كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات.
المدخل اقتباس من الجميلة سلطانة :$ ، بقلم " قيس عبدالمغني " + اللي مرسلين لي من زمان اقتباسات للأبطال ارجعوا ارسلوها لي خاص معظمها ضاعت مني وقبل كل بارت صرت أحتاس وأدور :(
،
أنا هنا
على يسارك وأنت ذاهبة لتقبيل رجل آخر لايحمل ندوباً على وجهه..
أنا هنا على يمينك وأنت ترتدين أبتسامتك التي أمتدحتها منذ قرون لعدة دقائق..
يمكنك أن تتوقفي عندي
يمكنك للحظات أن تقفي أمام قصيدتي الأخيرة كي تتفقدي من خلالها مسودة جمالك..
أنا هنا
في الجهة المقابلة للوردة التي ستتجاوزينها لأنها لاتعني لك شيئاً..
أنا هنا
بجوار الليل المستسلم لنعاسك
الراضخ لزجاجات عطرك وأحتفالات سريرك.
أنا هنا
على يسارك وأنت عائدة من خيبتك الجديدة
يمكنك أن تركني قلبك أمامي كي تستريحي قليلاً
أنا هنا
خلفك تماماً
بلا كبرياء أو مكابح
لذا
أياك أن تتوقفي
قد أرتطم بك
أو أدهسك
أو
ربما
أسوأ من ذلك
قد تجدينني أمامك .
(78)*3
يقلّب أوراقَ كتـاب ، يجلسُ في منتصفِ السريرِ كخواءٍ امتلأ بمكنونيّتِه الفارغـة ، يقرأ كلمتينِ فيجدهما فجأةً تغرقانِ في بياضِ الصفحاتِ وتتلاشى حروفهما ، يزفُر بضجرٍ وملل، ومن ثمّ يضـع الكتابَ جانبًا وينظُر للأعلـى بفراغ . . ملل! مللٌ يكادُ يقتله ، ما الذي تغيّر ليضيّق عليه فراغـه بهذا الشكل؟ منذ أوّل مرةٍ انتقـل بها عمله هنا واختار هو ذلك بمحضِ إرادته - هربًا - كـان يقضي لياليه دون هذا الملل، يجِد كتابًا فيونِس عليه خلوته، يحفظُ من القرآن ما يستطِيع ويجدُ أنّه يستطع! الآن باتَ لا يستطيع الحفظ ، تدخل آيةٌ لعقلـه وأخواتُها تقفن عند بابِ الحفظِ لا يقدرُ على استيعابهنّ فيتوقّف ، لم يعُد يجدُ في فراغهِ امتلاءً بكِتاب! ما الذي تغيّر؟ وقتها كـان يعيشُ خلوته ويملأها حتى قبل أن يتعرّف على فارِس أو أحدٌ ما يمضي الوقت معه ، والآن ماذا؟ هـل فكرةُ " الفراق " فعلت بِه كلّ هذا الخواء؟ كـان قبل سنةٍ ونصفَ تقريبًا يدرك أنّها لـه ، حتى قبل أن يتزوّجـا وبعدَ تلك الزيجـة بطريقتها الفوضويّة والتي عجّل بِها بقدرِ ما يستطِيع كي لا يحدثَ شيءٌ مـا ويوقفها ! يخشـى الأقدار ، يخشـى أن تأخذها منه عنوة ، استطـاع التعايشَ حتى في لحظـاتِ تشوّشـه بعد ابتعاده .. والآن ماذا؟ فكـرةُ الفراق القهريّ شلّت بعضَ تعايشه !!
زفـر بضجرٍ وهو يُميل برأسه قليلًا لتسقطَ على النافذةِ وأصواتٌ خفيفةٌ في سقوطِ مطرٍ يصطدمُ بزجاجيّةِ النافذَة ، ابتسـم دون تعبير ، هذا المطر ما يعنِي غيرَ الوقوفِ تحتَ مظلّةٍ من عنصرٍ مهترئ، - مُصنّع -، هل يرضيك أن نحتمي منك وأنت طبيعـةٌ بتصنيعٍ أجوف؟ هل يرضي هذا الحبّ الذي جـاءَ في غمضةِ إرادةٍ أن أحتمِي بِه بافتعـالِ " فُراق "؟ . . ابتسَم بسخرية، ومن ثمّ نهـض نحو النافذةِ التي تناءت عنها ستارتُها ، وقفَ أمامها ينظُر للأجواءِ الصباحيّةِ والسماءُ الملبّدةُ بشيءٍ من سوادِ الغيوم، أمالَ رأسه اخيرًا ، ومن ثمّ وضعّ جبينه على برودتها ، هامسًا بابتسامةٍ ميّتة : اللهم صيّبًا نافعًا .. ونسيان!
أليسَ هو من كـان يدعو لهذا الحبّ بالخلود؟ في خضمِ مطر، بينَ الأذانِ والاقامة، في ساعاتِ استجابـة، يدعو بملءِ الخشوع، فهل ستتضاربُ هذهِ الدعوةُ الباهتة مع أدعيتِه السابقة؟
عضّ زاويـةَ شفتِه وهو يزفـر ليتضبّب الزجاجُ بحرارةِ أنفاسِه في دائرةٍ عمياء، ابتعدَ ليتّجه لهاتِفه، يجبُ أن يترك التفكير فيما مضى ويفكّر بالأهم من كلّ هذا .. أسيل! .. كان قدْ قرّر أن يخبرها اليوم ، منذُ ساعاتٍ وهو يحاول أن يستعدّ ، سيمهّد لها الموضوع قبلًا ، نعم ، نعم !! لن يصدمها بِه ، يجب أن يمهّد لها قبل أن يقولها لها " متعب حي "!!
اتّصـل بها باضطراب، كيفَ لا يضطربُ إن كـان سيُخبر أنثى ضعيفةً بحقيقةٍ تكسـر الصخرَ الأبيّ؟ فكيف بها !!. . حكّ شفتيه ببعضهما ، جـاءهُ ردّها الناعم ، العاتِب : يا القاطع !!
ابتسـم ابتسامـةً باهتـة، يلومُ نفسه على الكثير ، على تباعده ، على نأيه ، لكنّه صدقًا أصبـح يحبّ أن يمكثَ وحيدًا قليلًا حتى يستقرّ بحياةٍ واضحـةٍ بعيدًا عن تخبّطاتِه .. ردّ عليها بخفوتٍ حنون : اشتقت لك!
أسيل بغنج : علينا؟!
فواز : قصدك إنّي كذاب؟
أسيل : مع مرتبة الشرف ، منت متّصل لله وراك شيء!
لم يستطِع أن يبتسم ، ابتسامةً صافيـةً بإيجابيّاتٍ بيضاء ، ابتسامـة أسى ، نعم ، لم يتّصل " لله " ، لم يتّصل لأنه اشتـاق، لأنه يريد أن يضحك وهو يخوضُ في الحديثِ معها ، لم يتّصل لشيءٍ زهريّ يجلبُ السعادة بل اتّصل ومن خلفِ فمه كلمـاتٌ رمادية ، لا يعلـم حقيقةً إن كـانت رماديّةً أم لا ! لا يدري هل هذا الأمـر يجلبُ الفرحَ أم لا! لربّما لو جـاءَ دون أن تكون أسيل مرتبطـةً بشاهين لفرح! لكنّ هذه المعمعـةَ تُهلكُ تفكيره ومشاعره . . . لفظَ بنبرةٍ باهتة : كنت بقولك شيء.
أسيل تضحك برقّة : شايف شلون أفهمك؟ حتى أنا بقولك شيء حلو .. بس بالأول قول وش عندك.
ماذا ستقول؟ بالتأكيد ليسَ أهم ممّا عنده ! .. لم يُبـالي وهو يعضُّ شفتـه وهذا الحمل " إخبارها " يشعر أنه يثقلُ كاهله ، في حين لفظَت أسيل مستنكرةً صمته : وشو؟
فواز بهدوءٍ يحاول أن يتدرّج في إخبارها : أسيل ... عرفتِي ليه شاهين تركك فجأة؟
شعرَ بارتباكِها الذي صمتت بِه للحظتينِ قبل أن تلفظَ بتوتّر : لا ... ليه تقولها وكأنّك تعرف؟
فواز : لأني أعرف.
هذهِ المرّةُ اضطربَت أنفاسها انفعالًا رغمَ أنها حاولت ان تخفي انفعالها ذا! ، لفظَت بنبرةٍ هجوميّةٍ وقهر : قوله .. يمكن يبرد قلبي وأعرف موقعي من الإعراب بكل هذا !!
فواز : بتتحملين اللي بقوله؟
ابتلعَت ريقها بربكـة، لم تحبّ نبرته تلك ، هتفَت بخفوتٍ وتوجّس : فواز وش فيه؟ شاهين فيه شيء تعبان أو شيء من هالكلام ؟!!!!
فواز : لا ..
أسيل : أجل !!!
أغمـض عينيه وهو يتنفّس بهدوءٍ كاذب، كان يحاول أن يكون هادئًا ، يحاول! وهو يخشى في لحظةِ انفعالٍ أن يصدمها صدمـةً تئدُها ، ابتلـع ريقه ، لن يرتبك ، لن ينفعـل، لن يقولها مضطربًا ولن يقولها بطريقةٍ تجعل الحقيقةَ قاسية/صادمة، سيقولها بهدوء .. لن ينفعل !! .. لفظْ ، وصوتُه وكلماتهُ التي اندفعَت قسرًا عاندت مآربـه ، حاول أن يقولها بهدوء ، أن يتحدّث برويـة ، أن يمهّد أكثر ، لكنّه أخيرًا قالها بصورةٍ طائشـة ، وكأن هذا الحمـل لم يعدْ يستطِيع أن يحملهُ ثانيةً أخرى ، قالها بصورةٍ منفعلة : شاهين تركك ... لأن ، لأنّ متعب ... طلع حي ... ماهو ميّت، ماهو ميّت يا أسيل!!
ما الذي فعله !! ليسَ هكذا ، ليسَ هكذا !! .. زمّ شفتهُ بقوّةٍ وهو يشدُّ على أجفانه ، ما الذي كان يقوله لنفسِه قبل أن يتّصل؟ سيمهّد للموضوع ، فماذا فعل؟! بينما هي لم تقُل شيئًا ، لم تقُل شيئًا وهي تعقدُ حاجبيها وكأنها لم تسمـع كما يجب ، لم تستوعبْ ما قـال أو ربّما " متعب وحي " لا يتوافقانِ في الحديث ، لذا أمالتْ رأسها وملامحها تشحبْ وقد فقدَت التركيزَ لوهلـة !
في حينِ تنهّد فوازْ ، حسنًا لقد قالها وانتهـى الامـر ، قالها ووصلَت الكلمـاتُ بقوّتها إليها . . ارتبكَ من صمتِها ، وظنّ أنه صمتٌ افتعلتهُ الصدمـةُ فيها ، لذا ارتبكَ أكثر وخافَ عليها ، ليلفظَ أخيرًا بحنانٍ محاولًا تخفيفَ الحقيقةَ بثقلها : اسمعي حبيبتي ، أنا مثلك تفاجأت بس هذي إرادة الله .. هو فعلًا حي ما مات .. كان هالسنين عايش برى بروحه ومضطر لهالشيء، فهذا .. فهذا السبب اللي خلّى شاهين يتركك وبدون ما يعلمك ، مو تقليل منك بس غصب عني قاعد أعذره ، أنا عجزت أستوعب هالفكرة فشلون هو ومتعب أخوه؟! فوق كذا .. فوق كذا متزوجك وهو حي!! . . . * أردف بتوتّرٍ من صمتِها * أسيل .. أسيل تسمعيني؟
من الجهةِ الأخـرى ، كانت لا تزل تنظُر بغرابـةٍ للصحنِ الذي قطّعت فيه التفاح الأخضـر، تعقدُ حاجبيها ، وتبهتُ نظراتها ، أصابعها كانت تتحرّك على إحدى قطـع التفاح بغرابـة ، ماذا يقول؟ لم تفهم ! لم تستطِع أن تفهم ، ماذا يقول الآن؟ ما دخـل اسم متعب في أن شاهين تركها فجأة؟ .. عادَ الاسم! عاد الاسمُ من جديد ... كيومِ أمرها أن تستعدَّ لتبتعد! كـان شاهين يتكلّم ، ويقصدُ بطلاسِمه متعب ! والآن فواز ، يقول شيئًا ما ويذكر اسم متعب ... يقول شيئًا ما !! ما كـان هو؟!
ابتلعَت ريقها ، ورجفـةٌ مرّت من أصابعها إلى كفيها رويدًا رويدًا وبتمهّل ، فغـرت فمها ، لتهمسَ ببهوتٍ وهي تبتسم ابتسامةً تهتزّ : وش كنت تقول؟!
زمّ شفتيه ، أدرك من سؤالها هذا أن غرابـة ما قاله لها جعلها تتشوّش وتتناساه بسرعة ، عضّ باطِن خدّه ، ومن ثمّ لفظَ بجدّية : أسيل ركزي معاي .. شوفي أنا ما كنت أبي أصدمك بالموضوع بس هو كان لازم يوصلك بطريقة راح تصدمك في النهاية ... مركزة؟
أسيل بتشوّشٍ وضياع : أنا معك .. بس وش كنت تقول بالضبط شفيه متعب الله يرحمه؟
مسحَ على وجههِ وأقدامهُ بدأت بالسيرِ جيئةً وذهابًا ، وبكلماتٍ يشدّد عليها : وين جالسة الحين أنتِ؟
أسيل تبتلعُ ريقها وهي تقبضُ كفّها المرتجفة محاولةً اسكانها، لمَ ترتجف؟ ما بالها؟!! . . شتّت عينيها باضطراب، ومن ثمّ همسَت ببهوتٍ وهي تتطلّع لخزائن المطبخِ بتشتت : في المطبخ.
فواز : أمي وينها؟
أسيل لا تدري ما يريد بأسئلته : نايمة.
فواز : متأكدة؟ قومي شوفي إذا صحت أو لا.
أسيل باستغراب ونبرتها بأت بالارتجاف : ليه؟
فواز الذي كان يريدها في ذلك الوقت أن تكون بجانِب أحد، لم تستوعبْ حتى الآن ما قالته، وحالة الركودِ والهدوءِ المضطربِ هذا جعله يخشى انفجارًا قريبًا ، لذا أراد أن تكون قريبةً من أحدٍ ما وليسَت بمفردها .. لفظَ بحزم : روحي بس شوفيها.
أسيل تنهضُ بتوتّرٍ لتخرجَ من المطبخ ، اتّجهت للدرجِ مباشرةً وهي تلفظُ باستنكار : ممكن تكون نايمة تبيني أزعجها؟
فواز : إذا نايمة صحّيها.
أسيل باستنكارٍ أكبر احتدّ صوتها وتغضّنت ملامحها : فواز وش فيه؟
فواز : مافيه شيء بس اطلعي لها الحين .. أبي أكلمها.
أسيل التي مازالت تُكمل سيرها : كلمها إذا صحت.
فواز بحدّة : أبي أكلمها الحين روحي لها وأنتِ ساكتة.
أمالت فمها باستغراب ، ماذا قال؟ قال متعب ماذا؟ وما علاقة متعب في ابتعادِ شاهين؟ .. لمَ .. لمَ مازالت ترتجف؟ بل لمَ تتضاعفُ هذهِ الرجفـة وتغتـال جسدها تنكيلًا !! . . شعَرت بقليلٍ من الدوارِ إلا أنها اكملتْ سيرها ، قلبها ينبـض بقوّةٍ لشيءٍ قـاله فواز وسمعته أذناها ، لكن ما الذي قاله ؟! هيَ سمعته ، لكن لم تعُد تدري ما هو !!! . . وقفَت أمام بابِ الغرفـة، كادت تضربُ البـاب إلا انها تراجعَت وفتحته مباشرةً بهدوء، خشيَت أن تكون نائمـةً وستزعجها ، بالرغمِ من أن فواز قال لها أن توقظها إلا أنها أيضًا لم تحبّ أن تزعجها !!
مرّرت نظراتها على الغـرفة لتبتسمَ وهي ترى أمّها جالسةً على السجادةِ بعد أن أنهت صلاةَ الضحـى ، شعرت بها من فتحها للبـابِ لتلتفِت وتبتسم ، لازالت تعيشُ نشوةَ السعادة من خبرِ حملها الذي تتمنّى أن يتغيّر بِه الكثير من نفسيتها، لذا أشرقت ملامحها ما إن رأتها ولفظَت : يا حلو هالصباح .. ادخلي حبيبتي ادخلي.
دخلَت أسيل بحرج، وبخفوت : صباح الخير يمّه ، معليش لو أزعجتك بس فواز يبي يحاكيك.
ام فواز بابتسامةِ لهفـة : لا والله أي ازعاج من وجهك او صوته؟! جيبيه جعلني فدا عيونه.
تقدّمت أسيل إليها وهي تلفظُ بامتعاضٍ منه : هاه هذاني عندها احمد ربك حصلتها صاحية .. شيلــ . .
فواز يقاطعها بهدوء : خليني بالأول أكمـل كلامي معك !
توقّفت أسيل وهي تمدُّ فمها : هاه وش تبي؟
فواز : أنتِ وش سمعتي من كلامي أول؟
أسيل بتشتّتٍ تلاشَى الاسترخاء عن ملامحها، مرّرت أحداقها بزاويا الغرفـة بضياعٍ وهي تلفظُ بغرابة : مدري!
فواز : عن مين كنّا نتكلم؟
أسيل باضطراب : عن .. عن شاهين !
نظرت لها ام فواز وهي تعقدُ حاجبيها بتوجّس، لم تنظُر لها أسيل بينما فواز يلفظُ بهدوء : ومين غيره؟!
أسيل تحاول أن تلملمَ في عقلها ما قاله ، تضاعفَت رعشتها وهي تلفُظ بنبرةٍ مهتزّة : م .. متعب.
فواز بتروّي : وش قلت لك عنه؟
أسيل نظرت لعيني امها التي كانت تنظُر لها مباشرة، بدأت شفاهها بالارتعاش ، بدأت أهدابها تخفقُ تشتّتًا .. وصوتها يلفظُ بضياع : مدري !
فواز يحاول أن تصِلها الحقيقة بصورةٍ مبسّطةٍ هذهِ المرّة ، دون انفعال، دون عجلة ، يحاول أن يقولها بشكلٍ أفضـل ، بشكلٍ أشدّ وضوحًا وأخفّ صدمة إلا أنه كان يدرك بأن صدمتها ستكون عنيفة : قلتلك .. متعب مو ميت ! متعب يا روحي طلع عايش وكان مضطر يظلّ برى السعودية طول هالفترة بس هو رجع قبل وقت قصير ، وبسبب هالشيء تركك شاهين لأنك من الأساس ما كنتِ أرملة!!!
ابتلعَت ريقها ، وهذهِ المرّة، شعرت أن النبضاتِ تعالَت .. وضعَت كفّها على صدرها ، تضغطُ على قلبِها علّه يهدأ ، .. هذهِ المرّة ، استعادَت كلماته الاولى ، واستوعبَت ما قاله ! .. استوعبَت بعدَ الضمور ، استوعبت ما السبب الذي كان يجعلها ترتجف ، والآن أكثر !!
شعَرت بحنجرتها جافـة ، بعينيها تغيبانِ خلف الضبـاب ، تحرِّكُ أحداقها دونَ هُدى ، إلامَ تنظر؟ لا تدري ، كانت ترى فقط تشوّشًا من حولها، ماذا يعني " مو ميّت "؟ كيفَ يحدثُ ذلك؟ .. كيف !!!
أفرجَت شفاهها، لم تعلَم الآن ما كان شعورها ، فقط ، كـانت تتوهُ بين غيومِ التشوّشِ والضيـاع ، حاولت أن تقول شيئًا ، ولا تدري جديًا ، كيفَ استطاعت !! : فــ .. فــواااز!! ...
تنفّست بانفعال ، ماذا؟ ماذا تريد أن تقول؟ الكلمـات تصلُ فمها وتُعلـن انتفاضـةً على الاستواء، لذا كانت تردفُ بتخبّطٍ رغمَ محاولتها أن تتّزن : شلون؟ .. وش ... أنت وش ، قاعد تقول؟!
أغمـض عينيه وتوقّفَ في مكانِه وهو يتنهّد بحسـرة ، استشعـر تخبّطها ، لكنّه كان مُطمئنًا بعض الشيء لتواجُدِ أمّه أمامها، لم يكُن يريد أن يقول لامه شيئًا في الحقيقة، أرادها أن تكون جاهلـةً بالصدمـة التي ستحلّ على أسيل حتى تستطِيع أن تتصرف! لم يُرِد أن يفاجئهما كلتاهما.
لفظَ بنبرةٍ هادئـةٍ والحمـل شعرَ أنه أزاحه، الآن سيستطِيع أن يتكلّم بوضوحٍ أكبـر دون أن ينفعـل : اهدي شوي حبيبتي ، لا تنفعلين طيب؟ .. ولا تفكرين بأي شيء أنتِ حاليًا اهدي واستوعبي الفكرة شوي شوي ، كل شيء ممكن .. مافيه شيء مستحيل حتى ضياع شخص لسنين ورجعته بعد موت !!
لم تدري في تلك اللحظـة أنّها كانت تهزُّ رأسها بالنفيِ وهي توسّع عينيها دون تصديق ، لم تدري في تلك اللحظـة أن مقلتيها كـانتا قد فتحَت أبوابهما لملحٍ مُذاب ، لم تدري في تلك اللحظـة ، ما مشاعرها !! .. سوى أنّ جسدها انتفض لتك الفكـرةِ وأقـامَ مظاهراتٍ على هذا الضيـاع ، كانت ترتجف ، رجفـةً أصبحَت واضحةً لعيني أمها التي ذعرت واندفعَت إليها ، كـانت شفاهها تثقُل ، ملامحها تذبُل ، كـان الشحوبُ يتضاعف ، وصواعقُ تصيب جسدها وتحرقها .. كانت في تلك اللحظـة توجّه أحداقها للأمـام بفراغ ! .. بينما صوتها مات ! ولم تستطِع أن تبعثـه من لحدِ الصدمة.
وقفَت ام فواز بصدمـةٍ بجانِبها وهي تسحبُ الهاتف الذي لا تدري كيفَ مازال حتى الآن في يدها ومثبّتًا على أذنها ، وضعَته مباشرةً على أذنها لتلفظَ بصوتٍ مرتفعٍ حاد : وش فيه وش قايل لها؟!!
فواز بنبرةٍ متفاجئة : يمه !!
ام فواز بغضب : وش قايل لأختك؟
فواز بذعرٍ شدّ على الهاتف : صار لها شيء؟
ام فواز : للحين ما صار !
تنهّد براحـة وهو يغمـض عينيه ، فتحهما بعدَ لحظتينِ ليردفَ بتوضيح : ما أقدر أقولك حاليًا بس أبيك الحين جنبها ، خليك معها لين تستوعب اللي قلته لها بعدين اتّصلي علي لو ما قالت لك بنفسها .. هالفترة خاصـةً كوني جنبها.
ام فواز بغضبٍ تكادُ تنفجـر وهي ترى أسيل التي كانت في وضعها ، تنظُر للفراغ، لازالت تهزُّ رأسها بشكلٍ أصبـح طفيفًا وعينيها ذرفتا الدمـع أخيرًا : لا بتتكلم الحين ... أنت مجنون عشان تقول شيء يصدمها بهالشكل ؟ أختك حامل يا فواز ما علّمتك هي والا شلون؟
فواز بصدمـة : حـــامل !!!
ام فواز بانفعـال : أيه حامل يا شاطر .. لو صار لها شيء فبيكون السبب . . .
لم تكدْ تُكمـل جملتها حتى انتبهَت لأسيل تضـع كفيها على بطنِها فجأة .. انتفضَت بذعرٍ واندفَعت إليها وهي تلفظُ بصوتٍ مذعور : بسم الله ، بسم الله شفيك تحسين بشيء ؟!
أسيل وعيناها تجحظان أكثر ، تكادُ محاجرها أن تلفظَ أحداقها وأنفاسها ترتفع بجنون : بطني .. بطني يمه آآآآآه ..
شهقَت بذعرٍ والهاتفُ فجأةً لم يعُد في يدِها ، لا تدري أين غاب، لم تهتم، ولم تستمِع في تلك اللحظـةِ لصوتِ فواز الذي كان يعلو مناديًا بقلقٍ وذعر .. أمسكَت كتفيها بخوفٍ وهي تهتفُ بصوتٍ تائهٍ متشتّت : وش تحسين فيه بالضبط .. وش ... آه يا ربي بشوف السواق ..
حاولت أن تبتعدَ عنها لكنّ أسيل كانت قدْ تشبّثت بها وهي تبكِي ، ألـم ، ألـمٌ لا يطـاق .. تشعر أنّ أحشاءها تتمزّق ، تشعر أنّ صوتها يرحلُ خلفَ نبرةِ البكـاءِ الذي اعتلى فجأةً بقوّة ، وضعَت رأسها على كتِفها وهي تتأوّه بعذاب ، كيفَ يكون ذلك؟ كيَ يكون حيًا؟ كيفَ يجلبون معجزةً - مستحيلة -؟! هل يمزح معها؟ .. لا ! لا .. ما هذا الجنون؟! .. يا الله كيفَ يحدثُ ذلك؟! وبكائي عليه سنين؟ اشتياقي؟ حبّي الذي مكثَ في صدري؟ .. كلّها ماذا كانت تعنِي؟!
ارتفعَت آهاتها الباكيةُ وهي تغرسُ أظافرها بقوّةٍ في جلدِ أمها ودون شعور ، كانت تشعُر بالألمِ ينتشـر في جسدِها ، أقدامها ثقلَت ، لم تعدْ تستطيع الوقوفَ وهي تصرخُ بعذاب وتشتّت ، تصرخُ بضيـاعٍ ما بينَ ما قيل ، وبين ألـم الجسدِ الآن : شلوووووون؟؟ آآآآه يمه بموووووت ... شلون يقول حي؟!!! شلوووون؟ .... بطنـي .. آآآه بطني . .
أغمضَت عينيها بقوّة وصرخـةٌ باسمها من بينِ شفتي أمها تسللت إلى أذنها ببطء ، تصاعَد الألـم حتى لم تكُن تشعر في تلك اللحظـةِ أنها ستحتمل أكثر ! ، وكـان ذلك ما كان فعلًا ! .. إذ غابَت في تلك اللحظـاتِ عن الشعورِ بعدَ الألـم الذي وأد بقيّة الوعيِ فيها ، ثقـل جسدها فجأة ، ولم تستطِع أمها في تلك الأثنـاءِ حملها لذا سقطَت جالسَةً على ركبتيها وأسيل معها ، هتفَت بجنونٍ وهي تهزّها : أسيــل!! أسيل بنتي تسمعيني ؟!!!
لم تجِد ردًا، حينها شهقَت وهي تتنفّس بقوةٍ وتشتّت ، حرّكت عينيها تبحثُ عن الهاتِف حتى تتّصل بالسائق وتخبره أن يجهّز السيارةَ لحينِ تُلبسها عباءتها وتتمكن من إيصالها للسيارة .. سقطَت أنظارها على الهاتف الذي كان يرمزُ للدقائق التي تحدّثت فيها أسيل مع فواز ، لم يكُن قد أغلق ! .. لم تهتمّ له وهي تمدُّ يدها لهُ وتنهي المكالمة! ومن ثمّ بدأت بانفعـالٍ تبحثُ عن رقمِ السائقِ لتتّصل به ، خمسُ رنّاتٍ لم يردّ فيها ، وكان انفعالها وخوفها في تلك الأثنـاءِ لا يتّسع للانتظـار ، تركت التفكير بِه كخيارٍ للانقاذ ، هي أصلًا لن تستطِيع حملها من الأعلى للأسفل بسهولة! لذا اتّجهت دون تفكيرٍ لتتّصل بشاهين ، لم يطُل الرنينُ لثلاثٍ حتى جاءها الردُّ بصورةٍ متردّدةٍ من شاهين الذي لفظَ بتوجّس : أهلين عمتـي ..
ام فواز بانفعـال : مافيه وقت للكـلام تعال بسرعة ..
انتفضَ شاهين واقفًا وعينيه تتّسعان بذعر : وش فيه وش صار؟
ام فواز بنبرةٍ متحسّرة : أسيل .. أسيل طاحت علي .. تعال تكفى ما أدري وش أسوي.
،
خرجَ من البيتِ مسرعًا، لم يفكّر بشيء، لم يهتمّ لشيءٍ في تلك الأثنـاء وكان قلبـه وحدهُ من أمـره في تلك اللحظـاتِ أن يُسيّر ولا يُخيّر ، صعَد سيّارته بعد أن أغلـق دون أن يهتمّ بالكثيرِ من التفاصيل، المهم أنّها في تلك اللحظـة لم تكُن بخير! وهذا يكفي كيْ يُثير في صدرِه كلّ معالِم الجفـاف، أن تَشّقق بهِ أرضُ جمودِه وتتناثرَ قناعاتهُ شظايا.
لم يستغرق أكثر من عشرِ دقائق إلا وهو يقفُ أمام المنزل، نزل وهو يتّصل بأم فواز لتردّ عليهِ مباشرةً ويلفظ : أنا عند البـاب.
ام فواز بصوتٍ ذاهب الأنفاس : جايتك.
وقفَ أمام البـاب وهو يسمعُ صوتَ خطواتِها المنفعلـةِ عبر الهاتف ، وبتساؤلٍ قلقٍ لفظ : ما صحت؟
ام فواز بحسرة : لا ، أساسًا ... * ابتلعَت ريقها قبل أن تردف * أساسًا قاعدة تنزف ! أخاف يكون اجهاض!
تجمّد في مكانه ، شعرَ بالألـم من تلك الفكـرة ، أن يخسـر تلك الروح التي كانت دليـل اجتماعهما تحتَ سقفٍ واحد ، الروح التي لم تُنفخ ولم يفرح بها بعد !! .. عضّ شفته ، حاول أن يصلبَ صوته وهو يلفظُ بتدارك : لا تهتمين لهالنقطة الحين ، المهم تكون بخير.
فتحَت البـابَ في تلك اللحظـةِ وهي تتنفّس بسرعة ، رأى دموعها التي كانت تغطّي ملامحها التي خطّت السنينُ فيها معالمـها ، أدخـل الهاتف في جيبِه بعد اغلاقِه ، ومن ثمّ تحرّك بعجلةٍ ودموعها أخافته أكثر : وينها؟
ام فواز التي كانت تعدّل طرحتها حول وجهه وقد ارتدَت عباءتها استعدادًا قبل وصوله ، تحرّكت قبلـه كي توصـله ، صعِد الدرجات .. هذهِ الخطوات ، كـانت كخطواتٍ قديمةٍ على نفسِ المكـان ، يومها صعَد لغـرفتها ، بعدَ " النوتيلا " التي جعلتها تُحرجُ منه ، وتهرب ! ... ابتسَم بحسرةٍ على تلك الأيـام التي كان يخوضها في شدٍّ وجذب ، لذيذ!! كان كلّ ذلك لذيذًا في عينيه ، كـان بالرغمِ من استفزازها لهُ يعشـقُ اللحظـاتَ السريعـةَ بينهما ، اللحظـات التي كانت من شدّةِ فتنتها على قلبِه تُسكـره حتى وهو غاضِب ، تسكرهُ وهو في كامِل قواه العقليّة . . تحرّك وهو يئدُ بسمتهُ بزمّه لشفتيه ، كيفَ ابتسم في تلك اللحظـةِ تحديدًا لذكرى " لم تكُن واللهِ عابرة "؟ كيفَ ينسى؟ وهو الذي كان في تلك الأيـام يسرقُ اللحظـاتِ بينهما من خزانـةِ جفافها وصدّها ، حتى استفزازها لهُ كان يحبّه ، كـان استفزازها لي دائمًا ما يتعلّق باسمك يا " متعب "! كيفَ تريدني الآن أن أتغاضـى وأُكمـل معها؟ تغاضيتُ سابقًا لأنّك ميت ، والآن !! ماذا عساي أفعـل وكيفَ تريد مني أن أتقبّلها زوجةً لي وأنت حي؟
وقفَ أمام ام فواز التي فتحَت بابَ غرفتها ودخلت ، دخـل من ورائها ، حينها وجَد أسيل قد حاولَت امها حملها حتى استطاعَت وضعها على السرير، عباءتها تغلّفها بفوضويـة ، وجهها شاحِب ... و ، ودماء !!
شعر بقلبِه يعتصـر ، لا يمكن أن يذهب! هو بخير .. نعم بخير !! . . العـالمَ من حولِه باتَ مغشيًّا بالظـلام ، لم يسمـع صوتَ امّ فواز وهي تحادثـه والغرفـة أصبحَت خاويـةً من كلّ شيءٍ عداهما ، اقتربَ بخطواتِه منها ، يستغرقُ في تأمّل ملامحها ، يا الله كم اشتاقها ! ، كم اشتـاق !!
كم كـان الوقتُ في تلك اللحظـاتِ قاسِي، لم يكُن يستطِيع أن ينظُر إليها بعدَ غياب ، أن يستشعِر وطء غيابها كيفَ يكون ، لم يكن يملك الوقت! لذا نسيَ مشاعره في تلك اللحظـة ، وحمـلها بخفّةٍ ومن ثمّ اتّجه للبـابِ وهو ينظُر لوجهها الغائب عنه ، لعينيها المتلحّفتينِ بأجفانها، لأهدابِها التي يشعر أنها تناقصَت كثافة! نعم ، حتى أهدابها يعرفُ كثافتها ... كم بكيتِ حبيبتي حتى أثقلتِ بصيلاتَ أهدابك فسقطَت واحدةً تلو الأخرى، كم بكيتِ؟!
انحنى بوجهه إليها ، لم يستطِع أن يمنـع نفسه في تلك اللحظـة ، من أن يودِع لعينِها اليُمنـى قبلةً من شفتينِ ألهبتهما الأشواق ، اشتاقَت بشرتها ، اشتاقَت عيونها ، اشتاقَت أن تلامِس دفئها ويغرقَ بين خلاياها ، قبّلها متناسيًا كلّ القرارات ، عينيكِ دستور حكمٍ أقمتِه وثرتُ كشعبٍ عليه .. هذا هو الحال فقط! . . . همسَ وصوتُ خطواتِ امها التي كـانت تسيرُ خلفهُ يصِل مسامعه ، بصوتٍ كـان سرًّا بينهما ، لم يسمعه سواهما : بكون بخير ، أنا متأكد بيزين حالك .. وأكون بخير !
،
رمـى الهاتفَ على السريرِ وهو يشدُّ على أسنانه ، ماذا فعل؟ يا الله ماذا فعـل؟ .. لمَ لم يخبروه حتى الآن أنها حامـل؟!! كان ليصمت! كـان ليصمت !!! . . عضّ شفتـه بغضبٍ وهو يرفـع وجهه للأعلـى ويهتفُ بعمق : يا رب احفظها .. يا رب احفظها !!
لن يغفر لنفسِه إن حدثَ لها شيءٌ أو لجنينها ، لن يغفر أبدًا .. يا الله ليته صمت أو تركها تقول ما كانت تريد قوله ، نعم ، بالتأكيد كانت تريد أن تخبره !!
مرّر أصابعه بين خصلات شعرِه بقهرٍ ومن ثمّ تحرّك بعد أن أخذَ هاتفه ، خـرج مباشرةً من الشقّةِ متناسيًا حبيباتِ المطر، كـان قبل أن يتجاوزَ بابَ المبنى يحاول أن يتّصل بهاتِف أمه وهاتفِ أسيل إلا أنهما لم تردّا عليه ، خرجَ لتلفحـهُ بعضُ القطراتِ الخفيفة ، لم يهتمّ للتي سقطَت على خدّه مباشـرةً ببرودتِها ، كان جامدًا ، لم يبـالي بانحدارِها إلى نهايةِ فكّه على بشرتِه التي يشعُر أنّها ضحلَت بالجفاف . .
شدّ علة قبضتِه المُمسكةِ بالهاتِف في جيبِه ، إلهي احفظها ، ما الذي فعله يا الله !!! . . زفـر ، ومن ثمّ أخرج الهاتف ليُعـيدَ الاتصـال بِأمّه ويجدَ منها عدمَ الرد ، أغمـض عينيهِ والقطراتُ توقّفت عن الهطول، ماذا الآن؟ سيظلّ حبيسَ هذا القلق والتخبّطِ حتى متى؟! . . هزّ رأسه بالنفي ، ستكون بخير ، نعم ستكون بخير .. ما باله قلقٌ هكذا؟ هي ربّما فقط ظلّت صامتـةً من الصدمـة ، لكنّ ما سمـعه قبل أن تُنهي أمّه الاتصال لم يكُن يقُول ذلك!!
قرّر أن يمرّر الوقتَ قليلًا ، لن يظلّ حبيسَ قلقه . . رفـع هاتفه ليتّصل بفارِس ، إن كان أصابها شيءٌ فأمه لن ترد الآن ، وإن كـان لم يصبها شيءٌ فأمه ستتّصل بعدَ قليلٍ لتصرخ في وجههِ بغضبٍ لأنّه تسببَ لها ببكاءٍ حادٍ أو صدمـة ، نعم ، سيحدثُ الأمـر الثاني ، لذا سيخرجُ مع فارسْ حتى يمرّ الوقتُ سريعًا ومن ثمّ تتّصل هي أو يتّصل هو !!
ردّ عليهِ فارس بعدَ لحظتينِ ليلفظ : يا صباح الخير.
فواز : أهلين ، وينك فيه؟
فارس : طالع أفطر ، شرايك تجي نفطر سوا ما بعد طلبت.
ابتسمَ فواز بضيق : احسبني معك ... أي مطعم؟
من جهةٍ أخـرى ، أنهى الاتصال ليوجّه نظراتهُ لجنان التي نظرت لهُ بانزعاجٍ وعتبٍ وهي تلفظ : ليه عزمته؟
فارس بمكر : وش فيها؟
جنان : فاااااارس!!
فارس : اشش لك فترة ما شفتيه المفروض تنبسطين.
كتّفت ذراعيها بغضب : منت صاحي ، لا تخليني الحين أتركك وأرجع البيت؟
فارس يضحك : افا افا !! والله ما قصدت شيء يعني ما فكرت برفضك قلت دام ما عندي غير زوجته وش فيها لو جلس معنا؟!
أمـالت فمها بضيق ، هل يجبُ أن تراه حتى حينَ تهربُ من التفكيرِ به !! .. صدّت بوجهها وهي تسندُ ذقنها على كفّها ، ومن ثمّ مرّت الدقائِقُ الطويلة قبل أن يدخُل فوازْ وهو ينظُر لهاتفـه منتظرًا اتصالًا من امّه بعد أن أرسل لها " طمنيني عن أسيل "! ، رفـع عينيهِ بشكلٍ تلقائيٍّ يبحثُ عن فارس ، وما إن رآه حتى صُدمَ من الجهـةِ الأخـرى وهو يرى معه جنـان ، لم يكدْ يفكّر بشيءٍ أو يتدارك نظراته تلك حتى سمـع صوتَ رنينِ هاتفِه ، تأهّبَت حواسـه له ، ومن ثمّ رفعـه .... أمّه !!!
،
خرجَت من غرفـةِ أمّها وهي تتنهّد وتمسـح على خدها بأسـى ، كانت قد نامت هذهِ المـرةَ دون هذيـان باسمـه .. يا الله ما الذي حصل تحديدًا؟ لا تكـادُ تصدّق ولا تريد التصديق ! لا تريد ذلك !! لا يمكـن أن يكون سعدْ فعلها ، ربّما سوء فهم .. نعم ، سوءُ فهم !! ربّما تشاجـر معه فقط وفقدَ الوعي وهو بدورِه ظنّه مات! لكن ماذا عن الدماء!! وماذا عن استدعائهِ بتهمةِ القتـل هذه! ، إلهي !! إلهـي اكتبْ لكلّ هذا الخلاص بسلام ، أنا أثق بأنه لم يفعلـها ، سعد لم يفعلها .. نعم !!
ازدردت ريقها بعبـرة ، يتراءى أمامها أن يحاكم بالقصاص! يُبتـر رأسـه ... لا ، لا !! .. سقطَت دموعها ، ودون شعورٍ بدأ صوتُها ينتحب ، يا الله لا تكتب ذلك! لا تكتبْ أنْ يرحـل بهذهِ الطـريقة ، يا الله فليخرج من كلّ ذلك سليمًا من أيّ ذنب !
وضعَت ظاهرَ كفّها على فمها ودموعها تتساقـطُ فتشقُّ خديها كمعبـرِ نهرٍ يمدُّ الشلالاتِ المالحـة ، كيفَ يختلطُ مسمّى الملوحـةِ مع مصطلـحِ " نهر "! كيفَ قد تتلاعبُ الأبجديّات مع الحقيقة وأنت حقيقةٌ بيضـاء ، كيفَ تُدنّس؟
سمعَت في تلك اللحظـةِ صوتَ البابِ يُطـرق، انتفضـت لتندفـع إليهِ بسرعةٍ وهي تشهقُ ببكاءٍ وتمسحُ دموعها، لفظَت برعشـةٍ من ورائه : مين؟
ليصلها في تلك اللحظـةِ صوتُ عمّها المُرهـق والغاضبِ في آن : أنا عمك.
ارتعشَت شفاهها وهي تفتحُ البـاب بسرعةٍ ليدخـل ، وما إن خطى خطوتينِ حتى استقبلته بسؤالٍ يفيضُ بحرارةِ آلامها : وش صار؟
نظر لها عمها بيأس : وش بيصير يعني؟
ابتلعَت ريقها بربكـة ، وبصوتٍ مرتجفٍ لفظَت : ما يسوّيها!!
وكأنّ الضغطَ الذي كان عليه منذ البارحـة ولّد انفجارًا حارقًا الآن ، انفرجَت شفاهه بصرخةٍ غاضبةٍ منفعلـة : إلا سوّاها .. سوّاها الحمـار وطيّح وجيهنا ..
تراجعَت للخلفِ وهي تضعُ كفّها على فمِها ورأسها يتحرّك بالنفي، عادَت دموعها تسقُط أكثر ، يا الله لا يمكن ! لا يمكن !! ماذا يعنِي هذا؟ أنّه انتهـى ، وأنّه سيرحل ، أنّها لن تراه من جديد ولم يعُد في حياتها من اسمه " سعد "؟ . . أردفَ عمّها بغضب ، رغمًا عنه خفتَ صوته بالرغمِ من كونِه لم يكُن يريد أن يُهدِّئه ، خفت بحسرةٍ وأسى : ما حاول ينفِي التهمـة بالعكس أكّد إنه قتله واعترف ان السلاح كان سكين ! هو نفسه اللي كان قرب الجثّة ، اعترفْ إنه هو حتى قبل لا يرفعون البصمات عنه .. وين وصل؟ وش اللي خلاه يقتلـه؟ ما قال شيء غير إنها لحظة غضب !! ... يا الله وش هالولد الحمار الله لا يردّه .. فضحنا الله لا يردّه !!
ضغطَت على فمِها أكثر وصوتُها يرتفـع ببكاءٍ مستوجـع .. كيفَ وصـل بنا الحـال إلى هنا؟ ما معنـى هذا الاختبارِ يا الله؟ أن أفقدَ أخـي ، بأقسى طريقةٍ ممكنة !! أفقدهُ وهو مدنّسٌ بذنب !! .. كيفَ فعلها؟ كيفَ يقوى نقيٌّ مثلـه على فعلها؟
يُتبــع ...
|