كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعـة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية ...
تأخيرْ إجباري والله :( ، انقطـع عندي النت فرحت أقضي الوقت بإضافة كم موقف وبدأت بالبارت اللي ورى ذا بعد :( :$ السموحة منكم ومن بنات الآسك - متأكدة بدخل الحين وألاقيه مشعلل - :p
.
كالعادة بنقول بالبارتز المهمة والمؤثرة " اقرأوا البارت حبّة حبّة " ، بيزعجكم اليوم شوي بسبب كم موقف بس امسكوا أعصابكم ولا تفجروني * الله يحفظني بس * :p
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ، وأحبكم وأحب لطفكم ()
بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(77)*1
كـانت ملامحهُ باردة في اللحظـاتِ التي تلقّى فيها تلك الكلمـة، في بادئ الأمـر برقَت عينـاه بالصدمة وحسب، وسرعان ما انطفأت تلك الصدمة ليحلّ محلها ظلامٌ نشأ من أفكـارهِ المُعتمـة .. بينما غصّ صوتُها بعد أن قالتها له، بعد أن قالت " طلّقني " بلكنةٍ لا تجدها في قاموسِ الأحيـاءَ وكأنّها تموتُ لتلك الفكرةِ حتى قبل حلولها، احتكّت حنجرتها بالصمتِ واشتعلتْ بخيبةٍ وتحشرجٍ جعلها تصمتُ ولا تقول شيئًا آخر، تنتظرُ كلمـةً من فمِه، إجابـةً بكلمةٍ واحدةٍ لتحلّ الفكرة أخيرًا وتبتعدَ عن نطاق التفكير، تنتظرُ صوته الذي قد يكون بعد لحظتين .. سيفًا يبتر رأس جسدِها المعلّقِ في سمائه! . . . زمّت شفتيها بألمٍ وهي تضغطُ بكفّها على صدرِها بقوّة، تشعر أنّ قلبها يكادُ أن يخرج مُمزّقًا مهترئًا لا يسعهُ سوى الجفاف، متهدّلًا بانسكابِ الحزنِ فيه !
استغـرق الصمتُ بينهما حتى ابتلعتْها الربكـة، لم تكُن تنظُر إليه، لكنّها في النهـايةِ أدارتْ وجهها نحوه ببطءٍ متوجّس، مستنكرةً هذا الصمتَ الجـارف، حتى أنّه لم يغيّر اتجاه السيارة للعودة!! . . . سقطَت أنظـارها على ملامِحه التي تُضيء بأنوارِ الشارِع الذي يمتدُّ أمامهما كما امتدّ الصمت للا معـرفة ! .. ارتعشَت شفـاهها وتعابيرُ ملامحه التي غاصت في " اللا تعبير " جعلتْ صوتها يرتعشُ بربكتِه وهي تهمس : رجّعنـي ..
لم يردّ أيضًا، يباغتها بالصمتِ الذي يُضاعِف ربكتها وألمها، يباغتها بهذا الجمودِ الذي أشعل وجهه فلم تفهم هل هو يحترق ، أم مترمّدٌ بصمتِه وحسب! ... كرّرت بإصرارٍ واهِن : رجعني سلطـان .. خلاص أنا ما عاد أبي أظل معك.
صوتُها كـان يعبُر إلى أذنـه، لكنّه كان يشوّشه داخليًا ويتجـاهل لملمةَ الكلمـاتِ والاستجابـة لها حتى " بَرَدْ "، تراجعَ ظهرها للخلفِ بجزعٍ وكفها اليُمنى ترتعش، أدركت أنّه يتجاهلها، هذا التجاهل الذي يعني الرفض! هل تستطِيع الآن أن ترتاحَ وتفرح أم تحزن أكثر؟ تقلق أكثر وتستاءُ من نفسها أضعاف ما كـان! هل رفضُه يُسعِدها؟ لا .. لمَ تشعُر بالألـم لفكرةِ أن تبتعد، وكذلك بالبقاء!! كلاهما مؤلمـان، كلاهما يجرحانِها بأطرافِهما المسنّنة، لمَ لا تجدُ راحـةً ما بينَ ذاك وذاك ... ما الذي تريده بالضبط؟ ما الذي تريده؟ لا شيء! .. تريد فقط أن تتلاشى، أو تعودَ بالزمـن، وتغيّر كلّ ما كـان لتبدأ معه .. من جديد ، تريده هو، لكنْ في زمانٍ آخر، وفي وضعٍ آخر، وبشخصيّةٍ أخـرى .. وكلّما توغّلت بإدراكها ذا، تؤمن أنّ اليـأس أكبر منها ، وأنّ لا شيء سيحدثُ كما تتمنّى ! مجرّد أمنيـاتٍ مشوّشة، تسحقني لا أكثـر كلّما أدركت استحالتها، كيفَ أمضي معك؟ وكيف أتركك، وكلا الخيارينِ موجِع.
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشدُّ على شفتها السُفلى بأسنانها، طـال الصمت حتى أنها تكـاد تسمعُ احتكـاك الإطاراتِ المتناورِ بالسّكةِ الخشنـة، هذهِ الخشونةُ لا تحتكُّ بإطاراتٍ سوداءَ معبّأةً بالهواء، بل تحتكّ بجسدي الذي امتلأ بفراغِ الخيبـاتِ والحزن وحتى الجراحُ لم تكُن يومًا منفذًا لتنسكبَ منّي.
توقّفت السيـارة بعدَ وقتٍ طـال، اقشعرّ جسدها، تشعُر ببردٍ ما، جعلها تضمُّ ذراعيها حولها وهي تترك للرجفـةِ أن تحتلّ شفاهها وأهدابها، سمعَت صوتَ بابِه يُفتح بصمتِه ذاتِه، صمتِه الذي يُغرقها في الظـلامِ أكثر، لم تفتحْ عينيها وهي تسمعُ البـابَ يُغلق، ومن ثمّ مرّت ثوانٍ قصيرة حتى سمعَت طرقًا على نافذتها، فتحَت عينيها ومن ثمّ تراجعت للخلفِ باضطرابٍ وهي تنظُر لوجههِ الجامِد خلفَ زجاجِ النافذة، كـانت حركته تلك حتى ينبّهها ويجعلها تبتعد، ومن ثمّ يفتح البـاب دون أن يتخلّى عن ملامِح صمتِه.
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تتراجـع للخلف، تنظُر لملامِحه بربكةٍ وهو يُشير لها بعينيهِ أن تنزل، حرّكت رأسها بالنفيِ بشكل فارغ، لا تدري ما الذي تفعله الآن بعد أن طلبَت منه ذاك الطلب وتجاهلها وها هو يعيدها حيثُ يرى أنّها يجب أن تكون، لم يكُن طلبًا! بل كـان حديثًا أقربَ للأمـر.
سلطـان ودون أن تتبدّل تعاليمُ وجهه اقتربَ منها حتى أدخل جزءً من جسدِه للسيارَة، شهقَت وهي تتشبّث بأظافرها على المقعد، لكنّها لم تكُن شيئًا أمـام أمواجِ كفّه التي كانت أعتى، أمسك عضدها بلمسةٍ رقيقةٍ كلمستِه المعتادة، أجفلَت، وأنّ صدرها رغمًا عنها أنينًا وصلَ إلى أذنه وهو يجتذبها بقوّةٍ صغيرة، لم يكُن قاسيًا معها، كـان كلطفِه المعتاد، لطفِه الذي ينجحُ دائمًا، لم يكُن قاسيًا بل جذبها إلى الخروج رغمًا عنها بطاقةٍ يمتلكها ولا تستطِيع أن تهزمها . . . أحاطَ كتفيها بإحدى ذراعيه وهو يمدُّ يده الأخرى ليأخذ حقيبتها ومن ثمّ يغلق بابَ السيارة، تحرّك بها رغمًا عنها والسيـارةُ تضيءُ علامـةَ الوصدِ من جهاز التحكّم الذي عانقه بكفّ ذراعِه المحيطةِ بها ... لا تحتمل، لا تحتملُ أبدًا كلّ هذا، دائمًا ما يجعلها تتعلّق بِه أكثـر، يجعلها تعشقه أكثـر بأبسطِ تفاصيله الرجوليّة الخشنة ، والرقيقة في آن! رقّةً لا تناسبه إلا هو .. لا تناسب رجلّا سواه .. إلهي كيف أقدِر على تخيّل يومٍ ما أنهضُ فيهِ ولا أجده؟!!!
وقفَ أمـام البـابِ ليُخرِجَ باليدِ التي تُمسك حقيبتها المفتاحَ من جيبِه ويفتحه، يدرك أن سالِي في هذهِ اللحظـاتِ ستكون نائمةً وتغلق بابَ غرفتها حذرًا منذ ما حدثَ قبل بضعةِ أشهر، دخـل وهو يحاصـرها لتجدَ نفسها مقيّدةً بِه بطريقةٍ ما، انسلّت ذراعـه عن كتفِها فجأة، شعرَت ببردٍ صقيعيٍّ لتمرّها الرعشـة بسرعةٍ خاطفـة قبل أن تسمع صوتَ البـابِ يُغلَق، نظَرت للأرضِ وهي تتنفّس بتحشرج، بينما استدار سلطان بهدوءٍ بعد إغلاقه للبـاب، وأخيـرًا جاء صوته محمّلًا بنبرةٍ لا تُقرأ، جـاء بجملةٍ في صيغةِ سؤالٍ بارد : ممكن أفهم الحين المناسبـة ورى طلبك الوقح ذا؟!
ارتعشَت أهدابها لتخفقَ بأجفانها في صورةِ اضطراب، ضمّت كفيها لبعضهما البعض وهي تنظُر للأسفل، بينما وقفَ سلطـان بجانبها مباشرةً، قابلَ جانبها بصدرِه، وضـع الحقيبةَ ببرودٍ على الأرضِ وهو يردف بجمود : عطيني سبب مقنع ، أما أسلوب الأمر اللي من شوي ما يمشي معي ... ماني على كيفك !
تحرّكت أقدامها خطوتين مضطربتينِ لتبتعِد، بينما تابعها بعينينِ لا تفصحـان عن أيّ تعبير، مُكملًا بنبرةٍ حازمة : فصخي نقابك وواجهيني.
غزل وحلقها تشعر أنّه يلتوي ويتشنّج ليبقى على التوائه دون أن يستقيم، لفظَت بصوتٍ مرتعش : محنا بحرب.
سلطان ببرود : ومحنا بلعبـة تخضع لمزاجك!
غزل برعشـة شفتيها التي لم تَظهر من خلفِ نقابها : مزاجي؟
سلطان بجمود : كنتِ مختارة نكمّل مع بعـض .. والحين اخترتي العكس من وين ما أدري! بس لمجرّد إنك غيرتي رأيك بعد ما ساء لك الوضع!!
تراجعَت خطوةً أكثـر تُظهرُ ضعفها، بينما عينيها تلتمعـانِ بحزنٍ مريرٍ وهي تهمسُ بغصّة : من قبلها لما ساء الوضع عندك غيّرت الشروط والقواعد وكل شيء !
سلطـان ويفهم جيدًا ما تقصد، ردّ ببرودٍ حازم : قبل شهور كانت الشروط والقواعد على قولتك مبنيّة منك .. مو أنا اللي اخترتها عشان أمشي عليها وما أنقضها.
غزل بغصّة : تظل قواعد!
سلطـان بحدّةٍ يمنـع نفسه من الغضبِ تجاه موضوعٍ أمرها ألّا تكرره أمامه : هشّة! بعيوني صارت هشّة !! .. أي غباء أو طموح وقح اللي تؤمنين فيه بيخليك تظنين للحظة إنّي بتركك تعيشين على مزاجِك وأنتِ اخترتِ تلعبين بحسبتي ! إنّي بستمر على شروطك بعد ما عرفت أهدافك من هالزواج أصلًا !!
وصلتها الإجابـة، تلك الجملـة وحدها كانت تكفي لترى المستقبل عن كثب، وصلتها الإجابـة لتغرقَ في رعشـةٍ عنيفةٍ وهي تتراجـعُ بتعثّرٍ أمامه. كـانت أمّها صادقةً ولم تُخطئ، لن يسامح كما أنّه لن يتركها! لن يتركها أبدًا .. المشكلة ليست في أن يتركها أو لا، فهي تتمنّى بملء حياتِها أن تبقى قربه، لكنّ سلطـان .. وكما قالت أمّها، سيحتقرها كما فعـل قبلًا، سيؤذي مشاعرها بالتأكيد، وسينتقم لتلاعبها به !!
ظهر على عينيها هذهِ المرّة اليأس دون أمـل، قطعَها اليأس من أيّ فكرةِ أملٍ وسلطـان الآن يُجيبها على سؤالٍ لم تُلقِه عليه، " هل تسامحني لأنني خدعتك "؟ هل يسامح؟ بالتأكيد لا، قالها، قالها بكل وضوحٍ الآن وأخبرها بما كانت تخافـه . . . شعَرت بجسدِها يذبُل، بحنجرتها عادَت تئنُّ لتشعر أن التهاباتٍ حارقـةٍ غلّفت أنينها الموبوءَ بإجابته، كيفَ عسايَ الآن أستقيم وأنت أريتني مستقبلِي معك من بؤرةِ كلماتِك؟ كيفَ أخضـع لقولكَ الآن وأشعر أنّني أنتهي من جديد، لآلاف المرّات ها أنا أجرب الموت اليوم يا سلطـان، لآلافِ المرّات وعفويّتك بالردّ على شيءٍ مضـى جعل المستقبـل كلّه يغشوه الظـلام . .
عقدَ حاجبيهِ وهو يرى رعشتها الغريبـة، عينيها الظاهرتين لهُ عبر النقاب، يغلّفهما حزن، حزنٌ عميق، حزنٌ أعمـق من أيّ وقتٍ مضى وكأنها تفقدُ شخصًا ما ، شخصًا عزيزًا على قلبها أو أنّه - الحياة - لها، . . . تحرّكت أقدامه ليكسرَ الخطواتِ التي كانت بينهما، الخطواتِ التي اختلقتها قبل ثوانٍ وعادَت تخلقها بشهقةٍ مهتزّةٍ وهي تراهُ يقتربُ منها، لكنّه وأد بقيّة ابتعادها حين مدّ يدهُ بإصرارٍ ليجذبها إليهِ من عضدها وتصطدمَ بجسدِه، رفـع كفّه الأخرى لينزع نقابها بهدوء، ومن ثمّ ثبّت أنظاره على عينيها الناظرتينِ إليه بخسارةٍ ما، ليلفظَ بخفوتٍ متسائل : يعني أفهم الحين إن الوضع فعلًا صار سيء عندك عشان تطلبين الطلاق؟
لا يكاد يقتنـع، لن يقتنع أصلًا وهي التي كانت تشتكِي خوفها من أن ينبذها يومًا، فما الذي تغيّر حين كانت عند أمّها؟ ما الذي تغيّر وما الذي حدث؟!! ... أشـاحت وجهها عنه لا تريد أن تقابـل عينيهِ بعد أن أجاب على مخاوفها بما يخيفها، لا تريد النظر إليه لتفضـح بكاء قلبها النازف أمامه، لا تريده أن يرى خيبتها ويرى حزنها، لا تريده أن يدرك شيئًا من انتهائها !
سلطان يُمسك ذقنها كي يرغمها على النظـر إليه، نطق : تعرفين تتصرفين مثل الأطفـال بس لمّا يتعلق الموضوع بكلام بين اثنين عاقلين لا !
غزل وشفتيها المضطربتينِ تُضاعف من موقفها الضعيفِ أمامه : ما تصرّفت زي الأطفـال .. بس .. بس هذا . . هذا اللي أبيه !
سلطان : بالأول تعلمي شلون تقولينها وأنتِ واثقة من اللي تبينه.
فغـرت فمها بصدمة، لكنّها سرعانْ ما ابتلعت ريقها لتهمسَ بغصّة : تلعثمي ما يعني إني مو واثقة من اللي أبيه !
سلطان بجمود : بالنسبة لي لا.
غزل بحدةٍ ترفـع كفّها لتُمسك بمعصمِه، تحاول أن تجعله يتركُ ذقنها وهي تلفظُ بعدائيةٍ حادة : طلقنـي.
سلطان يشدُّ وجهها نحوهُ ومقاومتها لا تأتي بفائدة : عطيني سبب مقنع بالأول.
غزل بقهر : كذا خلاص أبي أتطلـق .. ما أبي أظل معك وبس !
سلطان يبتسم بسخرية : ما تتصرفين مثل الأطفـال أجل؟! . . . وش صار عند امّك؟ لا شكلي جد بحرّم تشوفينها.
لم تتوقّع أن يُباغتها بهذا السؤال، تفاجأت لتُصيبها تأتأةٌ جارفـة ومن ثم تصمُت بخيبةٍ واستياءٍ وهي تُشتّت عينيها في الزوايا المُظلمـة، اتّسعت ابتسامتـه الساخرة، قبل أن يلفظَ بوعيد : ناوية على نفسها هالأم، هالمرة قرّرت تخرب بيتك.
غزل تُوجّه أحداقها إليه بسرعةٍ ومن ثمّ تُبعدها عنه وهي تهمسُ بنبرةٍ متداعيـةٍ مهتزّة : ماهو بيتي.
سلطان بلذعةِ صوتِه يسخر من أسلوبها الضعيفِ في الحديث : بالله؟ طيب ممكن نعرف يكون بيت مين؟!!
غزل بحرج : بيتك.
سلطان بجمود : ومين تكون زوجتي؟
أخرسها هذهِ المرّة، وجدّت نفسها تقبضُ كفيها وهي تُخفضُ أنظـارها للأسفل، تسقُط أحداقها على أقدامـه بينما صوتُه الخافتُ يصلها بسخريةٍ تتفاقم : لو فيك شويّة إصرار مثل ما توضّحين لي أقل شيء قولي زوجة من بعدي ! بس منتِ متخيّلة هالشيء . . . لا تسكتين لأنّك قاعدة تثبتين لي إنّ طلب الطلاق ما جاء من اقتنـاع تام منك، فيه شيء مضطرّك له وأظن أعرفه.
غزل بنبرةٍ ميّتة : سؤالك ما كان له داعي.
سلطان : يواكب أسلوبك الطفولي، عشان كذا بس.
ابتلعّت ريقها، أسدلَت أجفانها ومقلتيها تغصّانِ في دمعٍ انفجـر، لم يغلّف صفيحةَ عينيها بعد، لم يفعل حتى الآن شيئًا سوى أنّه مسّ مقلتيها بحرارتِه التي تُذيبها، جمّدت أحداقها على نقطةٍ واحدة/أقدامـه التي تكـادُ تتلاشى في الظلام، كفّه التي تقبِض على ذقنها لم تكُن كافيةً سوى لتثبّت وجهها إليه بينما عينيها تزيغان للأسفـل .. حاولَت أن تنطقها الآن بثباتٍ رغمَ إدراكها أنّها لن تستطِيع، حاولت أن تكرّر العزمَ في إجابتها، لكنّ صوتها اختنـق، خانها ولم يُساندها : مالنا حياة مع بعض.
سلطان يُجاريها : مين يقوله؟
غزل ترفع عينيها هذهِ المرّةَ إليه لتبتسِم بحسرة : أنـا ... وكل الماضي.
سلطان : ما يهمني !
غزل بصوتٍ يغصُّ في الأسى أكثـر وهي تدرك أنّ فهمـه لحديثها يقتصـر على الأمور الواضحـة لعينيه، الماضي المنحصر في خداعها الأول له، ومن ثمّ الاغتصاب بظنّه : أنا يهمني ، ما أقـدر أتأقلم معه.
تركَ ذقنها أخيرًا، حرّرها أو ظنّت ذلك، لكنّها ما إن تراجعَت نصفَ خطوةٍ حتى شعرَت بذراعه تُحيطُ خصرها فجأة، شهقَت ما إن ألصقَ ظهرها بالجدارِ القريبِ منهما، بينما وضعَ كفّه على فمها يكتمُ شهقتها، وعينيه تُضيئـانِ بلمعـةٍ في الظـلامِ الواهي، يلفُظ بصوتٍ واثِق : ومين قال أبيك تتأقلمين معه؟
أمسكَت كفّه وحلقها يتشنّج، أخفضتها عن فمها بينما همسَ سلطـان بخفوتٍ موضّح : أبيك تتجاوزينه .. معي ... لأنّي هالمرة أنا اللي أبيك.
اتّسعَت عيناها بصدمـةٍ من كلمـاتِه، شعرَت بقلبها يتوقّف للحظـة، بينما لم يُمهلها خمسَ ثوانٍ حتى تستوعِبَ معنـى ما قال، قطـع سلسلـة أفكـارها التي لم تنعقِد بعد بقبلةٍ ناعمـةٍ لشفتيها، تفاقمَت الصدمـة فيها أكثر، وهذهِ المرّة قلبها عـاد لينبض، بقوّةٍ أشــد. شعرت بالأدرينالين يندفـع في جسدِها وهي تُحيطُ عنقه بكفيها، يستجيبُ له جسدها رغمًا عنها، رغمًا عن عقلها وعن قناعاتِها وعمّا تريد، في هذهِ اللحظـة انحلّت قليلًا عن قرارها، لتعيشَ قبلته التي جاءت من فقـر قبلاتِه وقحطها، تعيشها ، من حقّها أيضًا أن تنعـم بالقليل، بالقليـل فقط قبل أن تكسَب وثيقة الابتعـاد، من حقّي أن أعيش فيما بعدُ على القليلِ من الذكريـات، كأحاديثِ الشفاهِ التي لا تنتهي، الصوتُ والقبلات، لا تكفيني لكنّها ستجعلنِي فيما بعد أقتادُ على الصبـر من بعدِك .. أدرك أنّ لا بقـاءَ لي هنا، من بعدِ تصريحك خاصّةً لا بقـاءَ لي .. وها أنا الآن أستجيبُ لك بملءِ شغفي ، لأنّ يومًا مـا سيأتي .. لا تُشرق فيه الشمسُ عليّ عبر عينيك.
،
يضعُ معطفـه القطنيَّ الأسـود على كتِفه بشكلٍ فوضوي، شعره الأجعد ظهر أكثر حدّةً للعيـان، عيناه جامدتـانِ لا تنمّانِ عن شيءٍ وهو يزفُر بضجرٍ ويتّجه للدرج، قميصهُ مُشعثٌ يُظهر أكتافـه القويّة، صعـدَ أولى عتبـاتِ الدرجِ ليتوقّف فجأةً ما إن أقبلَت إلين مندفعـةً لكنّها توقّفت ما إن رأته . . رمقها بجمودٍ بينما عيناها تتّسعان بحقدٍ وهي تراه أمامها في هذهِ الساعـة، لم تستطِع أن تمنـع نفسها من أن تضـع كفيها على خصرها في صورةِ هجومٍ مباشرة وتلفظَ من بينِ أسنانها بقهر : أخيرًا شرّفت؟
أدهم يُشيح وجهه وهو يميل فمه بضجر، تحرّك كي يتجاوزها وهو يهتف بنبرةٍ باردة : مو وقتك الحين.
إلين تستدير بعد أن تجاوزها لتمدّ يدها فجأةً وتقبضَ على عضدِه، لفظَت بعدائية : لا والله؟ بعد ما نقعتني بالمطبخ ساعة وما رجعت؟ * أردفت بقهر * الحين بسخّن لك الغداء وتآكله .. مو شغلي.
لم يستطِع أن يمنـع نفسه من ضحكةٍ عميقةٍ غرِقَ فيها، في خضمِ ضيقه تغسلـه بضحكةٍ لم يكن يريدها الآن لكنّها استطاعَت أن تخلقها فيهِ قسرًا .. استدارَ لتُخفض كفّها عن عضده، لكنّه سارعَ بإمساكها وهو ينطق بضحكة : تبيني أتغدّى بهالوقت؟
إلين بقهرٍ وكفّها التي ترتخِي في قبضتِه لم تحاول سحبها : ليه تقولي اطبخي لي شيء وتمشي؟ فوق كذا تصارخ بوجهي بوقاحة بعد !
أدهم يعضُ شفته ليَئِد بسمته : معليش ، بس من جدك تبيني أثقل على معدتي الحين؟
إلين ترفع حاجبها : تستاهل .. غصب عنّك تاكله الحين وقفتي ما تروح ببلاش.
أدهم : ههههههههههههه محد يغصبني ترى بس هالمرة عشان عيونك.
إلين باستياءٍ تُخفِي بِه إحراجها : طيب شرّف.
أدهم وهو يصعد ضاحكًا : الله يصبرني بس أبدل ملابسي وأجيك.
دخـل الغرفـة وهو يبتسمُ ويهزُّ رأسه بالنفي، تظنُّ أنّ القوة في وقاحةِ حديثها أو صوتها معه وأنها بذلك تظهر أمامه امرأةً ذات بأس .. فتـح الخزانـةَ وابتسامتـه تلتوِي، وبخفوتٍ همَس : الحمدلله وأنا شفت طفولتها قدام عيني يعني ما فاتتني * لينفجـر ضاحكًا بمزاجٍ " زان " *
،
اشتدّ ظـلامُ الليل، كـان كمَن انزوى في زقاقٍ مـا، غابَ ضوءٌ خافتٌ جـاءَ من حيثُ نقصـانِ القمر، أسنـدَ ظهرهُ لظهرِ المقعدِ وهو يبتسمُ ابتسامـةً لم يبتسِمها منذُ زمنٍ طويل، ابتسامةً لا تظهـر إلا معه هو من بينِ كلّ البشـر ...
هذا اليومُ استثنائي، لن ينسـاه، أبدًا! سيُخلّد لدى ذاكرة الأيـامِ الجميلةِ لديه، الأيـام التي شعر فيها أنّ روحًا تنبعثُ في جسدِه، روحًا غير روحِه هو ، فالبشـر لا يعيشون بروحٍ واحدة، يحملون أرواح من هم لهم حياةً أخرى. هكذا يرى الأرواح بالنسبـة له، إن أحبّ شخصًا فروحه تكون في جسدِه وإن مـات! ماتَ جزءٌ منه مُحـالٌ أن يعود، لكنّه يـا للعجبِ عـاد! عـادَ حين عادَ الميّت من مسمّى الممـات.
استدارَ ينظُر لمتعب الذي كـان يقودُ السيارة، يبتسـم، لا يستطِيع سوى أن يبتسم اليوم ويتجـاهل أيّ شيءٍ قد يعكّر صفو هذهِ الفـرحة ... نظـر لهُ متعب نظرةً خاطفـة، ومن ثمّ ابتسمَ رغمًا عنه وهو يعودُ لينظُر للطريق، لافظًا : بطّل هالنظرات .. طفّشتني.
شاهين يمطُّ فمه باستياء : توني لفيت أناظرك.
متعب : قبل ساعة نفس الجملة.
شاهين : قلتها قبل ساعة ، يعني قبل وقت طوييييييييل بالنسبة لفكرة مُستحيلة ، معجزة !
متعب بابتسامة : بديت أستحي.
شاهين : هههههههههههههههههههه اللهم إني أسالك من خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرّها وشر ما جبلتها عليه.
متعب بحنق : شكلك مشتهي أبدّل خريطة وجهك.
شاهين يغرق في ضحكاته : وش أستحي ذي طيّب؟ تستاهل.
متعب : والله إنت اللي شوف وضعك نظراتك ذي ما تطمّن.
شاهين : وصخ وش تقصد؟!
متعب يضحك : أعوذ بالله من غضب الله.
شاهين : والله إنّي قايلها أوروبا خرّبت تفكيرك يبي لك إعادة تأهيل.
متعب : يا شيييخ أمزح والله من حقك يعني ميّت تخاف يكون قرينه جالس جنبك أو تتوهّم.
شاهين بابتسامة : أبد .. أجمل شيء إنّي ما أتوهم .. بس للحين مو قادر أصدّق قدام أكثر من سنتين .. كم يوم ما يخلوني أستوعب زين.
متعب : أنا يوم واحد يكفيني عشان أستوعب إنّي كنت عايِش بكذبة ، قدام هالسنين اللي ما اعتبرها شيء !
شاهين يرفعُ حاجبه : ترى كنت بتذبحني أنت والمعفن ذاك ..
ابتسـم متعب وهو ينظُر للطريقِ أمامه والسيّاراتِ التي تُضيء بنورٍ زائف : أكثر من شيء سويناه حدّد؟
شاهين باستياء : لك وجه تقولها بعد؟
متعب : ههههههههههههه وش أسوي .. وتراني اعتذرت وقلت لا تسامحني أنت اللي رفضت ، مالك حق تعاتب الحين.
شاهين : لا عاد الموت ما نسامحك عليه ..
متعب وقد أدرك قصده الآن، مرّر لسانه على شفتيهِ دون أن يفقد ابتسامته، وبخفوت : قالّي أدهم إنّه شكلك تعبان بشيء يومتها * كتم ضحكته ليُردف * ماهو ذنبي إذا فاجأناك وش يدريني؟
شاهين يضيّق عينيهِ بحنق : فاجأناك؟ قول صدمناك صعقناك ذبحناك.
متعب : ههههههههههههههههههه لا حاقد والله .. لا عاد تسوي فيها المثالي وتقول لا تعتذر ومدري وشو، صفّى قلبك من الحين.
شاهين يبتسم : تدري إنّه صافي من جهتك .. أقصى حقدي عليك يكون بسبب عصيري اللي أخذته قبل سنين بعد ما حطيته بالثلاجة.
متعب : مستواك الفكاهي في تدنّي ترى.
شاهين : للحين ما تجامل؟
متعب يهزُّ رأسه بالنفي : ما أعرف وأنت أدرى.
شاهين : ثقيلٌ قال صفني قلتُ ما فيك أصف . . .
متعب يقاطعه وهو يضحك : كل ما فيك ثقيلٌ خفّ عني وانصرف.
شاهين : تستاهل هالبيت والله ... أففف مو راضي تمشي لي من هنا * يُشير لحنجرته *
متعب باستفزاز : عاجبني الوضع .. إن شاء الله طول عمري ناشب لك هنا . . .
أردفَ وقد تبدّلت ملامح صوتِه فجأة : بسألك ..
شاهين يعقدُ حاجبيه وهو يوجّه نظراته نحوه بتوجّس، يخشى نقطـةً ما، سيصلان إليها عاجلًا أم آجلًا وتنقشـعَ تضاريسُ السعادة، ففي النهاية هناك الكثير ، الكثير الذي لن يمكنهما تجاهله للأبد ... بينما مرّر متعب لسانه على شفتيه وأحداقه تُظلـم للحظـةٍ بعد أن غابَت الأضواءُ المنكسرةُ عليها، ومن ثمّ عادَت لتُضيء وتمرّ على شفتيه اللتين تحركتا بكلماتٍ هادئةٍ ظاهريًا : تقدِر تتّصل على أمي الحين .. خاطري .. خاطري أسمع صوتها . . . اشتقت له.
تجمّد للحظـة، وعينـاهُ تضيقان، بينما ابتسامـةُ أسى ترتسمُ على فمِه وهو يدرك الفقد الذي عاشَه والحنينَ الذي يوجعه، همسَ بخفوتٍ متشتّت : أبشر.
متعبْ وعلى شفاهِه تظهر أطيـافُ بسمةٍ متلاشيـة، دار بسيارةِ شاهين التي يقودها بعيدًا عن الإشارة التي كانت خضراء، أوقفها على جانِب الطريق، ومن ثمّ استدارَ بكـاملِ جسدِه لتظهر لهفـةٌ عظيمةٌ على ملامحه، لم يفقد تلك الابتسامة، الشغوفـة والحزينة في آن، التحم الاثنينِ فيها فباتت شفّافةً متداعيـةً وقبضتيه يشدّهما ليُخفي رعشةَ انفعـاله، تنفّس بسرعةٍ مضطربةٍ وهو يهمسُ بصوتٍ أقربَ للرجـاء : بتحيي فيني جانب ثاني ..
شاهين بابتسامةٍ يتناولُ هاتفه الذي كان يستريحُ بينَ مقعديهما : ما أظن نايمة بهالوقت.
متعب بشوق : إذا على خبري فأدري.
شاهين يتّصل بِها، لم ينتظِر أكثر وهو يقرأ الشغف الذي اكتسـى صوته ليوجعـه، لم يتخيّل هو أن يسمعها الآن، يكـادُ يموتُ لسماعِ صوتها، انتظـر سنين، أشهرًا وأيامًا وهو يتلهّف للحظـةٍ كهذه، لذا فالأسطرُ تتلاشـى/تُمحى فلا يستطِيع تسطيرَ تعبيرٍ واحدٍ على شفتيه، على قلبه، لا يستطيع أن يصفَ مقدار الانفعـال الذي يكادُ يطيحُ بِه الآن شوقًا، كم نفقَت روحه قبلًا، أو كادت تنفق، وهو يدرك أنّه لا يحييها سواهم ، وإن كـان سبب الموت الأوّل شاهين، فها هي جزءٌ من روحهِ عادَت بعد أن تداعَت، والآن يريد أن يتصبّر بها، بصوتٍ أو رائحة، بأيّ شيءٍ من تفاصيلها.
أبعَد شاهين الهاتف عن أذنه وهو يفتح " السبيكر " كي يصله صوتُ الرنينِ المتواتِر دون أن يتوقّف، استمرّ وجسدُ متعب ينشدُّ لصوته، لن يتحدّث، سيهزمُ شغفهُ ويئِدُ صوته من أن ينطـق لها " ام متعب " بنبرةٍ لا تطالها أنّةٌ توجِع صدرها، سيقاومُ الأمواجَ التي تخبُّ فيهِ وإخبابُ بحرِ شوقِه قاتـل، سيقاومُ كلّ ذلك حتى لا يفجعها كما أفجع شاهين من قبلها وهو لا يدري، فإن كان شاهين احتمـل فهي لن تستطِيع، سيصرعها ... آه! كيفَ يقدر على المقاومـةِ بعد كلّ تلك السنين؟ كيف!
طـال الرنينُ حتى انقطـع، عقدَ شاهين حاجبيهِ ومعه متعب الذي لم تتلاشى لهفته وهو يلفظ : مرّة ثانية .. شكله بعيد عنها أو ما انتبهت له.
تحرّكت إبهامُ شاهين بربكةٍ كي يعيد الاتصـال، زفـر زفرةً حارّة، وقد أدرك في قرارةِ نفسه أنّها انتبهت لاتّصـالِه لكنّها تجاهلته، لازالت غاضبـةٌ منه، لازالت مستاءة، وربّما لو كرّر الاتصـال أكثر من مرّةٍ لردّت بصوتٍ منفعـل .. كي يدرك متعب في النهاية غضبها، وبالتأكيدِ سببه ! . . . انتظـر حتى انتهى الرنين، ومن ثمّ ابتلعَ ريقه وهو يضعُ الهاتفَ جانبًا لينظُر لمتعب بأسى وهو يبتسم ابتسامةً مهتزة : شكلها نايمة .. هالفترة قاعدة تخبّص بنومها ترى.
استرخَت ملامح متعب فجأةً بإحباط، بينما مرّر شاهين طرف لسانه على شفتيه، لا يريده أن يُـثار هذا الموضوع الآن، أن يُذكـر اسمها ، لا يريد أنْ ينفكّ هذا الجرح وينزف في لحظـاتٍ كهذه، أن يبدأ موضوع أسيل بالبزوغ، وهو حتى لم يرتوي من عودتـه .. يدرك أنّ كلاهما يتجاهل لبعض الوقت، يتناسـى أنّ امرأةً بينهما لأنهما مشتاقان، لأنهما يريدان أن يكرّرا أيامهما السابقـة، وكأنّ شيئًا لم يتغيّر، لا يريدان الوجع الآن وبؤرةً أو ثغـرةً أو شرخًا في علاقتهما ! .. بالرغم من كونِ هذا الشرخِ متواجد، يا للأسى! متواجدٌ مهما حدَث وإن تجاهلا أو تصنّعا أن لا شيء قائم، هذا الشرخُ خفيٌّ حتى هذهِ اللحظـة، هذا الشرخُ نبَت، ولن ينقطـع مهما حاولوا، أبدًا !
استدارَ متعب وهو يتأفّف، أسندَ مرفقهُ على فخذِه ليضع خدّه أخيرًا على كفّه وهو يلفظُ بحنق : حظّي معفّن.
شاهين بابتسامةٍ مصطنعـة : لاحق عليها.
متعب ينظُر إليه نظراتٍ قاتمـة، لينطق بنبرةٍ ساخـرة : متى؟ هذا هو السؤال، متى ينتهي كل شيء وأحضنها !
شاهين : الحين أهم شيء إنّك بخير ورجعت الرياض .. كل شيء بعدين يتسهّل.
أعادَ ظهرهُ للخلفِ وهو يُخفضُ كفّه عن خدّه، أسندَهُ ليغمضَ عينيهِ ويهتفُ بنبرةٍ ضائعـة : طفشت من هالوضع.
شاهين يصمتُ لبعضِ الوقت، ينظُر لأنوارِ لافتـةِ المطعـم الذي وقفوا قريبًا منه، قبل أن يبتسم ويلفظ بشفافية : وقفتك مخالفة ، غيّر الموقف.
متعب يعتدِل ليبدأ بتحريك السيّارة دون أن ينبس ببنت شفـة، بينما أردف شاهين بتساؤلٍ هادئٍ وهو لا ينظر نحوه، بل لازال ينظُر للطريق، يبحثُ في مكنوناتِ ما حدَث، منذ البدايـة يريد التفاصيل التي توجعه هو أيضًا، أن يشاركه المعاناة : شلون عشت بباريس؟
متعب بملامحَ جامـدة، لم ينظُر إليه وهو يردُّ بنبرةٍ تائهةٍ يصحّح له : شلون متّ.
شاهين يعقدُ حاجبيهِ وقد شعر بأحشائهِ تكتوي، همسَ مكرّرًا بخفوت : شلون متّ بباريس؟
متعب يبتسمُ بسخريةٍ لاذعـة : عادي ، كنت أقطّ نفسي بأي شغل وأعيش.
شاهين بانزعاجٍ نظـر إليه : تدري إنّي ما أقصد هالجواب !
متعب بضيقٍ وملامحه تتعجّن بكفوفِ الذكريات : ما أبي أذكر الموضوع .. لا تسألني.
شاهين باعتراضٍ حادٍ بعض الشيء : أنا أبي أعرف.
متعب : وأنا ما أبيك تعرف .. فاحترامًا لي ابلع لسانك وانسى الموضوع.
شاهين بذهولٍ من حدّةِ صوتِه المفاجئة : بيضرّك بأيش؟ تكلم يا رجّال وريح عمرك شوي ، شوي وأحلف إنّك ما حكيت لأحد عن كل شيء صار من البداية لهالوقت ، وإلا كان أدهم درى باللي صار لك قبل سفرتك وسببها.
أوقفَ متعب السيّارةَ في إحدى المواقف، أدارَ رأسه إليهِ دون أن يترك المقود، وبنبرةٍ غاضبـةٍ بشكلٍ مُفاجئ وكأنّ الأسئلةَ المتعلّقـةَ بهذا الجزء من حياتِه تغضبه : لا تحاتي .. حكيت ، سبق وحكيت لعسكري اليوم عشان أقايضْ دلائل عن براءتك.
رفـع شاهين رأسه للأعلى قليلًا وهو يزفر، أغمـض عينيهِ وصدرهُ يرتفعُ بنفسٍ عميق، يُهذّب صوته، وكلماته، ومشاعره التي صخبَت : لا تحكي عشان تقايض، أو عشان معلومات يحتاجها أحد ... احكي عشان تشارك غيرك وترتاح.
متعب بضيقٍ يكره أن يكون ضعيفًا إلى هذا الحد : مرتاح .. لا تحاتيني.
شاهين يعضُّ شفته السُفلى، يكادُ يجنُّ من تصنّعه، لكنّ غضبه لم ينعكس على صوتِه الذي هتف بهدوءٍ ظاهريّ : كونك عرفت إنّ مالي يد بالموضوع، وكونك ضحكت وسولفت معي ما يعني إنّك مرتاح.
متعب : هذا مفهوم الراحـة عندي.
شاهين يبتسمُ بأسى وهو يدير رأسه دون أن يبعده عن ظهرِ المعقدِ الذي يستندُ عليه، نظر لوجههِ الذي يوجّهه للأمـام، ليلفظَ أخيرًا : مفهوم ثُلث الراحة ، الثلث الثاني أمّي .. والثالث والأهم تقولي بكل شيء.
متعب بصوتٍ حادٍ رغمَ خفوته، يشدُّ على قبضتيه بانفعـال : لا تعصّبني ..
شاهين يمدُّ يده نحو البابِ كي يفتحه وهو يلفُظ بابتسامة : معصّب وانتهى الموضوع أدري فيك.
فتحَ الباب ليردف وهو ينزل : انزل عشان نتعشى .. وبطلّع منك الكلام بعدين.
زفـر متعب بيأسٍ وهو يمدُّ يده للبـاب، وينزلُ من الجهةِ الأخـرى.
،
في وقتٍ سـابق ، سابقٍ لأوانِ الانفجـارات، الابتعـادِ عن البرود – للحظاتٍ متشتّتة -.. مزيجٌ من العتمـة، والكثيرِ من بهاراتِ الجمود، السكون، النظـراتِ الباردة .. تنظُر لوجهه المكبّل ببسمـةٍ مـا، ربّما ابتسامةُ أسى، أو سخريةٍ من نفسه، من وضعهما، من أمرٍ مـا ، أو ربما كانت ابتسامةَ " اللا شيء " .. لم تتعرفْ على تلك البسمـة من كلّ ابتساماتِه التي تعرّف عليها قلبها قبلًا وبعضها باغتها فيها بخداعِه.
أمـالت فمها دون أن تنبُس ببنت شفة، بينما استدار إليها سيفْ بِدهـاليزِ الغربـةِ في شفاهِه، بتلك الابتسامةِ وبعنفوانِ العتب، وهو يلفظُ بخفوتٍ متسائلٍ بينما الدفتـر المُصفرُّ بجفافِ الخريفِ لازال قابعًا بسكونِ ألوانِه في يديه، والحبرُ الأسودُ اغتـال أسطره : يعني الحين أنتِ تحاولين تبنين في نفسك الشخصية الشرقية؟
ديمـا تنظُر لعينيهِ ببرود، شفتيها الجامدتانِ تباعدَت عنها رقّةُ المظهـر " عفويًا " حين تفغر فمها بربكةٍ في قُربه، ما إن تراه أمامها حتى تبهتُ كصبيّةٍ في بداياتِ الشغف، تبهتُ وكأنّها تحاول أن تصدّق أنّ هذا هو رجُلها، تراه كتمثالٍ إغريقيّ، أو ربّما سمـاء، تمتدّ، تمتدُّ بروعتها ولا تنتهي أبدًا.
كلّ ذلك كـان قبلَ أشهـر، والآن كلّه غـادر، ولم يتبقّى سوى جمودِ شفتيها/ملامحها/قلبها من بينِ أضلعها. أردفَت الجمود إلى صوتِها، لتهتفَ بنبرةٍ خافتـةٍ تداعـى فيها كلّ شيء عدا السخرية بحلّةٍ رقيقة : الكبرياء.
ابتسمَ دون تعبير، ومن ثمّ أعـاد نظراته للدفتـر، لتتّسع ابتسامته بشكلٍ تلقائي، ويهمسَ بحيرة : بالوقت هذا ! من قبل يعني ما فكّرتي بهالجانب الشرقي على قولتك؟
ديما تلمُّ شفتيها بتعبيرٍ باهتٍ عن الملل من هذا الحديث : صحينا.
سيف بسخريةٍ يرفعُ أنظارهُ نحوها : وحجّتك حملك؟ بكذا أنتِ ضعيفة وبس إذا بالنسبة لِك هذا هو اللي كـان لازم يخليك أقوى.
ديما بصوتٍ رقيقٍ أسعفـه الزيف : كـان تكدّس.
سيف يضـع الدفتر على الطـاولة، مسح على سطحِها وكانه يمسـح أثار الغبار (كلماتِها) التي تناثرَت في خضمِ كتابتها، يمسحُ أحجياتِ عينيها التي انسكبَت وهي تشرحُ حقدها، وحبها، وكل التجانساتِ المتناقضـة، يمسحُ المشاعر التي تساقطَت وهي تحاول أن تجعلها ثابتة ، فقط على الورق.
تحرّكت خطواتُه ليقتربَ منها ووجههُ هذهِ المرّةِ كـان أكثر جمودًا حتى من وجهها، ربّما لم يعُد يريد أن يصبر الصبـر بمعناهُ المعتـاد، يريد الصبـر ، لكنْ بطريقته، بطريقة سيف الذي يجعلها تنفجـر، بركانًا مليئًا بالحب، وحتى الحقد، والشغف وكلّ شيء! بطريقةِ سيف، الذي عشقته قبلًا .. يريدها بركانًا منفجرًا بكلّ مشاعرها، وليسَ خاملًا ، ليحترقَ هو أسفله.
وقفَ أمامها مباشـرة، أخفضَ وجههُ إلى وجهها المرتفـع يثقةٍ وكبريـاءٍ أعمـى، مرّر شفتيه على لسانِه، وهو يحفرُ نظراتهِ في عينيها، ليهمسَ أخيرًا وأمواجُ أحداقها تعصفُ بأهدابِها المنعكفـة، أمواجُها التي لا يراها، تجعلها خفيّة ، وهو لا يريد هذا الخفاء ، لم يعد يريد أن يصبر إلا على انفجـار : وأنا طفشت.
ديما ببرودٍ يلتوِي بها شفتيها : شيء متوقع لإنسان تعوّد على السمع والطـاعة.
سيف يتحلّى بالبرودِ كمـا تفعـل : صح!
ديما : لا عاد تمثّل الصبر يا حبيبي ، أنا صرت مثل ما تبي ، بسمعك وأطيعك ، وأنت كون بطبيعتك ... ما أظن الحب يمنعك ، ماهو من البداية عجز يمنعك؟!!
سيف وصدرهُ يذبُل باستفزازِها له رغمًا عنه، هتفَ من بينِ أسنانِه : بكون على طبيعتي .. يا حبيبتي.
ديما تتراجـع للخلفِ برفق : كذا تصير الحياة أحلى .. ملّيت من تمثيلك .. تقدِر ترجع مرتَك مثل ما تبي وتقدر ...
قاطعها سيف بجمود : طليقتي.
ديما تهزُّ رأسها بالإيجاب : طليقتك .. رجّعها عشان ولدك ترى ما يهمني ...
ابتسمَ بسخريـة ، وسرعـان ما انفجـر ضاحكًا ولم يستطِع منع نفسه، مدّ يده نحوه وهو يراها تنظُر لهُ بجمودِها ذاته، طوّق خصرها بذراعه، ومن ثمّ جذبها إليه لتصطدمَ بصدره، بينما يلفظُ صوتُه بتحدّي : ما يهمك؟ مثّلي إني ما أهمك يا ديما بكل شيء إلا بهالنقطة .. إلا بهالنقطة ..
ديما تبتسمُ ببرود : لا تكون واثق كذا.
قرّب وجههُ من وجهها، لتستقرّ شفاهُه أخيرًا على وجنتها، برقّةٍ قبّلها ليودِع إلى بشرتها تكذيبهُ لها، وتصديقه لرعشةٍ سرَت في جسدها ، الحقيقة التي تُظهرها ملامحها وجسدها حين يكون قريبًا منها ، هُنـا فقط .. تَصْدُق، وفي بقيّة التعبيراتِ اللسانية تكون كاذبـة، التعبيرُ الوحيد الذي كـان يدرك من خلاله أنها لازالت تحبّه ، مهما كـانت جامدةً وباردةً معه، ومن خلاله لازال ينتظر بأمل .. إلا انّه الآن فقدَ صبر الانتظـار، ويريد أن يبادر بآخر، بطريقته القديمة نفسها.
ضمّها إليه، ومن ثمّ لامـس بشفاهِه أذنها، هامسًا بخفوت : ودامك الحين تمشين عالسمـع والطاعة ، فأنتِ بتريحيني من شقـى كثير .. أوله رفضك لقراري الجديد! . . . * أردف بعد ثانيتينِ من الصمت * قبل بدايـة العام الدراسي الجديد .. احرصي إنّك تكونين ربّة بيت ... ربّة بيت وبس !
لم يفتْهُ تصلّب جسدها بصدمـة ، لم تكُن غبيّةً حتى لا تفهم قصده، لم تكن ساذجـةً حتى لا تنتفضَ مبتعدَةً عنه بحدّةٍ بعد أن دفعتـه عنها .. نظـرت لوجهه بصدمةٍ غاضبـة ، لتلفظَ ببهوتٍ غير مصدّق : ماني تاركة شغلي !
ابتسم ، كـانت ابتسامته باردةً لعينيها، لكنَها كـانت من وراءِ قنـاع البرود – منتصرة -، أوّل انفجـار، أوّل أسلوبٍ حادٍّ اشتـاقه، إن كـانت تركته بسببِ سيف القديم ، فستعودُ إليه من جديد .. كما هي، بديما ذاتها، وعن طريقِ سيف القديم ذاته!
ردّ عليها ببرودٍ وهو يرى شفتيها ترتعشان من انفعـالٍ بدأ يجري على جسدها من الرفضِ الغاضِب : عاد هذا اللي أبيه .. ومنتِ معارضة زوجك وإلا؟!
ارتعشَت كفوفها بصدمـة، واتّسعت عيناها أكثر وهي تفغر فمها ، لا يمكن ! ظنّت أنه قد تجاوزَ هذا منذُ زمنٍ بعيد، ولن يتجرّأ في يومٍ ما على التطرّق إليه مهما كـان قاسيًا ومهما عاد لطبعِه السابق ، ففي النهاية هو رضي بالأمر على مضض ، في الوقتِ ذاته الذي كـان فيه ببرودِه وقسوتِه.
صرخَت ولم تستطِع أن تقاومَ لحظةَ انفعالٍ وقهرٍ من قرارهِ الذي عاودَ يريد أن يضطهدها بِه كما كان سابقًا : ولا تحلم حتى بهالشيء!!! أنا حتى ما كنت مكمّلة سنة .. أي وقاحة تظن فيها إنّي بسمع لسخافاتك !
سيفْ يُميل فمه ببرودٍ وهو يرمقها بنظرةٍ متعاليـة : بتسمعين رضيتي أو لا، إذا كنت قبل سكتّ فهو بمزاجي ، والحين مزاجي رجـع وبغى إنّك تظلين ببيتك وتكونين زوجـة وأم وبس ... يا مـــــــيّ.
ارتعشَت بغرابـةٍ في بادئ الأمـر، شتّت عينيها باستنكـارٍ لهذا الاسم الغريب .. الغريب ! ... شهقَت بصدمةٍ فجأة وهي ترفـع كفّها إلى فمها، توسّعت عينيها حتى كـادَت محاجرها أن تلفظَ أحداقها دون تصديق ... هذا الاسم عاد! كيف؟ كيف؟! ... تقدّم إليها الاستيعـابُ شيئًا فشيئًا ، سيفْ الآن عادَ يريد أن يخنقها في هذا البيت، ألّا تعمـل .. كما أنّه عـادَ يناديها بالاسم القديم .. أو اللقبِ بالمعنـى الأصح !
عضّت شفتها ، وفي لحظةٍ خاطفـة، كـانت ديما التي ولّدت فيها الكبرياءَ الرقيقَ السابق والذي كـان يرفضُ هذا الاسم بعد استسلاماتٍ كثيرة تنهض، بعدَ مضيٍّ زمـنٍ منه ، لتستفيق في بادئ الأمـر ، وتتمرّد بعملها ، ومن ثمّ يتلاشى الاسم فجأةً، دون سابقِ إنذارٍ ربّما لأنها كـانت أقوى وقتها، وأرغمته بطريقةٍ غيرِ مباشـرة على الاحترام.
في لحظةٍ خاطفـة، انتفضَت حواسها، لترمقـه باحتقـار، وتتشنّج شفاهها بتمرّد ، لافظـةً بحنق : تخسي.
أمـال فمه بحدّة، نظراته الباردةِ كـانت تخفي تيّاراتِ الرضا ، الانتصـار بطريقةٍ لم يتوقّعها قبل الآن ، كيف لم يخطر على بالهِ أنّها لن تعودَ إلا بسيفَ القديم .. لن تعودَ إلا بهذهِ الطريقة .. أن تنفجـر بينهما تحدّيات ، أن يكون الباردَ المتعالي، وهي المدرّعـةُ بالتمرّد، المسلّحةِ بالحرّيةِ التي تريد .. والفرق الذي سيكون ، أنّهما كلاهما، يحبّان بعضهما ويدركان أيضًا .. فهذِ المرّة سينعكس كلّ شيء بشكلٍ إيجابي ، بعكسِ المرّةِ السابقة.
تحرّك مقتربًا منها، بينما رفعَت هي ذقنها بعلياء وهي ترمـقه بالاحتقـارِ ذاته، وقفَ ملتصقًا بِها، لم تكُن تفصل بينهما سوى خطوتينِ خلقتها هي حين تراجعت بصدمةٍ للخلفِ بعد أن دفعته، مرّر أحداقـه على تقاسيمِ وجهها الناعمـة، ومن ثمّ رفـع كفّه أخيرًا، ليقبضَ على ذقنها، ويرفع وجهها أكثر، لافظًا ببرودٍ أطلـق أنفاسه كزفـراتِ الجحيم الساخن ، مُذيبًا بشرتها وصاهرًا لخلاياها الباردة : شويّة احترام يا زوجتي العزيزة .. لا ، أبي كثير منه ، وهذا أمـر مني ، مرّة ثانية لو تقلّين أدبك صدّقيني ما بتشوفيني هادي مثل الحين.
عضّت شفتها بحقد، قبل أن يُغطّي نظراتها فجأةً بجلدِه الأسمـر، لم تعُد ترى شيئًا سوى جزءٍ من أنفـه وخدّه لقبلةٍ داعَبت أرنبـة أنفها الصغير، انتفـض وجهها مبتعدًا عنه بنفور، بينما أحـاطَ سيف كتفها وهو يلفظُ بابتسامةٍ باردة ويمشي لتمشِي معه قسرًا وملامحها لازالت باهتةً لا تصدّق الانقلابِ المُفاجئ الذي حدَث : تعالِي .. نسيت أورّيك مفاجئتي الخفيفة.
يُتبــع ..
|