كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
الخامسة مساءً
أغلق الباب من خلفه بعد أن دخل، ليتنهد بإرهاقٍ ثم يتجه لإحدى الأرائك يرمي بجسده عليها، انتبه لصوت غناءٍ يُصدر من إحدى قنوات التلفاز، والصوت كان ضئيلًا لكنه انزعج ليرفع جهاز التحكم ويبدل القناة إلى أخرى صدح منها صوت القرآن.
ثم وقف ليتجه للغرفة التي يتوقع أن تكون فيها غزل، وحين ولج وجدها فارغة، قطب جبينه ليتجه للمطبخ، ولم يجدها هناك أيضًا، شعر أن أعصابه تثور لكنه أمسك بزمام نفسه ليبحث في بقية الحجرات القليلة، لكنه لم يجد أيّ أثرٍ لها! أين يعقل أن تكون؟ أخرجت من غير إذنه أم أصابها شيءٌ ما!!!
بلل شفتيها بتوترٍ وهو يمرر كفيه على رأسه لينزع شماغه ويرميه، ثم اتجه للباب بخطواتٍ مُتسعة ليخرج ينوي السؤال عنها في الأسفل، لربما كانت قد خرجت بمفردها وهنا لن يسكت، ولربما حصل لها أمرٌ ما أو اقتحم الجناح شخصٌ ما عليها، أفكارٌ عديدة داهمت عقله ولم تتوقف لتزيد من قلقه، وقف أمام المصعد الكهربائي وحين تأخر غير وجهته للدرج، لكنه توقف فجأةً وهو يستمع لصوتِ ضحكاتٍ صدرت جهة المصعد، صوتٌ عرفه جيدًا ليستدير بعينين مُشتعلتين إليها.
وقد كانت وقتها تخرج من المصعد الكهربائي بعد أن فُتح بابه وكفها تقبض على الهاتف بجانب أذنها، وصوت ضحكاتها الوقحة كانت عاليةً بالقدر الكافي لتجذب الأنظار.
ماذا عساه يفعل في تلك الحال؟ كل ما شعر به هو نيرانٌ اشتعلت بداخله، تمنى لو يخنقها في تلك اللحظة لكنه زفر أنفاسه دون شهيقٍ ليتجه إليها في خطواتٍ قليلة ليمسك أخيرًا برسغها.
وتلك تفاجئت لتشهق وتغلق الهاتف بسرعةٍ تنظر لملامحه الحادة والمُتشنجة بغضب، وقد كانت تحمل في يدها المُتحررة من الهاتف بضعة أكياسٍ من عدة أسواقٍ مرّت عليها بعد أن أكلت.
همست باسمه بتلعثمٍ وخوفٌ اعتراها، وذاك لم ينطق بكلمةٍ لكن أنفاسه وحدها كانت تشرح غضبه الصاعق، ودون أن يهتم بالأعين المراقبة من الناس سحبها بشدةٍ حتى وصل لجناحهما وأغلق الباب من خلفه.
غزل باضطراب : اترك يدي تعورني
استدار إليها بعد إغلاقه للباب، وبغضبٍ تجلى على ملامحه : وعساها للكسر قولي آمين
أردف بغضبٍ وصوتٍ خافت وهو يشد على يدها أكثر : انتِ شلون تطلعين كذا بدون لا تعطيني علم؟؟ شلون طلعتي من الأساس بروحك!!
حاولت سحب يدها وقد سقطت الأكياس فور دخولها، لتصرخ في وجهه بصوتٍ غاضبٍ مرتعش : اترك يدي سلطان .. مو من حقك تحاسبني
اتسعت عيناه ليهتف بغضب : لا والله … من حق مين أجل يا زوجتي العزيزة
ارتخت ملامحها بألمٍ لتهمس بصوتٍ لم تهتم لخروجه راجيًا : اترك يدي طيب .. تعورني
نفض يدها بوجهٍ مزدرءٍ لتصرفها، تُجبره على التعامل معها بطريقةٍ لا يرتجيها، هو يتمنى لو أنها على الأقل تحترمه ليستطيع أن يعاملها بما يحب، وهاهما لم يكملا الأسبوع وهما معًا لكنها تفسد أعصابه وتغضبه.
سلطان بغيظ : وين كنتِ؟ * زمّ شفتيه ينظر لعباءتها ليشدها بيده غاضبًا * وبعدين أنا ما اشتريت لك عباية غير هذي! .. وشلون تلبسينها؟؟؟
نظرت إليه غزل بنظراتٍ غاضبه، بعضٌ منها خائف، لكن الأكثر منها غاضب، كيف يتجرأ ليعاملها بهذه الطريقة؟ كيف يتجرأ ليحاسبها في خروجها ولبسها؟ من هو أصلًا ليتمادى معها، كانت تدرك أنها لو تساهلت معه وأظهرت خوفها فهو سيتمادى ليعتقد أن له الحق الكبير عليها.
هتفت بغضب : مالك شغل! وخرقتك اللي اشتريتها خلها لغيري ما تناسبني
زمّ شفتيه بغضب، ليستدير ينظر للباب المغلق ومن الواضح أنهما هذه المرة قد يتحاوران بشكل يجعل أصواتهما فاضحة.
يتحاوران! ما موقع هذه الكلمة بينهما؟ ... تعبيرٌ خاطئ لا يدل إلا على سذاجتي للقليل مني الذي يظن بها خيرًا، وهذه الكلمة من الواضح أنها ملغيةٌ في علاقتهما.
التعبير الأفضل هو العناد، من الواضح أن لا أسلوب معها سوى العناد وقمع الواجبات والمسؤليات المتعلقة بكونها زوجته.
عاد لينظر إليها، ثم أمسك بكفها ليسحبها معه للداخل، تحديدًا لغرفتهما فهو لا يضمن صوتها هي خاصةً.
وتلك خافت لتحاول سحب يدها منه بقوة : وش ناوي تسوي؟ … اتركني سلطان … ابعـــد
ارتفع صوتها كما توقع، ليغلق الباب من خلفهما وتلك اتسعت عيناها بذعر. لتتراجع للخلف مُرتعشةً … ما الذي ينوي فعله؟ ولم أدخلها هنا ولم يتحدث في الخارج؟
أصابها إرتعاشٌ حاد في فقراتها، لتتراجع بعينين متسعتين هاتفةً بتوسل : آسفة .. والله آســفــه
ما كنت أدري إنه لازم أستأذن منك .. ما تعودت أستأذن من أحد وقت أطلع
بس أنا جعت وما كان عندي شيء آكله وانت جبت لي مع الأكل سمك وأنا ما أحبه ولا أطيقه، وبعدين نسيت نفسي ورحت أتسوق
تراجعت أكثر لتصطدم بالسرير وذاك اتسعت نظراته المصدومة من ردة فعلها التي لم يفهم سببها. لتردف بتوسل : تكفى سلطان لا تسوي فيني شيء، اضربني خلاص راضية بس ابعد عني … ابــعـــــــــد
تراجع للخلف وملامحه بهتت، فهم أخيرًا سبب خوفها منه، لكن لمَ كل هذا الخوف منه؟ ليست هي من طلب أن يكون زواجهما صوريًّا فكيف كانت تتوقع أن تكون حياتهما لو لم يشترط ذلك؟ أيعقل أن هذا الخوف هو الخوف الطبيعي لكل امرأة؟؟
لا … خوفها غريب، لم يستطع عقله أن يستصيغه، هو زوجها أولًا وأخيرًا فلمَ قد تخافه بهذا الشكل؟؟
رطّب شفتيه بلسانه ليغمض عينيه بقوةٍ ومن ثم فتحهما، وبهدوءٍ نطق : طيب ليه ما اتصلتي علي وقلتي لي؟؟
غزل بارتعاشٍ وضعف : قلتلك ما تعودت أستأذن
سلطان ببرود : أجل من اليوم تعودي على هالشيء لأنه ما يصير تخرجي من دون اذني
أومأت دون شعورٍ وهي تحاول قمع دموعها التي تكابد للخروج، ليستدير عنها ينوي الخروج، لكنه عاد للنظر إليها قبل أن يخرج هاتفًا بهدوء : وياليت هالخوف اللي معي تنسيه … لأننا مستحيل نعيش وانتِ كذا
,
اقتربت منه ببطء، وقد كان وقتها يجلس أمام التلفاز وهي من خلفه، وحين أصبحت خلفه تمامًا ولا يفصل بينهما سوى الأريكة رفعت كفيها لتغلق عينيه
ضحك حين شعر بكفيها : حيّ الله غدوي
ضخمت صوتها : مين غيداء؟؟؟
ارتفعت ضحكاته وهو يقرص ظاهر كفها لتصرخ وتسحب يدها : يا الخايس
استدار إليها مُبتسمًا : أجل مين غيداء؟؟ أنا قلت غدوي مو شرط يكون الإسم غيداء …. ممم نقول غدي، غيد، غادة
غيداء بتكشيرة : وووع … كلهم خايسين مافيه غير غيداء وبس يليق عليه هالدلع
ابتسم ليقف ويدور حول الأريكة إلى أن وصل إليها : وكيفها المغرورة اليوم؟
نفخت فمها بالهواء ومن ثم هزت رأسها بالنفي : ماني بخير
قطب جبينه : أفـــا!!
غيداء بعبوس : فيه بنت اليوم ملاحقتني وترمي علي كلام يضايق
نظر لوجهها باهتمامٍ ليمسك بكفها ويسحبها معه ليجلسان : كيف يعني
غيداء ببراءة : تقولي إنتِ لساتك بنت والا مو بنت!
انعقد حاجبيه دون فهمٍ في البداية، لتردف : أقول لها وانتِ وش شايفتني ولد تقوم تتمصخرعلي
زمّ شفتيه للحظات وعيناه متسعتان، ثم مرر أنامله على خصلات شعره بغيظ، فهم ما ترمي إليه تلك الفتاة، إذ يبدو أن الموضوع تجاوز المعقول وأصبح يجري على ألسنة الناس، ما ذنبها هذه الطفلة ليتشوه الحديث عنها؟
دققت غيداء في تغيرات وجهه وارتبكت، يبدو أنه غضب لكن لمَ؟
نظر إلى وجهها بغضب، وبخفوتٍ حاد : وش اسم أبو هالبنت؟
ابتلعت ريقها بارتباك، وندمت على تحدثها بهذا الموضوع معه، ماذا عساها تقول له الآن؟ ابنة القاضي سارة نفسها!!!
تلعثمت قبل أن تهمس : ما أعرفها
نظر لعينيها وقطب جبينه مُستغربًا، لمَ تكذب؟ : ليه الكذب غيداء؟ ما ودك تحكين؟؟؟
شعرت بالحرج منه، ودائمًا ما يكشف كذبها عليه، لذا صمتت ولم تجب، وهو وقف مُستاءً : كم مرة لازم أعلمك ما تكذبين علي؟ بس شكلك شايفتني قدامك بزر وعاجبك مضايقة هالبنت لك
عضت زاوية شفتها السفلى بارتباك، لتهمس بأسف : آسفة مو قصدي بس
وصمتت من بعدها ليزفر بضيق : لا بغيتي تحكين تعالي لغرفتي
ثم ذهب دون كلمةٍ أخرى لتجفل هي للحظات، لتشد قبضتيها بقوة، لقد غضب منها، تدرك أنه الآن عاتبٌ عليها ولن يعود للتحدث معها إلى أن تعتذر وليس أي اعتذار، بل يجب عليها أيضًا أن تخبره من هي الفتاة.
ندمت لأنها أخبرته، ليتها لم تقل له من الأساس، يستحيل أن تقول له أنها سارة، شيءٌ ما بداخلها يمنعها، فهو لطالما عاتبها حين تُحدث تلك الفتاة، ولطالما حذرها منها.
,
الساعة الآن هي السابعة مساءً، وتلك تجلس على السرير ركبيتيها مرتفعتين للأعلى وذراعيها التفتا حول ساقيها، بينما ذقنها كان يسترخي على ركبتيها وعينيها تنظران للفراغ بحيرة.
بعد قليلٍ سيأتي الكثير من الناس، وهي لا رغبة لها بالخروج إليهم .. تأفأفأت بضيق، وصوت الطرق قد اعتلا وكم مرةً قد طُرق عليها الباب هذا اليومين، اتجهت إليه بملل، لتفتح وترى أمامها هديل تقف بثوبٍ نبيذي تدلى بطوله على جسدها النحيل بنعومه، وحين رأتها شهقت : ما تجهزتي للحين!!!!
إلين ببرود : ما ودي غصب هو؟؟
عبست هديل لتمسك بيدها تسحبها معها للدخل : عنادك صاير يرفع الضغط
هذا ماهي تريد، أن يضيقوا ذرعًا بها في النهاية ويتركوها حين تقرر الرحيل، سترحل لمنزل والدها فهي تنتمي إليه، حتى وإن كانت قد رُميت منه منذ ولدت لأسبابٍ لا تعرفها إلا أنها ستعود فهذا أفضل لها ولهم.
أردفت هديل بعد أن أغلقت الباب : أنا بختار لك لبس حلو … وبتلبسينه وتنزلين بعد
إلين بضيقٍ تأفأفت : قلت ما ودي … حتى اللبس والجلسه مع الحريم صارت بالغصب في هالبيت؟
تضايقت هديل لتترك يدها : واحنا في وشو غصبناك قبل كذا؟
صمتت إلين وهي تحاول تذكر شيءٍ واحدٍ أكرهوها عليه، ولم تجد، حتى الزواج بياسر لم يجبروها بل تركوا لها حرية الموافقة، وحين رفضت تركوا لها المجال لتفكر أكثر، هه، أيظنون أنها ستوافق في النهايـَة؟؟ لا وألف لا، هي اتخذت قرارها سابقًا ولن تغيره مهما حدث، مقتنعةٌ به ولا مجال لتفكيرٍ عقيم لا نتيجة له.
هديل برجاء : تكفين ليّون ... يرضيك تكسرين بخاطري كذا؟
نظرت إليها ببرود، وكم يزعجها أن تتوسل إليها هديل بهذا الشكل، لكنها في النهاية هتفت ببرود : ليه مصرة إن بنت مالها أصل متكفل فيها أبوك وما عجبك خطبة أخوك لها تنزل مخاوية لك قدام الحريم!!!!
بهتت ملامح هديل، لتعض شفتها بحزنٍ وكلام إلين جرحها، أسيصبح تصرفها ذاك ورأيها الأول بالموضوع بصمةً دائمة في علاقتهما؟؟ أستصبحان شحنتان متساويتان لتنفران دون مجالٍ للتجاذب بينهما؟
تراجعت بصمتٍ لتخرج من الغرفة دون كلمة، وتلك بدا على وجهها الإنكسار والندم، جرحتها، جرحتها وليتها لم تقل ما قالت، هي لا تقوى على رؤية أحد أفراد هذا المنزل مجروحين بسببها، لا تقوى على رؤية الحزن في عيني أحدهم بسببها هي، فكيف قامت بجرح هديل الآن، كيف استطاعت ذلك؟؟؟
تبعت هديل بسرعةٍ دون أن تغطي شعرها أو ترتدي عباءتها حتى، وبصوتٍ عالٍ قليلًا : هديل
لتتوقف تلك عن حركتها وتستدير إليها بابتسامةٍ زائفة : هلا
إلين بارتباك : آسفة ما قصدت
صمتت هديل قليلًا، قبل أن تمعن النظر بها وتنتبه لخروجها دون شيءٍ يُغطي جسدها وشعرها، وبهمس : عبايتك
تلعثمت إلين حين انتبهت، وباحراج : نسيت
لتعود أدراج غرفتها بسرعةٍ بعد أن هتفت : خلاص بلبس وأنزل معكم وقت يجوا الضيوف ... كله ولا زعلك
ابتسامةٌ زينت ثغر هديل، وراحةٌ غلفتها، لكنها استشعرت أنها فعلت ذلك رغمًا عنها لترضيها وحسب، وبالرغم من ضيقها لذلك شعرت بالراحة كونها بذا مكانةٍ لديها.
,
صرخت في وجهه بغضبٍ وهي تشير إلى ساعة يدها : صارت ستة إلا ربع وانت هايت مع اللي ما يتسمى ... نسيت عمرك معاه هاه!!
ينظر إليها بطوله الضئيل ونظراته الدامعة ترتفع للأعلى حتى يرى وجهها جيدًا، لم ينطق بكلمةٍ وهو خائفٌ من أمه بشدةٍ وصراخها يبعث إليه الذعر ويلجم كلماته، وتلك أكملت بغضبٍ وقهر : بس الشرهه مو عليك ... الشرهه على اللي مخليك طالع وياه ... بس والله والله يا زياد انك تحلم تشوفه لأسبوع كامل
سقطت دموعه وتقوست شفتاه، ليهز رأسه بالرفض ويتشبث بتنورتها التي تصل لنصف ساقها مُترجيًا : لا ماما الله يخليك لا تحرميني من شوفة بابا
بثينة بقهر : وجع يوجعه عساني أسمع اليوم بجنازته
أنزل كفاه الصغيرتان ليرتفع صوت بكائه، حينها طُرق باب غرفتها ليصل إليها صوت والدها : حسبي الله عليك من بنت وش سويتي بالولد؟؟
استدارت جهة الباب ولازال قهرها قائمًا، لتصرخ : ولدي ومحد يتدخل بيني وبينه ... اتركوني أنا بربيه عدل
والدها : وش مسوي طيب على هالبلبة؟
صمتت بثينة تعض شفتها، تدرك أن والدها إن سمع تبريرها فقد يصرخ في وجهها غاضبًا، قد يراه سخيفًا من وجهة نظره لكنها لا ترى ذلك، لا أحد يشعر بها، وهي التي لم ترضى أن تتزوج من بعد سيف لتبقى حضانة زياد من حقها هي، لن تسمح له بأخذه، لن تسمح له.
ركض زياد بسرعةٍ باتجاه الباب، وتلك اتسعت عيناها لتلحقه لكنه كان وقتها قد أدار المفتاح، وحين اجتذبته من عضده فتح والدها الباب فور سماعه لصوت القفل، ليصرخ الطفل : جدي خذني معك ... ما أبي ماما أكرهها ... * وبصوتٍ باكي * هي ما تحبني ما تحبني
بدا على وجهها الإنكسار، وعيناها احتقنتا بالدمع، لا تحتمل سماع هذا الكلام من ابنها، لا تحتمل كلمة " أكرهها " من بين شفتيه، رباه إنه لا يدرك كيف أن لهذه الكلمة من وقعٍ كبيرٍ على قلبها.
ألا يدرك أنها رضيت بالبقاء مُطلقةُ سبع سنين لأجله هو فقط؟ أليست هي من لم تختَر العيش حياةً أخرى كوالده؟ ... كله لأجله، كله لاجل طفلها الصغير.
جلست لتصل إلى طوله، بملامح تائهةٍ مُحِبة، ثم زمت شفتيها بألمٍ لتهمس بغصة وهي تمسح على شعره الأجعد : ليه تقول كذا؟ أنا أحبك فوق ما تتصور حبيبي
تراجع لخلف جده بنفور، هي التي أرعبته منذ قليل، هي التي أخافته وصرخت في وجهه مطولًا، وحاليًّا ... هو لا يريد أن يكون معها.
لاحظ والدها تبدل ملامح وجهها وكأنها تحارب دموعها، ليهتف بعتاب : وش سويتي فيه يا بنتي؟ انتِ كذا ما تنفريه إلا منك
صمتت وهي تُطرق برأسها، وذاك أردف : خلاص باخذه الحين معي لين ما يهدى وينسى اللي صار .. وانتِ حاولي تكونين أحنّ عليه
لم تجبه ليحمله بين ذراعيه، وبهدوء : راجعي نفسك قبل لا تخسريه
ليذهب يتركها واقفةً بعجز، تتكرر كلمته الأخيرة في رأسها.
لا تخســــــــريه
لا تخســـــــــــــــــريه
لا تخســــــــــــــــــــــــــريه
مستحيل، أسيأتي اليوم الذي قد تخسره فيها؟ أيعقل أن تخسر زياد يومًا؟ .. ابتلعت ريقها حين تذكرت تهديد سيف .. محال، كيف لها أن تحتمل بعده، كيف لها أن تنام دون الشعور بوجنتيه على عنقها وهو نائم؟ لن تحتمل، هو طفلها هي، ليس لسيف الذي تزوج وبحث عن سعادته قبل سعادة ابنه، ليس لسيف أيّ حقٍ به. ليس له الحق وهي التي اهتمت به فوق اهتمامه هو به، ليس له الحق وهي التي احتملت كل الصعاب لأجله، لكنها لن تحتمل بعده، واللهِ لن تحتمل وهو الروح بالنسبة إليها، هو سعادتها وضحكاتها التي لا تتجلى إلا به هو، هو طفلها ... طفلها هي فقط.
,
تضع رأسها على ركبتيها اللتين ارتفعتا إلى صدرها لتلف ذراعيها حول ساقيها، وجهها مدفونٌ بينهما كما السعادة مدفونةٌ بين ناريّ والدها وأمها، كيف تركها بهذه البساطة؟ كيف طاوعه قلبه ليرميها إليه؟ هو زوجها تعلم، لكنها لن تحتمل أن تذهب إليه بذاك الكبرياء المجروح، وأيّ كبرياء قد يبقى إن كان والدها بنفسه قد أمرها بترك البقاء معه ومع أختيها؟ طردها بكل برودةٍ وعدم مبالاة. وأي سعادةٍ حقيقية قد تخالجها وهي التي لا تستطيع تصنعها بسببه هو، هو الأب الذي أبكاها فكيف يسمي نفسه أبًا؟ رباه كم تشعر أنّ العديد من الغصات ستخنقها ، تطلب تحرر دموعها، تطلب انكسار جفنيها، تطلب النحيب وترتجي أن يكون عاليًا بالقدر الذي يفضح حزنها عند من في الخارج، أحتى غصاتها أصبحت ضدها؟
انكمشت بجسدها لتتحرر دموعها التي كابدت لتبقيها خفيّةً منذُ وصلت لهذ الشقة مع فواز، لم تُرد البكاء أمامه، وهو لم يعلِق من بعد ما حصل ولم يُرد كسرها أكثر، لذا بقي بعيدًا، جالسًا في الصالة بذهنٍ شارد، لا ينكر أنه فرح بحضورها إليه، لكن فرحته هُزمت بشدةِ حزنه عليها، وذاك الحزن فاق فرحته بكثرة، يتمنى سعادتها فوق سعادته، وهو الأناني الذي لم يستطع أن يعطِها السعادة بطلاقهما، يدرك أنه سيسعدها أكثر حين تصبح في بيته، لكنه ليس أنانيًا ليفرح بكونها في بيته تحت هذه الظروف، وكم تمنى لو يذهب لعمه حتى يتوسل إليه أن يعيدها إلى كنفه.
والسؤال الذي يتصارع بحروفه في ذهنه، لمَ فعل عمه ذلك؟ يدرك أنه صبورٌ بالقدر الذي يكفي لتحملها، وهي وإن كانت قد تمادت لكنه يدرك أن يوسف له من الصبر والحب ما يكفي لتحملها. فلمَ فعل ما فعل؟ لمَ؟؟
وقف بتردد، ينوي الذهاب إليها، يريد التخفيف عنها، يريد الكثير ولا يعلم إن كانت ستتقبل منه القليل، لكن رغبته فاقت تردده ليتجه للغرفة بهدوء، يقف عند عتبة الباب يتأملها جالسةً على السرير تغرق في نحيبٍ خافت، وشعرها الحريري الطويل يغطي جانبيّ وجهها الذي اختفى بين ركبتيها ... وكم كُسر هو لمنظرها، وكيف له تحمل ما يراه من انكسارٍ بها؟ كيف يمكن له تحمل نحيبها الذي بدأ بالإرتفاع رويدًا رويدًا ... لا تبكي، لا تبكي فبكاؤكِ يقطع نياط قلبه، لا تبكي فبكاؤكِ يحشرج روحه، لا تبكي وهو العاشق الذي لا يحتمل، هو العاشق الذي يقسم أن يسلمك روحه لأجل سعادتك، رباه كم يتمنى لو يزرعها الآن في أحضانه، كم يتمنى لو يسحب أحزانها إليه، ثم يهديها كل أفراحه.
اقترب ببطء، وتلك رفعت رأسها بسرعةٍ حين سمعت صوت خطواته، يدرك أنها الآن ستصرخ في وجهه، وهو لديه الصبر الكافي ليلتقط صراخها بكل صدرٍ رحب.
أما هي فبقيت تنظر إليه بانكسار، بوجهٍ انتفخ بالبكاء، وبضع خصلاتٍ من شعرها التصقن بوجهها بغراءٍ يُسمى الدمع. همست بحسرة : طردني!
وقف على بضع خطواتٍ من السرير، بوجهٍ مُستاء لأجلها . . لتردف : ما يبيني .. أدري إنه يكرهني، أدري إني ولا شيء بالنسبة له، أدري إني واقفه بنص بلعومه ومتضايق مني ... بس مو بيدي .. مو بيدي والله إني أتعامل معه بطريقة شينة، ما أقدر أنسى يا فواز، أبي أنسى بس مو بمقدوري وهو قدامي .. * ابتلعت غصتها لتهمس بانكسار * والأصعب إنه أبوي
تنهد بألمٍ لحالها، ليقترب ببطءٍ منها إلى أن جلس بجانبها، ودون ترددٍ اجتذبها ليزرعها في أحضانه، وهي لم تفعل شيئًا سوى الصمت، الصمت فقط ليدرك أن ما بها يفوق كرهها له.
تحتاجه وبشدةٍ في هذا الوقت، هي كسرت الآن كما الغصن، ووالدها كان الريح الذي كسرها، كسرها بشدةٍ ليكون فواز الأرض التي تلتقطها!
لم تبتعد، ولم ترد الإبتعاد، لم ترد سوى أن تبقى في هذه الأرض الدافئة، لم ترد سواه ليحتوي يأسها قبل جسدها.
,
تنظر إليه بحيرةٍ يخالطها حزنٌ وحسرة، وأختها الصغرى كانت قد أمرتها بالذهاب لغرفتهم حتى تتحدث معه براحه، كان يجلس على إحدى الأرائك ورأسه بين يديه، منظره الآن يثبت حزنه، يثبت أساه، إذن لمَ قام بما قام إن كان لا يريد؟ كيف هان عليه تركها وهو الذي لا يقوى؟
اقتربت منه وهي ترى عجزه، ترى رجلًا غير الرجل الذي تعرف، ترى أبًا غير الأبِ الذي تعتاد.
والسبب واحد لم يتبدل أو يمت!! … يا الله، أليس لها الحق الآن في كره أمها؟ أليس لها الحق في بغضها؟ .. ليست على ماقالت سابقًا، ليست كما أيقنت في قلبها، باتت تكرهها، تالله قد كرهتها كما لم تكرهها من قبل، ليس بيدها، ليس لها القدرة على قمع هذا الكره وهي ترى الحال الذي هم فيه بسببها.
بكت وهي تقترب أكثر لتجلس أمامه على ركبتيها وكفيها على ركبتيه، وقبل أن تنطق كان هو قد همس بكل حسرةٍ تجمعت في عينيه، بأكبر قدرٍ من الحشرجة في روحه : انكسر ظهر أبوك يا أرجواني
جفلت، وازداد مطر عينيها، لعينيها الكرم الكافي لشرح هذه اللحظة، وتلك العينين باتتا كغيمةٍ ضخمةً معطاء، تثير الدمع مع كل كلمةٍ كانت كالخنجر … والدها عاجز! ولأول مرةٍ تراه بهذا العجز، لأول مرةٍ تراه بهذا الإنكسار ، وكأنما فقدها، كأنما فقد ابنته .. وضعت رأسها على ظاهر كفيها اللتين كانتا على ركبتيه لتغرق في بكاءٍ عالي … وكيف لها الصمت والكبت بعدما سمعت؟ كيف لها القدرة على الإحتمال؟ أكسر ظهر والدها؟ أكسر ظهر حاميها ومصدر الأمان لها؟ إذن ماذا بقي منها؟ هي كسرت بالكامل من بعد كلماته، قُطعت جذورها التي سميت بـ - أب - ، قُطعت بعد أن جفت وانقطَع عنها الماء، قُطعت فكيف لها الحياة دون جذور؟ فهل كنتِ يا أختِي الماء وانقطعتي؟ هل استسهل عليكِ الأمر لتقتليه؟ هل هان عليكِ جفافه؟ هل قرّت عيناكِ بتصدعه؟
أغمض عينيه بحسرة، وهاهي الثانية تبكي بسببه، فكيف يكون بهذا العجز ولا يُخرس بكاءها؟ أبات ضعيفًا لهذا الحد؟ أبات يحمل لقب الأب اسمًا وحسب؟
همس : كان القرار الأفضل
لم يرتفع رأسها الذي استكن على ركبتيه، كان القرار الأفضل؟ أكان القرار الأفضل هو انكسار عينيك؟ أكان القرار الأفضل هو ارتعاش كلماتك من شدة تكسرها؟ أكان هذا هو القرار الأفضل؟؟؟
أردف بهدوء : ما تقدر تعيش معي .. فيها كره كافي لي يمنعها من تحملي
كيف أقدر بعد هالتعب فيها بسببي أخليها معي؟ بيدوم حزنها بسببي، وأنا ما ودي بهالشيء، ودي بانكساري ولا انكسارها
اهتزت شفتيها بعبرة، قبل أن تهمس بعتاب : تتوقع راحتها عنده؟ هي تكرهه
يوسف : بس أهون عندها مني … ومو فواز اللي بيضيمها
,
بعينين ميتتين كانت ترقب الموجودات، كلهن يبدو عليهن الفرح وهي لا، يبدو عليهن السعادة والراحة وهي لا، كلهن من عائلاتٍ عداها التي لا يُعرف أصلها، كلهن من نفس الصنف عداها، هم أبناء حلالٍ وهي لا، والإختلاف لم يكن سوى بكلمةٍ تشطرها مرارًا ومرارًا، تطعن ثقتها بنفسها وأي ثقةٍ بقيت بها؟
بللت شفتيها وهي تراقب العمة أميرة، وبجانبها جلست أم رانيا ثم ابنتيها، وتلك الحاقدة المُسمى رانيا تنظر إليها بنظراتٍ نارية تارةً، وتارةً أخرى تتجاهل تواجدها
إلى أن نطقت أميرة بصوتٍ عالٍ أخرس جميع حواسها للحظات : ما ودك تباركون لولد أخوي ياسر؟
الجميع بدأ يلتفت ويتساءل، إلى أن اعتلى صوت ام فواز : على وشو يا أميرة؟
أميرة بابتسامة : على خطبته لإلين
.
.
.
يقول الشيخ محمد الشعراوي ..
( لا تعبدو الله ليُعطي .. بل اعبدوه ليرضى .. فإذا رضي أدهشكم بعطائه )
انــتــهــى
وموعدنا القادم إن شاء الله يكون يوم الجمعة أو السبت
صلوا على أفضل الخلق
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|