كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
حابة أنوه لشغلة : سطام الذي ذُكر في الجُزء السابـق مجرد اسم شبه عابِر ، وهو ليس نفسه " سالم "، سالم مهما كان غير معروف بالنسبة لهم " كاسم حقيقي " أو وجه وصفات بيكون تهوّر منه يدخـل بين سلك عسكري ويتلاعب فيه وهو مهم مثله مثل أحمد وسعُود.
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$
+ اللهم اكتبنا من المغفورين لهم في شهركَ الكريم ، وارحمنا واعتق رقابنـا من النـار، اللهم بلّغنا ليلة القدر . . لا تنسوا قراءة القرآن والعبـادة ولا تنسونِي من دعواتكم الطيبة :* ()
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبـادات في هذا الشهرِ الكريم
+ القصيدة اقتباس الجميلة رماد الشوق / طعون .. " دورت اسم كاتبها وما حصلته فاللي تعرفه تقوله فضلًا "
نفضت الليل و اثاري السنين أوراق
تمر من الجفا.. و تصب في وصالك!
تعيش داخلي سيرة من الأشواق
و أحييها " وعد" و تطيح بـ اهمالك
أنا من عدك لدنياه ( بوح أشواق )
و عتمة صمت، قبل أنساك فـ ظلالك !
يا كم حاولت أدوّر للحنين أحداق
يا كم حاولت ادوّر شيء في بالك !
يا غايب .. و الألم يُنطق ولا ينطاق
وش اللي باقي من الروح يلجأ لك؟
عميق الحب.. شوفه طاح بالأعماق
بـ قيمة جرح.. و اثقاله من اثقالك !
لا تستغرب ! اذا جيتك عـلى الفراق
تراشقنا الفعول.. و جيت بأفعالك !
(75)*3
صوتُ الخطواتِ اقتربَت، تعالّت على مسمَعهِ المُرهقِ بالخطـر، تجمّد الوقتُ للحظـةٍ وهو ينحنِي دون تفكيرٍ للأرضِ ليُغيّبَ جسده وراء السريرِ عن البـاب، سمعَ في تلك اللحظـة صوتهُ يُفتَح بانفعـال، صمتٌ لثانيتينِ من الصدمـة، ومن ثمّ شتيمةٌ غاضبـة وهو يرى زميلهُ ملقيًا على الأرض، تحرّك بخفةٍ ينظُر في حنايا الغـرفةِ بحذر، التصقَت أقدامُه بالسريرِ لتقعَ عينـاه على الممرضةِ التي كانت تلتصقُ بظهرِها بالجدارِ أمامه ووجهها مُبللٌ بدمعها، تضغطُ على فمها بذعرٍ وهي تنتفضُ كاتمةً صوتَ بكائها، انـدفع صوتُه بخشونةٍ غاضبـة وهو يستديرُ حول السريرِ كي يصِل إليها : ما الذي حدث؟ أين ذهب ذاك . . .
انقطعَت كلماتُه في اللحظـةِ التي التفت فيها ساقُ بدر حول ساقِه اليُمنـى ليسقطَ على الأرضِ متأوهًا بصدمـة، اندفـع بدر إليه رافعًا كفه السليمة ليوجّه له ضربـةً مدروسةً بحافة/سكين يدِه إلى الجزء العلوِيّ من أنفه مبـاشرةً مسببًا لهُ عمـى مؤقت وعدم اتّزان، تأوه هذهِ المرّة ألمًا، بينما نهضَ بدر لينظُر للمرضةِ وهو يلفظُ بصوتٍ حـاد : اذهبـــــــــي حالًا !!
نهضَت الممرضـة بسرعةٍ بذعر لتركـض للبـابِ وكأنّ الخـلاص جاء إليها، نهضَ غيـر مبالٍ بذاكَ الذي كان لا يزالُ على الأرضِ يشعُر بالدوارِ ويئن من أنفه الذي شعر بأنّه يكـاد يتحطّم، لم يكُن لينتظـر حتى يستعيد توازنه، تحرّك بأقدامِه الحافيـة ليخـرج وهو يشعُر بالغثيـانِ من رائحة المشفى، هذهِ الرائحةُ مرتبطـةٌ بيومِ وفاتِهم/مقتلهم، هذهِ الرائحة يشعر أنّها تتوكأ على صدرِه فلا يقوى على تحمّلها.
خـرج من المشفـى بحالتِه المُزريـةِ تلك، قميصهُ عـاد يغطّي صدرَه بالتأكيد قبل أن يجلبُوه هنـا ، تحرّك مبتعدًا من ذلك المكـان، وقبـل أن يكون فارًّا بوهنِ جسدِه هو يهربُ من رائحتـه، من ذكرياتِه.
،
بعد نصفِ ساعـةٍ أو أكثـر ، رمـى الهاتِف بكلّ قوّةٍ على الجدارِ لتتحطّم شاشتـه وهو يزمجـر بشتيمةٍ غاضبـةٍ فرّغ فيها انفعـالاتِ صوتِه . . نظـر لهُ تميم وهو يبتسم ببرود، أدرك جيدًا ما كـان في الاتصـال والذي جعله يغضبُ بهذا الشكـل .. لفظَ بتسليـةٍ متسائلة : هرب؟
وجّه سعودْ نظراتـه الحادةَ إليـه، يجلسُ على كرسيٍّ خشبي، قهوتُه التركيّة ترتكزُ على الطـاولةِ أمـامه وقد انتصفَت بينما دُخـان حرارتِها مـاتَ من هواءِ الغـرفة البـارد، هذهِ البرودة التي لا تكفِي حتى تجعـل الغضب والانفعالاتِ تخمد.
رأى نظراتِ الغضبِ في عيني سعود بوضوح، لم يكُن غضبًا لكونِ بدر هرب فقط، بل لكونِ السبب في مهربِه هو! . . اقتربَ منه بخطواتٍ منفعلةٍ ليقفَ أمامه من خلفِ الطـاولة، استندَ بكفّه المُتشنّجةِ على سطحِها الزجاجـي ليلفظ من بينِ أسنـانِه بنبرةٍ غضب : كلّه منك! هرب منّك يا فاشِل!!
ضحكَ تميم بخفّةٍ دون مبالاةٍ حقيقية وهو يتناول الكوبَ من الطاولـة ليرتشف من برودتِها القليل، البرودة اللاذعـةِ كبرودةِ مزاجِه التي استفزّت سعود أكثر! .. لفظ بعد وهلةٍ بصوتٍ هادئ : ويعني؟ إذا هرب بسببي وش يصير؟ المصيبة لو ما هرب!
ارتفع حاجبي سعود والنيرانُ تشتدُّ في أحداقِه أكثـر غير مستوعبٍ كلمـاتِ تميم الباردة! بينما تابـع تميم دون مبالاة : بتصير اللعبـة مُملة بشكل لا يُطـاق!
سعود بصرخةِ غضب : تميــــــــــــــــــــــــــــــم !!!
تميم يضـع الكوب على الطــاولةِ وهو يُميل شفته السُفلـى بسخريـة، وبتوضيحٍ حـاد : خليتني أشاركك .. ومن عيوني لك اللي تبيه وبكون معك بحِصد الثروة اللي تبيها أكثر وأكثـر .. بس بطريقتي!
سعود من بين أسنانه : بطريقتك؟
تميم يبتسم ابتسامـة باردة : أيه .. بطريقتي .. أنا ألعب وياك بنفس الأشخـاص .. وما أبي أحس بالملل وكونك مسكته بهالوقت ما يناسبني!
سعود بخفوتٍ حاد : تعترف إنّك ساعدته؟
تميم يرفع كتفيه : أعتـرف ..
سعود بوعيد : بتندم يا تميم .. بتندم!!
تميم ينظُر لعيني سعُود بتحدي وثقـة : ما تقدر تسوي فيني شيء .. تحتاجني ، تحتاجني كثيييير يا جدّي العزيز.
سعود بشكٍ يخفت صوتُه قليلًا : لا تكون خاينّي وأنت جاسوسهم!!
ارتفعَ حاجبي تميم لوهلـة بصدمة، وسرعـان ما غرق في ضحكةٍ ساخرةٍ وهو يهزُّ رأسه بالنفي لافظًا : وش هالتفكير الغبـي !! ما بقى غير أوجع راسي أكثـر ماهو كفاية أنت!! * أردف بابتسامةِ استهزاء * أنـا أشتغل باللي يناسبني .. عشان نفسي وبس وعشان أتسلّى ماهو ورى ناس ما يهموني! ودامني شايف إنّ شغلك ما يضر لهالدرجـة ما اعترضت كثيييييير .. بس الأكيد بيكون كل شيء بطريقتي . .
سعود بغضب : ماراح يكون بكيفك .. ماراح يكون يا تميم وبخليك تتربى من جديد وتعرف شلون تسمع كلامي عدل!
تميم بتحدي : تراني ما كنت أسمع كلامك مجبور! عمري ما انجبرت على شيء .. كنت أوافـق .. وأتسلـى وبس! في المرات القليلة اللي عصبت من أشغالك كانت لأني مشغول بوناستي وعكّرت عليْ.
سعود يستقيم وهو يلفظ بوعيد : نشوف يا تميم .. نشوف ..
تحرّك بعد كلماتِه الحادةِ تلك ليخرج من الغـرفة مُطبقًا البـاب من خلفِه .. بينما انسلّت ضحكةٌ خافتـةٌ من بين شفتي تميم وهو ينظُر للقهوةِ البـاردةِ كبرودةِ عينيه الرماديتين، المرّة! كمرارةِ صوتِه الجـاف الذي نطـق بسخرية : شلون وصل لهنا .. شلون ما انمسك كل هالسنوات ! وين الذكـاء اللي مو قاعد أشوفه قدامي!!
،
مُستلقيةٌ على طرفِ السرير، تكـادُ تقعُ في أيِّ لحظةٍ من ربكةٍ جعلتها لا تنـامُ كما يجِب، كلّما شعرت بحركتهِ بجانِبها انتفضت مستيقظةً وكأنّها كلّفت عقلها بالشعُورِ بِه، قلبها، وجسدها الذي يقشعرّ. تحرّكاتهِ كانت تسمعها جيدًا وتُثيرُ فيها ربكةً أكبـر، يفتحُ بابَ خزانةِ ملابسِه، يتّجه للحمـامِ المُرفقِ مع غرفتِه، يستغرقُ ثوانٍ حتى يبعثَ بصوتِ الماءِ لأذنيها، المـاءُ الذي لا يغسلُ الذنوب، لن يغسِل هذا الكره في قلبها لو سكبهُ عليه، لا يمحي آثـارَ لوعةِ المراهقـةِ والخدَاع.
تنهّدت بأسى وهي تنقلبُ على ظهرِها، يلتفُّ جسدها الغضّ باللحـاف، تتأمّل نقوشاتِ السقف التي لم تمعِن بها التركيز البـارحة من حجمِ الغيظ، الغرفـة الكئيبةُ ذات الطـابَع الرجُولي، مزاجـه العابث والمتهور الذي طبعهُ في كلّ زاويـةٍ فيها، مرّرت عينيها ببطءٍ لتسقط على الأرائِك الرمـاديّة، الطـاولةُ ذات الساقين والتي ترتكزُ بسوادِها على إحدى الزوايا الأربـع، ومن فوقِها قبعَ تمثالٌ صغير لبُرج إيفل بفضّيةٍ لامعـة.
ما هذِه الكآبة! لا بيـاضَ سوى في لونِ السرير، حتى الجدران تصبّغت بدرجةٍ رماديّة أقـل حدةً من الأرائِك . . لوَت فمها بضيقٍ وهي تنظُر نحو البـابِ بوجُوم، تتذكّر كيف أرغمها على النومِ معه هنـا حين كادَت تهرب لأخرى وهي تصرخ أنّها تفضّل الموتَ على أن تنـام والجدران ذاتها تُحيط بهما ..
بعد عودتِه من المسجِد وجدها قد اختارت لها غرفة لها بكل بجاحة، في البدايـة بحث عنها ولم يجدْها في الأسفـل، فصعد ليسمع ضوضـاءَ في إحدى الغرف التي تركتْ بابَ غرفتها مفتوحًا، اتّجه لها ليجدها كانت تنظّفها وكأنها قررت كيف ستكُون حياتها هنا في وقتِ صلاتِه، بل بالفعلِ كانت قد قرّرت وانتهت!
رفـع أحدَ حاجبيه وهو ينظُر لجسدها الذي اختبأ خلف السرير، عباءتها مرميّةٌ فوقه، بينما كانت تسحبُ شيئًا ما بجانِبه . . صوتُه جاءها لتنتفض بذعرٍ وقد سحبها من عالَم الوحدةِ التي كانت فيهِ دونه : وش قاعدة تسوين؟
رفعّت نظراتها التي غادرها الذعر، زفـرت وهي تضعُ كفّها على صدرها لتهتف بعد لحظـة : أنظّف ..
أدهم يُميل فمه قليلًا بسخرية : على أساس ما أشوف أنا؟ أدري إنك تنظفين.
إلين بانزعاجٍ تجعّدت ملامحها : وليه تسأل يا أخي؟
شددت على " يا أخي " بعنادٍ ليبتسم رغمًا عنه ابتسامةً صادقـة رأتها عابثـةً متسليةً بها وهو يلفظ : الشيء المهم باللي قاعد أشوفه قدامي الحين .. ليه تنظفين؟
اعتدلّت في وقفتها جيدًا لتحرّك كفّها ببساطةٍ في الهواءِ وكأنّها لا تتحدّث مع من يكُون زوجًا لها : واااضحـة .. عشانها غرفتي.
زمّ شفتيه، وجههُ تغيّر بشكلٍ ملحوظ وعينيه التمعتا بشكلٍ مُريب .. كان يكتمُ شيئًا مـا خلف شفتيه .. لكنّه لم يستطِع أن يكتم أكثـر، انفجـر فجأةً بضحكةٍ صاخبةٍ وهو ينحني بجسدِه ويضعُ كفيهِ على بطنِه، يلفظُ بصوتٍ يغادرُ بين ضحكاته : لا لا ... هههههههههههه منتِ طبيعية لا يااا الله لاااااااا هههههههههههههههههههههههههههه
احمرّ وجهها بشدة، لا تدري بالضبطِ لمَ كـان يضحك، سخريةً أم استغراب! لكنّه استطـاع إحراجها لتصرخ بغضب : وججججججع وش اللي يضحك يا سامج؟
أدهم يضعُ ظاهِر كفّه على فمِه ليكتم البـاقي من ضحكاتِه وهو يهزّ رأسه بالنفي، لا فائدة! من الواضِح أن تفكيرها طفوليٌّ كفاية وفوضوي بينما ظهرت له العاقلــة من قبل ليكتشف العكس الآن.
مرّر لسانه على شفتيْهِ وهو يبتسم، أخفضَ كفّه ليرفعَ حاجبـه الأيسـر ويهتف بنبرةٍ مٌغيظةٍ لها دون مقدمات : ممنوووووووووووووع .. مكانك تعرفينه وين؟ جنبي .. بنفس الغرفـة معي .. حركات البزارين والمسلسلات هذي ما أبيها.
فغرَت فمها للحظةٍ بصدمة، لم تستوعِب كلماتِه في بادئ الأمـر، لكن سرعــان ما انتشـر احمرارَ الغضبِ على ملامحها، اشتعلت عينـاها بالكرهِ الذي شحذ أقدامها بالانفعـال الصـارخ من خطواتِها التي اتّجهت إليه بغضبٍ وهي تلفظ : تحلـــــــــــــــــــــم . . مستحييييييل أنام جنبك تبي كبدي تلوع من القرف؟ لا لا مستحيييل كافي نمت معك ليلتين بالفندق ومو برضاي بعد.
وقفَت أمامه وهي تضربُ قدمها بالأرضِ بغضب، بينما راقبها أدهـم بجمودٍ باردٍ وهو يبتسم وكأنّ من تتحدّث أمـامه مجرّد " مجنونة " لا تعي كلماتِها.
أردفت بصرخةٍ وصمتهُ يستفزها : شفيك ساكت كذا احكي!!
رفعَ كفّه ليحكّ ذقنـه بعارضِه الخفيف وهو يمطُّ فمه بضجرٍ ويراقبها من أعلى رأسها لأخمص قدميها بثيابِها المحتشمـة بإسراف، اشتعلت بالخجلِ من نظراتِه لتتراجـع خطوةً للخلفِ وتُشتت عينيها بغيظ، بينما لفظَ هو ببرودٍ بعد لحظة : مممممم بالتفكر بوضع عقلك .. الموضوع المستحيل هنا هو نومك بهالغـرفة .. وشو مستحيل؟ هذا جنون بعد مدري شلون تفكرين . . * اقترب ليقطـع الخطوة التي صنعتها بينهما، ليردفَ بخفوتٍ وهو ينحني برأسِه نحو وجهها * أنــا زوجك يا حلـــوة .. زوجك .. تعرفين معنى هالكلمة؟ ماني أخوك . .
ابتسم باستهزاءٍ عند آخر كلمـة، تلك التي أشعلتها أكثـر ، أشعلتها وهي تتذكّر كيفَ أنّه جـاراها قبلًا في هذهِ الحمـاقة، كيفَ جعلها تعيشُ الوهم بتفاصِيله حتى ركضت في تلك الليلـة إليه. شدّت على أسنانِها بقهر، تنظُر لهُ بحقدٍ أعمـى، بإسرافٍ في الكره، تشدُّ قبضتيها اللتين تتمنانِ سحقـه! فتحَت فمها تريد الردّ بقوّةٍ وربما بكلماتٍ وقحـة! لكنّه قاطعهـا بنبرةٍ محذّرة : نجـــــلاء! ترانِي صبور معك .. صبووووووور مرة على غير طبعِي .. لا تظنين إنّي معفيك من واجباتِك الزوجية يعني بخلي الوضع بيننا مهزلة بهالشكل! أنـا تاركك براحتك ، مو حاب أجبرك ولاني مستصيغ فكرة الغصيبة ذي .. بس لهنا وبس! تنامين بنفس الغرفة اللي ينـام فيها زوجك .. هالحركات السخيفة ابعديها عنك .. كوني أعقل من كِذا.
عضّت طرفَ شفتِها السُفلى وهي لا تنظُر إليه، نظراتُها كانت بعيدةً نحو الجدارِ العاجي، عنقها تشنّجت، اختنق صوتُها، صدرها الذي اضطرب بتنفّسه رافضًا تلك الفكـرة، أن تنـام بجوارِه ذلك جنونٌ بعينِه! لا تستطيع .. لا تستطيـــــع!! . .
ارتعشَت شفاهُها الناعمـة وكأنّ البـرد هزّها، كـان بردَ كلماتِه ، بردَ " الغصيبة " التي جاءت بحلّةٍ أخـرى . . همسَت باختنـاق لا تهتمُّ بالكلماتِ التي تنطُقها : ما أقدِر .. أقرف منّك .. ما أتخيّل فكرة قربك مني شلون بالنوم بعد؟
لم تبـالي أبدًا بحجمِ ما تقول، بالاعتـرافِ بكلِّ شفافيَةٍ عن تقزّزها منـه، الاعترافِ الذي يدرك منه أنّها تكرهه، ولم يكُن يظنُّ أن الكره تأصّل حتى وصـل لهذهِ النسبةِ من الاشمئزازِ الصـريح في ملامحها وهي تقولها.
مـال رأسُه قليلًا بميلانِ شفتِه السُفلى، عينـاه تطوفـانِ على ملامِحها بصمت، وجهها الواجِم، وتضاريسُ الضيقِ و - القرف -!! . . رفـع كفّه فجـأة، وجدها تستقرُّ فجأةً خلف عنقها، وكأنّه تمرّده الداخـلي عـاد، أن يفرض نفسه ، إن كان بتعاملِه اللطيف معها يجعلها تتمادى أكثـر، فسيفرض نفسه .. فرضًا من وجهةِ نظرِه " لطيف ". داعبَ بشرةَ عنقها ليشعر بأنفاسِها تتصاعد بقوّة، نظراتها ارتحلّت إليه أخيرًا برفضٍ صـارخٍ بين زواياها " الفاتنة "، تنظُر لهُ بنفور .. جعله يبتسم تدريجيًا ابتسامةً بـاردة، انحنى بوجههِ إلى وجهها مقتربًا، ليهمس أخيرًا بصوتٍ أشبـه بفحيحِ أفعـى سامّة : مشكلتك ، ماهي مشكلتي . . ماني ملزوم أتعامل مع قرفك هذا .. فاصرفيه من تصاريح مشاعِرك أو هذّبيـه لين ما أعرف أصرفه بنفسي.
كـانت كلماتًا متوعّدة ، كفحيح الأفعـى فعلًا، الصوتُ الذي يأتِي قبـل الخطـر!! . . ابتسمَ بلطفٍ مفاجئٍ ومن ثمّ ابتعدَ برأسِه للوراءِ قليلًا وهو يحِيط كتفيها ليقفَ أخيرًا بجانِبها ويلفظ بنبرتِه المعتـادة معها وكأنّ شيئًا لم يكُن : ويلا يا جميلتي بوريك غرفتنـا الحاليـة .. عسى بس تعجبك لين نغير أثاثها بذوقك الحلو.
انتفضَت بين ذراعيهِ بضعفٍ مخزي من تلاعبِه بصوتِه، بها! من صفـاء مزاجِه أو تصنّعه ذلك! وكأنه بذلك يخبرها بوضوحٍ أنّ حياتهما بيدِه، ليس لها أن تعترض، وليس لها أن تتحكّم بمزاجِه أيضًا !! يُخبرها أنّ الموضوع بيدِه، ولن تستطيع الإعتراض أبدًا.
أغمضَت عينيها عن كآبـةِ الغرفـة وهي تبتلعُ ريقها بقهر، نومها في الليل بجانِبه شعرت أنّه قد كسر جزءً منها لأنّه هزمها! هزمها منذ البدايـة، لم تبالِي إن كان على حقٍ أم لا ، لكنّها لا تريد .. لا تريد أن تكون بقربِه!! كيفَ كانت تشعر بأنفاسِه المنتظمـة وهي تعيشُ في حالـةٍ من الانفعـال، بينما هو بلؤمِه أغلق الغرفـة بالمفتـاح أيضًا ليأسرها بشكلٍ حقير! يُدرك أنّ هذهِ الليلـة كانت الحد، كانت العِمـاد الأول، ولو أنّها هربَت من الغـرفة ونامت بسواها فستفعلها في كلّ ليلـة، بينما لو نامت بجانِبه وإن كانت مرغمـة فستمضي بقيّة الليـالي بهذهِ الوتيرة حتى دون أن يرغمها أو يضطر لغلق البـاب .. سيكون أمرًا لا فرار منه.
أغمَضت عينيها بقوّةٍ ما إن فتـح بـاب الحمـام ، لكنّها فجأةً فتحتهما وهي تشدُّ على أسنانِها بقهر .. وإن يكن؟ خرج أم لم يخرج، هزمها أم انتصرت .. لن تخاف منه ولن تستسلم، لن تغمض عينيها هاربـةً فقط لأنّه خرج من الحمـام!!
نظـرت لهُ وهو يجفّف شعره، كانت نظراتها باردة، لكنّها سرعـان ما اشتعلت حين وقعت بِه، شهقت بقوّةٍ وهي تغمضُ عينيها، فهو كان عاري الصـدر ولم يكُن يرتدي سوى بنطالٍ رياضيٍّ أبيـض، سمـع شهقتها وابتسم دون أن يبـالي بمظهرهِ الجريء أمـام زوجته التي لم تكمل حتى أسبوعًا معه ولم يصـلا لمرحلةٍ قد تجعل مظهرهُ أقلّ وقاحـة.
رمـى المنشفـة على الأريكة بإهمـالٍ عابِثٍ ومن ثم تنـاول " تيشيرته " بيدين تدركـان طريقهما بينما عينيه تراقبانِها باستمتـاع، عينيها المغمضتين بإحراج، وجهها المُحمرُّ قليلًا، شفتها السُفلـى والتي تكادُ تمزّقها بأسنانِها الغاضبـة .. يا الله إنّها قريبةٌ منه بالفعل! إنها هُنـا! صغيرته قريبةٌ منه، نامت بجوارِه، شعر بأنفاسها المضطربـة، تتمدّدُ أمامه وتعبيراتها الغاضبـة يراقبـها بعينيه المُشتعلتين .. هل من بعدِ ذلك ترف؟ من بعدِ أنفاسِك يا صغيرتي، من بعدِ هذا الاحمرار الذي يقسمُ بفتكي! هل من بعدِ حضوركِ حضور، ومن بعد هذهِ النشـوةِ أخـرى! هل من بعد قُربك آخرٌ أكثر ترفًا؟ يا عجزي! أن أرآكِ أمـامي بهذهِ الفتنـة ولا أستطيع حتى تقبيلكِ قبلةً تبادلينني فيها بحُب!!
زفـر بغيظٍ وهو يُشيح بنظراتِه عنها، ارتدى " تيشيرته " بفوضويّةٍ وشعره اللولبيُّ ينسـاب بفعلِ البلل، عـاد لينظُر إليها، وببساطةٍ وكأنّه لم يُثِر هذا الجو المليء بالإحراج لها : خلصت .. تقدرين تفتحين عيونك.
فتحت عينيها ببطءٍ حتى وقعت به، رأى نظراتِ الحقدِ بوضوحٍ فيها، ولم يردّ على تلك النظـرات سوى بابتسامةٍ بسيطةٍ وهو يتحرّك نحو الكومدينةِ ليأخذ محفظته ومفتاح سيّارتِه، فتح الدُرجَ ليُخرج مفتـاح الباب الذي أغلقه قبل نومِه ليزداد الحقدُ اشتعالًا في عينيها، ابتعد وهو يشعر بنظراتِها تلك، توجّه نحو البـاب ليفتحه، جـاء صوتُها الغاضب إليه كي يمنعه من الخروج : مشغول مثل كل يوم صح؟ وبتطلع وتتركني بروحي بعَد مثل كل يوم!!
أدارَ رأسـه نحوها ليرمقها باستفزاز : تبيني؟
إلين تُميل فمها باشمئزاز : هذا الناقص.
أدهم بعبث : أجل؟ وش الشيء اللي يخليك تمنعيني من الطلعة؟
إلين " بتنرفز " : والله يا أخي أشوفك تطلع بروحك وأنا أنثبر بالبيت!! طبعًا لا . . يا تنثبر معي يا تاخذني لأهلي وتذلف.
أدهم بنبرةٍ مستفزة : ليه طيب ما يكون فيه خيار نطلع مع بعض؟
إلين بعنف : لبيت أهلي وبس!
أدهم : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. الله يجيرني من نفسيات الحريم .. الحين المرة يوم تتزوج تبي زوجها يدلعها تبي تطلع معه بس أنتِ ما أشوف غير الهواش منك والنكد ذا.
إلين بتكشيرة : أيه هذي أنا.
أدهم : نسيت إنه لكل قاعدة شواذ.
إلين : لا نسيتْ إنّ فيه رجاجيل تستحق وفيه رجاجيل لا ..
أدهم يتجاهل كلماتها وهو يبتسم ابتسامةً مُغيظة : عمومًا .. ما كنت بطلعك معي تتمشين أو غيره كان مجرّد اقتراح وبشوفك توافقين أو لا .. طالع للسوبر ماركت اللي جنبنا .. بشتري أغراض البيت الناقصة.
إلين تُريد فقط أن - تجادل - : وتشتري أيش يا ذكي .. ما كتبت لك شيء للحين.
أدهم برفعةِ حاجب : كل يوم أكتشف إنك غبية أكثر وأكثر .. الحين لي شهور عايش بروحي وأدري وش يحتاج البيت بتوقف عليك الحين؟
إلين بغيظ : كنت عايش مع عمتك!
أدهم : من قبل ما كانت موجودة .. حتى وأبوي عايش ما كان تواجده بالبيت كثير!
إلين لا تريد أن تتوقف عن جدالِها : بس كنت عازب .. الحين الوضع اختلف.
أدهم يكتّف ذراعيه بصبر : وأيش اللي اختلف يا مدام؟
إلين بعناد : الحين أنا معك .. أسلوب حياتي ماهو نفسه أسلوب حياتك .. وبعدين لا تنسى إنك عازب .. والعازب يستخدم أمور محصورة باحتياجاته البسيطة.
تأفف بضجرٍ ليقترب منها فجأةً بخفة، شهقت وتراجعت للخلفِ بذعر من هجومِه المفاجئ، لكنّه كان قد وصل إليها ليُمسك بها من عضدها وهو يلفظُ بنفاد صبـر : أقول قومي بس بدلي ملابسك وامشي معي .. ماهو ناقصني كثرة حكي .. بنشتري الأغراض مع بعض ونشوف وش اللي تبينه يا ست نجلاء.
إلين بعنادٍ تحاول سحب عضدها من قبضتِه : اسمي إلين !!
أدهم دون مبالاة : يلا بس بدلي ملابسك بسرعة عشان نطلع ماهو بعيد.
إلين التي لا تريد أن تخرج معه : ما أبغى ..
أدهم بحدة : نجـــــــــــــــــــــــــلاااء!!
إلين بتحدي : ما عندي ملابس .. ناسي إنّك تركتها بالفندق؟ * وكأنها كانت تنتظر الفرصة * وبعدين ترى عندي محاضرات بدرسها ، مستحيل أضيع على نفسي دراستي أكثر بسببك .. الحين تروح تجيبها لي سامع؟
أدهم يرفع حاجبه الأيسر من أمرها الوقحِ هذا : قومي البسي من ملابس عمتي لين ما أجيبها.
إلين بعناد : لا ما أبي كفاية لبست من ملابسها أمس .. وبعدين ترى مقاسها مختلف شوف شلون واسعة!
افرجت ذراعيها لتُريه كيف أن قميص النومِ الطويل واسعٌ ولا يليق بجسدها، ابتسم رغمًا عنه على عفويّةِ حركتها الطفولية، ليردف : ماهي واسعة مرة .. تبالغين عمتي جسمها قريب من جسمك * باستفزاز * وأحلى بكثيييييييييييير.
إلين بحنقٍ أخفضت ذراعيها وهي تنظُر لعينيه بشرر : مو من الذوق تسوي مقارنات بين حريم!
أدهم : والله عاد أنا قلت الصدق ، هي رشيقة وأنتِ معصقلة .. وين وجه المقارنة بالله؟ أصلًا ظلمتها.
إلين بغضب : توك من شوي قايل جسمها قريب من جسمي!
أدهم بضجر : يوووووه أستغفر الله ما تخلصين حكي وجدال أنتِ؟ امشي قدامي يلا بتجين معي رضيتي أو لا . . هذا اللي ناقصني آخر عمري أتعامل مع بزرة!!
،
صحفٌ قديمـة، جـار عليها سنتينِ وأكثـر، تواريخُ تعودُ لبداياتِ 2013، بدايـاتُ موتِه، ونهايـاتِ الكثير، إنجـازات، تطوّر، نجـاح ، كلّ ذلك قـام بِه بينما توارى هو في الأحاديث خلف " رحمه الله " وجسدهُ في بارِيس حيٌّ بينما مشاعره ميّتـة . . نثـر الصحيفةَ بجزعٍ على السرير بعد ما قرأ مانشيت " الدكتور شاهين بن محمد يصعد باسمه بين أفضل أطباء المملكة في طب العيون " .. كل ذلك! النجـاح الذي جاء فجأة، اسمه الذي اعتلى بين الأطبـاء رغم صغر سنّه بينهم، العمليات التي كان ينجزها بنجاح، كل ذلك كان بعد موتِه بوقتٍ ضئيل!! في وقتٍ خارقٍ كان قد وصـل لهذهِ الشهرة، وصـل لهذهِ المكانـة وأكبـر دافعٍ كان أنّه تخلّص منه وضمـن أن تكون أسيـل له !!
نــارٌ تكويه، ألـم، ألمٌ يا شاهين تزرعه في صدري، ألمٌ لا ينفكُّ منـي ولا علاج له، ألم!! . . . شدّ على أسنـانه وهو يخرج آهةٍ من بينها، هذهِ النـار أقسم أنّها لن تنحصر فيّ فقط، سأحرقك، لن أهتم بكونِك أخي، لم أعد أهتم! سأحـرقك بأخذها .. أسيل لي حتى وإن تملّكتها قبلـي . . لن أتراجع ولن أسمـح لقلبي أن يعطف عليك .. فقط لأنك أخي الصغير!!
يُزيح كل تلك الأفكـار، ينسى ، أو يحاول النسيـان .. بأنّ شاهين أخاه! هذهِ الحقيقة هي وحدها ما تؤلمه، وقد تجعله يتراجع في انتقامه، هذهِ الحقيقة هي وحدها ما تُسكن فيهِ التردد ، تجعله لا يكرهه! وكلّما تناسـاه فـاض فيه حقدٌ وكره ، لينقشع فجأةً حين يجول بخاطره " أخي الأصغر ".
لم يكُن يعلـم ، أبدًا .. أن نجاح شاهين كـان دافعـه الألم، من فقدِه، ومن موتِه . . لم يكُن يعلم .. أنّه كـان يستغرق بعملهِ بشدّةٍ كي ينسى أحزانه، في ذاك العـامِ كان قد ضغط على نفسِه بشدة، كان يتألم ويكتم ألمـه بالعمـل .. كان يتناسى أحزانه بذلك ولا يتنـاساه .. لم يكُن يعلم .. أنّ سبب نجاحِ شاهين كان الأخ الأكبر !
طُرِق البـاب فجأة، انتـزعه صوتُه من آلآمِه ، نظـر لهُ بأنفاسٍ متحشرجـة، لم يكُن يريد لأحدٍ أن يتواجد الآن خاصـةً وهو في هذهِ الحـالةِ من عاطفةٍ مغدورةٍ ووعيدُ انتقـام، فُتـح البـاب قبل أن يسمح للطـارق بالدخول، طلَّ عليه عبدالله الذي ابتسم بهدوءٍ وهو يُغلـق البـاب من ورائه، وبهدوء : ما شاء الله عليك .. دايم أحصلك صاحي بهالوقت.
ابتسم ببهوتٍ دون أن يرد، جلس عبدالله في مقعدٍ متطرّفٍ وهو يلفظ : شلونك اليوم؟
متعب يبتسمُ بسخرية ليهتف : مثل كل يوم.
سقطَت أنظـار عبدالله على الصحفِ المتنـاثرةِ على السرير، نظـر نحوه وهو يدرك أنّها قديمـةٌ من هيئتها المُهترئة ، وبشك : من وين جايبها؟
متعب بجمودٍ يجلس على السرير : واحد من رجالك اللي يطل علي كل يوم وكأني بزر طلبتها منه .. من حسن حظي إنه يحتفظ بالجرائد القديمة وأول ما قلت له حاول تدبر لي كم وحدة من 2013 قال إنه يحتفظ فيها.
عبدالله باستنكـار : طلبتها كذا بدون هدف؟ قلت له جيب وبس؟
متعب وقد أدرك أن ذكاءَ عبدالله لم يجعله يفوّت تلك النقطة، هتف بجمود : أكيد لا.
عبدالله يقف بهدوء : طلبته يجيب لك أي أخبـار بالضبط؟
لم يردّ عليه وهو يرى عبدالله قد وصل للسرير، رفـع إحدى الصحف لتسقط أحداقه مباشرةً على اسم شاهين يترأس صفحةً ما، بهتَت ملامحه قليلًا، ومن ثمّ أدار رأسه إليه بصمت، بينما أشـاح متعب نظراته دون مبالاة.
ظلّ للحظتين ينظُر لهُ دون أن ينبس بكلمـة، لكنّه ابتـسم فجأة، أعـاد الصحيفة ليلفظ ببساطـة : الحلو إنك تحبه .. هذا بيخلي ضميري يرتـاح شوي .. أقلها موضوع زوجتك يتبسّط ولو بنسبة بسيطة.
عضّ زاويـة فمِه بغيظ، كتّف ذراعيه دون ردٍّ بينما أردف عبدالله بابتسامة : إذا تحبه ماراح تضحي بعلاقتكم عشان زواجـه .. كل شيء له حل، والمرة بدالها مليون وحدة .. بس أخوك لا.
تشنّج عنقه، وأظلمَت عينـاه وهو ينظُر للفراغِ دون هدى، لا أحـد يُدرك كلّ أوجـاعه، لا أحـد سيدرك كيف عانـى، كلّهم يُدركون قطرةً من " غيث "، غيثٌ يا الله! حتى أدهـم، لم يكن يدرك شيئًا قبـل ميونخ، لم يدرك كيف انتشـر السم في جسدي، لم يدرك لمَ حدثَ لي كلّ ذلك " تفصيلًا "، لم يُدرك سوى الحريق وأنّني أحيا في خطر، غدرَ أخِي .. بينما غاب عنـه الكثير ولم أُخبـره .. لا أحـد أبدًا .. سيعيش ما في صدري .. حتى هذا الذي أمـامي ورغم مركزِه لم يعلم أنّ لشاهين يدٌ في كل ذلك . . . هل أخبره الآن وأنتقم؟! أفضحه ليصبح مطلوبًا قانونيًا و . . . ابتلع ريقه بصعوبـة، ما الذي يجعله ينتظر؟ فليخبره الآن، فليخبره وينتهي! يجعله يقف خلف القضبـان، ليزوره في يومٍ ما ، ويقول له " أخذتها، أعدتها لي من جديد "، فيحترق !!
أُخرس لسانه، عينيهِ أظلمتـا أكثر وقلبه أوجعهُ أكثر! لمَ يتألّم هذا القلب الآن؟ ألأنّي الأخ الأكبـر، ولطالمـا كان الأخ الأكبر ملاذًا يحمي .. وليس بيتًا تهالك من الحروب .. لكنّني تهالكتّ، أنا فعلًا " متهالك " وكان شاهين الصاروخ الذي قصفَ ثباتي .. لمَ أتردد؟ أوليس أدهم دفعنِي لمقابلته كي أكرهه .. وكرهته؟! فلمَ أتردد الآن؟!!
لم يجِد منه عبدالله جوابًا، حينها تنهّد دون أن يفقد ابتسامتـه، تحرّك ينوِي الخروج وهو يلفظ بهدوء : فكّر بكلامي .. وفكر بالظروف اللي أوصلتك لهنا .. أخوك تزوجها وهو ما يدري عن شيء .. ما كان متعمد فلا تخسره .. شرعًا زواجه فيها ما فيه خطأ ولاهي علاقته فيها حرام .. اتركها له .. تقدر تلغي عقد زواجه ببساطة بس الأفضل تتركها له وتبدأ من جديد .. أخوك أهم.
يقولها وهو لا يدرك أنّه يشعل النيران أكثـر، يقولها وهو لا يدرك كيف يجعله يتألّم أكثـر، لا يدري أنّه ضائع .. حبيبته التي شعر بالنفور منها فطريًا ، " عافها "، لكنّه لازال يحترق كلّما فكّر بزواج شاهين بها! كلّما ارتحل بعقله إليهما، ليجد نفسه رغمًا عنه يتخيّل صورًا تقتله ، رغمًا عنـه لا يستطيع كبح عقله المتألم من كلّ جهة .. من أخيه، من اشتياقِه لأمه .. ومن فقدِه لحبيبته.
خـرج عبدالله بعد كلماتِه .. ليتركه من خلفه .. يشتعل ألمًا وحقدًا.
،
تمرُّ أيـامٌ قليلـة ليجيء صباحُها أسودًا .. سماؤهـا باهتـة، شمسُها يتقطّعُ نورُها، يجيء النهـار .. ولا يُسعفهُ ضوء، هذا الضوء انحسـر في إحدى الليـالي وغابَ بطُغيانِ ظلامِها، الوجَعُ يسرِي في أوردِتها .. تفركُ ذراعـها بخيبـة، تشعُر بالخـواءِ والظـلامُ يتغلغلُ روحها بينمـا صوتُها يجيبُ الجالسـة أمـامها بخفوتٍ مُعذّب، بصوتٍ منكسِر/مُنشطِر : حاسّة إني أكبر خسرانة بهالحيـاة! .. متضايقة .. كل اللي أحبهم خسرتهم! كلهم .. وإن كان البعض منهم خسرتهم ورجعوا .. بس يكفي إنّي خسرتهم بوقت! ويمكن ما تكون الرجعـة مثل قبل ! يمكن تغيرت أشياء كثييييييييير .. ما أدري ، بس حيييل أحس إنّي ضعيفة!
ابتسـامةٌ ناعِمةٌ رقيقة زيّنت ثغـر الطبيبـةِ أمامها، تمدُّ كفّها لتضعها على كفِّ جيهان الموضوعةِ على فخذِها بانكسـار، تضغطُ عليها وهي تلفظُ برقّة : شايفة يدي؟ شلُون تمسك كفّك مع إنّي ما عرفتك غير من يومين بس! أنا أسـاعد .. مو لأنّي طبيبة وبس! أحسْ فيك حتى لو ما تخصيني بشكل مباشر .. فشلون باللي تحبينهم؟ تقولين رجعوا لِك؟ وش اللي يخلِي رجعتهم ماهي مثل قبل؟ هم يحبونك .. وبيحسون فيك أكثر منّي .. تواجدي جنبك ماهو من حبهم .. فليه يائسة من جهتهم؟
ابتلعت ريقَها، سحبَت كفّها بنفُور، تستجيبُ لها في لحظةِ ضعف، لتجد نفسها دون شعورٍ في لحظـةٍ أخـرى تبتعد، لا تريد أن تشعر بها طبيبة! لا تريد أن يأتِيها العطفُ من غربـاء! تريد والدها، أرجوان، أمها، فواز! تريد من تحبّ فقط .. من تحب وخسرت! وليست غريبـة .. تريد الأسبـاب التي جلّبت إليها هذا الداء، انكسـارها الآن لا يجبره أيّ أحـد، لا يجبـره أيّ أحد! انكسـارها الآن تضاعـف .. حين وجدَت أنّها من كـان المُخطِئ منذُ البداية .. كانت المُخطئة! ارتحلَت بكبرياءٍ زائفٍ وعقوق، خسرت والدها، ومن ثمّ خسرت فواز بطريقةٍ شنيعة! لم يكُن منزّهًا عن كلّ شيء، كـان هو مُخطئًا أيضًا .. لكنّها اخطأت أكثر! لمَ تزوّج؟ بالتأكيد بسببها، بالتأكيد لنقصِها، بالتأكيد لأنها لا تُجيد سوى إلحـاق الضررِ به وبسواه، لأنَها لم تحـاول أن تُنجـح أمرهما منذ البدايـة .. هي السبب في نفور الكل من حولِها! هي السبب!!
ظهـرت على عينيها علاماتُ الغـرق في سوداويّةِ أفكـارها، تغرق أكثر، تغـرق .. وتجدُ في كلّ مرةٍ أنّها تختنق أكثـر كلما اقتربت من القـاع .. القـاع لازال بعيدًا، لكنها ستصِله ، ستصِله حتمًا!
جـاءها صوتُ الطبيبـة ليجتذبها من غرقِها لوهلةٍ ترتشفُ فيها " نفَسًا " : شايفة أبوك؟
تحرّكت أحداقُ جيهان ببهوتٍ لتتّجـه للجهةِ التي تُشِير لها بعينيها، كـان يوسف يظهرُ لهما من خلفِ الجزء الزجـاجيّ من البـاب، يجلسُ ومعهُ أختيها ككلّ يومٍ منذ بدأت تأتي هنـا . . أردفت الطبيبـة بابتسامة : تدرين ليه دايم يوقف قريب منك؟
جيهان دون أن تشيح عينيها عن يوسف : ينتظرنِي.
الطبيبة : بالساعـــــــات! ما يهمه طوّلتِ عندي أو لا .. المهم ينتظر وبس! واضِح من عيونه خايِف عليه ومحاتيك .. مثل هالاهتمـام بتظنين إنه للحظـة بيخف؟
جيهان بغصّة : أوجعتـه كثييير!
الطبيبة : مثل ما توجعين نفسك الحين؟
نظـرت جيهان نحو الطبيبـة بأسى وهي تُجيبها بنبرةٍ ميّتة : أكثـر.
الطبيـة : يعني ذقتِ أكثر من وجعك فيه؟ طيب تعظّمين اللي فيك ليه؟ تكبرينه وهو ولا شيء!
جيهان : ماهو ولا شيء!
الطبيبة : أنتِ اللي تصنعينه! وكل شيء احنا نصنعه ما كـان موجود .. ونقدر نرجعه لطبيعته .. ولا شيء!
جيهان : واللي خسرتَه؟
الطبيبـة : مو كل شيء بالدنيـا لِك .. تصالحي مع هالفكـرة .. مو كل شيء راح منّا كان لازم يكون ملكنا .. أنتِ ما خسرتيه .. هو ما كان لِك أساسًا !!
جيهان تؤذي نفسها أكثر، لمْ يكُن فواز لها! لم يكُن لها !! كيف تستطِع أن تتصـالح مع فكرةٍ كهذه؟ كيف؟ .. همسّت برفض : ما نقدر نخليه يكون لنا بأي حال من الأحوال؟
الطبيبة بابتسامة : معناته ما خسرتيه أصلًا بمفهومك! لو رجـع فهو أصلًا يخصّك .. ما كان فيه شيء اسمه خسارة أصلًا .. هذي هي الحياة ، اللي لك بيكون لك في النهايـة .. واللي ماهو لك كان مجرد عبّارة .. تنقلك من بحر للثانِي .. توريك وش قد هالدنيـا فيها أعاصير، فيها تقلّبـات .. وبتكسبين خبرة من الحياة، بتستفيدين من ركوبك هالعبارة، بس!
صمتت جيهان ولم ترد، أخفضَت رأسها تنظُر لحجرها، كفيها اللتين كانت قد ضمّتهما بصمت، تُشبكهما في صراعٍ يُقـام بحدّةٍ في عقلـها ..
أردفت الطبيبة بابتسامةٍ بشوشةٍ هامسةً بغمـزة : ما عنده سالفـة اللي تركك .. كل هالجمال وما يشوفه؟
رفعَت جيهان رأسها بسرعةٍ لتفغـر فمها وملامحها أجفلت للحظـة، ابتلعت ريقها، وأشاحَت عينيها سريعًا بحرجٍ كونَها فهمت أنّ من خسرتهُ كان " رجُلًا " .. عمّ الصمتُ للحظـاتٍ دون أن تنبسَ بكلمـة، يُسافِر عقلها للبعيد . . للحظـات، لكلمـاتِ غزلٍ بجمالِها، ما كـان أعمـى ، أو رُبّما كان بفعلِ الحب ليراها جميلة! أنتِ مخطئة، مخطئةٌ وجدًا ، كان " يشوف "، شيئًا لا تراه، كان يرى فيها ملامِح ليست لها !!
ارتعشَت شفتيها بعبرةٍ لتنهمِر الكلمـاتُ من بينِ شفتيها دون شعور : كان يقول إنّي جميلة!
الطبيبة بابتسامة : أوووه زين إنّه كان يشوف عدل.
جيهان ببهوت : كان أعمـى أو ما يشوف زين ..
الطبيبة ترفع حاجبيها : ليه؟
جيهان باهتزاز : يقول كثير إنّي حلوة .. المشكلة مانِي حلوة! يقول إنّي أجمـل وحدة بعيونه .. بس ليه تزوّج؟ كـان يكذِب علي .. بس كلام .. وهو في الأساس ما يشوفني بهالجمـال!
الطبيبة : لو كـان صادق فهو ما غِلط .. ولو كان كاذب فهو ما عند سالفـة .. وكونه تزوّج هذا ماهو دليل إنّك شينة .. شحلاتك بس! تهبلين مين قال غير هالحكِي!
عقدت جيهان حاجبيها بضيقٍ وهي تهتفُ باعتراض : مجاملتك باهتة!!
ضحكَت دون أن تستطِيع كبح ضحكتها : مين قال أجامل؟ أنتِ تشوفين نفسك شينة الحين؟ طيب خلني أوضح لك ليه تشوفين نفسك كِذا .. أختك قد قالت مرة أنا حلوة وجلست تمدح بجمالها؟
رفعت جيهان حاجبيها : لا.
الطبيبة : طيب أنتِ تشوفينها حلوة؟
جيهان بتعجب : الحين أنتِ ما تشوفينها حلوة؟
الطبيبة ببساطة : إلا أشوفها وجميلة مرررة بعد .. شايفة كيف هي بعيوننا؟ بينما هي ممكن تناظـر المراية وتشوف إنها .. مممم عادية !
جيهان باستسخاف : مستحييييييل! أحد يكون عنده هالملامح ويشوف نفسه عادي؟
الطبيبة : بداخِلها بتؤمن إنها حلوة .. لأنها مؤمنـة بنفسها وتحب روحها .. بس شكليًا ممكن تتفرج على عمرها وما تجلس تمدح! تدرين ليه؟
جيهان باهتمام : ليه؟
الطبيبة : لأنها متعودة على ملامِحها .. تشوف نفسها عادية لأنها كل مرة تشوفها .. بس غيرها بيشوف إنها حلوة .. والمعظم بيعتاد على ملامحها بعد وقت وماراح يشوفها بنفس الجمال إلا لو لعبتها صح وعرفت شلون تجمّل نفسها أكثـر وأكثر .. أنتِ جميلة! بالنسبة لي أشوفك جميلة بس أنتِ ما تشوفين هالشيء .. وحتى لو قال لك أحد غير هالكـلام بيكون كاذب أو عنده مقومات ثانية عشان يشوف الشخص جميل ... عمره الجمـال ما كان له مقوّم ثابِت .. أنتِ تشوفين أختك جميلة غيرك بيشوفها شينة .. عمرهم النـاس ما اتفقوا على شيء واحد .. فإذا شافك الشخص شينة هذا ماهو دليل! إمّا إنه ما يبي يعترف أو شايف إن الجمـال ثاني، بينما غيره بيشوف إن الجمـال أنتِ ..
انتهـى اللقـاء ، بعد أن تركَ في جعبتـها أثرًا مـا ، تركَ في صدرِها خلجـات، في عقلها قنـاعاتٌ أخـرى ، أو ربما بذرة .. ستكبـر.
أحـاط يُوسف كتفيها بحبٍ وهو يقبّل رأسها بينما عينيه يوجّهها للطبيبةِ وهو يلفظ بامتنـان : شكرًا دكتورة ندى .. عسى بس ما تعبتك بنتي؟
ندى بابتسامةٍ بشوشة : أبد عندك بنت تجنن ما شاء الله .. تستاهل الدلـع وتستاهل تتغلى شوي وأنا بتركها تتغلى وتتدلع براحتها .. حيّاها بأي وقت.
ودّعها شاكرًا لها وخـرجوا من العيـادة، التفت ليان حول جيهان وهي تهتف بشغب : جوعتيني .. بسببك ما أكلت شيء للحين .. بطني يعورني بموت من الجووووووووووووع.
نظـرت لها جيهان مبتسمةً ابتسـامةً باهتَة، خجِلة، كلّمـا خرجَت من العيـادة تبقى صامتـةً لساعاتٍ من تحسّسها بشأنِ هذا الوضع الغير معتـاد، مريضة، مجنونة، أو أيًّا كـان.
أرجوان بابتسامة : يا كبر شرهتك قبل لا نجي كنتِ مفطرة!
ليان بوجوم : طيب جعت .. استاذتي في الروضة كانت تقول البطن يجوع كل ثلاث أو أربع ساعات.
يوسف يضحك : ما شاء الله منتِ مقصرة مجمعة معلومات تساعدك بطوالة اللسان.
أرجوان : كذابة حتى ما كملنا 3 ساعات.
ليان تنظُر لوالدها وتتجاهـل كلمات أرجوان : بابا جوعانة بموووووووووت من الجوع.
يوسف : هههههههههههههههههه طيب حبيبتي كله ولا تموتين .. وش ودك فيه؟
ليـان تقفُ وهي تضعُ يدها على ذقنها مفكرة ليقفوا معها تلقائيًا بينما تهتف هي بأسلوبٍ طفوليٍّ بعد أن استغرقت ثوانِي قليلة في التفكير : مممممم أول شيء آيسكريم .. بعدين باستا.
يوسف برقّة : أبد أبشري من عيوني * نظـر لجيهان ليُردف بحنان * وحبيبتي الكبيرة وش ودها فيه.
جيهان تنظُر نحوه وهي تبتسم، بينما ذراعه لازالت تُحيط كتِفها باهتمـامٍ بالِغ، عينيه كانتا منفذ، لكلّ أحزانِها .. بينما هي كانت سببًا لحُزنها، هل ستقوى على جعلِه يحزن أكثر؟
أجابَت برقّةٍ وهي لا تستطيع مقاومـة الحنـان في عينيه، لا تستطِيع الانصياع لصمتِها : ودي بس أبوسك.
لم تكمِل جملتها حتى كانت قد انحنَت لتطبـع قبلةً على كتِفه، تستنشقُ رائحته التي تُحبّها، وتردف بغصّة : مو - بس -! ودي بعَد أحمد الله عليك .. وأعتذر منك!! وأقول لربي يحفظك .. يحفظك لي يا يبه.
ابتسم، ليشدّ ذراعهُ على كتفها ويعانقها بحنـانٍ مقبلًا رأسها بحب، تكفِيه من هذهِ الدنيـا أن يراها تبتسم، ويرى دمُوع الحزن تخفُّ وطأةً من عينيها .. تبًا للحزن يا ابنتي .. تبًا لهُ إن جاور عينكِ الجميلة ، عينكِ التي لا تضاهيها في عينيّ جمـالٌ هي وعيون أختيك ، تبًا للحُزن يا " جوج " .. تبًا !!
،
بينما في جهةٍ أخـرى، وتحت السمـاء ذاتها، تحت سماء بروكسيل المُظلمة، والتي غـابت زُرقتها خلف الغيوم، خلف الأفكـار التي غلّفت الأحداق بضبابيّتِها ، يدسُّ كفيهِ في جيبيْ معطَفِه وأحداقُه " المتضبّبة " تنظُر عبـر النافِذةِ بينما أفكـاره تذهبُ بعيدًا .. بعيدًا جدًا! تذهبُ ولا تجيء، يُغـادر للريـاض، حيثُ مكـانٍ واحد، يتذكّر الكثير من كلماتِه، لم ينسى ولا كلمة/حرف! ومن ذا الذي ينسى مُصابًا كهذا، مشـاعره كانت غائبـة، لا يدري ما يُريد! من جهةٍ أختـه ومن جهةٍ أخرى عودةُ متعب الذي لم يكُن ميتًا أصلًا!
حرّك وجههُ بعيدًا عن النـافذةِ وهو ينظُر لجنـان التي تسلّحت بالهدوءِ وهي تنفُض بعض الأتربـة عن ملابِس أخيها الصغير، تعقدُ حاجبيها في تفاصيلِ غضبٍ ناعِم، لا ترفـع صوتها بالرغمِ من كونِ عنقها بتشنّجه يريد ذلك، عنقها الذي اختفى عن عينيه بحجابِها الأبيض .. ابتعدَ أخيها عنها بعد أن انتهت من نفضِ بعض الأتربـةِ منه، هرولَ كي يخرج إلى الحديقةِ وينضم لأخويْهِ في اللعِب.
استدارَ ليسندَ ظهرهُ على النافذةِ الموصدَة وهو ينظُر لوجهها الذي وجّهتهُ للأسفـل في تعبيرٍ عميقٍ عن الضيق، وبهدوء : متى راجعين؟
جنان تنهضُ بعد أنْ كـانت تجلسُ على الأرض، جلَست على الكرسي، وبدون أن تنظُر نحوه لفظَت ببهوت : ما أدري . . إذا تبي تطلع محد مانعك عادي ماهي أول مرة يروحون المستشفى ويتركوننا بروحنا.
فواز يهزُّ كتفيْهِ دون اهتمـام : جيت أبـي فارِس .. وبنتظره.
عقدَت جنان حاجبيها بضِيقٍ وهي تنظُر لملامحهِ البـاردةِ وعينيهِ تنظُرانِ بعيدًا : قول إنّك تبي تضغط عليْ وبس! هذا اللي تبيه.
ابتسمَ وهو يوجّه أنظـاره إليها : وليه ما يكون فارِس اللي طلبني أجي وأتقرب منك بهالفرصة؟
جيهان بغيظٍ من تلكَ الفكـرة : ما يسويها.
فواز يغيّر الموضوع وهو يُخفض ذراعيه اللتين يكتفانها، وبتساؤلٍ هادئ : كم مرة أقول ما أبي هالحِجاب قدامِي؟!
أشـاحت وجهها عنـه، كفّها اليُمنـى ارتفعَت لتدلّكَ بِها عضدَها تلقائيًا وهي تسحبُ شفتها السُفلى للداخِل بأسنانِها، تختـار هذهِ المرّةَ أن تتجاهلـه، لكنّه في تلك اللحظـة لم يكُن ليجمُد .. شعـرت بخطواتِه تتحرّك إليها فجأة، فزعَت وهي تنظُر نحوه، بينما انكسَرت المسافـة بينهما ووقفَ أمامها مباشـرة، انكمـش جسدها وهي تُرجع ظهرها للخلفِ وتلتصقُ بظهرِ المقعدِ بينما كفّها تضغطُ بقوّةٍ على عضدِها، شعـرت بِه يمدّ يده، شهقَت دون أن تغادرها حالـة التجمّد تلك، استقرّت كفوفهِ على خديها، وأحداقها تهتزُّ بربكـة، بنظراتٍ منفعلـةٍ معلّقةٍ بعينيه الجامدتين فقط ... كان ، كان يفكُّ حجابها الملتفَّ حول رأسها !!!
لا تدري لمَ لم تستطِيع في تلك اللحظـة أن تعترض، أن تصفعَ كفيْه عنها، تجمّد جسدها بدرجةٍ جعلتها كالدميـة، وفي لحظـاتٍ كـان شعرها البندقيّ الذي تلفّه خلفَ رأسها ينسابُ على ظهرها وحولَ وجهها بفعلِ يدِه التي عبَثت بِه . . أنفاسُها تلطُمه ، كـان يشعر بحرارتِها المعترضة، لكنّه لم يهتمّ لهذا الرفض، وبعـد أن رأى الصورةَ التي أرضتـه استقـام بجسدِه جيدًا وابتسـم برقّةٍ ليلفظ : كـذا أجمل.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، زفـرت هواءها زفـرةً حارة، زفـرةً مهترئة، وهي تُشيح بعينيها وشفاهُها تبدأ بالرعشـةِ الآن ، شعورٌ بالعريٍّ أصابها، شعورٌ بـارد، والهواءُ يداعبُ شعرها، يتغلغلُ إلى فـروةِ رأسها كعينيه !
وقفَت فجأةً بانفعـالٍ وهي لا تريد أن ترى نظـراته لها كيف تكون ! تحرّكت دون شعورٍ وهي تجمعُ شعرها على أحد كتفيها، بينمـا راقبها هو بصمتٍ وهي تغادر ، دون أن يلفُظ بشيء .. وكأنّ ذنبًا أصابَه فجأةً بعد أن كلماتِه الزائفـةِ تلك! بعد مـا قال وبعد أن سرق نظـرةً لها دون تلك القيود!
لم يمنعها من المغـادرةِ ولم يحاول، بينمـا زفـر صدرهُ وهو يدسُّ كفيهِ في جيوبِه، ويتحرّك حتى يخرج وهو يرفعُ هاتفه كي يتّصل بفارِس.
،
تجـاوز عتباتِ الدرجِ وهو يرتدِي ساعـةَ معصمِه، ينظُر حولَه باحثًا عن طيفِ غزل التي لم يجدها بعد نهوضِه، البيتُ هادئٌ كعـادته، لكنّ ضجيجًا يكاد أنْ لا يكُون يجيئه من المطبـخ، تحرّك نحوه وهو يستنتجُ تلقائيًا أنها تقوم بتجارِبها ككل يومٍ تقريبًا، وقفَ عند البـابِ ليبتسم تلقائيًا ويسند كتفَه على إطـارِ البـابِ بينما صوتُ غزل الغاضِب يخرج لسالِي محذرًا : لا تسوين شيء ! كم مرة أقولك يدّك المصيبة هذي لا تقرب الأكل أنا بسوي كل شيء له.
لتردّ سالِي بامتعاضٍ وكأنها بدأت بالفعلِ تعتـادُ على الوقـاحةِ مع غزل : بعدين هدا بابا سلطـان ..
قاطعتها غزل بغضب : خلاص درينا ماراح يصير له شيء .. طالت ما بقى إلا أنتِ تتحلطمين على أكلي.
سالي بعناد : بس إنتا مافي إعرف.
غزل تتمتم بحنقٍ وهي تُزيحُ الأومليت عن الموقد : وجع يوجعها الوقحة!
دخـل ليُنهِي جدلهما وهو يلفظ بهدوء : وش قاعد يصير هنا؟
استدارَت غزل بسرعةٍ بينما تجمّدت سالِي لوهلةٍ ومن ثمّ تحركَت نحو المغسلـة لتُشغل نفسها بعملٍ مـا، ابتسمَت غزل وهي تتّجـه نحوه وتلفظ : سويت لك الفطور اليوم .. * أردفت بسرعةٍ ما إن ابتسم رغمًا عنه * والله هالمرة حلو والله .. خلاص بديت أضبطها وهالمرة مشيت مثل ماهو مكتوب بالضبط.
سلطـان يتّجـه للخـارجِ وهو يلفظ بتهكّم : ماهو كل مرّة تمشين مثل ماهو مكتوب قدامك!
غزل بامتعـاضٍ وهي تستندُ بكفّها على البابِ بعد أن خرج : لا تصير سامج ما عندك دعم أنت؟
سلطـان يقفُ ومن ثمّ يستدِيرُ إليها وهو يهزّ رأسه بعجز : تجاربك كلها عليْ وما تشوفيني داعِم؟
غزل بلا مبالاة : بيعجبـك هالمرة وبتشكرني.
ابتعدَ دون تعليقٍ وهو يبتسم بصمت، بينمـا عادت غزل للمطبـخِ بحماسٍ تتجاهـل سالِي التي هتفت وهي تراها تصبّ الأومليت في الصينية : ما تبغى يحط دواء بطن جنب هدا سم؟
في الخـارِج ، جلـس أمـام التلفـازِ وهو يقلّب بين البرامِج الصباحيّةِ البـاردة، بالرغمِ من كونِه كان مستعجلًا في الخروج إلا أنه لم يحب أن يكسر حماسِها برفضِ الفطُور، جـاءت بعد دقائق قليلةً لتضعَ الصينية على الطـاولةِ أمامه، اعتدلَت في وقفتها وهي تبتسمُ بحماسٍ وتلفظ : تفضّل الفطـور.
لم يعلّق وهو يضع جهاز التحكّم جانبًا، في حين جلَست بجانِبه تنظُر لهُ بلهفةٍ وهو يشعُر بنظراتِها، وبالرغمِ من كونِ الشكـل كان فظيعًا إلا أنه بدأ يأكـل بكلّ رحـابةِ صدر.
غزل بلهفةٍ بعد أن ابتلع أول لقمـة : هاه!
سلطـان ينظُر نحوها وهو يُميل بفمِه قليلًا، وبانزعاج : وبتظلين كل يوم تراقبيني وأنا آكل؟
غزل دون اهتمـامٍ بالرغمِ من كونِه أخبرها أكثـر من مرةٍ أنّه لا يحب هذهِ المراقبـة في الوقتِ الذي يأكل فيه وأنّ ذلك غير لائق : بشّر بس.
سلطان يرفع حاجبه : عـادي .. سامج مافيه ملح .. والبهارات مكثرتها.
ظهـر الإحبـاط على ملامِحها وتلاشَت اللهفـة والابتسامَة التي كانت تنطُقها من شفتيها، امتعضَت وهي تقفُ وتتأفف بقهر، ذهبَت للمطبـخ لتجد سالِي لا تزال فيه، وبحنقٍ تفرّغ فشلها فيها : أنتِ السبب .. صدعتيني وما خليتيني أركز من شوشرتك ..
تجاهلتها سالِي ، كلّ مرةٍ تفشل تأتِي وتضع اللومَ عليها .. تحرّكت غزل بحنقٍ وقهرٍ باتجاه الثلاجـة لتفتحها وتتناول المـاء وهي تتمتم بعبرة : طيب ليه ما يجامل؟ وش ذي الصراحة اووووفف.
جلَست على أقربِ كرسيٍّ وهي تتمتم بكلماتٍ مـا وتتذمّر، مرّت دقائق قليلـةً قبل أن يصِل إليها صوتُ سلطـان من عندِ البـاب، يلفظ اسمها بنبرتِه التي تحبّ وبهذا الصوتِ الذي يدغدغُ صدرها المقهور . . نهضَت من الكرسيِّ بمزاجٍ ضيّقٍ لتخرج من المطبـخ وما إن اصتدمَت عينـاها بِه حتى لفظَت بتذمّر : ما أمداه بطنك يعورك فلا تكذب.
لم يستطِع أن يكبـح بسمتَه، قطـع آخر الخطواتِ التي لم تقطعها بينهما ولم تُبتـر، وقف أمـامها مباشَرة، بينما امتدّت كفّه اليُمنـى ليُمسك معصم يدِها، عقدت حاجبيها باستغرابٍ والربكـةُ تصيبُ جسدها، قدمها اليُسرى تراجعت خطوةً للخلفِ بخجلٍ مستنكرٍ وهي تهمس ببحّة : سلطان . . .
قاطعها حين رفَع كفها، جعلها تنبسطُ بيدِه الاخـرى، ومن ثمّ لامَس بشفتيهِ باطِنها، قبلةً عميقةً شعرت أنّها تتسلل بتيارٍ قويٍّ عبـر أعصابِها وصولًا إلى قلبها مبـاشرة، تحشرجَت أنفاسها بينما أخفض كفّها وهي تنظُر لوجههِ ببهوت .. نظـر لعينيها ليبتسم ويلفظ بنبرةٍ تشطُر الثبـات فيها : تسلم يدك .. هالمـرة كان حلو ولا هو سامج ولا شيء .. بس حبيت أستفزّك.
فغـرت فمها و " كلّها " يضيعُ في عينيه، يسلبها بمهارة، يسلبها أكثـر مما فعـل، تضِيع أكثـر ، بعينيه وصوتِه وملمسِ كفّه .. هذهِ الكفُّ التي تُمسك بمعصمِها الآن .. كيف قد تمتلك القوّة على الثبـات؟ كيف وهي التي لا حول ولا قوّة لها أمام عينيه؟ هذهِ العيون بحـر .. يُغـرقني كلّما تعمّقتُ فيه، هذهِ العيون سمـاء! سمـاءٌ تمتدُّ ولا تنتهي، لا تنتهي يا سلطان فكيف أنتهِي أنـا من بهوتِ " الحب " هذا؟ كيف وأنتَ تمنعُ منّي الثبـات وتقتله؟
انحنى بوجههِ إليها أكثر، أتبع قبلة كفّها بأخـرى لوجنتها، وكأنّ حرارةَ الكفِّ لم تنطفئ حتى يُتبعها بأخـرى ، حممْ، وليست حرارةً فقط، حين يكون قلبها بهذا الاضطرابِ الآن لا يكون واللهِ مجرّد نـار! . . تراجعَت للخلفِ وحمرةُ الخجلِ تكسوها، يده التي تُمسك بمعصها تركتها، بينما ابتـسم بخبثٍ وهو يلفظ : تصيرين أجمـل لما تستحين ..
غزل بربكةٍ تُزيح خصلاتِ شعرها الساقطـة على جبينها، وبرجفةِ صوتِها " الهائم " في كلمـة - أجمل - لفظَت : تتعمد تحرجني!
سلطـان : ماراح أقول أنك تصيرين أجمل مرة ثانية لا تحاولين.
شتت عينيها بحرجٍ و " فشلة " ولم تنطُق بشيء .. بينما صخب سلطـان بضحكةٍ وهو يضعُ كفّه على شعرها ويداعبه باستفزاز : ولا عاد تراقبيني وأنا آكل ... مو من الذوق.
ابتعـد بعد كلمـاتِه تلك عنها، راقبتـه بصمتٍ مُبتسمٍ وهو يتلاشى بصورتِه عن عينيها دون أن يغـادر فكرها، حضورُه بقيَ في قلبِها الذي بقيَ ينبُض بشدّة، بقيَ يهتفُ بأحرف اسمـه دون أن ينصفه! لا شيء فيها ينصفُ تكامـله .. يُنصف هذا الحُب وأنـانيّتها بِه . . . لم تكُن تدرك في تلك اللحظـة أنها كانت تبتسمُ بشعورٍ يجعلها كمن يطيرُ فوق الغيُوم، تحرّك أطـرافَ أصابِعها في باطِن كفّها الذي قبّلـه .. لكنّ صوتَ ساِلي جـاءها فجأةً هاتفـةً بجرأةٍ أقرب للوقاحـة : شلون شيطان وِذ أنجل؟
يُتبــع . .
|