كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
بكرر وأنوه إنّ فيه جزء نزل قبل هذا بتاربخ 29 رمضان عشان اللي ما انتبهوا له ، + بارت اليوم رغم وسطيّة طوله بس فيه شيء جميل أتوقع الكل كان منتظره :) وَ من بعد اليوم بنثبت على مواعيد محدّدة راح أذكرها نهاية البارت.
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$
بسم الله نبدأ ،
قيود بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(76)*2
" دريت عن الموضوع من ساعتين، انرسلت ورقـة طلاقها لها اليوم الصبح "
ردّهـا كـان في حاجبيْها الذين انعقدَا، عبـر بينهما الصمتْ، لم يظهـر على وجهِها الكثيـر من الاهتمـام، لكنّها صمتت، وكأنها لم تكُن تجدُ ردًّا، لا تدرِي ما تقول ، سعيدةٌ لأن الموضوع لم يكُن كما خشيَت ، لكنّها في المقـابل لا تدري ! ما معنى أن يكون حدثَ لأمّها أمرٌ جلِل.
وضَع سلطـان كفّه على يدِها التي تستقرُّ على فخذِها، ضغطَ عليها وهو يلفظُ بصوتٍ متمهّل : رحت لهـا . . وقالت تبِي تشوفك.
هذهِ المرّة اتّسعَت عينـاها بصدمـة، أشـاحت وجهها الباهتُ عنه لتنظُر للأمامِ دون تصديق، تريد أن تراها؟ تريد أن تقابلها؟ لمَ؟ ما الذي يستدعي عليها هذا اللقـاءَ الأجوف؟ .. نعم! تدرك أنّه سيكونُ أجوفًا، تدرك أنّ المشاعـر والعواطِف انتهت بينهما بل لم تكُن أصلًا ! حدّ أن تغـار من غيداء مثلًا! ومن قبـل من سلطـان، حين ترى تعامـل أمٍ لم تحمله في رحمها، كـانت فقط أمّه بالرضـاع، وبالرغمِ من ذلك حنونةٌ عليه وكأنّه ابنُ رحمـها، بينما هي! لم تعِش يومًا لمسـةً حنونةً منها ، لا تذكر أنّها مرةً مسحَت دمعها، لا تذكر أنّها مرةً ابتسمَت لها في أحاديثَ ناعمـةٍ بينهما، لا تذكر أبدًا لحظـاتٍ جميلة .. هل فعلًا لم تكُن بينهما لحظـاتٌ رغم الأوقات الطويلة التي كانت تكون فيها قُربها؟ كـانا كثيرًا ما تسافرانِ في مقعدين متجاورينِ في الطائرة، لا يكون معهما والدها، تسكنـانِ في نفسِ الفنـدق، غرفتيهما ملتصقتينِ يفصُل بينهما جدار، تخرجـانِ كثيرًا في سيّارةٍ واحدة، تجلسـانِ بجانب بعضيهما ، لكن هل حدثت بينهما مواقفُ " لذيذةٌ " بين أمٍ وابنـة؟ .. يا للعـار! لم يحدث، لم يحدث إطلاقًا .. كلّ تلك السنينَ لم يحدث بينهما فيها تشابُكٌ ابتسمـا معهُ رغم القرب .. هل يعقل؟ هل يندرجُ ذلك في المنطـق؟ .. لا تذكُر أنّه كان بينهما ذلك، أو ربّما كـان ومن قلّته لا تذكر!!!
عـادَت لتنظُر لملامح سلطـان الذي كان يترقّب ردّها، ابتلَعت ريقها بأسـى ، قبل أن تهمسَ بصوتٍ بحّ بخيبتِها : ما أبي أروح لها . .
عقدَ سلطـان حاجبيهِ قليلًا، تنهّد، ومن ثمَ مدّ يدهُ ليضعها على كتفِها وهو يلفظ بتفهّم : فاهمك .. وما ودّي أجبرك .. بس مو عشانك هالمرة ، عشانها هي فكّري.
غزل تقطّب جبينها بحسرة : عشانها؟
سلطـان يهزُّ رأسه بالإيجاب : هذي في النهايـة أمّك يا غزل ، مهما سوّت.
غزل بغصّةٍ تُشيح عينيها عن ملامِحه : نفس المنطق هو أبوي.
سلطان : قد طلب يشوفك مرّة ورفضت؟ لو جاء ما كنت بقول شيء حتى لو ما أطيقه ، الفكـرة اللي قبل إنّه لا طاعة لمخلوق في معصيَة الخالق ! والمرّة الأخيرة اللي قلت فيها ماراح أخليك تدخلين بيتكم لأنّي شفت أبوك وهو ودّه يضرك ، غير كذا ماراح أشجعك على شيء مثل كذا! بس هو اللي قال يبي هالشيء بأفعاله .. أمّا أمك لا.
غزل تُعيدُ نظراتها نحوه بضيق، تشعُر بسكاكينَ تقطّع من صوتِها ، من كلمـاتِها التي خرجَت إليه مستوجعِة تئنُّ بتكدّسِ الجراح : ما أقدر!
سلطـان بتأنّي : خلاص .. نغيّر طريقة الإغراء ، شرايك يكون عشاني؟
ابتسمَت رغمًا عنها وبيـاضُ عينيها يغشـاهُ الاحمرار : مسكتني من يدي اللي تعورني.
سلطان بابتسامة : يعني؟
غزل : اسمح لي أفكر قبل.
سلطان يتنهّد : غزل ترى منتِ رايحة جهاد عشان تفكرين تقتنعين بخطوتِك هذي أو لا! كم ساعة وبترجعين.
غزل تهزُّ رأسها بالنفيِ لتلفظَ بإصرار : بفكّر .. إذا بالنسبة لك الموضوع سهل فأنا أدري راح يخرب نفسيتي فوق ماهي مختربة أصلًا !!
سلطـان : ومتى إن شاء الله بتقررين؟
غزل تبتسمُ بتودّد : اليوم بقولك بس عطنِي فرصة أفكر.
سلطـان ينهضُ وملامحه تتعجّن بضجر : الله يصلحك بس.
،
في الليل ، وبعد صلاةِ العشـاء تحديدًا بساعة.
أوقفَ السيّارةَ أمـام الفندق الذي يقطُن فيه متعب، نظـر لهُ وهو يلفُظ بحيرة : عادي يعني لو وصلتك بنفسي ماراح يكون شكلي مشبوه؟!
متعب بجمودٍ وهو يفتح البـاب : لا .. أصلًا يدرون عنّك بس الشيء اللي أنا موضحه لهم بس.
أدهم يرفع أحد حاجبيه : اللي موضحه لهم؟
متعب يبتسم : أحسه يسلك لي .. هذا اللي قلت لك اسمه عبدالله ،
أدهم : وش رتبته ذا؟
متعب : أتوقع عميد .. وشكله المسؤول عن هالقضية عامةً واللي دخلت نفسي فيها.
أدهم : طيب شلون يسلك لك؟
متعب يهزّ كتفيه : مدري بس حاسس إنّي كذّاب ... أقصد بسالفة تزوير الهوية وعنك .. قلتله إنك بس مجرد صديق وعرفته بباريس.
تراجـع أدهم بظهرُه للخلف : لو بيتعامـل معك بجدّية قانونيًا كان مسكك على سالفة الهوية هذي .. انتبـه له.
رفعَ متعب حاجبيه : وش قصدك؟
أدهم بجمودٍ ينظُر للأمـام : ما أدري .. بس يمكن مخبّي عنك شيء.
متعب بسخرية : ليه أنا مين بالنسبة له عشان يقولي كل شيء!
أدهم ينظُر لهُ بضجر : انزل بس وفكني من غثاك ... مرتِي صارت تزعل من كثر ما أطلع بسببك.
فتحَ الباب وهو يضحك : زوج فاشل عجزت تدلعها بأول أيامكم؟
أطبـق الباب دون أن ينتظـر ردّه، بينما ابتسمَ أدهم بسخريةٍ من نفسِه وهو يحرّك السيـارة حتى يعُود للمنـزل ، الآن ستستقبلـه بالتأكيد كالمعتـاد بنظراتِها الحاقدة وبصوتِها وكلماتها الوقحة !! تمتم بخفوت : نصبر .. وش ورانا غير الصبر !
بينما رمـى متعب جسدهُ على السرير بعد أن دخـل غرفته، دسَّ كفيْهِ أسفـل رأسه، ينظُر للسقفِ الأبيضِ بشرود، ابتسـامته الكاذبة مع أدهم تلاشَت، وبقيَ في جنباتِ شفاهه جمودُ الأسى، ما الذي تريده يا شاهين من قصّتك الجديدة؟ أن تصعَد بي إلى غيوم الأمـل حتى تتلاشى وأسقطَ فجأة؟ أن أنكسـر من جديد؟ أن أفـرح لتتحطّم ابتسـامة الفرحـة وتوجعني أكثر! ماذا تريد من كلّ هذا؟ منذ متـى صنعْت في نفسِك هذهِ الشخصيّة التي تهوى تعذيب من حولك .. لا ! بل تعذيبي أنا ! من بينِ كلّ البشـر . . . لطالمـا كنتُ أرشدك بعيدًا عن أخطائك حين تفتعلها، ولو أنّك آذيتَ نفسك كنتُ سأرشدك لكفّارةِ ما فعلت .. لكن كيف أرشدك وذنبك هذهِ المرّة مارسته عليْ؟ لم أعُد أفهمك .. هل تريد تعذيبي أكثـر؟ هل تريدني أن أحبّك من جديدٍ وأحيـا ، ومن ثمّ أموت بقسوةٍ أكبـر !
يا ربّ العباد ! مالي وأمنيـاتي الآن؟ كيف يطلبُ قلبي دون إرادةٍ منّي أن يكون صادقًا بالرغم من كونِ عقلي لا يريد التفكير بـ - كذبته - من الأساس! يدرك أنّها خدعـة ، ولو أنّ المنطـق يغادر كلّ شيء ، المنطـق يا شاهين، أن لا يكون ذاك الصوت الحاقد عليّ صوتُك ، ألّا تكون الكلمـات تلك كلماتك ، كيف ذلك؟ لا يُمكـن ، هُنا تقطُن الحقيقة للأسـف ، كلماتك التي لا تأويلَ لها سوى " تأكّد من موت أخوي اللي ما أبيه بهالدنيا! "، كلمـاتك التي رسخَت في جدران ذاكرتِي وأنت تسأل " مات؟ "، ومن ثمّ تُكمـل بوعيدِ صوتِك إن كـان فشِل . . كلماتُك تلك لا أنساها، لا أنساها أبدًا !!
من جديدٍ وكعـادةِ الليـالي التي يقضيها بالتفكِير قبل نومِه، يسترجع البعضَ أو الكُل ممّا حدثَ قبل أكثـر من ثلاثِ سنين، من تلك الليلـة ، ومنذُ اتّصـال أسيل بِه . . . ابتسمَ بخيبة ، يومَها دخـل في هذهِ المعمعَةِ حين افتضحهُ اتصالها، ومن ثمّ غـدر بهِ أخوه لأجلها ! . . ماذا فعلَ بِي حبّك يا أسيل من دمـارٍ حتى الآن! ماذا فعل؟!!
عـادت إليه نظراتُ ذاك الذي اصتدمَ بِه تلك الليلـة - سالم -، شعـر أنّها حوله، لذا سحبَ إحدى الوسائد التي كانت متناثرةً حولَ رأسِه ليغطّي بها وجههُ وهو يزفُر بضيق . . ذلك اليوم بعد أن أخذَ هاتفه الذي كان يرنّ، ردّه على أسيل ، والتي لفظَت مباشـرةً باسمِه " متعب ".
ابتسامـة الشرّ في وجهِ سالـم، ومن ثمّ إغلاقِه للهاتِف، استدارته لأحدِ الرجـال الذين كانوا معه . . نظـر لهُ بنظراتٍ متوجّسـة وهو يرمي الهاتفَ بعد أن أشار لرجلٍ كان خلفُه ليُمسكـه مباشرة ، ومن ثمّ عصَف صوتُه الوحشيُّ بخشونتِه في المكـان المُعتـم، والهادئ : شوف لي معلومات آخر الأرقـام الموجودة .. وركّز أكثر شيء عن أب .. ام .. اخوان ... زوجة !
حينـها اتّسعَت عينـاه بذهول، وقد فهمُ ولو بشكلٍ مبسّط .. أن هنـاك خطرًا سيعانقِ من قصدهم ! ، امه، اخوه ، وزوجته ! . . بينما عـاد سالِم لينظُر إليه، يبتسم ابتسامةً ساخنـةٍ بالشر، وهو يلفظُ بنبرةٍ ماكرة : من وين نبدأ أخ متعب؟
ومنذُ تلك الليلـة ، انتهَت حياته التي اعتادها ! الهدوء، السـلام، كـان يفضّل الموتَ على أمورٍ كثيرةٍ حكَى معه عنها في تلك الليلـة ومن بعدِها ، قـال له سيمُوت ، أو يقوم بخدمةٍ واحدةٍ لأجلـة ، ومن بعدها " وعدَ " أنّه سيتركه وينساه، لمْ يكُن أحمـق ليصدّق وعدَه، لكنّه استطـاع ارغامِه بهم ، وبعدَ أن عـاش لحظاتٍ من التوجّس والترقب وهو ينتظُر أنْ يُسجن في يومٍ مـا بتهمتِه ، نسيَه سالم ، كمـا قال، ولم يكُن يدرك وقتها أنّه اختـار له الموتَ ببطءٍ بعيدًا . .
ارتخَت كفوفُه على الوسادةِ وهو يتذكّر كيف أنّ شاهين كان هو من انتبـه لظهورِ علاماتِ الادمـان عليه . . لمَ نبّهه لذلك؟ كـان يستطِيع أن يُكمل بكلّ بساطةٍ هذا الموتَ البطيء، يبدو أنّه ملّ، لذا اختـار الموت السريع حتى يحضى بِها . . لحظة ! متى تزوّجها؟ في هذا العـام على الأرجح ، لمَ انتظـر كلّ ذلك الوقت إن كـان دافعه أسيل؟ . . أزاحَ الوسادةَ عن رأسِه وهو يعقدُ حاجبيه ، انتظـر لسنتين ! إن كـان هناك من قد يقتل أقرب الناس لديه لأجلِ امرأةٍ فهل يُعقل أن ينتظر لسنتين؟!
أغمضَ عينيه للحظـة، للحظتين ، وحاجبيه لازالا منعقدين .. لكنّهما سرعـان ما ارتخيا ، لتُخلق على شفتيه ابتسامة ، ساخِرة ، متألّمة ، فشاهين بالتأكيد انشغل لوقتٍ فقط بالنجـاح، حتى يستطِيع وقتها أن ينال رضاها بزواجِه.
كلاهما غدرا بِه ، كلاهما !! هوَ حين قتله ، وحين حينَ رضيَت بِه وخانته! وعدتنِي في يومٍ مـا أنّها لن تكون لسواي، لكنّها كانت كاذبـة، مثله ، كلاهما كاذبان !!!
،
وصـل للمنزلِ في غضونِ ثُلثِ ساعـة، ترجّل من السيّارةِ وهو يتمتمُ بكلمـاتٍ مـا، يخطُو باتّجـاه البابِ وهو يحكُّ فروةَ رأسِه بضجَر، فتحَ البـابَ ودخـل، ليبحثَ بعينيه سريعًا وحين لم يجدها اتّجه مباشرةً للدرجِ كيْ يصعَد، دخـل غرفتـه، بالتأكيد ستكون الآن تدرسُ أو ربّما هربَت لتلك الغرفـة من جديد! لوى فمه وهو هذهِ المرّة يجزم بأنّه سيحملها قسرًا ويحبسها في غرفته يومين عقابًا !
وصَل لبابِ غرفتـه ليجدهُ مفتوحًا تقريبًا، دفعـه فقط دون مبالاةٍ ودخـل وهو يلفظُ بصوتٍ هادئ : نجلاء.
كانت في تلك اللحظـةِ على السرير، اضطربَ جسدها ما إن سمعَت صوته يناديها بذاكَ الاسم، أشاحت وجهها بعيدًا عن نطاقِ رؤيتِه، كـانت تجلسُ وهي تضمُّ ركبتيها إلى صدرها وتلفُّ ذراعيها على ساقيها، لكنّها الآن كانت تخفضهما بهدوءٍ وكأنّها تُخفِي حالـةَ ضعفٍ كـانت تغزوها . .
اقتربَ وهو يبتسم ويعقدُ حاجبيهِ باستغراب : غريبة شايفتني راجع من برا وهاجدة! بالعادة بتهاوشين وتقولين ليه ما أخذتك لأهلك !!
إلين بخفوت، ظهرت منه نبـرةٌ مـا، نبرةٌ كـانت في غيرِ مكانِها : ما يهمني.
كـانت تحاول أن تُخفِي نبرةَ الاختنـاقِ الباكـي تلك، لكنّها سطعَت على كلمـاتِها، ظهرت لمسامِعه .. حينها ابتلعت ريقها بينما صوتُ خطواتِه اقتربَت فجأةً وملامحه تتغيّر، تحرّكت بانفعـالٍ كي تبتعد، تهربَ منه بالمعنـى الصحيح وقد أدركت أنّه قرأ ملامِح صوتِها الباكي، لكنّه كـان أقرب إليها من الهربَ، التصقَ جسدهُ بجسدها ما إن وقفَت لترتعشَ بربكةٍ وتتراجع جالسةً على السرير، في حين انحنى إليها بملامِح هادئـة، لم تُظهر الاستنكـار الذي اعتلاه، لم تُظهـر توجّسه وخوفـه .. أمسك فكّها برقّة، ومن ثمّ رفـع رأسها ، كـانت تقاومُ تيّارَ يدِه التي تجرفها إلى عينيه، يرغمها على النظر إليه حتى يستطِيع رؤيـة عينيها بوضوح .. كـانت أضعف! أمّها بعثَت بالمزيد من الضعف، بالبكـاءِ على ماضيها وعلى حياتِها هذهِ المرّة، أمّها كـانت مفتـاح الانفجـار ، كـانت السبب في النظـرة التي اعتلَت على ملامِح أدهـم ، الصدمـة من عينيها المُحمرّتين وملامحها المُنتفخـة لتُخبره بوضوحٍ أنها بكت ساعات ، بكَت لوقتٍ طويل ، بكَت وانسلّت من قناعتها بعدمِ البكـاء!
همسَ دون تصديق : كنتِ تبكين ؟!!
إلين ترفعُ كفّها لتُمسك بمعصمِ يدِه التي تقبضُ على فكّها، حاولت أن تجلعه يُطلقها وهي تلفظُ بسخرية : افـرح ، ما عاد تحتاج تقولي قوّتك كاذبة !
أدهم بحدةٍ يرفعُ وجهها إليهِ بقوّةٍ وهو يلفظُ من بين أسنـانه : وش صـار؟
إلين ببهوتٍ وهي تشتّت عينيها بعيدًا عنه : مو شغلك.
أدهم : مو شغلي !!!
اقتربَت ملامحه منه فجأةً بانفعـال، شهقَت شهقةً خافتـةٍ وهي ترجع رأسها للخلفِ لكنّه شدّ على فكها ليقربها من وجههِ قسرًا وهو يلفظ بحدّة : وش صار؟
ارتعشَت شفتيها بخوفٍ من قربِه، أنفاسه تلفحُ وجهها المُحمر، حرارتُها تلهبُ بشرتها، تّذيبُ جلدها في علامـةِ انصهـارٍ أخيرة، بعد أن انصهر الدمـع وبعد أن بكَت، هاهو الآن يصهر جلدها بعيدًا عن ملوحةِ عينيها التي انصهرت بنارِ أمّها .
أدهم يقرّبها منه أكثر وهو يدرك أن قربـه يستفزّ الذعـر فيها وسيجعلها تتكلّم رغمًا عن صمتها، وببرودٍ يكرّر : وش صار؟
أغمَضت عينيها بضعف، الأدرينـالين يتصاعدُ في جسدِها، قلبها باتَ ينبضُ بقوّةٍ مرتبكـةٍ وهي تهمسُ برجـاء : ابعد.
أدهم بخفوت : بمقابـل تردّين على سؤالي.
إلين بصوتٍ واهِن : شيء يخصني.
أدهم : اللي يأذيك يأذيني.
فتحَت عينيها ببطءٍ وهي تشعُر بغصّةٍ تزاحـمُ حنجرتها، ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ ليتحرّك حلقها بوضوحٍ لعينيه، حينها شدّ على أسنـانه بغضب، أغضبـه أن تحزن حدّ أن تبكي وهي في بيتِه/بيتها، ما الذي قد يُحزنها؟ ما الذي قد يُذيبُ جمودَ عينيها ويُسقطُ الغيـم الأبيضَ في هيئةِ مطر؟ لطـالما كانت غيمةً بيضـاء! لم تكُن سوداءَ يومًا تحمل المطر، فلمَ تبكِي؟ كيفَ يُولد المـطر من غيرِ رحمِه؟!ا
هتف من بينِ أسنانه بغضبٍ جارفٍ ووعيد : احكِي .. والا ماراح يكون سكوتك ذا شيء طيّب لِك.
استفزّها من تهديدِه هذا لشيءٍ يعنيها هي فقط ولا يعنيهِ هو، لذا صرخَت بغضب : مالك شغـل فيني .. مالك شغل!!
أدهم يضغطُ على فكّها وهو يدفعها للخلفِ لتسقطَ على ظهرها، شهقةُ ذعرٍ تسلّلت من صدرِها إلى المُحيط، اعتلاها بحسدِه دون أن يترك فكّها ، بينمـا تجمّد جسدها دلالـة الخوفِ وعينيها تهتزّان، تنظـر لأحداِقه الغاضبـةِ وهي تضيق، شفتيه اللتين زمّهما بغيظٍ ليلفظَ أخيرًا بصوتٍ هامسٍ أقرب لفحيحِ أفعـى غاضبـة : أجـل ليلنا طويل .. ماراح أتركك لين توصلنِي الإجابة.
انفجـرت بالبكـاء من جديد، سقطَت دموعها، انبثَقت من عينِها، والبؤسُ في عينيها لم يسقُط، الحزن لم يغادرها كمـا يجب حتى تستطيع الصمودَ أمـامه . . بهتَ بصدمةٍ من بكائها أمـام عينيه، بينما اندفـع صوتها صارخًا وقد هُزمَ ثباته أمـامه وامتلأ بنبرةِ البُكـاء : أنت وش اللي تبيه مني بالضبط!! وش اللي تبيه ؟؟ اتركني بروحي ، تكفي اتركني بروحي هالمـرة مافيني حيل .. والله ما فيني!!
صمتْ، وصدرهُ يرتفـعُ بتنفّسٍ حادٍ منفعل، الآن ترجُوه ، لمَ؟ ما سبب هذا الضعف الذي غزاها الآن؟ ليسَ بسببه، وليس بسببِ حياتِها التي ابتدأت معه ، يشعر أنّ هنـاك ما أصابها وهناك ماهو أعمقُ حدّ أن يجعلها تضعف أمامه، ولو أنّه كان السبب لما أظهرت ضعفها!
أرخـى قبضته عن فكّها قليلًا، لم يكُن يمسكها بشكلٍ مؤلمٍ لكنّ قبضته كانت قويّةً على رقّةِ بشرتِها وخشيَ أن يجرحها .. رقّت ملامحه، دفـع الغضبَ عنه، وانخفضّت نبرةُ صوتِه الحـادةِ دون أنفاسِه وهو يهمس : وش صار؟
إلين بقهرٍ تلفُّ وجهها عنه حين استطـاعت بعد أن خفّف من قبضةِ يدِه، وبحدةٍ باكيـة : أنت ما تفهم ؟ ما تفهـــم !!! إذا مضايقتك لهالدرجـة بطلع وأنام بعيد عنّك ، مافيه عذر لإصرارك ذا غير أنك متضايق مني!!
أدهم يبتسم برقّة : أتضايق؟ وبعدين ترى سبق وحذّرتك لا تروحين لذيك الغرفـة.
إلين تنظُر لهُ بقهر، وبتحدي : ولو رحت؟ وش بتسوي لو حصلتني مقفلة الباب بالمفتاح مثلًا.
أدهم بنبرةٍ حنونةٍ وهو يمسحُ بإبهامِه على خدّها ليُرعشها : بكسر البـاب وبعدين أشيلك بيني يديني.
إلين بربكـةٍ أصابتها رغمًا عنها، لم تعتد لمسـة رجلٍ ولم تعتد قربًا كهذا، حتى وإن كـانت تكرهه لكنّه يربكها رغمًا عنها، لفظَت بنفورٍ مرتبك : أبعد.
أدهم بابتسامة : قلت لك ببعد إذا علمتيني وش اللي مبكيك.
إلين بخفوتٍ مختنق : شيء يخصني.
أدهم : اللي يخصك يخصني.
إلين تكرّر بحدةِ صوتها الذي ارتفع : شيء يخصني.
أدهم : أجل ماراح أبعد عنك.
أغمضَت عينيها بجزعٍ وكفيها تبهتـانِ عن دفعِه، هذهِ المرّة لم تحاول أن تُزيحه عنها قسرًا، لم تحاول وهي تشعر بأن جسدها باهِت، بأنّها تتوهُ عن القوّة التي كانت تتلبّسها منذُ أيـام، قوّتها الزائفة كما كان يقُول لها.
شدّت على أجفانِها بقوّةٍ وصوتُه يردف بخفوتِه الحنونِ ذاتِه : وش صار؟
لمْ تردّ هذهِ المرّة بحدتِها وآثـرت الصمت، في حين لفظَ هو يبحث عن الجوابِ بأسئلته : صار لأحد من أهلك شيء؟
شهقَت وهي تفتح عينيها بذعر : بعيد الشر!!
أدهم : أجل انحرمتي بوحدة من موادِك اللي منزلتها؟
قطّبت جبينها : لهالدرجة تشوفني دلوعة؟
أدهم يبتسم : قولي عادي لا تستحين .. وأنا بدبر لك عذر دامك مهملة.
لوَت فمها وهي تدرك أنّه قد رسمَ في عقلهِ صورةَ الطـالبةِ المهملةِ لها، ردّت ببطءِ كلماتِها الموضحة : ترى كوني رسبت ما يعني إني مهملة.
أدهم بسخرية : محد يرسب وهو مجتهد.
إلين بغيظ : هي مرة وحدة بس .. وإلا درجاتي دايم عالية!
ابتسم : طيب ليه كنتِ تبكين؟
أشاحَت وجهها مباشرةً باختنـاقٍ وصوتُها يعودُ ليضيقَ بآلامِه، عادت لها صورةُ أمّها، شعرت بالنقصِ يغزوها من جديد، من تسمى أختها، والدها، أمها!! كلّ تلك المفاهيمِ تفقدُها ، هذا النقصُ كم يُكلّف من الأنفـس ما فوقَ وسعِها " حزنًا "، هذا النقصُ لن يكُون إلا حين تغادرنا قناعتنا .. للأسف ، رغمًا عنها تحزنُ ورغمًا عنها تتحسّر على أمورٍ لم تذقها. هل كـانَ يجب أن تذوقَ كلّ هذهِ الخيبـةِ بعد ظهورِهم، تريد قول " ليتَ "، تريد التمنّي الآن و " ياليتهم لم يظهروا " لكنّها تشيخُ قبل أن تبدأ في التمنّي، تشيخُ كلّما أدركت بذلك أنّها تخسرُ نفسها أكثر في وحلِ خيباتِها.
جاءها صوتُه من جديدٍ يكرّر سؤاله بنبرةٍ تستفزّ الحزن فيها أكثر : ليه كنتِ تبكين؟ وش صار؟!!
تقوّس فمها قليلًا، تنظُر للبعيد، لمـا وراءِ كتفِه ، للسقفِ الخـاوي من ألوانِ الحيـاةِ وهذهِ الكآبـةُ في غرفتـه التجأت لها كي تزيدَ من حزنها أكثـر . . همسَت دون تعبير : جات اليوم.
أدهم يعقدُ حاجبيه دونَ فهم : جات مين؟
إلين تبتلعُ ريقها، نظـرت لملامِحه الحـادةِ وقد أدركت أن صوتها انزلقَ بتلك الكلمـاتِ دون شعورٍ منها، تنفّست بتحشرجٍ بينما احتدّت ملامحه قليلًا وهو يلفظ بحزم : مين اللي جات؟
إلين ببهوت : اللي ينقال عنها امّي . .
لم تشعُر بهِ إلا وهو ينتفضُ مبتعدًا عنها وملامحه تتبدّل بنـارٍ عصفَت فيها عواصِف حـارقة، عواصِف تحملُ براكينَ كرهٍ وازدراء ، براكينِ غضب !! . . ارتفعَ صوته فجأةً بتقززٍ وهو يقفُ أمامها بينما اتّكأت هي على ساعديها كي ترفع جسدها قليلًا بعد ابتعادِه : وش اللي كـانت تسويه هنا ؟!!!
مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعتدلُ بجلوسِها، تمرّر كفيها على شعرِها القصيرِ كي تنفُضَ عنه غبـار العبَث الذي أصابه، مُشعثةٌ ملامحها من الأسـى، مُشعثٌ صدرها من الخسرانِ والهوان . . همسَت دون تعبيرٍ وهي تهزُّ كتفيها : ما أدري وش كانت تبي بالضبط .. قطّت كم كلمـة وطلعت.
توحّشت ملامحـه فوقَ وحشيّتها، شدّ قبضتيهِ بوعيدٍ وهو يمرّر أحداقهُ على ملامِحها التي ترسّبت فوقها آثـار البكـاء، وبصوتٍ متباطئٍ يُنبئ بالخطـر : هي السبب بدموعك؟
عقدَت حاجبيها بتوجسٍ ولم ترد على سؤالِه الخافِت ذاك، وكـان صمتُها كافيًا لتصله الإجابـة، حينها تحرّك بغضبٍ مبتعدًا عنها وهو يهتفُ بنبرةِ شرٍّ ووعيد : والله لكسر راسها وأنسى إنها كانت بيوم مرة أبوي .. بنسى إنها كبيرة عجوز النــــــار!!!
شهقَت بصدمةٍ وهي تنتفضُ واقفـةٌ لتلحـق بِه بعد أن استوعبَت سببَ سؤالِه، هرولَت من خلفِه وهي تراه يمشي بخطواتٍ سريعةٍ يكسر بها المسافـات ومن الواضح أنّ شيطـانًا قـام على رأسِه، وصَلت إليه لتُمسك عضدهُ تحاول إيقافه وهي تلفظ برجـاء : لحظة .. لحظــة أدهم وش بتسوي ؟!!!
أدهم يحاول أن يسحب عضده وهو يهتف بحدّةٍ غاضبـة : بكسـر راسها الحيوانة شلون تبكيك؟ شلون تتجرّأ تدخل بيتك وتبكيك فيه؟!!
إلين بحدّة : لا تسبها .. تظل أمّي.
نظـر لها بغضب : بجهنننننم .. أمّك بس يوم تتجرأ وتنزل دموعك بنسى إنها امك !!
إلين تنظُر لعينيه برجاءٍ خفَت به صوتها : لا تسوي شيء ما عليك منها.
أدهم يستديرُ بكامِل جسدِه إليها، عـاد ليتطلّع لعينيها المحمرّتين، لوجهها المنتفـخ في دلالـة البكـاءِ الطويل، منذ متى قدمَت؟ وماذا قالت لها حتى تبكي بكاءً يبدو أنّه طـال لساعات! ما الذي قالته تلك المرأة ال . . . صمتَ وهو يريد شتمها ، شدّ على أسنانِه ليلفظَ من بينهما بعصبيةٍ بالغة : وش قالت؟!
ارتبكَت من سؤاله لتُشتّت عينيها وتلفظ : كلام ما ينقـال.
أدهم يرفعُ أحد حاجبيه : وشو ما ينقال؟
إلين بغضبٍ تنفجر في وجهه : ما ينقـال وبس يعني لازم تركّز على كل شيء !! خلاص ما أبي أقوله فكّني منك!!
شعرَت بِه يُمسِك بمعصمِها فجأة، سحبها إليه لتصتدمَ بصدرِه، ابتلعَت ريقها وهي تنظُر لملامحهِ الجامدةِ وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـة : وش قالت؟
إلين بشفتينِ ترتعشـان، باتَ قربه ونظراته وصوتُه الخافِت بنبرتِه الخطِرةِ هذهِ تُربكها وتضعفها ورغمًا عنها يتسلّل إليها الخوفُ منه .. لذا همسَت وهي تبتلع ريقها : بتعصّب.
كـاد يبتسم على براءةِ كلمتِها تلك لكنّ غضبه كـان أكبر، لذا أمـال فمهُ وهو يهتفُ بتساؤلٍ حازم : أنا معصب من غير يعني قولي.
إلين بربكة : بتعصب أكثـر.
أدهم بصبر : وصلت حدي في العصبية يعني تطمني.
إلين وصوتُها يرتعش : بتتجاوز حدك هالمرة وب . ..
صرخ بنفاد صبرٍ يُقاطِعها : وبعدييييييييييييييين !!! بتحكين وإلا شلون؟
إلين تُشيح وجهها عنه وهي ترتعشُ باضطراب، ابتلعَت ريقها قبل أن تهمِس : سبّتك ووو . . و بس !!
زفـر وهو يُغمض عينيه ويهتف بداخله " يا صبر أيوب "!!! .. لكنّه هذهِ المرّة ترك معصمها ، ربّما في داخِله لم يُرِد أن يعلم، يدرك كيفَ تراه، ويُدرك أنّها تتمادى بكلمـاتِها وربّما أفصحَت أمام إلين أنها أرادتها ليـاسر ، بالتأكيد تفعلها .. وكما قالت ، سيتجاوز حدودَ غضبِه ربّما إن هيَ أخبرته، لذا هذّب إرادتـه في المعـرفة . . فتحَ عينيه لينظُر إلى ملامِحها المُرتبكـة ، تخشـاهُ وإن مثّلت عكسَ ذلك ، ليسَ جاهلًا كي تخفـى عنه نظراتُ الربكـةِ والخشيـةِ كلّما اصتدمـا .. ابتسم، لا يدري هل ذلك يساعده أم لا ، لكن، ماذا كانت ردّة فعلِها لشتمِ أمّها له والحديثِ السيء الذي لم يعلمه؟ . . شعر أنّه سيهلك نفسه بالتفكير بردّة الفعـل والكلماتِ معها ، لا يريد أن يسألها ، ولا يريد أن يعلـم ، فهي الآن احتدّت بصوتِها عليه لأنه شتم امّها ، هل ستدافع عنه مثلًا؟
رفعَت كفَها لتُمسك معصمها وتتراجـع قليلًا للخلفِ وهي تُخفـض ملامحها المضطربـة عنه، شتفتيها ترتعشـان رعشـةً خافتـة وكأنّ البـرد أصابها، صوتُها ابتلعتـه الرجفـة ، تكره ضعفها الذي باتَ يظهر أمامه شيئًا فشيئًا، اليومَ نقضَت وعدها وبكَت ، وغدًا ماذا؟ قد تستسلمُ لهُ وتنصـاع ، تُصبـح له كمـا يريد بعد هذهِ الخشيـةِ التي باتت تُصيبها كلّما غضِب.
رطّب شفتيهِ بلسانِه وهو يعقدُ حاجبيهِ ويبتسم بعطف، وبخفوت : قطّعتي شفايفك.
انتبهَت أنّها كانت تعضَ شفتها من شدّة ربكتها، تنفّست بعمقٍ وهي ترفعُ وجهها نحوَه وصدرها يتعرقـل بأنفاسِها المُضطـربة، وبخفوتٍ تبرر : كنت خايفة تروح لها وتجيب العيد.
أدهم بحنـانٍ وهو يدرك أنّ تبريرها كـاذب، هيَ خائفةٌ منه! : خلاص ماني رايح لها تطمّني . . وعلى فكرة تطلعين شينة لو خايفة .. حلاتك صرصور يخوّف وما يخاف.
فغرت فمها من تشبيهه المُقزّز ، وبتهكّم : أنت تخاف منه يعني؟
أدهم بابتسامة : لا أنتوا اللي تخافون منه.
صدّت بوجهها عنه : تشبيه معفّن .. لا عاد تشبّه.
ضحكَ بصخبِ صوتِه لتبتلع ريقها وتُرخي أجفانها من فوقِ أحداقها دون أن تُغمِضها . . بينما اقتربَ أدهـم منها خطوةً وهو يهمسُ بنبرةٍ خافتـةٍ مبتسمـة : خاطري بشيء.
نظـرت لهُ مباشرةً بتوجّس، ويدها تشتدُّ على معصمِها وكأنها تدرك ما يريد ، لفظَت بربكـة : وشو؟
أدهم بمكر : بتخافين مني؟
إلين تتراجـع للخلفِ بتوتّرٍ وحذر : ليه بخاف؟ وش تبي؟
أدهم ببراءة : شيء بسييييييط مررررة ، وعادي ما يخوّف بس أنتِ الجبانة.
تحرّكت بسرعةٍ كي تبتعدَ وهي تدركُ جيدًا إيحاءاتِه الماكـرة تلك، لكنّها صرخَت فجأةً بذعرٍ ما إن أحاطَ خصرها من الخلفِ ليجذبها إلى صدرِهِ قسرًا ويضحكَ قرب أذنها وهو يلفظ بخفوت : وشوله الخوف يا بنت النـاس ما آكل والله !!
إلين بغضبٍ تحاول أن تفكّ حصار ذراعيهِ وكفوفها المرتعشتينِ بخوفٍ لا تساعدانِها : ابعـــــــد !! وخر عني يا قليل الأدب.
أدهم بعبث : تغويني هالكلمـة.
إلين بخوف : وش تبي؟!!
أدهم : بس هذا والله.
أكمـلت شفتيه إجابـته، التصقتا بوجنتِها في قبلةٍ عميقـةٍ جعلتها تشهقُ وهي توسّع أحداقها وتتنفّسُ بقوّةِ صدرِها الذي ارتفـع، ضغطَ على بطنِها الذي تشنّج بكفيه ليحتضنَ ظهرها إلى صدرِه الدافئ أكثر، جسدُها يرتخي، يستندُ بكفيهِ على الاستقامـة . . يشعُر بخلجاتِ الربكـةِ فيها ويشعر بالتشنّجـاتِ التي أصابَت أقدامها لتثقُل وتتّكئ على كفيْه ، لكنّه يشتـاق ، يشتاق لتقبيل وجنتِها ، هذا الحصـارُ عليهِ شحّ بوجنتِها ، هذا الحصـار الذي يمنعهُ من إغراقِ جفـافِ شفتيه لملمسِهما، لطالمـا وجدتُك في الزهُور ، أكرّرها كثيرًا ، أكرّرها ولا تتعبُ شفاهِي ، أنتِ زهـرة ، بُستـان، أنعمَ الله عليها بنعومةٍ لا تقوى أشواكِي على جرحِها . . زهرةٌ بيضـاءُ ناعمة، حتى الندى يؤذيها ! . . طـالت قبلته ، وطالت رجفتها حتى ضغطَت بقدمِها على قدمهِ بقوة، لم يتأثّر بهِ كونها حافيةً وهو لا .. لكنّه شعر بها، وابتسـم متراجعًا قليلًا لتضربها بمرفقها في بطنِه وهي تصرخ بغضبٍ ووجهها احمرّ بشدة : قلييييييل أدب !!!
وكانت تلك آخر كلماتها قبل أن تهرول للغرفـة كي تهرب منه وتنبثقَ ضحكةٌ عميقةٌ من صدرِه وهو يضغط على بطنِه الذي آلمه.
،
صباح اليومِ التالي ، وبعدَ الفطور الذي كـان مُشبعًا بالصمت، كـانوا يجلسُون في غرفـة الجلوس، جيهان تردُّ على رسـالة الدكتورة " ندى " والتي أخبرتها أنّها اليومَ لن تكون موجودةً في العيـادةِ لحالةٍ طارئة، تنهّدت بضيقٍ وهي تُعيد ظهرها للخلف، بحجمِ ما ترتاحُ حينَ تُخبـر غريبةً عنها بما يختلجُ صدرها من حُزنٍ إلا أنها تخجلُ من هذا التعرّي، تخجلُ من هذا الانهزامِ أمامها ومن عينيها اللتينِ تلتمعـانِ حزنًا .. من " فواز " الذي يسقُط اسمـه من فمِها كثيرًا أمامـها.
نظـرت نحوَ والدِها الذي وقَف، حينها تحنحنَت بربكةٍ وحرجٍ وهي تلفظ : يبه.
نظـر لها وهو يبتسم : عيوني.
جيهان بخجل : تخليلي هالعيون .. بغيت أقولك إنّ الدكتورة ندى أرسلت لي إنها ما تقدر اليوم تشوفني ..
يوسف يعقدُ حاجبيه : عسى ماشر.
هزّت رأسها بالنفي : انشغلت عن عيادتها اليوم.
تنهّد بصمت، ومن ثمّ غرقَ في صمتِه للحظـات، عينـاه بهتتا وكأنه بدأ يفكّر بشيء مـا جعلها تعقدُ حاجبيها مستنكـرة ، لا تطمئنُّ لسكوتِه، لغرابـةِ ملامحـه هذهِ الأيـام، لحيرتِه واهتمـامه الذي تضاعفَ بهم . . تحرّك فجأةً باتّجـاه البـاب وهو يمرّرُ لسانه على شفتيه ، وبنبرةٍ مستعجلـة : مضطر أطلـع الحين * نظر نحوهنّ ليردف بتحذير * ولا تطلعون ! ماني متأخر . .
لفظَ كلماتِه المحذّرةَ تلك ومن ثمّ خـرجَ لتحرّك جيهان رأسها نحوَ أرجوان وهي تُميل فمها وتنظُر لنظراتِ الاستنكـار في عينيها : مو كأنه يوم عن يوم يصير أغرب؟
ابتعدَت نظراتُ أرجوان عن البـاب الذي أغلِق بعدَ خروجِ والدها، نظـرت لجيهان وهي تعقدُ حاجبيها، وبحيرة : مرة ! فيه شيء مضيق خاطره ..
التمعَت عينا جيهان بتمرّدٍ وهي تنهضُ وتقتربُ منها، خفتَ صوتُها كي لا تسمعها ليـان وهي تقرّب وجهها من أرجوان لتهمسَ بخفوت : بطلـع وراه وبشوف وش اللي مشغله.
أرجوان تنظُر نحوها بدهشة : وشو؟ بتلحقينه؟
جيهان : اصصص لا تسمعك الفصعونة وتعلمه بعد ما يرجع .. بشوفه بس وش عنده ، واضح إنّه بيروح للشيء اللي مخرب عليه مزاجه من أيام.
أرجوان : للشيء؟
جيهان بتصحيح : للشخـص .. وحاسة إنه لأبو عيون فلتانة هذاك.
أرجوان بجزع : جوج بلا استهبال ترى بيعصب! واضح إنه ما يبينا نطلع لو درى بيمسح فيك البلاط.
جيهان تلوي فمها بتمرّد : وشلون بيدري يعني؟
أرجوان بحدة : جيهان ! انثبري أقول . .
جيهان : معليش بس تبينا نظل كذا ما ندري وش اللي مخبيه؟ يعني واضح إنّه شيء سيء وضايق خلقه بسببه .. ما يهون علي أشوفه بهالوضع عشان كذا بعرف وش وراه واللي مسوي فيه كل ذا . . وأنتِ تصرفي مع ليون لين أطلـع .. أشغليها ماراح أتأخر.
أرجوان : ماراح تحصلينه أكيد أمداه يبعد ..
جيهان : لو بعّد فمنك أنتِ .. اصرفي ليان وإذا ما حصلته بالحي وبالمقهى اللي يكون فيه بالعادة برجع.
أرجوان تزفُر : يا صبـر الأرض . .
خرجَت من المبنى وهي تثبّت حجابها الذي شعرت بهِ متراخيًا من عجلتها، بحثَت بعينيها في الشارعِ الذي تزاحمه الحيـاة، أصواتُ النـاسِ ورائحة الخبز ، ضوءُ الصبـاحِ الذي يزاحـمُ عينيها فتغضّهما عن السمـاء، تُخفضُ أجفانها وتُشيح بصرها عن شمسِها الدافئـة . . تحرّكت خطواتُها بزخمٍ تبحثُ بحذرٍ وخشيةٍ من أن يكون والدها قريبًا ويراها ، عـادةً ما يجلسُ في المقهى المقـاربِ لهم في هذا الوقت عدا أنّه تخلى عن عادتـه لسوءِ مزاجِه منذ أيـامْ . . اتّجهت لذلك المقهى وهي تمرّر لسانها على شفتيها، إن لم تجدْهُ هنـاك ستعود مباشرةً فهي لا تنكـر أنّها مرتبكـة فوالدها باتَ حازمًا في أمـر خروجهنّ دونـه.
وقفَت عند بابِ المقهى ليصتدمَ كتفها بالخـارجِ منه، ابتعدَت بجسدها وهي تتمتمُ بكلماتٍ متضايقـة، بحثَت بعينيها سريعًا لتسقطَ فجأةً على ملامحه، حينها سارعَت بالالتصـاق بإطار البابِ وكأنها بذلك تحتمي من انتباهِه .. ضيّقت عينيها تحاول أن ترى الذي يجلسُ معه .. ظهرهُ كـان يواجهها بينما ملامح والدها تقابلها ولو رفـع عينيه للبـابِ سيراها بالتأكيد .. كـان يتكلّم بكلمـاتٍ رأت الحدّة فيها من حركةِ شفاهِه وعقدةِ حاجبيه ، غاضِب ، هنـاك غضبٌ وحنقٌ يتصاعدُ بركانهما في عينيه . . . حانَت من الشـاب الذي يجلسُ معه التفاتـةٌ للجانِب .. كان بدر ، ينظُر للجالسينَ وهو يزفُر بضيق ، عقدَت حاجبيها ، ومن ثمّ تراجعَت وهي تشتمُ بقهر .. هو السبب إذن ! الآن تأكّدت شكوكها من بعدِ نظرتِه له في المطعمِ صباح الأمـس .. ما الذي يحدثُ وما علاقة ذاك الشابِ بتغيّر والدها وحذره؟ ضيقِه ومزاجـهِ السيء !! .. استدارَت وملامحها تتغضّن بضيق ، أرادت أن تغسلَ جزءً من فضولها لكنّه الآن تضاعف . . هزّت رأسها بالنفيِ وهي تُميل فمها وتُتمتم : لازم أعرف وش مسوّي هالكلب فيه !!
شهقَت بصدمةٍ وتوقّفت خطواتها بل تراجعَت ، اتّسعَت عينـاها وهي ترى الملامِح التي ظهرت أمامها ببرودِها ، تجيء ردّة فعلها " بالنبض "، يتعرقـل قلبها باسمِه كلّما فكّرت بِه فكيفَ حين يظهر؟ كيفَ حينَ يبزُغ مع ضوءِ الصبـاح وترمـق عينيهِ حقيقـةً لا ذكـرى ! .. كيفَ تجيء ردّات الفعـل بشهقةِ شفاهٍ وشهقةِ قلبٍ ولا يتهاوى جسدها في الفتور؟
بهتت ملامحها وصدرها يرتفعُ باضطراب، بينما كتّف ذراعـيه ، ببرود، بجمود .. وصوتُه يظهرُ إليها من عدمِ التعبير : وش اللي مطلعك بروحك هالوقت؟
،
يمسحُ وجههُ المبتلّ بالمنشفـة، صفيرٌ في أذنـه، لا يدري من أيْن، لكنّه يشعُر بأنّ هنـاك صراخًا يُخلقُ في مسامِعه، يغادره النومُ فلا يستطيع أن يسترخِي ولو للحظـة، لا يستطيع سوى الحزن وهذا الصـداع الذي يكادُ يحطّم رأسـه.
رمـى المنشفة الرطبة جانبًا وملامحه متجهّمةٌ بضيق، عينيه تضيقان، تريدان النوم لكنّ الأرقَ سحقَ حاجته له . . رفـع وجهه للبابِ حينَ طُرق، عقدَ حاجبيه وهو ينهض، وبضجر : لحظـة.
تحرّك باتجـاه الباب ليفتحَ قفله، ابتسمَ له عبدالله ما إن سقطَت عينـاه على وجهه، دخـل وهو يلفظ : صباح الخير ، شفيك متضايق كذا؟
أشـاح متعب وجهه وهو يغلق البـاب، في حينِ جلس عبدالله على المقعدِ الذي يجلسُ عليهِ عادةً، واتّكأ متعب على البابِ بكتفِه وهو يكتّف ذراعيه ويلفُظ بجمود : ما أذكر أنّي قلت لك متضايق من وين جبت هالاستنتاج.
عبدالله : أووووه النفسية منتهية اليوم.
متعب يزفُر وعُقدة حاجبيه تتضاعف : ادخل في الموضوع مباشـرة ، وش تبي مني؟
عبدالله يبتسم : الله يلطف على صدرك.
متعب بحدة : شيء ثاني؟
عبدالله يضع ساقًا على الأخـرى : تعال يا ابن الحلال واجلس خلنا نحكي زي الناس.
زفـر بمزاجٍ سيء ، دائمًا ما ينهضَ في الصبـاح ومزاجُه يحكِي هذا السوء، منذُ أكثـر من سنتين ومزاجـه باتَ عادةً للأسف، يطغــى على سكونِ الصبـاحِ ويطغـى على زرقتِه ، ينهضُ عاقدًا حاجبيه وغالبًا ما ينـامُ بهذهِ الهيئةِ أيضًا . . واليومَ تضاعفَ سوءُ مزاجـه، بل تضاعفَت منذ عاد للريـاض، بحجمِ ما شغفَ بالعودةِ إلا أنّ كونه قريبًا ممن غدروا بهِ وخانوه يؤذي صدره، بعده عن والدته رغم أنه على ذات الأرض .. كل ذلك يؤذيه !!
تحرّكت خطواتُه قسرًا ليقتربَ منه، جلسَ على المقعدِ الذي أمامه لتفصل بينهما الطـاولة، وبهدوءٍ ظاهريٍّ وهو يفرشُ ذراعه على سطحِها : جلست .. ممكن تدخل في الموضوع مباشرة؟
عبدالله بابتسامةٍ وقورة : ما أبي أضغط عليك .. عشان كذا كنت دايم ساكَت وتاركك براحتك ، بس اليوم معليش محتاج إدلالك .. أبيك تعلمنِي وش صار من سنة 2012 للحين . .
ظهر على ملامِحه الظـلام، هذا الظـلام الذي يبترُ الظـلالَ فلا تُسعفه بحمايـةٍ مـا ، من عريّ المشاعِر ومن أوجاعِها . . . همسَ بصوتٍ دون تعبير : تبي تقنعني إنّك ما تدري !!
عبدالله بهدوء : أتوقع محنا عالمين للغيب يا متعب! أبي التفاصيل.
يدرك جيدًا أنّه لا يعلم كلّ التفاصيل، يدرك جيدًا لأنّه لم يعلم حتى الآن أنّ لشاهين دورًا معهم .. هل يخبره الآن؟ هل يقولها لهُ فتنتهي حياتـه خلفَ قضبانٍ ومحاكمـةٍ قد ينتجُ منه " إعدام " . . لمَ هذهِ الغصّة الآن؟ لمَ توجعني فكرة أن يحدثَ لهُ أذى وهو الذي " هان عليه أنا "؟! لمَ توجعني يا شاهين فكرة أن أؤذيك؟! لمَ ما زلت أريد حمايتك وأكرهك ولا أكرهك!! . . عادَت لهُ كلمـاتُ أدهم البارحـة، عضّ شفته السُفلـى بحسرة ، الرسائل لا تكذب، عينـاي لا تخطئآن رقمك ، صوتك لا تتشوّشُ نبرته عن مسامعي يا شاهين . . لأكون منصفًا ، الرسائلُ قد يُخادِعها أحـد ، قد يغدر بكَ أحدٌ كما حدَث لي ويرسلها من هاتِفك .. لكنْ الصوت !! لا يمكن .. لا يُمكن أبدًا.
رفـع كفّه المضطربـة ليمسح بها على جبينه، نظـر لملامِح عبدالله بضيق، سيقولها له وينتهي كلّ شيء .. سيقولها له . .
عبدالله : بالوقت اللي سافرت فيه أنت قدرنا نمسك واحد من الجمـاعة اللي تحت سالم وكانوا معه يوم طحت بيدينهم .. علّمنا عنك من بين اعترافاته .. ومنها صارت حمايتك واجبة علينا، بس بيوم حريق الفندق كان فيه جثّة بشقتك .. ما ظهرت إنها لك بالتحاليل بس طلعناها على أساس إنها لك ، وبعدين اكتشفنا من ملفات قديمة إنها لشخص له سوابق، وكـان منضمّ للرازن .. اللي أبي أعرفه ، هو اللي كـان له دور بالحريق أكيد .. بس شلون مات بدالك؟ أنت اللي قتلته؟!
عقدَ حاجبيه وكلماته الأخيرة تخرج بنبرةٍ جامـدة، حينـها زفـر متعب وهو يتذكّر تلك الليلـة ، نظـر لعينيْهِ مباشرةً ومن ثمّ هتف ببطء : بعلمك كل شيء .. كل شيء هالمرة .. بس بالأول عندي شرط.
عبدالله يعقد حاجبيه : شرط أيش؟
متعب بتأني : بسألك عن شيء بسيط .. وأبيك تجاوبني عليه .. مجرّد معلومة أبيك تأكّدها لي إذا أيه أو لا . . تقدر تعطيني هالخدمة؟.
نظـر لهُ بتوجّس، يستطيع أن يجبره على الكلام ، لكنّه لا يستصيغ ذلك مع أمثـاله، يعطـف عليه بالمعنـى الصحيح، لذا أومأ رأسه ببطءٍ وهو يلفظ بتمهّل : اسأل.
متعب بهدوء، لا يدري إلى أين سيصِل، لا يدري ما هذهِ الحجّة الضعيفة التي جالت في عقله .. لكنّه الأمـل الأخير ، الأمـل الذي يدرك أنّه انقطـع قبل حتى أن يُعقد " من شدّة اليأسِ الذي يعتريه " : فيه امكانيّة إن أي أحد ينتحل صوت شخص؟ يعني انسـان يكلمك بصوتْ شخص تعرفـه ، نفس النبرة ونفس الصوت.
عقدَ عبدالله حاجبيهِ باستنكـار، أمـال فمه قبل أن يلفظ بتساؤل : ليش تسأل هالسؤال؟!!
متعب برجاءٍ خافت : رد علي .. فيه امكانية؟
عبدالله بعدَ صمتٍ قصير : مممم نقدر نقول فيه ..
تشنّج فكّه وصدره يرتفـع في تنفّسٍ عسِير، تقدّم جسده للأمامِ وهو يرفع ذراعه الأخرى ليفرشها على الطاولـة مع أختها .. هاتفًا بلهفة وأمـلٍ انعقد : متأكد؟
عبدالله يرفع حاجبيه بتعجب : هذا سؤال ينسأل لي؟ أيه فيه امكانية.
متعب يبتلع ريقه بصعوبـة : شلون؟
عبدالله : إذا متواجدة عيّنات من الصوت .. يعني تسجيلات ففيه امكانيـة إنّ أحد يقلّده والتقنية تطوّرت .. وصعب للأذن تستوعب إذا هو الصوت الحقيقي أو لا . .* أردف بشك * أيش تبي من هالسؤال؟!
شعـر بأجفانِه تثقُل .. صدرهُ يضيقُ ويغادرهُ الأكسجين، ملامحه تشحب ، لا يدري في هذهِ اللحظـةِ ما المشـاعر التي اعترته غير الأمـل الذي تصاعدَ فيه، الأدرينـالين ضخّ في جسدِه بارتفـاع معدّل نبضاتِ قلبه، رعشـةُ شفاهِه، صوتُه الذي اختنـق .. ضغطَ بكفيه على فمه، أسند مرفقيه على الطـاولة وهو يغمضُ عينيه، صورةٌ من الحُزن تداعَت، تحطّم إطـارٌ من الإطـارات الأربعةِ للخيبِة ، بيـاضُ عينيهِ تلاشـى وباتَ احمرارًا أسدل عليه ستائر أجفانه، بينما صوتُه المختنقُ يخرجُ من فمِه برعشته، يصتدمُ بكفيه فيختنق أكثر بنبرتِه الراجيـة، المستغيثة، السائلـة الله " حيـاة " وانبعاثًا بعدَ موتِه الذي طـال : يارب .. يارب يارب ، يارب أكون حقير إنّي صدّقت فيه .. يارب أكون غلطـان وأستاهل الموت .. يارب أكون كل شيء سيء بس هو لا !! هو صادق .. هو أخوووووووي .. يارب اكتبني قدّامه بحقارةِ اللي ظنْ فيه ظن سوء بس هو لا يكون غدر فيني .. يارب إنّي أحتاجه! والله أحتاجه بصفي .. ما كسـر ظهري إلا هو !! ما كسـر ظهري إلا شاهين فيارب اكتبني الظـالم وهو المظلوووووم.
غطـى وجهه بأكملـه ، مشـاعرُ عصفَت بِه ، أمـل وحزن ، لكنّ الحزن كـان آخر ، كـان حزنًا من نفسه ، يا الله لا تكتب لأملي الانقطـاع .. اللهم إنّي أحتاجه وإنّي لهذا الشقـاءِ راضي ، اللهم إنّي راضٍ عن تلك السنوات، أضحّي بها لأجـل هذا الأمـل ، لم أعد أبـالي كم بقيتُ هنـاك، كم حزنت، كم كُسرت، لم أعـد أبـالي بحزني لكنّي أبـالي بِه !! كسرتني تلك الكذبـة ، فلا تكتبها كذبـةً أيضًا .. كسرتني غربتي أضعافًا حيـن فقدته .. يا الله اجعلني الظـالم ، يا الله اجعلني الظـالم وهو المظلوم .. يا الله إنّي أحتاجه .. أحتاج أن أسند نفسي عليه وأحتمـل البقيّة من حياتي التي فرغَت من دونه .. إلهي كم بكى فؤادي قطعـةً مني احتجتـها وظننتُ أنّها خذلتني .. اكتبه ظنّ سوء ! اكتبـه ظنّ سوءٍ وعاقبنـي بظلمٍ هو ظلمـاتُ يومِ القيامة، أريد العقاب وأريد أن أحترق لأنّي ظـالم، لا أريد أن أكون مظلومًا ، لا أريد هذهِ الخيبة ..لا أريد أن أشقى أكثر، أريد أن أحيا ، وأحتاجه! أحتـاجه ماءً وأحتاجه حيـاة. اللهم إنّي أحتاجه!!
بقيَ يكرّر " يارب " ويدعي على نفسِه أن يكون ظالمًا ، بقيَ يغرقُ في عاصفـةِ أملهِ وحُزنِه حتى غابَ عنه صوتُ عبدالله وبقيَ يتأرجح على نشوةِ الحقيقة .. أن يكون بريئًا من كلّ ذلك ، أن يذهب إليه الآن ويحتضنه عن سنينَ بكـاه، عن سنينَ فقده، عن سنينَ اشتاقهُ ورأى أنّ شوقه محرّم، عن سنينَ كـان فيها يحتاجه وظنّ أنه يحتـاج قاتله .. لام نفسه كثيرًا .. من يحتاج شخصًا آذاه؟ من يحتاج هذا الإحتياج الظـالم للنفس؟
شعـر فجأةً بكفيْن قبضَتا على معصميه بقوّةٍ لتسحبَا يديه عن ملامِحه التي غرقَت بانفعـالِه، لم يكن يدري أنّه أصبـح يتنفّس بقوَة، لم يكن يدري أنّ نبضـاتِ قلبه باتت تتصاعد حتى يكاد صدره أن ينفجـر، لم يكن يدري أنّه يكادُ في هذهِ اللحظـةِ أن يموت ، بينما عبدالله كـان يقفُ بجانِبه وهو يلفظُ بصوتٍ صارخٍ يصلُ إليه مشوشًا : متعب شفييييك؟؟!!! اهدا .. اهدا وتنفّس بشويش.
كـان جسدهُ ينتفضُ وهو يهمسُ بأنفاسٍ ذاهبـة، بعينينِ جفّتا عدا من الحمرةِ التي غزَت بياضهما، يلفظُ بصوتٍ لازال راجيًا : يــــــــــــا الله !!!!
عبدالله بانفعالٍ يصفعه : اصحى بتذبح نفسك .. شفيك وش صار لك؟
متعب الذي لم يشعر بصفعته : شاهين .. شاهين.
عبدالله يعقدُ حاجبيه : شاهين!! شفيه ؟؟!!
نظـر نحوهُ متعب بعينينِ تضبّبتا عن الرؤيـة ، وبرجـاء : أبي أشوفه !! أبي أتأكّد منه شلون؟
عبدالله بحدة : شلون أيش؟!!
رفـع كفّه المرتعشـة ليمسحَ على فمِه ويغمـض عينيه بقوّة ، كيفَ يتأكّد؟ كيفَ يتأكدُ ليلتقي بِه ولا شكّ في قلبه؟ كيف يلتقِي به وهو متعب فقط .. متعب الحيّ وليس الميّت . . . بقيَ ساكنًا للحظـاتٍ طويلة، تركه فيها عبدالله وهو يتراجـع للخلف، يريده أن يسيطر على انفعالاتِه ويسكُن ومن ثمّ سيعلـم ما الذي جعله بهذا الانفعـال بعـد أن سأله ذاك السؤال دون مناسبـةٍ ما ، أو هكذا يعتقد.
مرّت دقائقُ امتدّت لربعِ ساعة، لم يكن متعب يريد أن يتأخّر في التأكّد أكثر، لذا وجَد نفسه ينظُر لعبدالله بحدّةٍ ليلفظَ بعد أن استقرّت أنفاسه : بعلمك كل شيء .. كل شيء وأبيك تساعدني.
يُتبــع . .
|