتها إن ارتفـع صوتُها أن تنشرخ، يخشى على صدرِها أن تتفتّت أضلُعها من القهر ، لذا اقتربَ منها وهو يُفرج شفتيه ويرفـع كفيهِ علامـة " اهدأي " بينما صوتُه يتسلّل عبر الجزيئات إلى مسامعها : عيوني . .
صرخَت علا تقاطعه : حبّتك القرادة ... لا تحاول تكلّمني لين ترجعها ، والحين تروح وترجعها !!
لم يبالي بكلماتها وهو يُمسك كتفيها بحزمٍ ومن ثمّ يخفض وجهه ليقبّل رأسها، وبرجاءٍ عميقٍ وهو يستنشقُ رائحـة شعرها المُخضّبـة بعبيرٍ لن تستطِيع امرأةٌ أن تحمله : يمــه ، يا ام متعب ، تكفين !
صمتَ للحظةٍ وهو يستمـع لصوتِ أنفاسها المُنفعلة بغضبٍ والتي لم تهدأ حتى بعد أن ناداها " ام متعب " .. أردفَ بخفوتٍ يرجوها أن لا تقفَ في وجهِ قراراته : يوم أصريتي من قبل أتزوجها ما رفضت بالعكس رحّبت بالفكـرة ، بس غلط! غلط والله العظيم ما تركتها لأنّي مو قدّ المسؤولية أو ماني رجّال وبس ألعب بموضوع الزواج! * زفـر بكبتٍ ليُكمـل باختناق * يمه خلاص أنا حرمتها علي ... أسيل محرمة علي ليوم الدين ومستحيل أرجعها لي.
شهقَت بصدمةٍ وهي تدفعُه وتتراجعُ للخلفِ لتنظُر له بملامِح باهتة، وبنبرةٍ مصعوقة : حرمتها عليك!! تحرّم حلال ربّك يا مسود الوجه!!
عضّت شفتها، ومن ثمّ أغمضَت عينيها لا تصدّق ما وصلَ إليه ابنُها ، وبقهرٍ أردفت من بينِ أسنانِها : إذا الموضوع كذا بس! أجـل أنا يحرم علي أذوق شيء لين ما تكفّر عن كلمتك وترجّعها.
اتّسعت عيناه، تجمّد للحظـةٍ غير مصدّقًا لما قالته، لكنّه سرعان ما اقتربَ منها وهو يلفظُ بانفعـال : يمّه واللي يعافيك كفاية تتحكمين بمصير حياتي ... أنا أدرى إنّ هذا اللي لازم يصير ، لا تصرين علي وتأذين نفسك على شيء ما يستاهل!
عُلا بسخريةٍ غاضبة : ما يستاهل !
شاهين برجاء : والله لو تدرين وش السبب بتعذريني ... بس تكفين لا تضرين نفسك ! مو معقول يعني بتتركين الأكل! ما يصير . .
عُلا بحنق وكلماته الملقاة بين الحديث تستفزّها : بعذرك !!
شاهي يحيطُ وجهها بكفوفه وهو يلفظُ بابتسامةٍ حنونة : شيء بيفرحك .. أنا متأكد شيء بيفرحك بشكل أنا خايف عليك منه !
عُلا لا تريد أن تقتنعَ بحديثه، لفظَت بسخرية : بيفرحني إنّك محرم زوجتك عليك؟
تنهّد وهو ينحني ليقبّل وجنتيها أخيرًا ، ومن ثمّ بخفوت : بيفرحك ، أنا من قبلك كنت بموت بسببه !
ظلّت تنظُر له بحدّة، لم تبالِي بما قال وهي ترفعُ كفيها لتنزع يديه عنها بحدّة، ومن ثمّ ابتعَدت دون كلمةٍ أخرى ، بينما زفـر شاهين وهو يتمتمُ بخفوت : تبي تستفزني وتقنعني بس .. مستحيل تضرب عن الأكل !
،
بعدَ المغرب بقليل، تنـاولت عباءتها بعد إغلاقِها للهاتِف مباشـرة، كانت كفوفها منفعلـةً وهي تحملُها وتتّجه للبـاب كي تخرج للصالَة التي يجلسُ فيها سيف، وجَدته ينظُر للتلفازِ على إحدى قنواتِ الأفلام، انتبـه لخروجها ليُدير رأسه في اللحظـة التي كانت تقتربُ بخطواتها منه، رفـع حاجبه الأيسر باستنكارٍ وهو يراها تستعدُّ للخروج، وبنبرةٍ كبتت الغضب من مظهرها دون حتى أن تُخبره : على وين إن شاء الله؟
ديما تقفُ قُربه وهي تلفُظ بعجلة : خذني عند امي.
سيف بملامحَ تعجّنت باستخفاف، أمـال فمه، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ لا مبالية وهو يعُود للنظر إلى التلفاز : منتِ رايحة .. رجعي عبايتك وانثبري.
لم تكُن تملك الوقتَ للشدّ والجذبِ بينهما، لذا تنهّدت لتلفظَ برويّة : أختي أجهضت اليوم وما دريت عنها إلا تو ، اترك العناد الحين ووصلني واللي يعافيك.
نظـر لها سيف عاقدًا حاجبيه وهو يقفُ مباشرةً لافظًا بضيق : سلامتها شلون أجهضت؟
ديما تضعُ مافي يدها على الأريكةِ لتبدأ بارتداء عباءتها ومن ثمّ طرحتها وهي تلفُظ : ما أدري شلون بالضبط ما سألت عن التفاصيل للحين.
سيف يتّجه للغرفـة حتى يأخذ هاتفه ومحفظته : بدخل الحمام وأجيك ماني ماأخر.
أومأت بصمت، ومن ثمّ جلسَت على الأريكة وهي تبتسمُ بسخرية، ليسَ على شيءٍ سوى نفسها، ما معنـى أن تحمـل كلتاهما نفس الأقدار؟ وتخسرا حلمًا حملته كل امرأةٍ في رحمها الفارغ! حلمًا حينَ نُفخَ فيهما أُجهضَ ولم تمخضا فيه كما تمنّتا! أخفضَت رأسها قليلًا لترسُم على الفـراغ مكنونيّةَ حسرةٍ تحوّرت بها بسمتُها للأسفـل، ربما لم يُكتَب لهما أن تتحقّق الأحـلام كما تُرغَب، أن تنكسِر عند أولى بوادِر التحقيق، وتسقطا في عرقلـة الطريق، لكنّ السقوط في الأحلام لا يعنِي النهوض دائمًا! لا يعنِي أنّنا دائمًا سنكُون أقوياء، نحنُ إنـاث، نخسَر مُهجةً حينَ نخسرُ حلمنا في جنينٍ تكوّن في رحمِنا وإن كـان بضعًا من أيام.
رفعَت رأسها بانفعـالٍ ما إن سمعَت صوت خطواته، وقفَت وهي ترسُم على ملامحها الجمودَ كي لا يلحظَ مشاعرها، تحرّك نحو البابِ وهو يلفُظ " مشينا " بهدوء ، نعم سيكُون هادئًا، لن يشعُر، لن يسمـع مضخّة الضحيجِ فيها، سيكُون هادئًا، لن يستشعِر الأنامـل التي التفّت حولَ حنجرتها وقبضتها، السنابِل التي نبتت في صدرِها من - غيظ -.
تحرّكت تتبعه بصمت، دون أن تقُول شيئًا ، ودون أن تُظهر لهُ العواصِف التي ألهبَت حواسّها في احتراق.
،
تسكُن على سريرها بملامِح شاحبـة، عينـاها تعانقانِ السقفَ الخاوِي من تعاويذِ الخطوطِ البارزة، كان صافٍ/فارغًا مثل قلبها الذي لم تكُن تعلم مافيه الآن، لم تكُن تعلمُ ما شعُورها في هذهِ اللحظـات وأذناها تستمعـان لصوتِ رنين هاتفها الموضوعِ على الكومدينة دون أن تبالِي به، يتكرّر ، وقد كانت تُدرك أنّ المتّصل هو فواز كونها رأت اسمه في أوّل مرةٍ اتّصل ولم تبـالي، وكان اتّصاله الآن يتكرّر بإصرارِه . . تدركُ أنّه الآن يشعُر بالذنب، لا دخـل له! ليس هو السبب، هو لم يكُن يعلم بأمـر حملها، ربّما لو أنها انصاعَت للرسائِل من قبل وأخبرته بكلماتٍ لما قال لها، كانت تريد أن تخبره بصوتها، وليتها تسابقَت معه على إخباره قبل أن يُخبرها هو! . . ابتسمَت بسخرية ، وتبقى جاهلـة! لا ، جيدٌ أنّه أخبـرها، فشاهين على ما يبدُو أخذته الفرحة بأخيه، ولم يبالي بها إطلاقًا ، جيدٌ أنه أخبرها، وليته أيضًا لم يُخبرها! . . أغمضَت عينيها وهذهِ المرّة غادرها الفراغُ لينقبضَ قلبها بآلامه، لا تدري ما الذي كان الأفضل، بالتأكيد لم يكُن فقدها للجنين!
ابتلعَت ريقها بصعوبة، ومن ثمّ حاولَت أن تجلُس بصعوبةٍ أشدّ، تريد أن تريحه الآن من عذابِ الضمير، تُدرك أنّه الآن يتقلّب على جمرِ الذنب ، لم يكُن أنت ، كـان هو، بل هُما معًا! لم يكُن الذنبُ ذنبك يا فواز بل ذنبهما الذي نُقِش على جبينهما وعلى أنانيّتهما! لا يهمّنِي سببُ الغيـاب، ولا السببُ الآخر لصمتِ شاهين! لا يهمّني أنه كـانَ فرِحًا، وأنّه الحيـاة التي لا يريد فقدها بعد أن عاد .. هه! قـال أنها حياةٌ وممات ، في عالمٍ آخر أكبَر منه ، هل ظنّ أن كلمـاتهِ مواساة؟ ألَم يُدرك فقط أنّه زرع فيها حقدًا أكبر تجاهما؟
مدّت يدها للهاتِف، ابتسمَت ابتسامةً ميّتة وهي تنظُر لاسمه، تنفّست بعمق، ومن ثمّ رفعَته لأذنها بعد أن ردّت وهي تهمسُ برقّة مُرهَقة : أهلين حبيبي.
سمعَت صوتَ تنهيدتِه العميقة، أغمـض عينيه من انفعالاتِ صدرِه ليلفظَ أخيرًا بخفوت : أسيل! * مرّر طرف لسانه على شفتيه ليردفَ بأسف * الحمدلله على سلامتك.
أسيل بابتسامةٍ حزينة : الله يسلمك.
فواز يفتحُ عينيهِ لينظُر للظـلامِ المُظلّل بأنوارِ المكان الصفراء والتي تُعتمُ شيئًا فشيئًا في مناطِق أُخَرْ، يجلسُ في إحدى المقاعِد العامّة في حديقةٍ مـا. تقدّم بجسدِه للأمامِ ليسندَ مرفقيهِ على ركبتيه، ومن ثمّ لفظَ بخفوتٍ متأسّي : ما عندِي شيء أقوله ... بس ، آسف.
أسيل بنبرةٍ تهتزّ، حاولت أن تكون ثابتـةً إلا أنها تداعَت على أنقاضِ مشاعرها وتحطّمت أكثر وهي تنطُق كلماتها بزيفٍ بارز : ما ألومك .. منت السبب بكل اللي صار، نيّتك كانت تخليني على برّ الوضوح ، عشان كذا ما ألومك.
فواز لا يدري ما يقُول، نبرتها كسرَت نظراتِه وجعلتها تنأى عن الثبات، توجّهت للأسفَل لينظُر لأقدامِه وهو يهمسُ بأسـى وقهرٍ من نفسِه : مخنوق ، ماني مصدّق إنّك أجهضتي بسببي أنا !!!
أسيل تعقدُ حاجبيها لتلفظَ بحدةٍ واهِنة : منت السبب ، محد كان السبب بكل اللي صار إلا شاهين . . . و ، * أردفت باختناق * و .. متعب !
صمتَ فواز للحظـةٍ وهو يقطّب جبينه، وكأنّ اسمـه حين جـاء أربكَه، لازال يربكهُ التفكِير بِه، سنواتٍ كان في عدادِ الموتى، والآن حضورُه في عدادِ الربّكة! في عدادِ الغرابـة والمعجزات ، لذا كان يرتبكُ كلّما فكّر بِه، والآن حينَ لُفِظَ اسمه.
سحبَ شفتهُ السُفلى لفمِه بصفِّ أسنانِه العلويّة، رفعَ عينيهِ للسماءِ السوداءِ ليتنهّد بعمق، ومن ثمّ أغمـضهما، ليهمِس أخيرًا بنبرةٍ متسائلةٍ بتردّد : وش اللي تفكرين فيه الحين؟
أسيل وقد فهمتهُ جيدًا، ابتسمَت بسخريةٍ من كلّ شيء، لم تتوقّع يومًا أن ينهضَ متعب للحيـاةِ ولا تفرح حتى! .. لم تفرح! في خضمِ كلّ ذلك ، لم تفرح ، هل مات من قلبها؟ أمْ أنّ حزنها على فقدِها، ومن قبـل على زيفِ ما عاشته لم يجعلها تفرح به!! لا تريد ، لا تريد أن تفـرح ، لا تريد أن تتخيّل للحظة، من بعدِ سنينَ بكَته فيها ، أنّه كان حيًا، ولم يهتمَّ لقلبها أو لهويّةِ أنها زوجته!!
ما الذي تفكّر بِه الآن؟ لا تفكّر بشيء ! انعقَد القـرار ، في اللحظـةِ ذاتها التي كانت فيها أمام شاهِين ... لم تعُد تريد شيء!!
همَست بنبرةٍ لا تُنبئ بشيء، تمنّت لو تقولها لهُ بكلّ شفافية، لكنّها فضّلت في البداية أن ترى أين سيصلُ القطـار من كلّ محطّاتِ الأسى! : ما أدري ، عقلي حاليًا مشوّش.
فواز يبتسمُ وهو يُعيد رأسه للخلفِ حتى أسندهُ على طرفِ المقعد، وبنبرةٍ خافتةٍ يكرّر : آسف ، آسف أسيلي !
أسيل بمداعبـة : اصص بس يوم إنك تعرف تعتذر روح لبنت عمّك ورجعها لك . .
عقدَ حاجبيه باحتدادٍ مفاجئ، كـاد يرفعُ صوتهُ بغضبٍ عليها، لكنّه في النهاية لفظَ من بينِ أسنانِه بكبت : أسيييل اعرفي وش تقولين مالي وجه أعصب عليك وأضايقك أكثر.
أسيل تُدرك أنّها في هذهِ اللحظـاتِ على كفّةٍ ترجحُ أمامه ولا يستطِيع أن يتعامـل معها بطبيعيّتِه نظرًا للذنبِ الذي يراه اقترفه في حقّها، لذا استغلّت هذهِ اللحظات وهي تلفظُ بمكر : عادي عندك لو تزوّجت من بعدَك؟
زمّ شفتيهِ ونظراته تشتعل، اعتدلَ في جلستِه، كـان قد صدَق مع نفسِه قبلًا وربّما أمامها حين رآها تتبّع والدَها الذي كان مع ذاك المدعوِّ بدر، لذا كان الآن يكذب، ليس على أحدٍ سوى أسيل : أكيد ، أنا وهي انتهينا تتوقعين يعني يومي طلّقتها ما فكّرت إنها بتتزوج؟ شيء بديهي.
ابتسمَت أسيل، كانت ابتسامتها تلك تتّسع، لم تُخطِئ أذناها في التقاطِ نبرتِه المكبوتةِ وكأنه كان يُخفي غضبه ويُلاشِي لمحة الكذب، لذا لفظَت باستهزاء : أجل يا رب يا رب إنّك تكتب لها بداية حياة جديدة بأقرب وقت مثل ما بدأت من جديد ... بعد ما يصير تجلس بلقب مطلّقة وقت طويل.
احمرّ وجهه بغضب، تمنّى لو أنها الآن أمامه ليخنقها!! كيف تتجرّأ على الدعوة عليه بهذهِ الطريقة!! نعم! لم تكُن دعوةً لجيهان، بل كانت دعوةً عليه هو .. أن يغـرق في بئرٍ من الاحتراقِ ليسَ لهُ قاع .. أن يسقُط من صراطِ الحياة إلى - جهنّم -!
لم يردّ على ما قالته، بل شدّ على أسنانه وهو يُشتّت أحداقه بتشوّشٍ حادٍ لما حوله، وبنبرةٍ كتمَ فيها الحدة : ما ودي أشغلك أكثر ، السموحة منك على اللي صار ... وبالنسبة لشاهين وأخوه بتفاهم معهم وأشوف وش وضعهم ، وأنتِ قرارك هو اللي بيصير ، طيب؟!
أسيل بحبٍ تبتسم : أكيد يا بعدي .. لا تضايق نفسك بالموضوع ترى والله مو شايفة إنّك السبب.
فواز بهدوء : مع السلامة ... * ليردف قبل إغلاقه * لا تحقدين على متعب ... كان مجبور.
تقلّصت حنحرتها، أسدلَت أجفانها دون أن تُغمض عينيها وهي تهزُّ رأسها بالنفيِ وكأنّه كان ليراها، أنهى الاتصـال لترمِي الهاتفَ جانبًا بشكلٍ مُباشر، ومن ثمّ تعود لتتمدّد على السرير، رافعـةً ذراعها لتغطّي بها عينيها ، وهي تُتمتمُ بشفتينِ شاحبتين : ماني عاذرته، ماله عذر ، وش الشيء اللي يجبره يتركني بهالشكل؟ شيء غير إنّي رخيصة بعيونه ! أيه، كنت رخيصة بعيونه وبعيون شاهين ... كلهم ، كلهم ما اهتموا لي !!
تنهّدت بحشرجة، لن تبكِي، لن تبكِي! لا يستحقّان ، لا شيء يستحقُّ أن تبكِي عليه، سوى فراغ رحمها ! . . عند تلك النقطةِ تحديدًا تقوّس فمها بألـم ، كادت تبكِي لكنّ البابَ الذي طُرق جعلها تتنحنحُ باختناقٍ ومن ثمّ تُزيج ذراعها عن عينيها وهي تلفُظ بنبرةٍ هادئة ظاهريًا : تفضلي يمّه.
فتِح الباب، حينها ابتسمَت تلقائيًا بعد أن أطلّت عليها ملامحُ ديما التي نظرَت لها بضيقٍ وأسف.
،
خرجَ من المنزلِ بعدَ وقتٍ قصيرٍ من صدامِه في الحديثِ مع امّه ، كان متعب قد اتّصل بِه يريد أن يلتقي به، خرَج وصعدَ سيّارته ومزاجـه اليومَ سيء، ساءَت أكثـر بعد لقائه بأسيل ومن ثمّ الحديثُ الأخير مع امه ، مُشتاقٌ لها، لكنّ شوقه هذا يعذّبه أكثـر ، آلمـه أكثر أن التقى بِها لتزجّ أمامه بالحديثِ السيء/بالدعواتِ على متعب! .. لم يكُن ليفرح أبدًا بهذا الحقدْ الذي يفتعـل الدعواتِ في حقّه ، لم يكُن ليفرح أنها لا تريده بحجمِ ما ضايقه أن تتمنّى له الموت! بعدَ أن عـاد ، كيفَ عساه يحتمـل فكرة موتِه من جديد! . . لا يلومها ، لا يستطِيع لومها وهي التي لا تعلـم ما الذي حدثَ بالضبطِ ليغيب ، لا يلومها حتى لو علِمت! ربّما جرحها منه كبير ، وأكمـل هو رشَّ الملحِ من فوقِه !
أوقفَ سيّارته في المكان الذي اتّفقا أن يلتقيا فيه، ابتسَم ابتسامة شاحبـةً ما إن رآهُ يتكّئُ على إحدى عوامِيد الإنارة، أوقفَ السيارةَ بجانِبه ، ومن ثمّ أنزل نافذته ليلفظَ بابتسامةٍ مازحـة : شكلك غلط .. مرة غلط ما أبي أقول وش تشبه بالضبط بتعتبرها استهزاء ومصخرة بحق هالفئة عشان كذا اركب السيارة وأنا ساكت.
متعب ينظُر لهُ بسخريةٍ وهو يلتفُّ حول السيارةِ ليفتحَ الباب المجاورَ لهُ ويلفظَ بتهكّم : وصلني الاستهزاء اللي تقصده، بس ما عليه احمد ربّك وبطّل هالاستهزاء الواطِي.
شاهين يحرّك السيارةَ وهو يقطّب جبينه بانزعاج : شفت؟ عرفت إنّك بتفهمها استهزاء ، خلاص آسفين سحبنا التشبيه.
متعب بهدوءٍ يغيّر دفّة الموضوع : شلونها أمّي؟
ارتبكَ شاهين قليلًا ما إن وصَل إليه سؤاله، مرّر طرفَ لسانه على شفتيه اللتين جفّفتهما الكلمات التي كان بِها يرجُو أمّه التفهّم دون أن تقتنـع بما يريد ، تأخّر بالردّ عليهِ ليوجّه متعب نظراتهُ نحوه باستنكارٍ في اللحظـةِ ذاتها التي هتفَ بها شاهين بنبرةٍ شاحبـة : طيبة.
متعب بريبة : وجهك وصوتك ما يقولون هالكلام! ... لا يكون صاير لها شيء !!!
قال جملته الأخيرة بذعرٍ ليبتسمَ شاهين وهو ينظُر ناحيتهُ لافظًا : بسم الله عليها لا تتفاول ... بس يعني زعلانة مني شوي.
متعب يبتسم بسخريةٍ واستخفاف : يمه يا الدلوع !!!
شاهِين الذي لم يكُن يريده أن يعلَم سبب " زعلها " ، رفـع حاجبه الأيسر وهو ينظُر لهُ بحدةٍ ليغرقَ متعب في ضحكةٍ وهو يُشيح وجهه عنه، لم يكُن ليخبره ، ولم يكُن ليُعلمه أيضًا بما حدَث اليوم ، أن أسيل أجهضت بعدَ أيامٍ قليلةٍ من معرفتها لحملها ... أنّه تضايق على فقدِه .. ولم يفرح بوجودِه كما ينبغِي أن يكون !
،
تجلسُ أمام الحاسُوب ، أصابعها تتنقّل بينَ منشورٍ وآخـر ، اشتـاقت لهذهِ الصفحـة التي لم تستطِع حتى الآن إغلاقها ، الصفحـة التي تزاحمَت بغزلٍ تجاوزَ المائة لسنينِ تواجدها .. ابتسمَت لتلك الذكريات .. منذُ المراهقـةِ وهي تخطّ الكلمـاتَ على أسطُرِ العشـق الذي انتهى ما إن بزغَ ضوءُ الحقيقة ،
" من بابِ الجمال ، ذا العينان البنّيتان "
ضحكَت دون شعور ، ومن ثمّ تمتمَت بابتسامة : يا ربي يا المُراهقـة! المشكلة ذي كتبتها ومالها حتى سنـة .. كانت أيام جميلة والله !
: وش الأيـام الجميلة هذي؟!
ارتبكَت ما إن سمعَت صوتَ أدهـم الذي دخـل الغـرفةَ وهو يتثاءب مُردفًا : يا ذا النوم مو طبيعي بس عشان إجازتي خلصت رجـع يخاويني حسبي الله ..
تحرّكت أصابعها باضطرابٍ تحاولُ أن تحذفَ الصفحـةَ وهي تنظُر لوجههِ بربكـة، وبنبرةٍ متوترةٍ تحاول أن لا تجعله ينتبه لها : أيه ... هذا طبعًا اللي نومه خفيف .. مثل ما تقول !!
لحظَ صوتها المُرتبك وكلماتها المتعثّرة ، حينها ركّز بنظراتِه عليها في اللحظـةِ نفسها التي حذفَت بها النافذةَ المفتوحـة على صفحتها في " الفيس بوك " ، رفـع حاجبه بارتيـاب، ومن ثمّ اقتربَ منها وهو يلفظُ بتساؤل : شفيك وش كنتِ تشوفين وخلاك مرتبكة كذا؟
إلين بغضب ، تحاول أن توضـح لهُ مقدار سوءِ ظنّه لكنّ غضبها الآن كـان وحدهُ فاضحًا لكونِها تُخفِي أمرًا ، انطبـق عليها " بغَت تكحّلها عمتها " : نعم !! .. وش بشوف يعني وش تقصد؟
أدهم هذهِ المرّة شكّ بدرجةٍ أكبـر من صوتها وكلمـاتِها وغضبها العنيفِ وكأنها تحاول أن تدافـع عن شيءٍ ما تُخفيه ، جلسَ بجانبها ليسرقَ الحاسُوب من حُجرها وهو يلفظُ بحزم : إذا ما تشوفين شيء غلط على قولتك فوريني أتأكد بنفسي.
إلين بذعر : أدهم جيب اللاب والله ما كنت أشوف شيء غلط ... جيبه وبلاش سوء الظن هذا.
أدهم دون اقتناعٍ فتحَ نافذةَ تصفّحٍ جديدةٍ ليتّجه للسجلّ مباشرةً وهو يلفُظ بحزم : ما تشوفين شيء غلط ومرتبكة كذا؟ طيب خليني أتأكد قبل لا تطيحين من عيني.
إلين بقهرٍ تبتلعُ ريقها : كلٍ يشوف الناس بعين طبعـه ... كنت فاتحة صفحة بالفيس ما كنت أشوف خرابيط مثل ما تظن ، شكلك أنت اللي متعود على هالخرابيط!.
ابتسمَ أدهم باستفزازٍ غاضِب : ما يمنـع أشوف هالصفحة وش فيها ! .. وإذا خرابيط على قولتك فأنا أعرف أتصرف معك صح ... بغنيك بالحلال عن الحرام أكيد.
فهمَت ما يرمِي إليه ، حينها احمرّت ملامحها بقهر ، اختنقَت وهي تراه يدخُل صفحتها المُمتلئة بخواطِر غزل لـ " ياسر " ، أرادَت في تلك اللحظـةِ أن تبكي ، وهي ترى عينيهِ تطوفُ على الكلمـات ، بينما الصفحـة التي ابتدأت بلقبٍ ما كـانت معلوماتِها تكفِي ، جامعتها، عُمرها، قسمها .. كلّها معلوماتٌ أخبرته ، أنها لها هي!
،
كـانت منبطِحةً على السرير، تدفُن وجهها في الوسادةِ الناعمـةِ التي خُضِّبت بأنفاسِها الحارّة، لفحةٌ من أنفاسِ الجحيمِ الذي يدنو إليها ويتناءى عنها ، صورةٌ من الصمتِ الذي أخرسَ الحديثَ المُشبـع بترهاتِ السعادةِ المُفرطـة .. تستشعرُ ملمـسًا هدبيًا على ذراعِها العاري ويطولُ ليصِل كتفها ومن ثمّ يعبُر إلى ظهرها .. ابتسمَت في لحظةٍ لم تُرِد فيها الابتسام ، وبخفوتٍ متضايق : قوزال فارقيني والله ماني رايقة لك.
ماءت القطّة لتعبُر من فوقِها هذهِ المرّةِ إلى الجهةِ الأخـرى، حينها ضحكَت لا تدرِي لمَ! ربّما لأنها أرادَت فقط أن تضحك! .. جلَست لتمدّ يدها إليها ومن ثمّ تدفُنها في حجرتها وتبدأ بمُداعبتها وهي تضحكُ مع تحرّكاتِها ، تمرّر أصابِعها بين شعيراتِها البيضاءِ الناعمـة ، هل تشتكِي إليها الآن؟ هذهِ المرّة عن التردّد، عن الخوف، عن رغبتها في الحديثِ لتجدَ نفسها في النهايةِ تبتلعُ الكلمـاتِ لا تقوى على قولِها ، تبتلعها ، لا تقوى على إثارتها بحرارةِ شفاهها فتتباعَد جزيئاتُ هذا الخوفِ وينتشرَ في الهواءِ - دخانًا لا رائحة له، لا وجود! .. هل تستطِيع قولها له؟ أن تعترفَ بسوءاتِها التي لم ترتضي خداعها بِه.
زمّت شفتيها ومن ثمّ تنهّدت بحشرجةِ أنفاسِها ، وبخفوتٍ مختنق : تمسّكه فيني قاعد يذبحني أكثر! .. شايفة شلون هو أبيض وأنا سيئة ! .. فوق كل شيء ما شاف إنّي معيوبة وما أستاهله!!
عضّت شفتها هذهِ المرّة بقوّةٍ وهي تغمِض عينيها، شعرت بالألـم يطوف عليها وهي تضغطُ بأسنانها وكأنها تفرّغ غضبها من نفسِها في قطعةٍ من جسدِها - القذر -!! .. ستخبره ، هذهِ المرّة يجبُ أن تخبره، لأجله هو ، وكي تضـع اعتبارًا له .. يجب عليها أن تتشجّع هذه المرّة وتخبره !!!
تنفّست بانفعـالٍ تحاول أن تصلبَ إرادتها الموبوءةِ بتردّدها ، ربّما خائفة، لكنّ الخوفَ لا يعنِي شيئًا ، ليسَ هو ما يمنعها من الحديثِ بحجمِ ما كان السبب الأول " ضخامـة ذنبها " الذي تشعّب في أشهـر ، لذا أن تتجاوزَ مرحلـة الصمتِ في أيامٍ لن يكون سهلًا !!
سمعَت صوتَ البـابِ يُفتـح ، انتفضَت بذعر ، رغمَ أنها كانت غالبًا ما تستمع لخطواتِه قبل حضورِه إلا أنها غفلَت عنها هذهِ المرّة بسبب خوضِها في تفكيرها - بِه، وبذنبها في المقام الأول ، ارتبكَت حنجرتها بينما ارتخَت أسنانها عن الضغطِ على شفتِها السُفلى ، نظَرت للأسفـل باضطراب، بينما كـان سلطـان ينظُر إليها بتمهّلٍ وقد قرّر أن يتأكد منها ، هو .. سعد ، نعم! كـان سعد الذي استغلّ موتَ إبراهيم ليرمِي التهمـة عليه! لا تفسيرَ لذلك ، غزل أخبرته بوضوحٍ أنّها قدْ أُمتنهَت تمامًا حينَ رأى مظهرها ، وحالتها النفسيّة تكفي للتأكيد! .. وإن كانت حالتها مرتبطـةٌ بوقوعِ مصيبتها في تواترِ وقتٍ لا يسمـح لها أن تستوعبَ فالأيـام كفيلـة ، لذا هو كاذِب .. يدرك هذا! وليتأكد أكثر سيحاول جعلها أن تخبره ملامِح أو جزءً من ملامِح من فعلها ، والذي سيكون سعد ، نعم ، ستتطابقً الأوصافُ معه.
اتّجـه للسرير ، لم يكُن يمتلك الصبر الكافي لينتظـر ، جلَس بجانِبها ، ومن ثمّ بهدوءٍ مدّ يدهُ ليحمـل القطّة من حُجرها ، لم يكُن بالعادةِ يُلامسها إطلاقًا ، لذا توتّرت وهي ترفعُ وجهها إليه وكأنّ غرابة ما فعـل جعلها تتوجّس ، أخفضَ جسدهُ ليضعَ القطّة أرضًا ، وتلك سارتْ مبتعدةً لتجولَ حيثُ تريد بينما ارتفعَ جسدُ سلطان لينظُر لغـزل بهدوءِ نظراتِه المتّزنـة . .
اضطربَت نظراتها ما إن وقعَت على عينيه اللتينِ حملتا أسئلةً ما ، أشاحَت وجهها بربكـة ، ومن ثمّ همسَت بنبرةٍ تهتزُّ بموجاتِها على جزيئاتِ الهواء : تبي تقول شيء !
ابتسمَ سلطـان ابتسامةً زائفة ، لم يكُن يريد أن يوتّرها أو يُخيفها أو حتى يعبثَ بنفسيّتها أكثر ! .. لذا مدّ يدهُ نحوها ليُمسكَ كفّها ويضغطَ عليها بمساندةٍ ما ، ارتفعَت أحداقها إليه باستغراب، في حينِ اتّسعت ابتسامته هذهِ المرة بصدقٍ وهو يلفُظ بحنان : بفتـح معك موضوع وبسألك سؤال .. أتمنى ما تنزعجين أو حتى تخترب نفسيتك ..
ابتلعَت ريقها بربكـة ، موضوعٌ وسؤال! ماذا تحديدًا! . . أومأت دون صوتٍ وهي تنظُر لملامحه الهادئـة والمسترخيـة لتشعر أنّها تسترخِي في المقابـل ، في حينِ لفظَ سلطان بجدّيةٍ رقيقة : بسألك عن هذيك الليلـة تحديدًا ...
لم تكُن تحتاج توضيحًا أكثر بـ " أيّ ليلة؟ " فعقلها أدرك مباشرةً أي ليلـةٍ من يومٍ قصَد ، أفرجَت شفتيها رغمًا عنها ، بهتت عسليّة عينيها وهي تُشتّتها عنه باضطراب ، في حينِ لحظَ سلطان اضطرابها ليشدّ على كفّها أكثر وهو يهمـس بحنان : لا تتوترين ولا تنفعلين ... بسألك الحين مو حاب أأجل زيادة ... اهدي!
كان أمرًا ناعمًا/حازمًا يجمـع كلّ التضادّات ، أمرهُ هذا جعل حلقها يتشنّج ، صوتُها ينطفئُ في حنجرتها ، إلا أنها أومأت أخيرًا وكأنها لم تعُد تجيد الكلام ، ليردفَ هو بعدَ صمتٍ قصير : أبي أعرف إذا للحين تتذكرين ملامح .... ملامح الشخص اللي تجرأ عليك يومتها.
اتّسعت عيناها بصدمـةٍ من سؤاله، تثبّتت أحداقها على عينيهِ مباشـرة دون اهتزازها ... ملامح!! .. بالتأكيد تتذكّرها ، تتذكّرها وإن كانت في تلك اللحظـةِ في وقتٍ لا يسمـح لها أن تستنسخَ ما كـان أمامها ، استطـاع أن ينغـرس في جدرانِ ذاكرتها من لمحـةٍ واحدةٍ ما إن دخـل للغرفـةِ وأفزعها بتواجُدِه العنيف ، لم تنساه! ولم تنسلخْ ملامحه عن عقلها . . ابتلعَت ريقها بربكـة ، لكن ، لمَ يسأل؟ لمَ يريد معرفـة ملامِحه !!
ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، ومن ثمّ همسَت بتساؤلٍ مضطرب : لـ .. ليه؟!
سلطان بنبرةٍ ثابتـة ، لم يُرِد إخبارها أنّه قد يكون وجَده ، بل بالتأكيد وجدَه ، نطق : اوصفيه إذا تتذكّرين شيء .. حاولي ، أكيد شيء بسيط .. لونه شيء يلفت النـظر بوجهه !
اللون ربّما يكفِي ! هذا ما فكّر بِه ، اللونُ إن قالت " أبيض " فهو سعد .. نعم ، هنـاك فوارقُ بينهما ، سعد يميلُ للبيـاض ، بينما إبراهيم أسمـر بدرجةٍ كافيـةٍ كي يُلمحَ من نظرةٍ عابـرة ، لذا كان اللون يكفيه !
شتّت غزل عينيها في زوايا الغرفـة بربكـة ، لمَ لا تستغلُّ الفرصـة الآن؟! ربّما هذهِ فرصةٌ جاءتها من الأقـدار، رسـالةٌ أن تستغلّ اللحظـة الآن ، أنّها إن لم تتحدّث في هذا الوقتِ تحديدًا فلن تستطِيع في آخر! .. ابتلعَت ريقها ، ومن ثمّ سحبَت كفّها عن يدِه ، نظَرت لمفرشِ السرير السكّريّ وهي تتمتمُ دون صوت ، نعم .. فرصتي ! فرصتـي !!
وضـع سلطـان كفّه على كتفِها وهو يلفظُ بحزم : غـزل .. بس اللون ، قولي وش كان لونه تحديدًا وهذا يكفيني.
رفعَت كفّها لتُزيحَ كفها عن كتِفها ، أدرات ظهرها إليه وهي تبتلعُ ريقها بصعوبةٍ مرارًا وتكرارًا ، اللون ... أسمر! .. كـان أسمـر ، وكان هنـاكَ صوتٌ آخر ، صوتٌ جـاءَ في لحظـاتِ موتٍ بطيء ، صوت الذي استلّه منها ، صوتٌ آخـر ... لم يكُن واحدًا ، يريدها أن تقول له لون مَن؟! .. لم يكُن واحدًا !!
أخفضَت ساقيها عن السرير إلى الأرض ، تشبّثت بطرفِه وهي تحاول أن تتشجّع ، ستقولها له ، نعم .. ستقولها الآن !!! .. حكّت شفتيها ببعضهما وهي تقفْ ، استدارت إليه بكامِل جسدها وهي تقبِضُ كفّها أسفـل صدرِها ، ابتلعَت ريقها من جديدٍ وكأن حنجرتها تتعمّد الجفافْ كي تستلقِي الكلمات فيها دون أن تستطِيع العبور ، كي تلتصـق الأحرف بِها ولا تتمكّن من دفعِها ! ..
رفعَت نظراتها نحوه ، أفرجَت شفتيها بتوتّر ، لتهمـس أخيرًا وهي تشعُر أنّ صوتها باهِت ، أن صوتها لا يساندها بقوّةِ نبرته، أنها لا تمتلك الثبات فيما تقول : كـان .. كان أسـ أسمـر ... وعلى خدّه ... جرح ... و ، و ...
صمتت وهي تتنفّس بقوّة، بينما اتّسعت عينا سلطـان بصدمـة ، أسمـر ! أسمرٌ وليسَ أبيض، لا ، هناك خطأ ، كيفَ تصِف الآن إبراهيم وهو متأكدٌ أنه سعد !! . . نهضَ من السريرِ ليدُور من حولِه ومن ثمّ يقتربُ منها بانفعـالٍ ليقفَ أمامها مباشـرة، ذعرت لتتراجـع للخلف، لكنّه ثبّتها من كتفيها وهو يحاول أن ينطق بهدوءٍ إلا أن صوته جاءَ حادًا : متأكدة؟ متأكدة أسمر وبخده جرح!!!
غزل تُغمـض عينيها بقوّةٍ وهي تهزُّ رأسها بالإيجاب ، نعم ، نعم كان أسمرًا ، بيما الآخر .. الآخر !! لم ترى ملامحـه !! . . فتحَت عينيها برعشـةِ شفتيها ، رفعَت وجهها إليه ، لتهمسَ أخيرًا بصوتٍ مرتعشٍ خائف : كان أسمـر ... الثاني .. الثاني ما شفته ، بس ، سمعت صوته !
سلطان وعيونه تتّسع دون استيعاب : الثاني !!!!!
بدأت أنفاسها تتسارع ، نعم ، استطاعت ، استطاعت أن تخبرهُ بجزءٍ من الحقيقة، كـانا اثنين من دخـلا بيته ، ليس واحدًا ، ليسَ واحدًا!! .. استطاعَت أخيرًا أن تلفظَ بوادِر الاعتراف ، ستُكمـل ، نعم ، ستُكمـل وتقولها !!
شدّ سلطـان كفيه على كتفيها بانفعـال، لم يفهم كما يجِب ، كيفَ تقول اثنين ! لم يكونا اثنين ، لم تقُل لهُ ذلك سابقًا ، فكيفَ تقول أنّهما اثنينِ الآن !!! ... لفظَ بنبرةٍ مستنكرةٍ منفعلـة : شلون يعنِي اثنين!!
غزل بكفين ترتعشـانِ رفعَتهما لتضعهما على كفوفه ، شعرَت بالخطرِ من ملامستِه لها ، لذا حاولت أن تُزيح يديه عنها لتنزلقا تلقائيًا رغمَ أنه كان يشدُّ عليها ، وكأنه في تلك اللحظـة كان منفعلًا فلم ينتبـه لشيء .. أخفضَت نظراتها للأسفل ، ومن ثمّ ابتلعَت ريقها للمرةِ التي لم تعلمْ كم كانت ، لتهمسَ بصوتِها الخافتِ والمرتعشِ ذاته ، بل كانا يزيدينِ حضورًا فيها! : اللي جوا كانوا اثنين ... مو .. مو واحِد ، في البداية دخـل الأسمـر ، بس جـاء واحد من بعده . . .
رفعَت عينيها إليه، اهتزّت أحداقها ، لم تشعُر بالدمـع الذي تكوّن في لحظـة ، لم تشعُر بسقوطِه السريعِ على خديها، لم تشعُر برعشـةِ شفاهها وصوتها ، وهي تكمـل بكلماتٍ جمّدت ملامحـه وجعلته واقفًا كالتمثـال أمامها دون حراك : جاء واحد من وراه ... ومنعه من اللي كان بيسويه فيني ... أ .. أنقذني .... منه . .
تراجَعت للخلفِ بعدَ أن قالتها ، رفعَت يدها اليُمنـى وجسدها يرتعـشُ بصورةٍ عنيفة ، مسحَت على خدّها الأيمـن بظاهِر كفّها ، هاهِي اعترفَت بجرمِها الأخير، هاهيَ اعترفَت بالحقيقة، هاهيَ اعترفَت بما كـان ، نعم .. استطاعت ، استطاعتْ أخيرًا أن تخبره ، لم يحدثْ لها شيء! ، لم يكُن أكثر من هجومٍ فشـل ، لم يكُن أكثـر من محاولةٍ لم تنصـع له ووقفً القدرُ في صفّها ليأتِي ذاك أخيرًا ويوقفه ، استطـاعت .. نعم .... استطاعت !!
مسحَت دموعها ، لكنّها كانت تسقُط أكثر بصمت ، رفعَت أحداقها تحاول أن ترى وجهه ، ولم تستطِع ، لم تستطِع ، كانت عيناها مظلّلتانِ بغيومٍ شفّافةٍ تكدّست على بعضِها حتى أصبحَت ذاتَ كثافةٍ تكفِي لأن تُلاشي صورته ، لم تستطِع أن ترى وجهه ، والذي كان في ذاك الوقتِ متجمدًا، لم يُظهـر شيئًا ، بل كـان صامتًا كجسمٍ مُصمَتٍ لا حراكَ له .. بينما أقدامـه ، ودون شعور ، كانت تقتربُ منها ببطء ، صوتُه لم ينصَع لصمتِ ملامحـه ، بل خرجَ إليها ، دون تعبيرٍ واضـح، جافًا ، صلبًا ، دون تعبيرٍ واضِح ! : شلون يعني؟!
صدرها كان يرتفـع بسرعةٍ مذهلـة ، استشعرَت اقترابَه منها ، لذ ارتدّت للخلفِ بتعثّرٍ وخوف ، نظرت جانبًا بالرغمِ من كونِها لم تكُن تستطِيع رؤيتهُ حتى ، تمسحُ دموعها فتعودُ للسقوطِ ونبرتها ترتفعُ بكلماتٍ ضحلة : يعني .. يعني ما صار لي شيء .. ما اغتصبني! ... يعني .... يعني كذبت !!
سلطـان بنبرةٍ قويّةٍ اشتدّت فجأةً بغضبٍ وهو يقتربُ منها أكثر : كذبتِ!!!!
تراجعت أكثر حتى اقتربَت من الجدار، وبخوفٍ أغمضَت عينيها لتنهمرَ دموعها أكثر وهي ترتجفُ بألم : أيه.
سلطـان بنبرةٍ خفتت ، بعينينِ التهمتهما نارٌ لم تراها : شلون !!!
التصَق ظهرها بالجدار ، في اللحظـةِ ذاتِها التي لفظَت فيها بألم : كذبت ... لأني أبي أظل قربك !
ارتفعَت كفوفه إليها ، ضغطّ على كتفيها بهما دون قوّةٍ كبيرةٍ لكنّها تأوهت وكأنها تشعُر بحرارةٍ تنسلُّ منه وتُشعرها بغضبـه ، تريد أن ترى وجهه ، لكنّ الوضوح تلاشى ، تريد أن ترى تعابيره ، لكنّها لم تقدِر ، لم تقدِر بينما لفظَ هوَ بتساؤلٍ خافتٍ يمتلئ بقسوةٍ لم تعهدها في صوتِه حتى حينما علِم بخداعها لهُ قبلًا : تظلين قربي بهالكذبة!! ... ليه؟ ليه كذبتِ بالضبط؟!
عضّت شفتها بقّوة ، يا الله ساعدني لقولها ، ساعدني لقولها ، يا الله ساند صوتِي ، مدّه بالثبات ، نعم أريد أن أقولها لهُ وأرتـاح من عذابِي الآن! .. عذابِي الذي أدرك أنه لن ينتهِي ، لن ينتهِي وكـان بذرة! حتى الآن كـان بذرةً لم تكبـر ولم تنضج ، عذابِي من قبلك يا سلطـان لم يكُن شيئًا وأدرك أن القادِم هو ثورةُ العذابِ أجمـع ، أريد أن أقولها ، وأرتـاح من بذرةِ العذاب! أريد قولها ، لأجدَ من هذهِ الدنيـا ثباتًا حتى وإن كانت الحقيقةُ تعني غضبه، وتعني وجعًا مزمنًا لا ينتهي ! .. تريد أن تنهِي هذهِ المرحلـة وتغلقها، لتبدأ بالمرحلـة الأخـرى .. عذابُ غضبِه !
ابتلعَت ريقها ، وجّهت أحداقها إلى ملامِحه ، وأريد أن أراك ، أراكَ الآن ، قبـل أن تدرك كلّ شيء ، أريد ان أرى وجهك أخيرًا .. قبل أن يذهبَ في فنـاءِ دمعـي .. كيفَ ثارَ علي البكـاءُ من جديدٍ واختارَ تظليلَ وجهك! .. كيفَ ثارَ علي ولم يقف بجانِبي ... كلّ شيءٍ ثـار معك ... سلطانِي! حتى مسمّاي معك ، سيثور ، وسأنسى منذ الآن ، أنّني كنتُ في يومٍ ما - غزالتــــك - !!
: لأني ... ما كنت بنت ... من قبل لا أتزوجك.
عندَ تلك النقطـة ، شعرَت بكفوفِه تشتدُّ بقوّةٍ على كتفيها ، شعرَت بعظامِها تكادُ أن تتحطّم .. لتشهقَ بقوّةٍ دون شعور ، دون شعور .... سوى بالألم !!
.
.
.
انــتــهــى
موعدنا نفسه إن شاء الله بيوم الأحد ببارت تعويضي عن بارت اليوم ، عاد إن شاء الله يعجبكم بما إنه منتظَر :$ طبعًا كنت كاتبة كلامي قبل البارت من قبل لا أشوف المطالبات بأدهم وإلين والزعل :$ فأضفتهم آخر شيء قبل التنزيل وعجزت أعدل كلامي فوق . .
+ جميلاتِي بالآسك أعتذر، من جات قُرب 5 وأنا مقفلة التنبيهات عشان ما تربكني ، قلت لكم ساعة بس تأخرت الضعفين ، السموحة جميلاتي :(
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|