كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
في الصبـاح ، خرجَت من العيـادةِ بابتسامةٍ خافتـةٍ كبسمتِها المُعتـادةِ كلّ صبـاح، الروتينُ ذاته يتكرّرُ منذ أيـام، الشعُور ذاتـه رغم الاختلاف، نفسُ الألوانِ تراها رغم تغيّرها، نفسُ الرائحـة رغمَ اختلاطهـا بروائح أزكـى .. لا تدري هل كل شيءٍ مازال كما هو أم أنّ هنـاك شيئًا ما اختلف؟ الأيـام قصيرة ، لم يمرّ الكثير، لكن هل هنـاك شيءٌ ما اختلف؟ لا تظنّ الكثير.
يكفيها أنّ هذا الشوقَ يتضـاعف، آمنت أنّ لا معنى له، لا رجـاء منه، لكنّه يعانِد إيمانها ويتضاعَف، وماذا إن تضاعف؟ هل سيتغيّر شيء؟ هل ستذهبُ إليه مثلًا وتحطّ البقيّة الباقية من كرامتها وتطلبُ قربه؟ هل سترضَى أن تكون له ولا يكون لها!! بالطبـعِ هذا محال، هما انتهيا، لكنّ المشـاعر لا تنتهي، الذكريات والشوق والألـم.
تشبّثت بعضدِ والدهَا ومن ثمّ انحنَت إليه تهمسُ برقّة : هالمرة أنا اللي جوعانة.
ابتسمَ يوسف ليلفظ : أبشري الحين نمر أقرب مطعم.
تتبّعهم بعينيهِ وهم يدخلون لإحدى المطـاعِم، زفـر بجزعٍ وهو يمسحُ على رأسِه ويتحرّك من خلفِهم ، حتى لو رآه يوسف الموضوع انتهى! علِم بكلِّ شيءٍ وانتهـى !! . . لم يخبر حتى الآن عبدالله بهذا ، لكنّه على الأرجح سيخبره قريبًا ، " والله يستر " !!
دخـل المطعـم ليجلـس في جانبٍ يراهُم منه بوضوحٍ ولا ينتبهون له ، تكتّفَ وهو يراقبُ " ليـان " تقعُد بجانِب والدها وملامحها الغاضبـة تنظُر لأختها التي وقفَت أخيرًا لتجلسَ بالكرسيّ التي بجانِب الاخـرى ، ابتسمَ تلقائيًا وهو يتذكّر حسـام، عمره تقريبًا كعمرها ، لكنّه كـان هادئًا بعضَ الشيء .. اشتـاق لهم وكم يقتله الفراغ الآن بعد أن ذهبوا! . .
في الجهةِ الأخـرى اعتدلَت جيهان وهي تنظُر لليـان بحنق، في حينِ كانت أرجوان تضحكُ وهي تلفظ : ما عليك بزرة مشكلة لو قهرتك !
جيهان تنظُر نحوها : قهرتني وانتهـى الموضوع .. وجع محسستني بسرقه منها.
ليـان بعناد : بابا لي ..
جيهان بحنق : انقلعي من وجهي.
ليان تمدُّ لسانها : مووووتــــــي
جيهان بصدمـة : يمه يالوقـاحة !!
يوسف ينظُر لليان بصرامـة : ليان عيب! أختك الكبيرة هذي !
ليان تنظُر له بوجوم : المفروض تهاوشـها .. أصلًا محد يوقف بصفي غير فوازي أنت كله معها بس.
ارتبكَت ملامح يوسف ، بينمـا تبدّلت ملامحُ جيهان وأظلمَت قليلًا، ازدردت ريقها وهي تُشتت عينيها لتقـع فجأةً على بدر الذي كـان يراقبهم بعينيه، عقدَت حاجبيها ما إن تبيّنت ملامحـه ، لكنّها لم تُبـالي بِه كثيرًا في اللحظـة التي أشـاح فيها نظراته بعد أن انتبـه لكونِها أدركته . . صدرُها ضـاق ، واسمُ فوّاز شراعٌ لسفينةِ حُزنها، ما إن يُفتـح حتى تشعر بتلك السفينـةِ تمضي ، مع الريـاح، تحوَ منتصفِ المحيط – إن وُجِدَ منتصف -، هذهِ السفينـة المتأهبـة للمضيّ دون كسـل .. بينما شراعها يحفّز حُزنـها .. كيف تُذكـر أمامِي ولا أحزن! كيفَ يبزغُ اسمـك في لحظـاتِي وأنت لسواي ولا تضيقُ الدنيـا في عيني؟ كيفَ لتلك المرأةِ أن تتمتّع بقُربـك بعد أن سرقتـك منّي وكيف عساي أتحمّل هذهِ الفكرة دون أن تغصّ في محجري وتزاحـم دموعي لتسقط! كيف أنسـاك يا فوّاز وقلبي لم ينسى حبّك؟
نظـرت للأسفـل بصمت، بينما كـانت نظرات يوسف تنظُر لليـان بحدةٍ لم يستطِع أن يمنعها عنه في هذهِ الحظـة، يريدها أن تنسـى ، لكنّ كلّ شيءٍ يمنـع ذلك .. لذا كـانت نظراته تلك وحدها كافيـةً لتجعـل ليـان تصمُت بخوفٍ ويضيقَ صدرها، مدّت شفتيها للأمـامِ وهي تكتّف ذراعيها، بينمـا تنهّد يوسِف بعد أن انتبـه لنظراتِه ، اقتربَ من ليـان ليهمسَ في أذنها بخفوت : البنت الحلوة ما تحكي مع أختها بهالطريقة ! تزعليني منك؟
ليان بضيقٍ دون أن تنظُر نحوه : أنت أصلًا تحب جوجي أكثر منّي.
يوسف بابتسامةٍ حنونة : فيه أحد ما يحبّك؟
صمتت تتصنّع " الزعـل " بينما قبّل يوسف وجنتها المُمتلئة ومن ثمّ اعتدَل في جلوسِه وهو يشعُر بالنـادِل الذي وقفَ قربهم ، ابتسمَ ومن ثمّ نظـر لليـان : يلا حبيبتي وش ودك فيه؟
بعدَ وقت ، كـانت قد تناسَت مشاعـر الضيقِ التي اعترتْها، تناستها ولم تنساها! ، ارتفعَت نظـراتها نحوَ الجهـة التي كـان يجلُس فيها بدر، عقدَت حاجبيْها باستنكـارٍ بعد أن رأته للمرّة الثانيـة ينظر نحوهم وما إن انتبه لها حتى أشـاح عينيه، لوَت فمها وهي تنظُر لأرجوان، اقتربَت منها لتهمسَ كي لا يصل صوتها لوالدها : أرجوان . .
نظـرت لها أرجوان وهي تقطّب جبينها : وش فيك؟
جيهان بخفوت : الخليجي المملوح جالس هناك . .
كشّرت وهي ترى جيهان تُشير بعينيها إليه، شعرت بالحرجِ وهي تخاف أن يراهم في تلك اللحظـة بينما عيناها لم تتّجها نحوه أبدًا ، وبخفوتٍ تلفُظ بتنبيهٍ وحَرج : جيهاااااااان !!
جيهان بحنق : قليل أدب من أول يقز فينا .. طلع من هالنوع.
أرجوان بغيظ : الله ياخذك وخري عيونك عنه خليه يقز لبكرا وش عليك منه !!
جيهان : حسافة ملحه.
أرجوان : يا فشلتي !! لا يشوفك يا كلبة تقزين فيه بعد ويظن بنفس تفكيرك .. يمكن كان مسرح بس!
جيهان : مسرح بس أجل! يا براءتك أقولك من أول يقز وأول ما أشوفه يلف ... وقح !
دفعتـها بغيظ : خلاص طنشيه وكملي أكلك وإذا يقز وش نسوي فيه؟ عيونه وهو اللي بيتحاسب عليها.
لوَت فمها بغيظٍ وهي تحمُل ملعقتها، في حينِ أدار يوسف رأسه حيثُ كـانت تنظُر وقد انتبهَ لها ولنظراتها حيثُ نقطـةٍ معيّنة ، غصّت بلقمتها بحرجٍ وبدأت تسعُل ووجهها يتلوّن، لم تعتقد أنّه سينتبه لها ، عضّت أرجوان شفتها السُفلى وهي تكتمُ ضحكتها ونظراتها تتّجـه لها بينما كفّ جيهان تحملُ كوبَ المـاءِ بحرجٍ لتـشربَ منه.
لم ينتبهـا في تلك اللحظـةِ لملامِح يوسف التي تغيّرت ، نظـراته بعد أن رأى بـدر يجلسُ قريبًا منه وقد انتبـه لكونِه رآه . . صدّ عنه بجمودٍ وهو ينظُر نحوهما دونَ تعبير ، وبنبرةٍ صارمـة : عجلوا شوي عشـان نمشي !
،
بعد الظهيرة، كانت الشمسُ تتسلّلُ عبرَ النافـذةِ لينعكـس ضوؤها على بشرَتها السمراء، تمدُّ بأنـامِل شارِدة " واقي الشمس " على ملامِحها التي تظهرُ في المرآةِ ولا تراها، لا تراها بحجمِ ما يضيعُ تفكيرها بعيدًا، بحجمِ ما تتعرقلُ الأمنيـاتِ على نتوءاتِ السحّابِ " الضبابيّة "، بحجمِ ما يغيبُ عن عينيها النظـرُ ولا تعثُر في أحـداقِها على لمحـة، ترى بِها سلطـان الذي وقفَ عن البـابِ واتّكأ بكتِفه على إطـارِه ينظُر لشرودِها بصمت، يكتّف ذراعيهِ إلى صدرِه بينما كـانت في هذهِ اللحظـاتِ تفكّر " ماذا أفعل؟ "، الآن ماذا تستطيع أن تفعل؟ كيف بدأت ترى أحـلامها تتهاوى بهذهِ الطريقة؟ كانت الليلـة الماضيـةُ كافيةً لترى فيها أحلامَها تتهاوى واحدةً تلوى الأخرى، تسقُط من سماءِ سلطان، كـانت تقول بأنّها ستأتيه بعد عامينِ وربّما أقل أو أكثـر لتفاجئه بأنّها حفظَت القرآن، وقتها ستكون تحملُ في يدها طفلًا يُشبِهما ، أرادته أن يشبـه ملامح سلطـان، لكن الآن ذهبَ تفكيرها بعيدًا، أصبحَت لا تراه ، وربّما لو كان سيجيء لن تتمنّى أن يأخذ ملامحه ويأخذ منها البـاقي! ربّما الصفـات، ربّما الكذب! ربّما الخداع والأنانيّة والضياع! يأخذ ملامحها وقلبه وصفاته؟ هل سيجيء أصلًا كحلمٍ تحقّق بعدَ نومٍ ضائعٍ بتقلّبـاتِ السنين؟ هل سيجيء؟ هل سترضى بأن تمرّ بقيّة الأيـامِ بينهما وهي تخدعه؟ لمَ لم تفكّر بذلك منذ البداية! بأنّ ضميرها سيصرخ عليها بأن .. بأن ماذا؟ .. أن تبتعد؟ . . . فغرت شفتيها بضيـاعٍ وهي تتنفّسُ من بينهما باختناق، تبتعدُ بعد أن غرقَت في بحرِه وبعد أن أصبـح لها كلّ شيء ! .. كيف تستطيع؟ ربّما لو أنّها اختارت الابتعاد منذ خيّرها لكـان أفضل! .. لكنّها الآن لا تستطيع، لا تستطيع أبدًا أن تبتعد !!
رفعَت يدها لتمسَح على خدّها دمعـةً وهميّة، صارتْ تشعر بالدمع حتى قبل أن يسقط، هذهِ الصيغةُ في الحزنِ تقتلها . . مالّت فمها بأسى والنظـر يعودُ إليها بعد أن عادت لواقعِ التواجُد وما تفعل، وضعَت الواقي على التسريحة في اللحظـةِ التي رفعَت أحداقها للمرآة، شهقَت فجأةً بذعرٍ واستدارَت على عقبيها لتضعَ كفيها على حافّة طاولـة التسريحةِ من خلفها ما إن رأت سلطـان يقفُ خلفها عبر المرآة ، ارتبكَت وهي ترى نظراته الصامتة تلك والتي لا تعبّر عن شيءٍ من عواطِفه الآن ، ابتلعَت ريقها بصعوبـة .. ومن ثمّ أخفضَت نظراتها لتهمسَ بضيـاع : مساء الخير.
سلطـان بجمود : للحين خايفة مني؟
رفعَت أنظـارها بسرعةٍ وهي تفغـر فمها، عقدَت حاجبيها قليلًا بينما رأسها يتحرّك تلقائيًا بالنفي، تجيبه بأنّها لا تخافه، كيف قد تخافه؟
سلطـان يبتسـم : شلون لا؟ من خوفك أمس كنتِ تتنافضين بعيد عني ومو راضية تنامِين جنبي! ومن خوفك الحين ما قلتِ كلمـة وتهزين لي راسك وكأنّك خرسا !
أشـاحَت وجهها عنه وهي تُخفضُ إحدى كفيها المُمسكةِ بزاويـة الطـاولةِ لتعـانِق بها عضد يدها الأخرى، وبخفوت : مستحيل أخاف منك .. شلون تبيني أخاف من موطنِي؟
سلطان : كنتِ أمس تقولين خايفة منه.
غزل بغصّة : كنت خايفة ينبذني .. ماهو منه.
سلطـان يرفـع كفّه لتنتفضُ بذعرٍ ما إن وضعها على خدّها، تحرّكت كي تبتعدَ عن نطـاقِ كفّه وكأنها تنوي الهرب، لكنّه لم يسمحَ لها وهو يمدّ كفه الأخرى ليضعها على طاولـة التسريحة يمنعها من الهرب بأسرِه، وبنبرةٍ هادئةٍ وهو يلحظُ ارتعـاش شفتيها : أيش مفهوم النبذ عندك وأنتِ الحين خايفة بعد؟
غزل تُغمضُ عينيها لتردّ بصوتِها الخافِت ذاته : الحين خايفة من نفسي!
سلطان يرفع حاجبيه، وباستنكار : غزل وبعدين معك!
يرتفعُ صدرها بعمقٍ متحشرج وهي تخاف هذهِ المرّة أن تضعف، أن يقتربَ منها فتندفـع إليه ولا تعترض، أن تلوّثـه بخداعِها وكذبها ، هي الضعيفةُ إليه والشغوفـة بِه ، لذا الآمان تجاهها " عدَم " . . بصوتٍ يكاد أن يتلاشـى : بيجي يوم وتتركني.
سلطـان : عارف أسبـابك التافهة .. شايفة؟ تافهة .. أنتِ مالك ذنب!
فتحَت عينيها وهي تقوّس فمها، الذنبُ كلّه أنـا أحمله، الذنبُ كلّه مني منذُ دخلتُ حياتك وحتى هذهِ اللحظـة! . . هتفت تكرّر بعذاب : بيجي يوم وتتركني .. تنبذني ... إذا ما كان المعنى ترفسني من حياتك وكأنّي مجرد زبالة !
شهقَت ما إن التصقَ جسدهُ بها باندفـاعٍ وصوتُه يندفـع إليها بعلوٍّ حـاد : غـــــــــــــــــــــــــزززل !!
وبالرغمِ من كونِها خافَت من غضبِه الآن إلّا أنها لفظَت بقوةٍ وهي تغمضُ عينيها بينما جسده يضغط على جسدها بغضب : أيــــــــــــــــــــه .. غــــزززل ، اللي تحاكيها الحين غزل ، أنا النجسة وأنا الزبـالة وأستاهل كل شيء ! كل شيء من البداية أستاهله .. بس أنت ما تستاهل ، ما تستاهل هالدائرة اللي عشت فيها مع إنسانة مثلي !
سلطـان وعينيه تتّسعـانِ بتحذيرٍ خافتٍ حاد لم ترَه من إغماضـةِ عينيها : انكتمـــــي !!
غزل تتابـع بأسى وهي توجّه أحداقهُ إليه بعد أن ارتفعَت أجفانها عن عسليّةِ عينيها، التجأ التحديقُ لعينيه الغاضبـة، تنظُر لهُ بحزنٍ وهي تهمس بحسرة : تدرِي وش أكثر شيء يوجعنِي؟ إنّك دايم نيّتك حسنـة ، وأنا سوء النيّة بذاتها ، أول ما شفتك كنت أقول رجّال مثل جنسـه ، كذّاب ومنافق ويتصنّع ، أنتظـر بكل يوم تطلع بوجه أبوي ، انتظـرت وانتظرت بس ما تلبّسك بصفاته! شلون؟ للحين يمثّل علي إنّه الشخص " الملاك "؟ ليه ما يضربني كل ما عصّب مني؟ ليه يوم جاء معصب مرّة رفع يده بس بعدين تراجـع وانصـدم وكأنّه بهذاك الوقت ما كان هو! ما كـان سلطــان لأن سلطان ما يرفع يده على أحد! .. ليه كان يحاول يسعدنِي؟ ليه كان يصرف علي من وقته عشان أبتسم؟ يمثّل؟ مستحييييل كل هالوقت! انتظـرت لوقت طويل تطـلع بحقيقتك ، بس حتّى لمّا عرفت إنّي كنت أتآمر ضّدك مع أبوي ما ضربتني ، اكتشفت بعد كلّ هالوقت إنه أنا اللي كانت نيّتها سيئة وأنا اللي كـان وجهها كاذب! أنا المتصنعة وأنا المنافقـة وأنا اللي كنت شاذّة عن جنـس البشر ككل . . . اكتشفت ، اكتشفت * بألم * إنّي شيطــــان.
سقطَت دموعها مع كلمـتها الأخيرة، الوصفُ الذي أطلقته عليها سالِي ولم تكذِب ، ربّما لم تكُن سالي صالحـةً مثله، لم تكُن نقيّةً مثلـه لذا كـانت ترى عيوبها وترى كذبها بينما سلطـان لا يرى منها كلّ ذلك، لا يرى منها كلّ هذا الخداع !! . . زمَت شفتيها بألمٍ وهي تُخفضُ عينيها الدامعتـينِ عن عينيه، كـان ينظُر لها بصمتٍ وعينيه الجامدتيْنِ لم تكُن راضيـةً عمّا سمِع منها ، هذا البُكـاءُ الذي باتَ يهوى عينيها كثيرًا، يهوى تقبيلَ مقلتيها بدمعِه، يهوى السير على خدّيها حتى يسقًط كقطـرةِ ملحٍ من غيمٍ شاذّةٍ عن بنِي جنسِها ، كفّه التي كـانت تُستريحُ على خدّها قبلًا بدأت تمسحُ دمعها، بينما ملامحه لم ترسم أيّ تعبيـر ، كصوتِه : سبق وقلت لا عاد ينعاد موضوع أبوك بيننا ، نسيته .. وش قصّتك مع المواضيع اللي تضيّق خلقي أنتِ؟
لم تردّ ولم تنظُر إليه بينما دموعها يزدادُ هطولها وابلًا، ليُكمـل وهو يبتسمُ ويوجّه ملامحها إليه كي تنظُر له قسرًا : وأيش مصطلح شيطان هذي؟ وزبالة ومدري أيش ! شكلك تبني تجربين سلطـان اللي يضرب !
ابتسمَت بحزنٍ وهي تمسحُ بظاهِر كفّها على أرنبـةِ أنفها، وبتساؤلٍ مختنق : سلطـان يضرب؟
هزّ كتفيه : يمكن تطلعين منّي هالشخصية.
غزل بألم : ما أستبعد .. ما أستبعد ولا بلومك وقتها . .
احتدّت ملامحهُ ليهتف بتحذير : غــــــزل! لا تطلعيني من طوري معك! .. عمري ماراح أمد يدي على حرمة ، خلاص خلّي هذي حلقة بأذنك ماهو رجّال اللي يسويها.
غزل : ما تنقـص منك ، صدّقني لو سوّيتها ما تنقـص منك عندي شيء !
سلطان يضعُ كفّه على عينيها بشكلٍ أفقيٍّ وهو يهمسُ بابتسامة : خلاص .. قولي لعيونك تبطّل هالدموع تعبت يدي وأنا أمسح فيها.
ابتسمَت رغمًا عنها بعد أن حلّ الظـلام على عينيها من كفِّه، وبنبرةٍ لازالت مختنقـة : مو بيدّي والله.
سلطـان : متزوج لي بزرة كل وقتك أنتِ ودموعك .. حشى لو إنّه أحد ميّت عليك.
غزل تمسك كفّه لتُخفضها عن عينيها : ما عندي أحد بحياتِي غيرك.
سلطـان بسخرية : أجل يا بختي بتوفّرين كل دموعك لي . .
غزل بجزع : سلطــــــــــان !
سلطـان بجدّية : للحين خايفة مني؟
ابتلعَت ريقها وتجمّدت ملامحها للحظـة، أشـاحت وجهها وهي تمرّر باطـن إحدى قدميها على الأخرى، وبخفوتٍ مرتبك : قد قلت لك ماني خايفة منك.
سلطان : ماني مصدّقك للأسف.
غزل : قلت لك ما عندي أحد بحياتي إلا أنت .. لو أخاف منّك مصيبة !
تحرّك مبتعدًا عنها باتّجاه البـاب وهو يلفظ : أجل شرّفي يا مدام للغداء ، ما أكلت الصبح شيء بسببك وش هالنوم؟
،
تتحرّك أقدامها أسفـل الطـاولةِ بضجر، يجلسُ أمـامها، ترى فيه الشرودَ ولا تبـالي، الملعقـةُ يغزو بها غاراتِ الأرزِّ على طبقـه، لم يأكـل الكثير ، وبالرغم من فضولها الذي ثـار قليلًا حتى تعرف ما يُشغـل عقله بهذهِ الطريقةِ منذ الصبـاح إلا أنها صمتت تُكمـل أكلهـا بروتينٍ ممل، اشتـاقت الطعـام على طاولَتهم، الأحـاديثُ التي لا تريد أن تنتهِي وتستفزُّ عبدالله الذي ينطق أخيرًا بحدة " احترموا النعمة "! .. فيصمتُون لثوانٍ قليلـةٍ ومن ثمّ تعُود الأحـاديثُ لتنبثقَ من جديد . . ابتسمَت رغمًا عنها وهي ترفعُ الملعقـة لفمها، وفي حينِ شرودٍ منـه كان يُعيدُ جسدهُ للخلفِ زافـرًا بقوّةٍ بينمـا قدميه الحافيتينِ لامسَت قدمـها بعفويـة ، شهقَت لتُسقِط حبّات الأرزّ من ملعقتـها إلى صدرِها وجُحرها ، وضعَت الملعقـة بعنفٍ ليدوّي صوتُها على الطبـقِ بينما سحبَت قدميها بحنقٍ إليها ، انتبـه أدهـم لانفعـالاتِ حركاتِها لينظُر لها عاقدًا حاجبيهِ باستنكـار : وش فيه؟
إلين بحنق : أنت اللي وش فيك مع حركات المراهقـة هذي؟
انخفضَ حاجبٌ وبقيَ آخرٌ مرتفعًا دون فِهم، لم يكُن في مزاجٍ لها الآن لذا نهضَ ليبتعدَ وهو يلفُظ بجمود : الحمدلله . .
إلين تتمتمُ بكره : أي والله الحمدلله إنّك قمت أقلها آخذ راحتي .. اففف !
خـرجَ للصالـةِ وهو يزفُر ممرّرًا بعضَ الهواءِ الملوّثِ من رئتيْهِ للا فـراغ حولِه، نظـر للأرائكِ " المورّدة " بوجومٍ وهو يتّجـه ليجلسَ عليها بينما كفّه تُخرجُ الهـاتفَ من جيبِه ، سيجرّب الاتصـالَ بِه من جديدٍ بعد أن أثقلـه التفكير البارحـة ولم ينَم كمـا يجِب بسببِ ذاك الموضوعِ المعلّق منذ يوم ، وهذا اليوم كان كافِي ليشعر أنّه سيجنّ !
اتّصـل بمتعب ، لتُضيء ملامحه تلقائيًا ما إن سمـع الرنينَ الذي كان موؤدًا البـارحـة ، مرّر لسـانه على شفتيه قبـل أن يصلـه الردُّ بعد ثوانٍ، صوتث متعب جـاءه جافًا لا تعبير فيه : نعم ؟!
أدهم يعقد حاجبيه، مطّ فمـه قليلًا بعد أن سمـع صوته ورغم لهفته السابقة لردّه إلا أنه لم يدخل في موضوعهِ مباشرةً بل لفظَ بسخرية : يا حبيبي زعلان؟
متعبْ يزفُر بضجرٍ وهو ينقلبُ على جانِبه الأيمـنِ فوقَ السرير، لفظَ بجفاء : جـاي تكمّل؟
أدهم : صاير حسّاس.
متعب : لا والله ! دامها حساسية بالنسبة لك بسألك .. دعيت اليوم لأبوك؟ من زمـان ودي أسألك ماقد قال لك أحد هاليومين أبوك سكير حتى خاتمته . .
صمتَ وهو يعضُّ شفته دون أن يُكمـل، بينما اتّسعت عينا أدهم بصدمةٍ وهو يلفظُ بحدة : يا حقييييييير !
متعب بضيق : شايف شلون الشماتة توجع؟ أستغفر الله بس خليتني أتكلم عن ميّت بالسوء.
أدهم بحدة : لأنّك حيوان .. على بالك من المرجلة هذي تنتقم بأبوي؟
متعب بحدةٍ وهو يجلس : أجل من المرجلة تعايرني باللي صار لي؟
أدهم بحنق : وقح !
متعب : منكم نتعلم . .
أدهم يغيّر الموضوع بحنق : المهم أنت ووجهك .. بتكلم معك بموضوع مهم، من أمس وأنا أتصل عليك ليه مقفّل جوالك؟
متعب ينهضُ عن السرير دون هدى ، يشعر بالملل من روتينه المُمل : شاهين كان يتّصل ، وأنت أدرى جوالي مراقب.
تبدّلت ملامحُ أدهم ما إن نطـق اسم شاهين، حرّك عينيه لتقع على إلين التي كانت تتّجه للصعودِ للأعلى وهي تتجاهل وجوده، وبخفوتٍ متوجّس : وإذا مراقب ليه تتكلّم بهالشكل يا غبي !
متعب يُميل فمه : شالوا المراقبـة اليوم ، رفعوا ضغطي وانفجرت على رئيسهم إذا تشوفوني مجرم اسجنوني أما هالمعاملـة الزفت ما أبيها .. في النهاية وعدني إنه يشيله وتوه من نص ساعة قايل لي.
أدهم : واثق إنت بكلمتـه؟
هزّ كتفيه دون مبالاة : أكيد لا.
شدّ على أسنـانه بحنق : غبـي . .
متعب بسخريـة : مالنا غير نمشي ورى وعود النـاس إذا القريب بيكون كذّاب.
أدهم : هذا المفروض يخليك ما تثق !
متعب : عاد الشكوى لله.
أدهم : اسمـع ، خلنا من هالموضوع الحين .. ودي أقابلك الحين .. والحين الحين ماهو بعد ساعة ولا شيء .. عندي موضوع مهم وأبي أشوفك ماني مرتاح على الجوال.
،
وضعَت الملعقـة على صحنِها وهي تحمِدُ الله وتنهـض، تحرّكت كي تبتعِد لكنّ صوتَ عناد المبتسـم جاء إليها هادئًا : تعالِي لغرفتي بعد ساعة خاطري أسولف معك.
نظـرت له وهي تبتسم ابتسامةً بـاردة، وبرقّة : طيب.
ومن ثمّ تحرّكت خطواتُها لتبتعد، في حينِ وجّه عنـاد نظراته نحو امّه ليلفظ بشك : يمه متأكدة مافيها شيء! مو عاجبني هدوءها ذا !!
ام عناد بربكـة : عناد كم مرة أقولك سوالف حريم ! البنت كبرت وطبيعي بهالوقت مزاجها يشين.
عقدَ حاجبيهِ بشك : لهالدرجة !!!
امّه تُخفِي ما تراه أكثـر ، لم تقُل لهُ عن شخصيّتها التي تبدّلت ولم تقُل له عن تصرّفاتها الحادة معها مراتٍ كثيرة .. ولازالت تكذبُ عليه : وأكثـر من كذا ، كونك درست طب ما يعطيك كل العلـم سوالف الحريم احنا أدرى فيها . .
تنهّد عناد وهو يُعيد ظهره للخلف، ينظُر للأعلـى بصمتٍ لبعض الوقت، قبل أن يهتف بخفوت : محاتيها .. أحس إنّي أهملتها كثير بهالفترة .. ملاحظ الموضوع القديم ماهو مأثر عليها كثير ! كنت متوقّع ومتأكّد بيأذيها بس اللي أشوفه إنّني كل ما لمّحت له كان عادي بالنسبة لها !!
ام عناد بحدة : هذا بدل لا تنبسط إنه ما ضرها كثير !!
عناد ينظُر نحوها وهو يبتسم ابتسامةً خافتـة : أكيد بنبسط ، بس سكوتها بهالطريقة يخوفني أكثر !!!
،
رمَت محاضراتِها بضجر، لم يتبقّى الكثير على بدءِ امتحاناتِ الفصل الصيفي، تشعر أنّها أصبحَت تحفظُ كلّ صفحةٍ وكل كلمةٍ وحرف . . زفـرت بضجرٍ وهي تنظُر لساعةِ الحائط، استقامَت بعيدًا عن السرير لتمشِي وقد قرّرت أن تذهب لهم حتى وإن كـان في هذا الوقت ، منذ متى كـانت تبالِي بالوقتِ معهم؟ منذ متى كـانت تحتـاج لساعةٍ مـا حتى تراهم ! . . زمّت شفتيها بحقدٍ وهي تتجاوز عتبـاتِ الدرج، فقدَت حياتها الحلـوة بعد أن وافقَت عليه ، أيُّ جنونٍ كـان يعتليها؟ المشكـلة أنّها لو عـادت بالزمنِ لفضّلت هذا الخيـار ، لفضّلت أن تبدأ تكوينًا جديدًا لحياتِها . .
بحثّت عن أدهم حيثُ كـان يجلُس، لم تجدهُ لذا تحرّكت نحو المطبـخ، جهة المغاسِل ، ليس هنا! . . عقدَت حاجبيها لوهلـة ، وسرعـانَ ما اتّسعَت عينـاها لتشهقَ بصدمةٍ وعقلها يستوعِبُ أنّه خرج ! صرخَت بقهرٍ من بينِ أسنـانِها وهي تتحرّك بغيظٍ وتشتمه : الحيوان المهمل المراهق !! شلون يتركني كذا !! دايم يطلع وأنا أنثبر هنا الحمـــــاااار !!
تحرّكت خطواتُها بغضبٍ نحوَ الدَرج كي تصعَد وتحمل هاتفها، كي تتّصل بهِ وتقول له بأن يعود أو ستذهب مع سيّارةِ أجرةٍ من جديد !! . . لكنّها فجأةً توقّفت حينَ سمعَت صوتَ جرسِ البـابِ يتصاعد، عقدَت حاجبيها باستغراب ، أدهم لن يضرب الجرس ويستطِيع الدخول دونه؟ من قد يزورها في هذا الوقت؟ بالتأكيد ليسوا عائلتـها فهم لم يكونوا ليأتوا دون أن يخبروها !
تحرّكت بتوجسٍ نحوَ البـاب، نظـرت عبر " العين السحرية " لتلمـح كتفًا أسود ، كتف امرأةٍ ترتدي عباءة ! ازدادت عُقدةُ حاجبيها ، ربّما جارةٌ لها وجـاءت تنظُر لزوجـةِ الرجل الذي يسكن بجانِبهم !! . . أمـالت فمها قليلًا ومن ثمّ تراجعت لتفتـح البـابَ وهي تدسّ جسدها خلفه ولا يظهر للمرأةِ سوى رأسها ، لفظَت بتوجّس : أهلين . . .
لكنّ كلمـاتها أخرسَت فجأة ، شهقَت بصدمـةٍ وعينـاها تتّسعـان ببهوت ، بينما ترى أمامها ملامحَ ظاهرةٍ عبـر حجابٍ متهالِك ، وجـهٌ رأته قبل أكثر من سنـة ، وملامح تُشبهها لم تنساها حتى هذهِ اللحظـة !!
،
بقيَ ينتظـره في مكانِهم المعتـاد، يزفُر بقلّةِ صبرٍ وحرارةُ الشمسِ تجعلُ زفيرهُ كنـار ، تلك النـار أشعلها وقودُ الانتظـار الذي يعبثُ بمزاجِه السيء أصلًا ! . . كـان يتّكئ على سيارتِه بظهرهِ وهو ينظُر للسمـاء ويزفُر مرتينِ وثلاثًا، ينظُر للساعـةِ كل حين، وحينَ شعر أنّ الحرارةَ تشتدُّ استـدارَ كي يفتحَ بابَ السيّارةِ ويجلسَ في برودتِها وهو يشعُر بالغيظِ لتأخّر متعِب.
لم يكدْ يُمسك مقبضَ البـابِ حتى لمِح سيّارة أجرةٍ تقترب، ابتسـم وهو يتنهّد ، ومن ثمّ عـاد لوضعِه ، يستنـد بظهـرهِ على السيّارةِ وهو يرى متعب يقتربُ بملامح ظهـر عليها الضيقُ وكأنه لم يكُن يريد أن يخرج ، نظـر لهُ من الأعلـى للأسفل بسخريةٍ ما إن وقفَ أمامه، وبتهكم : أخيرًا أعتقت نفسك من الأثواب!
متعب بضجر : ترى ما طلعت معك كثير بالريـاض ، يعني ما شفتني فيه غير كم مرة . . . * أردف بجدّية * والحين وش عندك مطلعني الحين؟
أخفـض أدهم ذراعيْه الذين كـانا يكتّفهما أمـام صدرِه، نظـر لهُ بصمتٍ لوقت، ومن ثمّ لفظَ وهو يرسُم على ملامحِه الجدّية : كنت بسألك عن شيء.
متعب يرفع حاجبه الأيسر : ما ينسئل بالجوال؟
أدهم : لا .. الموضوع مهم ما ينقال عالجوال.
متعب بتوجّس : شلون يعني؟
أدهم دون مقدّمـات : وش اللي صار لك قبل لا نلتقي؟
راقبَ ملامحَ متعب وهي تتغيّر بحيرةٍ من سؤاله، بعضُ الربكـة أصابته لكنّ الأكثـر كان عدمَ فهمٍ بزغَ في ردّه : الفنـدق اللي كنت فيه . . .
قاطعـه أدهم بجمود : قبل الفندق !
متعب باستنكـار : نعم !
أدهـم يكرّر : قبـل الفندق .. وش صار معك بالضبط؟ ليه كنت مسافـر لميونخ وقتها؟
توتّرت ملامحُ متعب هذهِ المرّة وغـادرتها الحيـرة، شتت عينيه عنه والضيقُ اكتنـزَ في عينيهِ وكأن الذكـرياتِ هاجمته مرّةً واحدة، منذ متى كـانت مستسلمـةً للوقوفِ بصمتٍ وهي التي لا تتوانَى عن مهاجمـةِ فكرِه؟ . . لفظَ بضيق : ليه النـاس دايم تسافر لسبب غير الترويح؟
أدهم بحدة : أنت سافرت لسبب غير الترويح صح؟
متعب ينظُر لهُ وهو يقطّب ملامحه بحدّة : وش مناسبة هالسؤال الحين؟
أدهم بحنق : أبـي أعرف . . ليه ما قلت لي من قبل إنّك سافـرت عشان تعالج نفسك من الإدمـان؟
اتّسعَت عينـاه بصدمةٍ وملامحـه تشحُب ، تراجـع خطوةً مستنكـرةٍ استنكـارًا طـال صوته الذي لفظ : شلون دريت؟
أدهم بضيقٍ ابتـسم وهو يُشيح ملامحه جانبًا، وبحسرة : الحيوان كـان صادق !
متعب بحدةٍ اندفـع يلفظُ وهو يقتربُ الخطوةَ التي ابتعدَ بها : الحيوان !! مين تقصد؟ مين اللي قالّك ومحد يعرف عن شـ . .
قاطعه أدهم وهو ينظُر له بحدة : مين بيدري يعني غير شاهين؟ هو اللي قالّي.
متعب بصدمة : شاهين !! . . كلمته؟
أدهـم بحنق : ليه هوّ تركنِي في حالي؟ . . الله ياخذك خليتني جاهل قدامه يعني كنت مستخسر تقولي صار لي كذا وكذا وكذا؟
زفـر بضيقٍ وصوتُه يضيق معه، لمْ يكُن يريده أن يعلـم، ليسَ لشيءٍ سوى أنّ هذا الجانِب المظلـم من حياتِه لا يريد أن يتذكّره، لا يريد لأحدٍ أن يعلـم لأنّه لا يريد أن يتذكّره !! . . لفظَ بصوتٍ خافتٍ شرَد لتلك الأيــامِ الموجعَة : ما كان موضوع مهم !
أدهم يكادُ يضربه من غيظِه : ياخي أبي أضرب ! خاطري أضرب . .
نظـر لهُ متعب : أقسم بالله لكفّخك هالمرة تبي تضرب طلّعها بزوجتك يا همجي.
ابتسم باستفزاز : لا مرتِي ما أرضى عليها ماهي من مقام الحيوانات أمثالك عشان تنضرب.
متعب بتهديد : بديت تخرّبها معي .. * أردف بجدّية * الحين خلنا بموضوعنا ، وش المناسبة اللي خلته يعلمك بقصتي؟
أدهم : قالها لي من قبـل ، مو مهم ، بس هو كـان يحاول يثبت لي صدقه.
متعب يرفع أحد حاجبيه : صدقه !!
أدهم : أي .. ما أدري أحس عقلي اختبـص .. بس هو قبـل كـان يظنّ إنّي السبب في اللي صار لك . .
ارتفعَت زاويـة فمهِ دون فهمٍ ليكرّر : السبب في اللي صـار لي !!
أدهم بتردد : اسمـع .. أنا بنقل لك الكـلام سواءً كنت مصدّقه أو لا .. أصلًا أنا ما أدري للحين أصدّقه أو لا لأنّه لو كـان يكذب فشكله غبي لأنّك خويّي .. بس ما أدري إذا جوابـك يعبّر عن صدقه في بقيّة السالفـة . .
متعب : وش عند يا رجّال وترتني .. جيبها من الآخر وش مسوّي شاهين بعد؟
أدهـم يزفـر بتشتّتٍ وهو يمرّر كفّه على رأسه : يقول إنّنا كلنـا مخدوعين . .
لمـح نظرات متعب التي تغيّرت ببهوت، لم يستوعب معنـى كلمـاتِه لذا أردفَ أدهم بتأنّي : يقُول إنّه مستحيل يفكّر يأذيك .. مستحيل يتجرّأ يتزوج زوجتك وأنت حي . . السالفـة كلها إنّنا طحنـا بنفسَ الخدعـة ، ماهي بعيدة أحد يستخدم اسمه ويوهمك إنّه اللي سوّى فيك كذا .... مثل ما يقول !
صمتَ الوقتُ عن المضي، وعينـاه ترقبـان ملامحَ متعب التي شحبَت وهو ينظُر لهُ نظـرةً خاويـةً من الحيـاة ، جلدُه يذبُل، لم يستطِع أن يخفِي من عينيه الرغبـة بذلك، أن يكون كلّ ذلك خدعـة ، أمنيته الدائمـة في غربتِه كانت أنه يحيا كابُوسًا ، والخداعُ من مشتقّاتِ الكوابيس، أن يكُون كلّ ذلك بعيدًا عن شاهين ، ولو جـاءهُ ماردٌ بنبأ " الأمنيـات " لاختـار فقط أن يكون شاهين بريئًا . . . يا الله لو يتحقّق ذلك! وتضيعُ سنينه تلك بحزنِه .. لا يهمْ! فرحتـه في تلك اللحظـة ستتجاوزُ السنواتِ كلّها ، لكن هل يمكن أن يحدثُ هذا ! .. هه! يالعبِث الأمنيـاتِ الواهيةِ هذه!
لفظَ بنبرةٍ ميّتـةٍ وعينـيه تُظلمان، ملامحهُ تشيخ أكثـر ، أهدابُه تنكسِر، ذراعـه التي لوتها الأيـامُ بسلسلةِ الأقدار التي حملّت اسمـه ، كـان اسم شاهين بحروفِه هو الذي أسـره في كلّ هذا .. كـان هو ! : تدري إنّي سـامع صوته بنفسي .. وتدري إنّه كـان من رقمه بعد! الرسـالة اللي فضحَت مكانِي وبعدها صوته . . تدري بهالشيء يا أدهم !
لم يردّ أدهـم وهو يدرك في هذهِ اللحظـة أنّ آلآمـه عادَت لتثور ، بينما ابتسم متعب بسخريةٍ مريرةٍ وهو يلفُظ بخيبـة : كذبـة جديدة ، مجرّد كذبـة جديدة منّه . . للأسف.
،
تراجَعت للخلفِ بصدمـة ، وفحيحُ الهواءِ خـارجًا أصابَها مع ظهورِ ملامِح أمّها لهـا ، البـاب بقيَ معلّقًا ، مفتوحًا على الوجـه الذي رأتـه آخـر مرّةٍ قبـل وقتٍ طويل ، كـانت المرّة الأولـى والأخيرة ، لم يتبعها سوى سردٍ عن ماضي .. عن ماضٍ مُهلك !! ماضٍ يغمسُ جراحها الملتهبـة في الملـح . .
ابتسَمت رقيّة برقّةٍ وهي تلفظُ بنبرةِ صوتِها النـاعمـة : أدخل؟
ولم تكُن لتنتظـر ردّها بالفعـل، بل دخَلت لتغلـق البـاب من خلفِها وكأنّها صاحبـة المنزِل . . شعرَت بجسدِها يتشنّج وبالزمنِ معها ، تنظُر لهـا بملامِح باهتـة ، بعينين لا تصدّقـان، بلوعـةٍ حشرجَت أنفاسها وماضٍ بـزغ من جديدٍ غير " أدهم ونجلاء " ، ماضٍ تكرّر مرّةً أخـرى ، غير والدها الذي غـاب مرّةً أخـرى بعد أن قـامَ بعملِه ورحـل ، عملِه الذي كـان قسرًا حتى لا يُعكّرَ مزاجـه فقط ! جـاءتها من المـاضِي وأنــارتْ في شفتيها تقويسةَ خذلان، لمعـةُ حزنٍ في عينيها سرعـان ما أطفأتها وهي تُشيحُ بوجهها الشبيهِ بها عنها ، قلبـها شعرت أنّه ينكمـشُ فيوجعها، صوتُها أيضًا، والذي خرج إليها مختنقًا : وش تبغين؟
رقيـة بعتب : هذي طريقة تستقبلين فيها أمّك؟!!
احتدّت نظراتها بينمـا مـال فمها بسخريةٍ لاذعـةٍ لنفسِها ، بحزنٍ من تلك الكلمـة التي تجلدها بسياطِ الفقـر الأسريّ، أقسـى فقر، ليس المـال بل هو فقر الأسـرة ! . . لفظَت بتهكّمٍ ساخـر : أمي؟ حاشا هالمكانـة منك !
ابتسمَت رقيّة دونَ تعليقٍ وهي تحرّك أحداقـها تنظُر للمنزل الذي اختلفَ وباتَ آخـر منذ المرّة الأخيـرةِ الذي كـانت بِه، الجدرانُ اختلفت، الأرائك، التضاريس، والألوان أصبحت أكثر عصريةً وزهوًا . . لفظَت وهي تبتسم ابتسامةً أقرب للسخرية : يا الله شلون تغيّر كل شيء !!
نظـرت نحو إلين التي كانت ترمقها بجمودٍ وشراراتُ عدمِ الاستقبـال تظهر مليًا على ملامحها : شفت أدهـم من شوي طلع فقلت فرصتِي عشان أشوفك.
إلين تعقدُ حاجبيها بضيق : تراقبيني؟
رقيّة ببساطة : تقريبًا . . شلونك مع هالهمجي؟
إلين بالرغمِ من كرهها لأدهـم وحقدها عليه إلا أنّها لم تكُن لتسمـح لها بالحدِيثِ بهذا السوءِ وهي أسوأ، كلّهما يملكـان صفـاتًا متقاربـة، لكنْ على الأقـل أدهم لم يطمـح للحرام يومًا! ، لفظَت بدفـاع : يا ليت تحترميني وما تحكين عنه بسوء قدّامـي! وبعدين ترى مالك حق تقيميين الناس !!
ضحكَت رقيّة بصدمة، ضحكـةً سريعـةً خاطفـة ومن ثمّ لفظَت بتعجّب : جـاب راسك؟
إلين بقهر : سؤال ماله قيمـة .. بس الأكيد ماراح أسمح لأحد يحكي عنه مهما كـانت مكانته عندي.
رقية : يعني له مكانـة؟
إلين تتجاهـل سؤالها وتردُّ عليها بسؤالٍ آخر : ليه جيتي؟
رقيّة ببساطـة : عشـان أشوفك . . بتخليني واقفة كذا؟
إلين تشدُّ قبضتيها وآلامها تُبصِر الطريقَ إليها، هذا الغزو الذي امتهـن قلبها ، أن تنتظـر شيئًا وتتمنّاه سنينًا لتكتشف أنّه حقيقـة، لكنّها حقيقةٌ موجعَةٌ تجعلك تتمنّى لو أنّها لم تكُن! تجعلك تنسى أمنياتِك السابقـة وتتمنّى أنّها لم تكُن ، يا الله كم أنّنَا نظلمُ أنفسنا حين لا نرضى ! ، كنتُ بخيرٍ قبل أن ألتقي بهِم، قبل أن أعـرف الحقيقـة وأعيش في دوامةِ هذهِ الخيبـة، كنتُ بخيرٍ قبـل أن أفقدَ نفسي ، فقدتها من شدّةِ هذا الحُزن وهذهِ المرارَة التي بقيَت حتَى الآن تسكُنني كصديدٍ وجَد دارَهُ في حنجرتِي ووجدْتُه قوتِي اليوميّ من الألـم . . . ابتلعت ريقها بصعوبـة، هذهِ الصعوبـة تقتلنِي حين تُخلـق في أبسط الأشيـاء تعبيرًا عن الانهزام . . ارتفعَ صدرها بضيقِ تنفّسها وهي تُقرِئ نفسها أن لا تضعف ، لم يُخلـق بعدُ من يُضعفها سواهم، عائلتها التي لم تجتمِع معهم بدّمٍ لكنّهم كـانوا أصدَق دائمًا ، لم يكونوا مثلهم ، أبدًا لم يكونوا مثل من أخذَت دمهم !!
لفظَت بخفوتٍ متأسّي : شلون لك وجه تجين عشان تشوفيني! شلون لك وجه تعيشين أصلًا!!
رقيـة تبتسم بجمود : أخطائي منتِ مسؤولة تحاسبيني عليها.
إلين بحدةِ صوتٍ خـرج مقهورًا ، بتداخُل حبالها الصوتيّةِ مع بعضها حتى خرجَ صوتها حادًا ، غاضبًا ، عاتبًا ، لا مُحبّ : أخطائك مسّتني يا أمّي العزيزة .. شلون لك حيل تغلطين وتنسين إنّ هالغلط الفادح ممكن ينتج عن طفـل يشيله! هالخطأ من بين كلّ الأخطـاء ما يتحمله بس اللي ارتكبـه .. تتحمّله أجيـال !! .. الحين أنا ، وبكرا عيالي وبعده عيال عيالي! بيقولون أمنا وجدتنا كـانت نتاج زواج لعبـة ومصخرة ! كـانت خرّيجة دور أيتام !!
رقية ترفعُ كفّها لتُعيد طرحتـها للخلفِ ويظهر البـاقي من شعرِها الأسـود ، رمقتها بنظـراتٍ باردِة ، لا مبـاليةَ بكلمـاتِها وكأنها تُخبرها أنّها لم تندَم، لم تخسـر شيئًا، لم تبالـي بما حدَث !! . . هتفت بخفوت : خليك شاطـرة ولا توصّلين الموضوع لعيالك . . من . .!
ابتسمَت بسخريةٍ ولم تكمِل كلمتها الأخير " أدهـم "! وكأنها تستخفُّ بزواجها بِه ، ترى أنّه لا يستحقّ أن يرتبـط بابنتِها ، حتى وإن كـانت مجرّد اسم ، " ابنة " ، لم تكن يومًا أكثـر من كلمـةِ تعارف ، لا تنكـر أنّها تمنّت لها الأفضـل، تمنّت لها رجلًا تعيشُ معه بشكلٍ يُرضيها ، لم تُبتـر منها كلّ معالِم الأمومـة ، ربّما كانت مشاعِرها باردة، لكنّها أبدًا لم تكُن لا تبـالي بها وإلا لما جعلتها تبتعدُ عن حيـاةِ دار الأيتـام حين طلبَت من هالـة أن تكفلها وتعذّرت بأنها لا تستطِيع كونَها تعيشُ وحيدة ، حينَ كانت تتمنّاها ليـاسِر حتى تبقَى معهم ، ياسِر الطبيبُ النـاجح وليسَ أدهم !!
شدّت على أسنـانِها بغيظٍ بنما نظـرت إلين للأرضِ بسخريةٍ من فكـرة " عيالك من أدهم "! هل سيجيء يومٌ وتستسلم! غبيّةٌ حين تظنّ هذهِ المهزلـة ستدوم ، لم تكُن تفكّر بالنفور قبـل أن تصبح قريبـةً منه ، لم تكُن تفكّر بأن تحرمـه من حقوقِه كزوج ، لكنّه حين اقتربَ استشعرت عظمَ تلك العلاقـة عليها وأنّها لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تبنِي معه قربًا كهذا .. لا تستطيع أن تهربَ من لعنـاتِ الملائكـة . . . غصّت من تلكَ الفكرةِ وهي ترفعُ أحداقـها للأعلى وتهمسُ بالسمـاح من الله .. أن يرحمها ، أن لا يؤاخذها على نفورها القهريّ ، لست أنـا من يقرّر بل ماضيّ معـه وحاضرِي الآن ، لست أنا يا الله .. فاغفر لي غضبـه كلّ ليلـةٍ مني وبالرغمِ من كونِه لم يُفصـح عن ذلك إلا أنّني أكـاد أجزم أنّه يكتم غيظًا ربّما لأجـل كرامته فقط ، بالتأكيد ليس لأجلي!
إلين بسخرية : ما أدري مين قالّك إن الموضوع بهالبسـاطة ! يظل محصور بجيل وما يتناقلـه الجيل اللي وراه .. مين قالّك؟
رقيّة تُميل فمها : يعتمِد عليك.
إلين بسخرية : مثل ما ظلْ سرّك مستور؟
رقية تغيّر دفّة الموضوع : حضرت زواجك . .
إلين تبتسمُ بحسرة : زدتيه ظـلام . .
رقيّة : منتِ سعيدة معه؟
إلين : ما يهمك سعيدة أو لا .. هذي حياتي يا أمّي العزيزة .. وأنا اللي قرّرتها.
اقتربَت منها رقيّة وعينيها تلتمعـانِ بقوّةٍ حـاقدة، حقدُها كـان مبنيًّا بصلابتِه على أدهـم ووالدِه ، أحمـد ، ولم يكُن على إلين بذاتِها .. لفظَت بخفوتٍ حـاد : تطلّقي منه .. تطلّقي منه يا حبيبتي وأزوّجك أفضل من اللي خلفوه كلهم . .
تراجعَت إلين وهي تتنفّس بقوّةٍ غيـر مستوعبةٍ كلماتَها تلك، بينما أردفت رقيّة بخفوت : رجُل أعمـال يعيّشك عيشة كريمة ، إذا ما كـنتِ لياسر ماراح تكونين لهالفاشِل .. تكونين لأي رجال بس هذا لا !!
إلين بصدمةٍ تتراجـع أكثر ورقيّة تقتربُ منها، لفظَت ببهوت : أنتِ وش قاعدة تخربطين ! ودّك تزوجيني على كيفك وأنا متزوجة؟
رقيّة : أدري إنّك كارهة هالزواج .. ليه تحترمينه؟
هزّت رأسها بالنفيِ وهي تبتلـع مرارتها ، هل تقول لها بأن تخطو على سيرها؟ أن ترتبطَ برجلٍ ما كما ارتبطَت هي بدافِع الطمـع؟ هل تخبرها أن تكون قذرةً ولا تُبـالي بحرمـة الزواج!!! . . فهمَت رقيّة مكنونَ نظراتها ، حينها ابتسمت وهي تلفظُ برقّة : لا حبيبتي ، ما قصدت اللي في بالك .. تقدرين تتطلقين منّه وتتزوجين غيره . . .
قاطعتـها إلين بانفعـال : بــــــــــــس !! وش هالجنون صاحية أنتِ تقولين لي هالكلام وأنا متزوجة؟!!!
رقيّة تهتفُ دون مبالاةٍ بكلمـاتها : شايفة بنت أحمد؟ أيه هو نفسه أبوك .. بنته اللي تعتبر أختك بعد .. مممم أتوقَع اسمهـا غزل ، اللي يهمني أقوله إنّها عرفت تختار! زوجـها رجّال ناجح و . .
وضعَت كفّيها على أذنها وهي تلفظُ بعذابٍ يحاصرها من كلّ جانِب ، بصراخٍ تقاطـع كلمـاتها عن الكمـال : خلاااااااااااص .. اطلعي برااا ما أبي أسمع كلمـة ثانية من جنونك .. اطللللللللللعي !!!!
ابتسمَت رقيّة ببرود ، وتلك شعَرت بمشـاعرها تنضَحُ بالأسـى ، تتجاهـل كثيرًا موضوع الأخت هذا ، تناستـه، ربما تشعُر بالغيرةِ نحوها، ربّما لا تريد أن تعترفَ بأنّها تتمنى منذ زمنٍ أختًا وأخَا أبًا وأمًا وعائلة! وحين التقت بالأمِّ والأبِ كـانت أمنيتها تتحقّق كمأسـاة ، فهل تستطِيع استقبـال مأساةٍ أخرى! .. تتنـاسى الأخت وتتنـاسى اسمها لتجيء أمّها الآن وتذكّرها بِها .. بغزل ، والتي ولِدت في كنفِ عائلتها الحقيقيّةِ بعكسِها ، ترعرعت بين حنانِهم وعطفهم .. وهي ماذا؟ بالرغمِ من كلّ النعـم التي أغرقها الله عليها إلا أنها تكفُر بِها في لحظـةِ خيبـة ، تكفُر دونَ شعورٍ وتبدأ بالغرقِ في حزنها وحاجتِها ، إمّا أن تتناساهم أو تتنـاسى نعمَ الله عليها دونَ شعور . . لذا لا تريد أن تفكّر بهم ، العائلة التي تحمِل دمها ، لا تريد أن تشعر بهذهِ الغيـرة تجـاه " أختها "! لا تريد هذا الحزن وهذهِ الخيبـة .. هو محض حُزن ، محضُ حزنٍ وخيبـة ، محضُ عـذاب ، محضُ أسـى .. وهم كلّ ذلك يا الله .. بينما نعمُك التي لا تحصـى أعتذر منها لأنّها عانقتني ، أنـا التي كلّما فتحَت نوافِذ القنـاعةِ والحمدِ أُغلقَت في وجهها وغابَت شمسـها ، أتوارى عنِ كلّ ذلك يا الله، عن شمسِهم وعن ظلي الذي جاء منهم مستقيمًا وليسَ معوجًّا بهؤلاء، أُذنِب في حقّ نفسي حينَ أقـارنُ حيـاتِي بأخـرى لم أملكها يومًا .. أجرِم بحقِ نفسي حين لا أرضـى .. يا الله ما أغباني! ما أغبـانِي حين أسقُط في هاويـةِ التمنّي وأنا ملكـتُ عيون الأرضِ ولم أكُن جافّةً من مـاء البسمةِ معهم.
لملمَت رقيّة موقِفها، عدّلت طرحتـها ببرودٍ لتثبّتـها بينمـا جزءُ من شعرها الأسود يظهرُ من الأمـام ، تحرّكت ببرودٍ لتتّجـه نحوَ البـاب ، دونَ تعبيرٍ ملحوظ، دون أن تكسَب شيئًا من هذا اللقـاءِ سوى أنّها بنَت المزيد من الكره في قلبِها ، جعلتـها تكره نفسها أكثـر لأنها علمَت من هيَ أمّها، لأنّها أدركَت أنّها خسرَت أكثر بعد لقائهم ولم تربَح شيئًا !!
خرجَت بصمتٍ كمـا دخلَت ، أغلقَت البـاب من خلفها كما فعلت بعد دخولِها، بقيَت إلين تتـابع البـابَ بأسى وهي تُخفِضُ كفيها عن أذنها ، وبالرغمِ من وعودِها .. كـانَ دمعٌ بائسٌ يسقُط من عينيها دون شعورٍ منها . . .
،
حينَ تجانَست عقاربُ السـاعةِ عند الخامسَةِ مسـاءً كانت تجلِسُ في غرفـة الجلوسِ وهي تُحاكي قطّتها كما بدأت تفعـل بالآونـةِ الأخيرة ، تجدُ أنها " تفضفض "، لا ترتـاح كثيرًا لكنّها على الأقـل تصمُد بذلك! بالتأكيد لا أحـد سيسمعها، ومن سيسمعها لن يُسكن الأعذارَ بينهما ، من سيسمعها سيحتقـر، سيشمُت ربّما، سيرمقها بنظراتِ القرفِ ويلومها على خداعِها لسلطـان !!
سمِعَت صوتَ خطواتٍ تقتربُ منها، رفعَت رأسها لتصتدم مباشرةً بسلطـان الذي كان في الخـارجِ ولتوّهِ عـاد ، عقدَت حاجبيها ومن ثمّ أخفضَت القطّة إلى الأرضِ مبتسمـةٍ بخيبـة، سيأتِي يومٌ لا تتعـاملُ فيهِ مع كرههِ للقطط، سيأتي يومٌ ما لن تكون لها ذكرى منه سوَى هذهِ القطّة التي أحضـرها لها رغمَ كرههِ لها ، لم يُرِد أن يبخـل عليها بشيء ، لم يُرِد أن تتمنّى البسيطَ والعظيمَ ولا يحضره لعينيها اللتين تلتمعـانِ كطفلـةٍ كلّما أسعدها . .
تمطّت القطّةُ بدلالٍ بعد أن تركتها على الأرض، استلقَت بجانِب الأريكـة التي جلسَ فيها سلطـان مع غـزل وفي عينيهِ كلامٌ مـا . . عقدَت حاجبيها تنظُرُ لملامحه وقد أدركت أنّه يريد أن يقول شيئًا .. ارتبكَت رغمًا عنها، وبتوجّس : تبي تقول شيء؟
سلطـان يزفـر قبل أن يردف بهدوء : أيه .. في موضوع يخصّك لازم نحكي عنّه.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، هل يعقل أن يكون علِم! .. لحظة ! ما هذا الغبـاء الذي يجعلها تفكّر بهذِه الطريقـة وهي تراه هادئًا ، من المستحيل أن يكون هادئًا مع موضوعٍ كهذا .. يا الله لو يكون ! على الأقل سيجلب بهدوئه الأمـل في أن يتقبّلها !!
همسَت بتوتّرٍ وهي تلعبُ بطرفِ قمـاش بلوزتها الطويلة لفخذَيها : يخصني أنا؟ وش هو ؟!
سلطـان بهدوء : أمّك .. أبوك طلّقها . . .
،
كـانتْ تُراقِب ملامِح والِدها الثائـرة ، تنظُر لأرجوانْ باستنكـارٍ وتلك حالها مثل أختها ، كـان يجلسُ في الصـالةِ وكفيهِ يضعها على فمِه .. يفكّر كثيرًا .. ما الذي كان يفعله قريبًا منهم ، قلقْ؟ أمـا كان هو السبب في ذلك !! لازال يبقى قُربه ويعرّضهم للخطـر أكثـر . . . رفـع عينيه لجيهان الواقفـةِ عندَ بابِ غرفتها ومعها أرجوان ، ينظـرانِ إليهِ بنظراتٍ مستغربـة .. لم يظهـر على ملامِحه أيُّ تعبيرٍ وهو ينهضُ ليتحرّك يريد أن يذهبَ لغرفتـه، لكنّ صوتَ جيهان منعه حين لفظَت باستغراب : يبه شفيك؟
استدارَ ينظُر إليها مبتسمًا ابتسامةً كـاذبة وهو يلفظ : شفيني؟ مافيني شيء ..
أرجوان باستغراب : لا فيك .. كنت عادي لين ما شفت ذاك الرجـال في المطعـم . .
لحظتـا احتقـان ملامحه وشدّه على أسنـانِه .. مرّر لسان على شفتيهِ وهو يتحرّك مبتعدًا لافظًا بحدة : لا تحكون عن شيء منتوا متأكدين منه .. مزاجي ما صار له شيء مثل ماهو
.
.
.
انــتــهــى
وموعدنا الجاي ثاني أيام العيد إن شاء الله، واحتمـال أخليه نهار الثالث بما إنّ البارت الجاي دسِم ()
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|