كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(78)*2
كـان ينظُر عبـر النافذةِ للشـارع وهو يبتسـم، راحـة ، راحـة ، وسعـادةٌ لا يسعهُ وصفها ، ماذا يعني أن نحزن؟ إن كان الفرح سيجيء بشكلٍ أشد؟ ماذا يعني أن تنطفئ في عيوننا أنوارُ موانئ ، وتتوهَ سفينتنا، متناسينَ أن ضوءَ الصبـاح أقوى ، وسيجيءُ لنا هُدى. ماذا يعنِي الوجـع؟ غير أنّه لا تعريفَ له، نكـرة، وكلمةٌ لا إعرابَ لها في قواعِد نحوِ الحيـاة التي لم تثبتْ يومًا على حـال، لكن كـان لنا أن نُثبِت في أنفسنا شيئًا، حينَ نؤمن بِه ونكفـر بالآخر.
ثبّت الستارَة وهو يتمتمُ بخفوتٍ وصوته بات " رايق " كما لم يكن قبلًا : خلّك .. اليوم خاطري أتأمل هالزحام بدون ما ينتقـل لصدري.
كـان سعيدًا، كمـا لم يكُن قبلًا ، الآن باتَ يعرفُ ما موضعه، باتَ يعلـم ما يُريد، باتَ يعلـمُ كيفَ يعيشُ بالضبـط، بعضُ العرقـلاتِ التي ما زالت قائمـةً ستنتهي قريبًا، وستنتهي بسلام، نعم بسلام ، يا الله يسر كلّ ما بقيَ أمامي كي أعيش! فقط أعيش .. لم أعد أطالبُ بالسعادة فقط أريد أن أعيش – معهم -.
مرّر لسانه على شفتيهِ واستدارَ نحو البـابِ ما إن سمـعه يُطـرق، تحرّكت أقدامـه وهو يبتسـم، هذهِ المرّة لم يعُد يتضايقُ إن جاء إليه، ربّما لأنه هذهِ المرّة ممتن! ممتنٌ له لأنه ساعـده في تبيّنِ الحقيقة وفي هذهِ الراحـة.
فتـح البـاب، لتُطـالعه عيني عبدالله ويبتسـم بهدوءٍ للسعادةِ التي يراها تعانـق عينيه، دخـل ليلقي السلام ومن ثمّ يُردف : من يومين وأنت مبسوط ... عساها دايمة.
متعب بابتسامةٍ يُغلـق الباب : وعليكم السلام ... الحمدلله ربنا كان كريم معي.
عبدالله يجلُس في المقعدِ الذي اعتادَ الجلوسَ عليه : شايف؟ لأنك بس تحكي للي حولك وللي تثق فيهم.
ضحكَ متعب وهو يتّكِئ بكتفيه على البـاب، نظـر لهُ عبدالله وهو يبتسم، لا يذكر أنه ضحك مرةً أمامه! أو ربما فعلها لكن ببهوتٍ عبـر سريعًا فلم يرسخ في ذاكرته! .. لفظَ متعب بابتسامةٍ وهو يكتّف ذراعيه : ترى ما كنت أثـق فيك!
عبدالله بعتبٍ خفيفٍ وهو يبتسمُ لابتسامته : أفا!
متعب بتشدِيد : كنت! .. الحين أنا ممتن لك .. وما أعرف شلون بالضبط بقدر أشرح لك وش كثر أنا شاكر لك!
عبدالله : لا تشكرنـي .. بس اوثق فيني لين ينتهي كل شيء .. لا تسأل متى ينتهي ولا تسأل عن التفاصيل .. بس ساعدني.
متعب يعقدُ حاجبيه وهو يلفظُ بجدّيةٍ وذراعيه يُخفضُهما عن صدرِه : أبشر بس بأيش بالضبط وأنا قايل لك كل شيء؟
عبدالله يقفُ بهدوء : أبيك تمشِي معي عشان نآخذ تفاصيل أكبـر منك ، الرقم القديم اللي كنت تتواصـل فيه مع سالم للحين معك؟
متعب باستغرابٍ يعقدُ حاجبيه : أي محفوظ بجوالي القديم بس ماقد فتحته من مدة طويلة ، حتى شريحتي اللي قبل مع إنّي أدري إن الخدمة أكيد انفصلت عنها بس محتفظ فيها.
ابتسمَ عبدالله : ليه ما رميتهم؟ خصوصًا الشريحة وأنت تدري ما راح تفيدك بشيء!
هزّ متعب كتفيه دون درايـة ، لا يدري ، نعم لا يدري .. هو فقط أراد أن يحتفـظ بها، أن يحظـى بشيءٍ كـان لهُ منذُ اللحظـة التي لا يعلـم أمدها لكنّها كانت معه هنا! شيءٌ عاشَ معه في الرياض، وعاشَ في ميونخ، وعاشَ في باريس! شيءٌ عاشَ معه تضاريسَ ثلاثـةِ بُلدان، بالرغمِ من كونِه كـان يخشى أن يفضحـه هاتفه بطريقةٍ أو أخـرى، لكنّه لم يحبّ أن يرميه.
اكتفـى بتلكَ الإجابـةِ الحركية " هزّ كتفِه " لتتّسـع ابتسامـةُ عبدالله وهو يتحرّك نحوه لافظًا : خلنا نمشـي ، معليش يمكن تنغثّ شوي وتضطر تعيد القصة من جديد عشان يتسجّل كلامك .. تحمّل الاجراءاتْ لين يخلص كل شيء.
فتـح متعب البـاب بترحيب، ربّما لو قال لهُ ذلك قبل أيـامٍ لغضِب وانفعـل، لكنّه الآن يرحّب بأيّ شيء في سبيلِ راحـته، لفظَ بهدوءٍ وهو يخرجُ برفقتـه : بس نخلص من كل هذا بفتح معك موضوع مهم.
عبدالله يعدُ حاجبيه بتساؤل : اللي هو؟!
متعب : بعدين أقولك ما أبـي أشغلك ...
أنهـى جملته في اللحظـةِ التي تصاعدَ فيها رنينُ هاتِفه، ابتسـم وهو يخرجه من جيبِه وكأنه كان يعرفُ من هو المتّصل، ألقـى نظرةً سريعةً على عبدالله الذي أمال فمه بشك، ومن ثمّ وجّه نظراته للشـاشه، ليرفضَ مكالمـة شاهين! . . عبدالله باستغراب : ماهو أخوك ذا؟
متعب وقد بدأ يطرقُ بأصابعهِ في كتابـةِ كلماتٍ سريعةٍ كي يرسلها إليه : إلا ..
عبدالله : ليه ما ترد؟
متعب يرسـل رسالته التي تضمّنت " ماني راد لين تفكّر بالموضوع كويس * يقصد موضوع طلاقه لأسيل * " ومن ثمّ يدخـل الهاتف في جيبه بهدوءٍ وينظُر ناحيـة عبدالله لافظًا ببساطة : ما أبي أرد عليه.
عبدالله دون تصديق : متهاوش معه وأنتوا مالكم كم يوم ملتقيين؟
كتـم بسمته : ما عليك خلافات عائلية.
هزّ رأسه بالنفيِ وهو يبتسـم : الله يجبـر على قلوبكم ..
،
كـانت تقف ، قبـل أن تستوعبَ ابنتها نصفَ الكلماتِ التي قيلت ، تقفُ بحدّةٍ والاستيعابُ بالتأكيد سيكون أسـرع لديها من تلك التي تعيشُ اختلاجاتِ عشقِها له . . نظـرت لها بنظراتٍ حادة ، ومن ثمّ شدّت قبضتيها ، وهي تلفظُ بصوتٍ محذّر : ما راح تحكين له شيء! يعني فوق ما ربّي ساترك رايحة تفضحين عمرك بنفسك؟
نظـرت لها غـزل بضيـاع، وكأنها حتى الآن لا تكـادُ تستوعبُ مقدارَ هذا الوجـع في صدرِها، هذا الوجـع لم يكُن كوجِعها بعبدِالعزيز، أبدًا لا يجيءُ وجعها السابق كالآن! ذلك الوجـع خلقه عبدالعزيزِ فيها، بينما هذا هي! ، هيَ من فعلته بنفسِها وهي من أوصلت نفسها للفقدِ القاتـل هذا ، عبدالعزيز هو من ظهـر أخيرًا بقنـاعِ الكذبِ وهو من خذلها، لكن سلطان لم يكُن يومًا يُجيدُ التمثيل وكان نقيًّا، كـان صادقًا ، لذا وجعها بفقدِه لن تكون الدواوين كافيةً لشرحـه، لن تكون الأبجديّاتِ كافيةً لتترجمه.
نظـرت لأمّها بتيهٍ وهي تراها تبتعدُ عنها خـارجـة ، ربّما عقلها لم يكُن قد استوعبَ كما يجبُ أنّ الخادمـة قصدت " سلطان "، لم تستوعب كما يلزمُ لينتفـض قلبها في انقباضاتٍ تحمـل اسمه، بل كـان قد توّقف لثانيـة، ومن ثمّ عـاد ينبـض بصورةٍ طبيعيةٍ دلالـة اللا استيعاب.
خرجَت وهي تلفظُ بكلماتٍ محذّرة : لا تطلعين .. إذا استلزم الوضع بناديك أنا وتصرّين على قرار الطلاق! إذا مو عشانك عشانه هو ، بكلا الحالتين هو بيطلقك، بس طلاق وهو ما يدري عن شيء أفضـل من العكس واللي بيقهره وبس!
لم تردّ عليها ولم تُشِح بنظراتها عنها وهي تنظُر لها بتيه ، غابَت عن عينيها، بينما كانت غزل قد غرقَت في فكـرةٍ واحدةٍ استوعبتها بعدَ لحظـاتٍ لتشهقَ وهي تقفُ منتفضـة : جــاء!! .. مثل ما كنت متوقعة جاء !!
عضّت شفتها بربكةٍ وهي تتنفّس باضطرابٍ التحقَ بقلبها ، تحرّكت أقدامها نحوَ البـاب ، لكنّها عادَت وتراجعَت للخلفِ بتوتّر ، هل من الأفضل أن تترك امها تحادثه وحدها ولا تتدخل؟ هل هذا هو الصحيح؟ هل تذهبُ وهي لا تعلمُ ما الذي قد تفعله بالضبط وتخشى أن تستسلـم بعد أن تضعف؟!! .. لا لا ! إذا لم تصبح أقوى الآن وتصرّ على ما تريد فستضعفُ كلّيًا إن عـاد .. هل تخبره الآن بالحقيقة؟ أم .. أم تتبـع ما قالته أمّها!! .. ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ ومجيئه يُشعرها بالوجـع ، مُتمسّكٌ بها!! كيفَ أجرمت هكذا بحقه؟!
تحرّكت بحزنٍ مريرٍ للبـاب ، خرجَت بقدمين متوتّرتين ، وصـل إليها صوتُهما ، صوتُ أمّها ، ومن ثمّ صوتُه .. أغمضَت عينيها بعذاب ، كيفَ يعبُر صوتك ولا يستفزّ جوارحِي إليك؟ . . عضّت زاويـة شفتِها السُفلى، بينما مسامعها يُداعبها صوتُه الذي كـان جامدًا، لكنّها كانت تدرك من خلفِ ذاك الجمودِ غصبًا! : يعنِي طلعتِ بحياتها من جديد عشان تخربين بيتها؟!
ام غزل بثقةٍ وعلياء : تدري إنّ الحياة بينكم مستحيلة .. ما أتوقع رجّال بيرضى بهالعيشة ، فلا تمثّل هالشيء وتبتلي فيه بنتي!
صمتَ سلطان، بينما ملامحـه كانت تقسو، تقسو بشدّة ، عينيه تنطفئان أكثر مما كانت، بينما قبضتيه يشدّهما وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـة، أشبـه بفحيح الأفعـى : قالتها لك؟!
ام غزل تقفُ أمامه مباشرةً بثقةٍ عميـاء وبملامح صلبةٍ لم تهتز، لن تسمـح بالمزيد من الدمـار لها، إنْ كان أحمد فعلها وكذَب عليها منذ بادئ الأمـر أن سلطان قد علِم بكلّ شيءٍ وقرّر سترها لسنـةٍ مُقرّرًا إنهـاء حياتها لما لا تعلـم فهي لن تسمح بالمزيد، لن تسمح! ، لفظَت بنبرةٍ هجوميّةٍ حـادة : أي قالت لي كل شيء .. وعرفت إنّ مصيركم الطلاق ، والأفضـل يكون بأسرع وقت.
لم تتبدّل ملامحه عدا من ابتسامـةِ سخريةٍ تراءت في عيني غزل التي اتّكأت على إطـار البابِ وهي تنظُر لهما، تبتلع ريقها بصعوبة، وأحداقها تعبُر ملامحه بتمهّل، تدرُس مقدار غضبـه، تحاول قراءةَ الانفعـالاتِ التي تلاشَت من عينيه وسكنَت أسفلِ جلدِه، لم تجدْ سوى تلك الابتسامـةِ الصاخبةِ بحدّةِ المزاج، وربّما كان الآن يُخفي غضبه منها هي تحديدًا، فأمّها أفصحَت لهُ عن معرفتها بكلّ شيءٍ حتى الذي لا يعلمه!
زمّت شفتيها بارتبـاكٍ ما إن لفظَ بخفوتٍ أرعشَ جسدها : كلامِي معها هي .. بعدين بتفاهم معها على شغلة إنها قالت لك بكل شيء ... على أي أساس تثق فيك؟
انتفضَت ام غزل بغضبٍ لتلفظَ بعلوٍّ حاد : لا تدق بالحكي! .. أنا امها في النهاية!
سلطان بسخرية : ما أبي أقول كلمة تجرحك في النهاية أنتِ الكبيرة هنا ... وينها غزل؟
ام غزل بغضبٍ لم تستطِع أن تُلاشيه من صوتِها ، جملته التي تعنِي تقصيرها طيلة السنين استفزّتها، لذا كان صوتها حادًا وهي تلفظُ بتحدّي : قلتها أنا الكبيرة هنا وكلمتي اللي راح تمشي ، غزل ماراح تقابلك.
سلطان يرفعُ حاجبًا ببرود، تنهّد بقلّةِ صبرٍ بينما كانت غزل تتراجـع حتى لا يلحظـها وهي تتنفّس من بين شفتيها المنفرجتين توتّرًا ، أردفت ام غزل بجمود : معليش بس تفضّل ، انتهت الزيارة.
سلطان يُميل فمه بسخرية : زيارة؟
زمّت غزل شفتيها وحنجرتها تصدأ، باتت تذُوق مرارةً كالعلقم وأسلوب امها في الحديثِ معه لم يُعجبها .. لفظَ سُلطـان بهدوءٍ موضّح : أبيك تعرفين شيء واحد يا عمتِي ، جيتِي لهنا مالها علاقة بمصطلح زيارة أبدًا ، تدرين إنه من حقي أطالب بزوجتي اللي طلعت من بيتها بدون شوري تطلع الحين وتمشي معي ..
فتحَت ام غزل فمها تريد قولَ شيءٍ لكنّ سلطـان قاطعها بنبرةٍ حادةٍ ينظُر لها بعينينِ تلتمعان وعيدًا : سبق وقلتها لها ، أسلوب البزارين هذا ما ينفع! ممكن لو إنها ظلت ببيتها وحاولت معي بقتنع وممكن في النهاية أعطيها الطلاق ، كل شيء كان ممكن بس هالأسلوب بالذات ما أحبه ولا يمشي معي .. عشان كذا لو كان فيه نسبة 1% تحصل على الطلاق الحين صارت صفر! هي تبيها من الله عناد ولعب أطفال؟ لها هالشيء!
فغرت غزل فمها بصدمـة، كتمَت شهقـةَ اعتراضٍ خافتـةٍ وهي تتقدّم لتخرجَ من ملاذِها الذي يخفيها عنه ، لا يمكن ذلك، لن تسمح بأن يستمرّ الوضع بهذا الشكـل ، إن كان هنالك نسبةٌ ضئيلةٌ بالفعـل لتحصل على الطـلاق فيجب أن تكون الآن ، إن كان هناك نسبةٌ لردّ اعتبـارِه الذي استباحته دون أن يعلـم فسيكون الآن ، إن كـان وجعُ ابتعادِي قاسيًا فالأقسـى أن أكون قريبةً منك، تهديني من عواطِفك ما تستطِيع وأنا لا أستحق، إن كنتُ أحبّك يا سلطـان فأنا لن أرضى أن أكون لكَ بقايا لا تلتئم! أنا جُرح، شرخٌ عبـَرتْ من خلالِه قذارةٌ لن تُمحـى ، أنا انهزامٌ وأنت نصرٌ فكيفَ يرتقي ما هو أدنى لما هو خير؟ لا أستطِيع ، ولن أستطِيع يومًا أن أتسلّق سلّمك . . غصّت بالوجـعِ وخطواتُها أصبَحت بوضوحٍ خافتٍ لهمـا ، جعلتهما يستشعرانِ تواجُدها ليُدار رأسهما إليها مباشرة ، عضّت امها شفتها بغضبٍ ما إن رأتها، بينما ابتسمَ سلطـان بقسوةٍ وهو يكتّف ذراعيه إلى صدرِه ويلفظ بسخرية : شرّفتي يا هانم؟
تحشرجَ الأكسجين في حنجرتها دون أن يصِل إلى رئتيها، شتّت عينيها بربكةِ الكلماتِ التي تزاحمَت مع الهواءِ لتخرجَ خافتـةً رغمَ محاولتها أن تكون أكثـر ثقة : طلقنــي ..
سلطان بصبرٍ ضغطَ بسبّابته وإبهامه أعلى أنفه وهو يغمضُ عينيه ويتنهّد لافظًا : يا صبر أيوووووب !!!
غزل برجفـة : ماهي لعبة أطفـال مثل ما تقول ، أنت خيّرتني قبل وأنا ما اخترت الصح . .
سلطان يقاطعها بسخريةٍ وهو يفتح عينيه ناظرًا لها : اختبارات الثانوية لا رسبتي فيها تنعاد .. بس اختبارات الحياة لا ! تعرفين هالشيء وإلا؟ ضاعت فرصتك في الطلاق لما اخترتي عكسه يومتها ، لا تتلاعبين معي أكثر! مزاجـي اللي زان صدقيني قاعد يشين حاليًا أكثر وأكثر ... بطّلي هاللعب أفضل لك يا غزل!
ارتعشَت شفاهها لتتراجـع للخلفِ بربكة ، وباختناق : لو قلت لك أسبابي بتطلّق؟
اتّسعت عينا أمها بصدمـة ، هزّت رأسها بالنفيِ وهي تنظُر لعيني غزل التي نظرت نحوها نظرةً خاطفـةً ومن ثمّ أشاحتها ، بينما رمقها سلطـان دون مبالاة وصبره فعليًا يكادُ أن ينفد، في حينِ كانت غزل ترتعش ، رعشـةً لم تطَل صوتها ، كـان صدرها يشكِي دهاليـزَ انتمَت إلى صدرها، يشكِي هذا الظـلام الأبكـم الذي ما حادثها يومًا لتدرك من كلماتِه لمَ اختارها .. لم اختارها هي؟ لمَ كانت الخاسرةُ دومًا، المنهزمة دومًا، المستسلمة دومًا، الانتهاء! لمَ حملَت كل تلك المصطلحات التي تعنِي نفسها ، تعنِي أنها لم توجَد في الدنيا فائزةً بعينيه! لمَ حين جاءها كانت مزدحمةً بسواه، ولمَ تأخر؟ ككلّ مرةٍ تغوصُ في وحلِ هوانِها ، لمَ تأخرتَ عنّي يا سلطان ، لا ! لمَ تأخرتُ أنا عنكَ وكنتُ في الخلف ، كنتُ وراءك بأميـال ، كنتُ بعيدة ، بعيدة ، قذرةٌ ولا أستحقُ أن ألامـس ظهرك حتى!
أردفت ، بصوتٍ كـان صافيًا من رجفـةِ الانهزامِ بعكسِ أطرافها ، بصوتٍ لم يكُن مهتزًّا/كان فقط هو الخسارةُ بذاتها! الخسـارةُ الممتلئةُ بثقتِها في الوقوع : لأني ما أستاهلك .. ما تستاهل وحدة ما كان أول رجال بحياتها أنت !
،
" كلامك صاير قليل ، غريبة لا تكون للحين تعبان؟ "
ابتسمَ بوداعـةٍ وهو يقولها لعبدالله الذي كان جالسًا بعيدًا بعضَ الشيء، ابتسامتـه كانت مستفزّة ، لكنّ عبدالله ابتسم على مضضٍ وهو يردُّ بنبرةٍ باردة : سلامتك ، بس ما عندي شيء أقوله.
وقفَ ياسِر وهو يبتسم : أجل أنا بخليهم يحضرون قهوة من جديد وأنتوا دوروا سوالف ما حكيتوا مع بعض كثير من بعد الغداء.
خرجَ وأدهم يتابعه بعينيه، نظـر إلى عبدالله بعدَ خروجهِ ليبتسم من جديدٍ ابتسامةً بريئةً – أبعدُ ما تكونُ عن البراءة - وهو يهتف : غريبة ما سألتني عنها؟ كل مرة أقابلك تقعد تحذّرني وكأني وحش وبذبحها.
عبدالله ببرود : لأنك تدري إنّك لو فكرت مجرد تفكير تأذيها بقطّع لحمك وأرميه للكلاب ..
أدهم يكتم ضحكته : أفا أفا!
عبدالله بحزم : انثبـر ، واحترم نفسك معي ! أنا مضطر أتقبلك لأنك صرت زوجها وأنت بالمقابل مجبور ، مو بس مضطر .. مجبور تحترمني !
مطّ أدهم فمـه بضجرٍ وهو يتراجعُ بظهرهِ للخلفِ ويلفظَ بتهكّم : يقولون كثر الهواش دليل المحبة.
عبدالله بسخرية : الله لا يجيبه لي من حب .. هذا اللي ناقص !
أدهم باحباط : لااا تكفى إلا أنت أبي أحبك !
عبدالله بغضب : أدهم اعقــل وإلا والله ... * زفـر ليردف بصوتٍ هادئٍ ظاهريًا * ما عندك مشكلة لا جاك عيال بعدين يكونون بقلّة أدبك؟
كاد يبتسم لتلك الفكـرة " العيال " لكنّه كتم بسمته وهو يلفظُ بتهكّم : الحين أنت تبي تنصح تروح تغلط؟ امحق والله !
عبدالله : للأسف لا جيت بنصح بالمعروف ما أحصل فيك شيء يحمّس.
أدهم بضجرٍ يسندُ مرفقـه على ركبتِه ومن ثمّ خده على كفهِ ليلفظَ بملل : أكثر كلمة طلعت من راسي .. " قليل أدب " !
ابتسمَ عبدالله رغمًا عنه في لحظةٍ لم يكُن يريد فيها أن يبتسم ، رفـع حاجبه وهو يلفظ : دام أحد قايلها لك قبلي فانتبه لهالنقطة ترى ما أقولها كره لك!
أدهم : لا ترى اللي قايلينها ناس من وراك .. الله بس على التوريث ذا!
عبدالله دون فهم : مين تقصد؟
ابتسمَ أدهم دون أن يذكر لهُ الاسم ، حوّر الموضوع ليسأله بمزاجٍ هادئ : كيفك؟
عبدالله بسخريةٍ وذهول : الله بس !!
أدهم يضحك بخفوت : والله من جد ما عطيتني فرصة من أول تقز فيني وكأني مجرم! كل ما جيت بسألك أحس إن صوتي لا طلع بيرتد لي مثل السكين ويقطع راسي.
عبدالله يُميل فمه بهيئةٍ ساخرة : اوووه طلعت تخاف؟
أدهم بتحدي : ما انخلق اللي أخاف منه !
عبدالله ببرود : الحمدلله طيب.
أدهم يعتدل في جلستـه ، مدّ يدهُ ليتنــاول كأس الشاي ، ومن ثمّ ردّ بهدوء : عاد بهالسن بتكثر عليك الجلطات وممكن سكتات قلبية و . . .
صمتَ ولم يتابـع حين لحظَ اتّساع عيني عبدالله بصدمة ، شعر أنه قال شيئًا خاطئًا فتنحنحَ بحرجٍ وهو يضـع الكأس ويُردف : قصدي يعني لازم تنتبه لطبيعة أكلك ..
لم يستطِع الإكمـال من ضحكةِ عبدالله التي صخبَت في المكـان ، حاول أن يخفِي حرجه بعقدةِ حاجبيه، وبـ " نرفزة " لفظ : وش اللي يضحك إن شاء الله؟
عبدالله يصمتُ دون أن تبتعدَ عنه آثارُ ضحكتهِ في احمرارٍ طفيفٍ زحفَ إلى ملامحه ، ضيّق عينيهِ وهو يلفظُ بضحكة : لا الله يسلمك بس لا عاد تحاول تكسب أحد.
أدهم بانزعاجٍ أمـال فمه ، انزعجَ من حرجِه أمامه ومن ربكتِه لذا لفظَ بوقاحة : لا تصدّق عمرك محد يستاهل أحاول مجرد محاولـة أكسبه.
هزّ عبدالله رأسه بالنفيِ يأسًا منه وهو يهتفُ بسخرية : اهجد بس وامسك لسانك وهالشيء يكفي . .
زفـر ادهم بامتعاضٍ وهو يحمـل هاتفه من جانِبه ويتجاهلُ الحديثَ الباقِي معه متشاغلًا به، بينما ابتسم عبدالله .. حسنًا لا يملك سوى أن يتقبّله ، وضحكته اليوم وابتسامته معه تُثبت أنه بدأ فعلًا بذلك .. لا يُملك سوى تقبّله ومحاول تغييره إن لزمَ الأمـر.
من جهةٍ أخـرى ، عقدَت حاجبيها باستنكارٍ وهي تُخفِض هاتفها إلى جُحرها هاتفـةً بنصفِ ابتسامةٍ سارّة : الله! ومين سعيدة الحظ هذي؟
هديل بحيرةٍ وهي تبتسم : ممم باقي ما قرّرنا ، بس أتوقع ماراح يبعدُون عن بنات عماني ..
تصلّبت ملامح إلين فجأةً حين جالَ بخاطِرها " رانيا "، هل يُمكن أن تراها في يومٍ ما زوجةً لياسر؟ بالتأكيد لا تتمنى لها الشر، لكنّها في الـقابل تتمنّى لياسر من هي أفضل! مرّرت لسانها على شفتيها بضيق، ليسَت حقودة! ليست حقودة ، لكنّها لا تستطيع أن تحتمـل فكرةَ زواجها بالشخصِ الذي ظنّت بها سوءً معه!
لفظَت بنبرةٍ فاتـرةٍ حاولَت بها أن تبتسم : طيب خالك يوسف؟ أرجوان ماهي متزوجة وحتى جيهان تطلّقت حتى قبل لا يتم زواجها بولد خالك الثاني.
تقطبت ملامح هديل بضيق : تصدقين؟ كنت أتمنى لو يتزوج أرجوان أو حتى جيهان .. بس مدري جيهان مستحيلة ، ممكن أرجوان وبكلم امي وأبوي وحتى هو بنستشيره.
ابتسمَت إلين بصدق : أي طبعًا كلمته هي الأهم .. يا رب تكون أرجوان من نصيبه مافيه أحلى منها خَلقًا وخُلقًا بين قريباتك.
،
يكرّر الاتصـال مرارًا وتكرارًا وعقلـه يكادُ أن يُجن! منذُ ساعاتٍ وهو يحاول أن يتّصل بِه دون ردّ، في بادئ الأمـر كان يرد عليه بأن يُنهِي الرنينَ بملء أنامله! غضب، خصوصًا أنه أرسل لهُ توضيحًا شاغرًا باستفزازٍ كافٍ " ماني راد لين تفكّر بالموضوع كويس " ، أغضبته تلك العبارة ولم تجعله يتوقّف عن الاتصـالِ به ، لكنّه فيما بعد أصبـح يرنّ ويتوقّف دون إجابةٍ أو حتى بترِ رنين!! اضطربَ قليلًا ليرسلَ إليه رسالةً بلهجةٍ حادةٍ فوق الأسطرِ الزائلة " إذا كنت تشوف اتصالاتِي وما ترد يا ويلك! " لكنّه أيضًا لم يكُن يرد، ليرسل إليهِ أخيرًا بقلقٍ جرفـهُ مع أمواجِ الخشيـةِ دون قاربِ نجاة " طمّني أنت بخير؟ " .. لا يُمكن أن يكون أصابه شيء! يعلـم ويدرك جيدًا أن كلّ شيءٍ لم ينتهِي بعد، وأن متعب لم يخرج من دائرةِ الخطـر حتى الآن، لذا كان من الطبيعيّ أن يقلق الآن ، أن يخافَ من فكرةِ فقدِه من جديدٍ وهو الذي لم يظهَر سوى منذُ أيـامٍ قليلـة! لربّما لازال جزءٌ من عقلـه يفكّر أنه يحيا بعضًا من الأحـلامِ حدّ أنه في لحظـاتٍ ما ينظُر إليهِ مطوّلًا دون تصديق ، لذا ففكرةُ أن ينهضَ ويكتشفَ أنه في حلم، فكرةَ أن يُصيبه شيء! حريٌّ بها أن تُصيبه بالجنون !!!
مرّر لسانه على شفتيه بتوتّرٍ وهو يعُودُ ليتّصل به، يجلِس في الصالـة بعدَ أن مرّت ساعاتٌ على غداءٍ باردٍ برفقـةِ أمه التي اعتصَمت هذهِ المرّة الغضب، لم تكُن تنظُر إليه وكأنها كانت تعلّق بقيّة أمالِها في الرضا بعد أن يسمع بخبَرِ حمـلها، فكان ردّه صادمًا جدًا لها، ردّه الذي كـان بعيدًا جدًا عمّا توقعته.
لم يجِد ردًّا، حينها وضعَ كفيه على رأسه بعدَ أن ألقى الهاتفَ جانبًا ، هو بخير ، بخير ، نعم بخير .. يحاول الآن ألّا يلِج معمعـةَ التصدِيق بأنّه ليسَ بخير ، نعم ، لن يصدّق ظنونَه ويغرقَ في وجَعِ الموتِ من جديد .. نعم ، نعم !!! هو بخير ولم يمُت من جديد!!
من جهةٍ أخـرى ، عـادَ للفندِق بضجرٍ وإرهاقٍ بعضَ الشيء ، مكَث وقتًا وهو يسردُ تفاصِيل باتت مملّةً بعضَ الشيء وليسَت موجعةً وحسب! رمـى جسدهُ على السرير، وضـع ذراعـه على جبينه ومن ثمّ أغمـض عينيهِ بإرهـاق، يشعُر برغبـةٍ بالنومِ تتسلّل إلى عينيه، كـان قد سأل عبدالله عن الموضوعِ الذي يريد الانتهـاء منه سريعًا " أسيل " وجاءه الرد بأن ينتظـر قليلًا، سيحاول أن يتمّم كل شيءٍ بسرّيةٍ أو ينتظرا لبعض الوقت، لكنّه يريد الخيـار الأول، لا يريد أن يتأخر الموضوع فتتضاعفُ حساسيّته في نفسِ شاهين ، هو لن يُوضـح إن كان ما حصل يضايقه أو لا ، لا ينكر أنه متضايق! أنّه تمنـى أن يعود .. وكلّ شيءٍ كما هو! لكنْ الآن رغمًا عمّا تمنـى اختـار ماهو صحيح ، وما يريده الآن ! أمنياته القديمة خضعَت لليوم ، هو لا يريدُ شيئًا أكثـر من أمّه وأخيه ، لذا لن يبـالي بشيءٍ آخـر الآن وسيُضمـر مشاعرهُ وسينسى أنّه يومًا ما أحبّها !
في خضمِ تلك الأفكـارِ الصاخبـة، والذي شعـر بِها تُنشئ صريرًا حادًا في أذنيـه ... نام!
،
كم من الاستفزاز الذي تملكه الكلمـات؟ ربّما ما هو أكبر من الأفعـال حتى!، النبرةُ المتحكّمة بوتيرةِ الانفعـال، الشفاهُ حين تتحرّك وينأى عن متلقّي الكـلامِ الهدوء ... هذا ما حدث وهو يقتـرب منها وقد انفجـر بالشكلِ الكافي حتى يُصيبها بالرعبِ وتتراجع! .. لم يكُن يحتاجُ المزيد ، لم يكُن يكفيه هذا العنـاد حتى تستفزّ انفعالهُ أكثر بعد أن أصبـح هادئًا قبل أن يعلمَ بخروجها/هربها، ومن ثمّ يتحكّم بهدوءٍ زائفٍ وهو هنا! .. لكنْ كانت كلماتها الأخيرة الحدودَ التي تجاوزَ الهدوءُ بها أقصاه!
تراجعَت غزلْ بخوفٍ ما إن رأته يندفـع إليها، لم تكَد تلفظُ بشيءٍ ما حتى شعرَت بقبضتِه تشدُّ على معصمِها ليسحبها نحوه ومن ثمّ يلفظُ بغضبٍ ناريٍّ وعينينِ اشتعلتا كأتونٍ كافٍ ليحرقَ غابةً مخضرّةً ويحولها إلى رمادٍ أسود! : وش هالوضاعة؟ أنا كم مرة قايلها لك ... كم مرة قايلها يا غزل؟ بأي وقاحة قاعدة تستفزيني وتكررين هالموضوع الحقيييير!!!
فغَرت فمها بذهولٍ دون أن تفهـم ما يعنِي، كانت تريد أن توضّح أكثر، لكنّ الرعب عقدَ لسانها وهو يردفُ بغضب : مصرّة تقللين من نفسك قدامِي دايم؟ .. أنتِ أيش بالضبط؟ مثيرة للشفقـة ، فاشلة! ما تعرف قيمتها بهالعالم ، متوقفة عند نقطة وحدة ومطبّ واحد وللحين طايحة فيه وما رضيتي توقفين ! .. لأي حد وصلتِ من اليأس؟
حاولَت أن تسحَب معصمها ببهوتٍ وتبتعد ، تبتعد! قُربها منه بهذا الشكـل أرعبها بطريقةٍ أو أخـرى، صوتُه الحـاد والذي جعلها تدرك أيّ إدراكٍ جال في عقله كان يُصيبُ ظلالـها بالبهوت ، شعرَت باستقامتها تهترئ، وصوتها يتناقـص بل يتلاشى! .. حتى حينَ جاءت باعترافٍ كـان اعترافها مزدحمًا بالخلل! قالت " ما تستاهل وحدة ما كان أول رجال بحياتها أنت ! " لتجيء المعـاني متوقفـةً عند نقطةٍ واحدةٍ ككلّ التفسيرات ، عند تلك الليلـة ! تشعّبت كذبتها حتى في الحقيقةِ المحضـة ، يُحسِن ظنّه حتى الآن أو هي من تجرأت في الكذبِ حتى غُرسَت جذوره في تربـة الحقيقةِ والوقائع الصادقـة . . كيفَ تصرّ أن تقلّل من ذاتِها إن كـانت هي دونَ قيمةٍ من الأساس! يُؤلمنـي هذا الظن ، لم أكُن واللهِ مجبرةً على فقدِ عفّتي ، كنت أنا الخطأ! أنا من انسَاقت إلى ذاك الطريقِ الوعِر ، لم أكُن مجبرةً وأنا اخترت! قالها لـي ، قالها لي قبلًا بملء الصوتِ الذي يُرعشنـي كلّما تذكّرته وأشعر بسببِه باحتقارٍ أكبر لذاتِي " ، لا تتصنّعين العفة وأنتِ من جنبها "، وأنا من خسرَت نفسها بملء إرادتها ! لذا لا تُحسن الظنّ أكثـر ، لا تحسن الظنّ أكثـر لانّني منذ البداية كنتُ .. – دون قيمة -!!
هزّت رأسها بالنفي ، لمَ لا تقول شيئًا؟ لمَ لا تستطِيع أن توضِح له أكثر؟ لم لا تقول " فقدت نفسي قبل تلك الليلة ، كذبت عليك! " لمَ لا تقولها؟ .. فتحَت فمها بملءِ ما تستطِيع ، كيفَ تُنطَق الكلماتُ إن التوى اللسـان وخذلنا؟ لمَ تخذلني الآن حين تشجّعت؟ لمَ لا تبزغُ يا صوتِي من بؤرةِ الحقيقة؟ ألا أُجيد إلا الكذب؟ .. يا الله اجعلني أقولها! أريد أن أقولها! أريد أن أكره نفسي أكثر ويكرهني هو .. يا الله ساعدني! ساعدني على القول ، ساعدني على الاعتراف ، على الانهزام ، على خسارتِه يا الله .. ساعدنِي على نفادِ حياتي بسرعة !
لم تستطِع ، لم تستطِع .. حاولت أن تتكلّم ولم تستطِع ، تلاشَت الرؤيـة أمام عينيها ولم ترى في تلك اللحظـة ملامحه ولا ملامح امّها التي كانت قد وقفَت خلفهُ وهي تلفظُ بكلماتٍ ما غاضبـة ، لم ترى شيئًا ودموعها تسقُط بقهر ، تسقُط قهرًا على لحظةٍ كهذِه ، كلّ شيءٍ لا يسير كما تريد! لا يسير كما هو صحيح! .. تساقطَ دمعها ، شدّت قبضتيها بقوّةٍ وأحداها كانت معلّقةً في الهواءَ بسببِ يدِه التِي تقيّد معصمها ، اجتذبها سلطـان بهدوءٍ مفاجئٍ لتحطّ على صدرِه كحمامةٍ لم تجِد غصنًا يحملها وجاءَ هو ربيعًا مخضرّا انسدَل بأغصانِه ، أحاطَ خصرها بإحدى ذراعيه، ومن ثمّ رفـع كفّه الأخرى ليمسـح دموعها وهو يلفظُ بصوتٍ لا تعبيرَ فيه : جيبي عبايتك وامشي معي.
هزّت رأسها المدفون في صدرِه بالنفي ، لا تريد ، تريد ذلك ولا تريد ، .. شدّ على خصرها بحدةٍ وهو يكرّر بنرةٍ محذّرة : جيبي عبايتك وامشي معي.
لا لا لا .. هذا لا يصح! ذلك زائف ، أنا زيفٌ لم يرتقِي يومًا لحقيقتك ، لا يصحُّ أن نكون سويّةً ، لا يصـح .. أن تحتضنني الآن ، وتمسح دمعي .. وأنت غاضبٌ مني! لا يصحُّ أن أعيش تناقضاتِك برقّتها وخشونتها على هلاميّتي .. لا يصـح ، أنا زيفٌ وأنت حقيقة!!
حرّك كفه التي كانت تمسحُ دمعها ليُمسك رأسها من الخلفِ ويثبّته عن الهزّ بالنفي ، وبغضبٍ مكتومٍ يحاول ألا يُظهرهُ أكثـر : يكفي! اعتراض ثاني .. عناد ثاني ... ووالله ما بتشوفين مني شيء يرضيك! تراني قربت أوصل حدودي منك يا غزل ، وأتوقع ما ودك تشوفيني أتجاوز هالحدود !
ابتلعَت ريقها بألم ، وعـادت دموعها تسقُط من جديد ، وهي تهمسُ بصوتٍ يختنـق حين يرتطمُ بصدره أكثر مما هو مختنق : حرام شخص بنقاءك أكون أنا زوجته !!
ابتسـم بعصبيةٍ وهو يهمس : وام عيالي بإذن اللي جابك بحياتي !
تشنـج جسدها ، وفي لحظـةٍ خاطفـة ، كانت هذهِ المرّةَ تنفجـر ببكاءٍ متحشرج ، دفنَت وجهها في صدرهِ بقوّةٍ وكانها تُخبّئ وجهها الممرّغ بالذنبِ في ملجأ الكفاراتِ أجمـع ، هامسـةً باختناقٍ وألم : حــرااام ، حــرااام والله حـــــرام.
سلطـان يمسحُ على شعرها بهدوءٍ وهو يهمس بحزم : شششش .. لا تحرّمين اللي أحلّه الله .. الجمـال المُباح خصيصًا ما أرضى يُحرّم علي بيوم .. فلا تتجرأين وتقولينها !
غزل برجاءٍ تريده أن يصمت : سلطــان أرجوك !
سلطان بغضب : يكفي .. كم مرة لازم أفهم عقلك الغبي إنّي أنا اللي أبيك وأنا اللي متمسّك فيك فوق بزرنتك المزعجة هذي ! تراك قاعدة تزعجيني بس في سبيلك أصبر.
غزل برجاءٍ عميق : ما يصير .. والله ما يصير !
أبعدها عنه قليلًا ليثبّتها من كتفيها بكفيه ، وبحزم : يلا جيبي عبايتك وحيوانك المزعج مثلك وامشي قدامي.
هزّت رأسها بالنفي من جديدٍ وهي تغمـض عينيها برفضٍ وإصرار، لكنّه هذهِ المرّةَ صرخَ بغضبٍ وصبـرٍ نفد : امـــشـــي دام النفس عليك طيبة !!
ابتلعَت ريقها وهي تفتحُ عينيها ، ورغمًا عنها وجدَت نفسها تتراجـع للخلفِ وهي تشهقُ ببكـاء ، تشهقُ الخسـارة ، في كلا الحالتين ، في قربه وبعدِه ، لم يكتبْ لها أن تفوزَ بشطرِ قصيدةٍ غنّته في أبياتِها وكانت هيَ تسكُن الفراغ في المنتصفِ ما بينَ الشطرين!، لم يُكتب لها أن تحظـى برُبـع رغيفٍ وصل إليها من يدِه في خضمِ فقر الابتسامات ، كـانت تبتسم! لكنّ كلّ الابتساماتِ معه لم تتكوّن في غِنا، لم تتكوّن في تخمةٍ تغنيها عن بقايا ابتساماتٍ من بعدِه ، لم أكُن يومًا سوى منتصف! أنا خطأُ الامتزاج ، لم أُنصِف الأبيضَ والأسودَ في تجانسهما يومًا ، لم أكُن برماديّةٍ مستويةٍ وانسكَب الأسودُ في زواياي لذعـةً أكبـر ، أنا النهاياتُ يا سلطان لم أحظى يومًا ببدايةٍ مسرّة ، كيفَ لبشرٍ أن يُذيّلَ في قائمةِ السعادة؟ الجزء الذي لن يكون سعيدًا أبدًا رغـم التحاقِه بالاسم ذاك ! لأنّني بعيدة! بعيدةٌ جدًا انتهَت السعادةُ قبـل أن تقاسمنـي بقايا! .. لم أكُن يومًا اللون المعنيّ في التنسيق وانسكبتُ سهوًا، لم أكن يومًا النوتة المقصودةَ في السمفونيّة وانزلقتُ من أصابِع العازف " غلطة "، لم أكن يومًا البيتَ المُختار وانتفضتُ على الأطـلالِ اختلالًا .. أنا زيفٌ خُلـق من رحمِ التعاسة!
ابتعدَت ، بينما مرّر سلطـان نظرةً حادة ، كـانت مباشرةً تتّجه لامها التي كانت تراقبُ في زاويـةٍ بعيدة ، في زاويةِ حسرة!
يُتبــع . .
|