كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضـا من الرحمـن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
أسرار كثييييرة بتنكشف اليوم ، بتنحل لكم مُعضلات أكيد كنتوا تنتظرونها كثير ... فما أطول عليكم . .
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$
+ اللهم اكتبنا من المغفورين لهم في شهركَ الكريم ، وارحمنا واعتق رقابنـا من النـار . . لا تنسوا قراءة القرآن والعبـادة ولا تنسونِي من دعواتكم الطيبة :* ()
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبـادات في هذا الشهرِ الكريم
ما شِئْتَ مِنْ عِبْءِ الغَرامِ وحَمْلِهِ
دَعْ عَنْكَ وَبْلاً لا يَقُومُ بِطلِّهِ
يا مُسْعِدي في حَمْل أَثْقَالِ الهَوَى
مُتَجَمِّلاً تَبْغي مَعُونةَ حَمْلِهِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ مِنَ التَّكَلُّفِ واسْتَرِحْ
لَيْسَ الفَقِيدُ كَمَنْ يَنُوحُ بجُعلِهِ
يَا مَنْ لَهُ سَوْق الجمالِ يُدلّه
في حُبّ مَعْشُوقِ الفؤادِ بدلِّهِ
مُتَحَكّمٌ أَعْطاهُ مُلْكَ جَوانِحِي
مَلِكُ الجمالِ أَقلّه وأجلّهِ
يا بَدرُ رقّ لِذي وِدَادٍ صَادقٍ
لَمْ تُبْلهِ الأَشْجَانُ لَوْ لَمْ تُبْلهِ
فَبماءِ حُسْنٍ قَدْ عَززْتَ بِصَوْنِهِ
وَبِماءِ دَمْعٍ قَدْ ذَلَلْتُ بِبَذْلِهِ
جُدْ لِي بِعَيْشٍ بالرِّضَا مِنْكَ انْقَضَى
وَإِذَا اسْتَحَالَ بِعَيْنِهِ فَبِمِثْلِهِ
قَدْ كُنْتُ أَشْكُو مِنْ صُدُودِكَ بَعْضَهُ
فَالآنَ كَيْفَ وَقَدْ بُلِيتُ بِكُلِّهِ
يا مَوْقِفَ البَيْنِ الَّذي قَدْ كَانَ لِي
عَلَماً بِثاراتِ الهَوَى مِنْ قَبْلِهِ
كَمْ لَيْلَةٍ قَضَّيْتُهَا بِشِكايةٍ
أَخَذتْ عَلى لَيْلي مَجَامِعَ سَبْلِهِ
* الشاب الظريف
(75)*2
بقيَ يمشي بين النـاس بعد ذلك اللقـاء الذي أشعلهُ بينه وبين تميم، يتعمّق في تفكيره ويجدُ أنّ الأفكـار تبتلعهُ وتمضغه، الآن هاهو قد حشَر غيره في كلِّ هذهِ المعمعة! ذنبٌ جديدْ، وصورةٌ أخـرى من " اقحـام "، امّه وزوجتُه .. ماتتا لأنّهما فقط ارتبطتا بِه وبوالده! والآن هو يُقحم عائلةً كامـلة ! ما الذي فعله!!
عضّ طرف شفتِه، أغمض عينيهِ لوهلة، ومن ثمّ فتحهما ما إن شعر بالتصاقِ كتفٍ بكتِفه، عقد حاجبيهِ بانزعاجٍ وهو ينظُر للرجل الوقحِ الذي يلتصق بِه ، ابتعدَ قليلًا، لتتّسع عيناه بتعجبٍ لأنّه عاد واقترب حتى التصق بهِ من جديد.
توقّفَ ليرفعَ حاجبهُ الأيسرَ وهو يهزُّ رأسه بتساؤلٍ حاد، ليبتسم الرجُل ومن ثمّ يلفظ بهدوءٍ وبفرنسيّةٍ جامدة : الرجُل ينتظرك.
عقد بدر حاجبيهِ دون فهم، وباستنكار : ماذا؟
هو : ذاك .. ممم يوسف ..
اتّسعت عيناه فجأة، انفعل قلبه وعينـاه تنظُران لملامحِه وابتسامتِه الخبيثةِ دون تصديق .. يوسف!! .. توتّرت نظراتهُ حتى أُحيلت للغضَب، عقد حاجبيهِ بحدةٍ ليلفظَ من بينِ أسنانِه وهو يقتربُ منه حتى أمسك بمقدّمةِ قميصِه : أنت .. أنت!! ما الذي فعلته بِه؟!!
هو ببرودٍ يبتسم : لا شيء حتى الآن .. قد يتغيّر حالـه إذا لم تأتِ معي في هذهِ اللحظة.
بدر بغضب : لا تتلاعب معي!!
مدّ يدهُ متغافلًا عن الناسِ حولهم ليُلامس سلاحهُ الذي يرتاحُ في خاصِرتِه أسفل معطفِه، اتّسعت ابتسامةُ الرجُل بعد أن أدرك ما ينوِي، وبهدوء : إن قُمت بخطوةٍ خاطئة سيموت .. لديّ من يسمعوننا الآن وهو معهم .. لذا كُن مطيعًا.
ترك قميصه تدريجيًا وهو يتنفّس بانفعـال، في هذهِ اللحظـة، يُدرك أنّ المراقبة عليهِ انتهت على الأرجح بعد أن ذهبَ أخوته إلى مكانٍ آمنٍ بعيدًا عنهم، لم يعُد هناك ما يخشونه، فهو ليسَ مثلهم، يستطيع الدفـاع عن نفسه ، أي أنّه الآن إذا لم يتصرّف على الوجْه الصحيح ويُنقذ يوسف فلن يُنقذهما أحد!!
لفظَ بانفعال : ماذا تريد بالضبط؟!
هو ببرود : تحرّك أمامي.
تحرّك بدر بتلقائيّةٍ وصدره يرتفعُ وينخفضُ بانفعال، بينما كان ذاك يخطو خلفه تمامًا، بقيَ يمشِي أمامهُ طوعًا لدقائق طويلةٍ حتى وصلًا لمكانٍ شبهِ مُنعزل، لفظ بدر بشك : أين هو؟
هو : سلّمني سلاحك أوّلًا.
استدارَ بدر بسرعةٍ وقد أدرك لعبتهم متأخرًا، لفظَ بغضبٍ وهو يسحب سلاحه : أين هو؟!!
تدارك ذاك الوضع سريعًا وفي لحظةٍ خاطفةٍ كـان جلدُ كتفِه الأيمـن قد شُقّ بجرحٍ غمير، تأوّه بألمٍ من الجرحِ الذي امتدّ من - ما بين عنقهِ وكتفِه بميلانٍ إلى آخرِ كتِفه، سقطَ سلاحهُ دون شعورٍ منه، بينما من خلفِه قبضَ آخرٌ على عنقهِ وهو يهتف بانتصـار : وصلنا إليه . .
جاءه صوتٌ ثالث : كان ذلك أسهلُ مما ظننت، واحدٌ منّا كـان يكفِي.
أدارَ بدر رأسـه ببطءٍ حتى نظـر للواقفِ خلفـه والذي كان يُمسك بمؤخـرةِ عُنقه، تصلّبت ملامحـه، وسترتهُ تتشبّع بالدمِ المُنبثقِ من جُرحِه، لفظَ بجمودٍ بينما كفّه تستقرُّ خانقةً الدمـاء : كـانَ أسهل!
الذي من خلفِه بأمرٍ حاد : تحرّك أمامي . .
تحرّك بدر بهدوءٍ وكفّه لا تزالُ على جرحِه، تفاصِيل الألـمِ رُسمت في عقدةِ حاجبيْه وشده على أسنـانِه، لمْ يسأل عن المكان الذي يريدون أن يتّجهوا بِه إليه، فهو لم يكن لينصـاع بالطبـع لهم.
وصلُوا لسيّارةٍ سوداء توقّفت في مكانٍ مُنعزلٍ عن أعيُنِ النـاس، راقبَ المكـان من حولِه بعينٍ جامـدة، دفعَه من يمشي خلفهُ من ظهرهِ وهو يهتف بنزق : لا تحـاول فعل شيءٍ وإلا قتلتك.
بدر يتمتمُ باحتقار : لابو ذا الوجه الأشهب.
وقفَ أمـام البـابِ الذي خلف مقعدِ السائِق مبـاشرة، فتحه أحدهم، ليركب الأول منهُم ويقفَ الآخر عند بابِ السائق منتظرًا ركوبَه والثالثُ يقفُ بجانِبه مباشرة . . شدَّ على أسنانِه بحنقٍ من هذا الوضع الذي هو فيه ولا يبدو أنّ شيئًا من حولِه سيُسـانده، لذا اختـار أخيرًا الحلّ الأصعب والأشدّ تهورًا، تحرّك فجأةً ليضربَ بمرفقِه الواقفَ بجانِبه في أضلعِ صدره، تراجّع ذاكَ وهو يشهقُ باختنـاقٍ مُفاجئ، حينها تحرّك السائق منهم وهو يصرخ بشتيمةٍ منفعلةٍ إليـه، استدارَ بدر إليهِ لترتفعَ يدُه اليُمنـى ذي الكتِف المُصـابة .. ضربهُ بقوّةٍ في بطنِه ومن ثمّ ركلـه في منطقـةٍ حساسةٍ ليتراجع إثر ذلك متأوهًا ولا يستطيع الحراك.
بينما عقله لم يتغافـل عن الأخيرِ الذي تحرّك وهو داخِل السيّارةِ باتّجاهِه، تراجَع بدر للخلفِ قليلًا حتى رآهُ يكادُ يخرج من بابِ السيارة، حينها ركل البابَ بكلّ قوّةٍ لتنطبقَ على جسدِهِ مباشرةً وترتدَّ مع آهةٍ متوجّعة.
هروّلت خطواتُه سريعًا، كتفهُ نزفَت أكثرَ إثر ضربِه لأحدهم بيدِه اليُمنى وضغطِه عليها، ابتعد عن نطاقِهم .. ليس كثيرًا .. فهم كانوا يستطيعون اللحـاق به .. بينما ألـم كتِفه يعرقل متابعته.
جلَس مندسًّا في إحدى الأروقة، أنفـاسهُ منفعلـة ، كتفهُ مضرّجةٌ بالدمـاء وجسدهُ يشعر أنّ الجرح ينتشر فيهِ بأكمـله ، كان تحذيرًا مستترًا/ساخرًا من تميم وتجاهلهُ فعليًا حتى جاءهُ الهجوم في غمضةِ انتبـاه . . شدّ على أسنانِه وهو يضغطُ جرحهُ كي يوقفَ الدمـاء المُتدفقة، سمِعَ صوتَ خطواتٍ تقترب، الإرهـاق الذي نـال من جسدهِ إثر نزيفه جعل أقدامهُ واهنَة لذا لم يستطِع أن يقفَ بسرعةٍ ويبتعد أو يصلبَ جسدهُ ويواجِه . . تراجع للخلفِ وهو يشتمُهم في داخِلهِ ليدسّ جسدهُ في زاويةٍ مظلمـةٍ وهو يًدرك أنّهم سيجدونه بكل سهولة، لكنّها فرصته الأخيرة وإن كانت نسبةُ نجاحِها بسيطة . . .
كان الوقت نهارًا، لكنّ الظـلام حـلّ بفعلِ ضيقِ المكـان الذي اختبأ جسدهُ فيه . . رفعَ ركبتيه إلى صدرِه وهو يشدّ على أسنانه ويقـاومُ التأوّهات الصامتـة المتألمة والتي تُريد أن تبـزغ من بينِ شفاهِه، كتفه يشعر بِها شُلّت ورغم شللها كان الألـم لا يرحم، يقاوم الشلل ويتجلّى كسيفِ قائِدٍ قـاطعٍ في معركةٍ اشتدّ وطيسُها.
عينـاه تتّجهـان نحو صوتِ الخطوات، أنفاسه المُتسـارعةُ يهذّبها ويُخفضها كي لا يسمعونها، وصَلَ إليهِ صوتُ أحدهم : وجدتموه؟
ليهتفَ صوتٌ آخر : لا . . لننظـر هناك.
ابتعدَت خطواتُهم عنه، زفـر براحـة، لكنّها سرعان من انقشعّت ما إن صاح أحدهم : لحظـة .. هنالك دماءٌ في الأرض!
الآخـر : إنه قريبٌ من هنا .. لنتتبع آثـار الدمـاء.
شعرّ بوجههِ يحتقنُ بالحُمرةِ من انفعـاله، أدركَ أنّه سينتهي بكلّ بساطـةٍ إن لم يتحرّك، وحتى إن دافـع فنسبةُ نجاته ضعيفةٌ نظرًا لإصابتِه، لكنه بالرغـم من ذلك فضّل الخيـار الثانـي، فبقاءهُ جامدًا يعني الموت لا محـالة وهو لا يحبّ أن يموت ضعيفًا مُستسلمًا.
مدّ يدهُ يبحثُ عن شيءٍ ما يُقاتِل بهِ بعد أن فقد سلاحه، أمسك بقضيبٍ حديديٍّ على الأرض، وقفَ بشكلٍ مفاجئٍ وهو يتجاهل كتفَه في هذهِ اللحظـة، خـرج من ظلامِ جُحره، صرخ بشتيمةٍ غاضبةٍ وهو يلوّح بالقضيبِ بينما اتّجه إليه الثلاثة ما إن ظهر لهم، اقتربّ منه أحدهم والذي كان قد ضربه في أضلع صدرهِ قبل دقائق ليضربه الآن في كتفِه بكلّ قوّةٍ امتلكها في هذهِ اللحظـات، شعر بكتفِه يكادُ يتمزق من عنفِ ضغطِه عليه وتجاهلَه، سقطَ ذاك متألمًا ليتراجع بدر للخلفِ قليلًا وهو يتنفّس بقوة ويوجّه القضيب الحديديّ نحوهم : لو ما جيتوني غدر! هذا أسلوبكم الرخيص !!
تراجـع الباقيانِ للخلفِ قليلًا، كـان يُدرك أنّه لن يستطِيع الخلاص منهم حتى وإن أسقطَ أحدهم، ليسَ تشاؤمًا أو يأسًا بحجمِ ما كـان إدراكًا لحالِه، مرّت دقائقُ وهو ينزفُ دون توقّف، عينيْه تضبّبت رؤيتهما، لكنّه بالرغمِ من ذلك قرّر المقاومـة وإن كانت مقاومـةً لا تنفعهُ بشيءٍ سوى تأجِيل نهايتهِ رُبّما!
لفظَ أحدهما : تُدرك أنّك ستنتهي!
بدر يبتسم ابتسامةً مُجهدة : نعـم . . أدرك ذلك.
: إذن استسلم وتعـال معنا .. أُمرنا بأن لا نقتلك، لكن بشرطِ أن تكونَ متعاونًا معنا.
بدر يرفعُ حاجبه الأيسـر بسخرية : أليس العرضُ مُغري بشكلٍ مُبالغٍ فيه؟
: رُبما نظرًا لحياتِك الثمينة.
تنفّس بغيظ، سيكُون غبيًا لو اعتقـد أنّه سينجُو، وفي المقابـل أن يذهبَ معهم ذلك قمّة الجُنون!! لفظَ بنبرةٍ حادّة : لم أُصبِح مجنونًا بعد.
وقفَ الذي سقطَ حين ضربه وهو يضغطُ المنطقة ما بينَ كتفهِ وعنقه، كانت قد احمرّت والتهبَ ألمها ، لفظَ بألمٍ حاقد : سأسحقك لهذا !
بدر يبتسمُ باستفزاز : أتلهّفُ لذلك . .
اقتربَ منهُ ذاك بقهر، في اللحظـة التي شعر فيها بدرْ بأنّ جسدهُ نفدت طاقتـه بالكامل، لو ظلّ ينزف بهذهِ الوتيرة سيمُوت بالتأكيد! التهبَت مفاصلهُ بالوهن، أسقط القضيبَ الحديديّ دونَ شعورٍ منه، شدّ على كتفِه وهو يُغمضُ عينهُ اليُسرى بوهنْ ويشتمُ في داخِله، شعرَ فجأةً بكفٍ على يدِه التي تُمسك جرحه، وجّه أحداقه بضعفٍ للرجُل الذي كـان قد ضربه، ضيّق عينيه ، وكاد يدفعهُ باليدُ الأخـرى، لكنّ صرخته اعتلَت فجأةً ما إن بدأ ذاك يضغطُ بقوّةٍ على يدهِ ليتوغّل الضغطُ لجرحِه، حاول أن يقتلعَ جسدهُ منهُ لكنّه لم يستطِع، سحبه آخر بعنفٍ وهو يلفظُ بعصبية : توقّف عن ذلك ! * وجّه نظراته لبدر ليردف بنبرةٍ واثقة * الآن ستأتِي معنا.
تنفّس بسرعةٍ وهو يعضُّ شفتهُ ونزيفهُ تضاعفَ بدرجةٍ كبيرة، لم يستطِع أن يقاوم ، خاصةً بعد أن أُستفزّ جرحهُ بهذا الشكل!
،
" كنتِ تبكين؟ "
سؤالٌ تحلّى بنبرةِ اهتمـام، بنبرةِ عطفٍ انجلت منها حدّةُ صوتِه الغاضِب منها والمُتشرّب برحيقِ عنادها وتمرّدها . . شعر بالهواءِ الباردِ يعتصِر قلبه، لا يدرِي كيف للهواء أن يعتصر القلوبَ ويملك القدرةَ على الإيذاء، لكنّه ذاك الشعور، الذي يكون فيه صدركَ يضيق، يضيقُ ولا يتّسع بنفَسٍ مُنتظم.
لم تردّ عليه، ملامحها القويّة هي نفسها، جامدةٌ تنظُر له بثقَة، هي التي وعدت بأن لا تبكِي، بأن لا تذرف دمعةً بعد ليـالي، بأن تهزِم الدنيا بثبات أحداقِها وجمودِ المُقَل، وعدت الدنيـا أن تكون الجافّة في أرضِها الخصبة ببللِ الدموعْ، أن تكون الفَرِحة في أرضِها المليئةِ بالأحزان. وعدت ، لكنّها حين كان البؤسُ يحومُ حول عائلتها، نقضت الوعد، لم تبكي ضعفًا وهزيمة، بحجمِ ما بكَتْ حبًا، لم تبكِي من أدهـم ومن الحيـاة كالعادة، بل بكَت لأجل عبدالله فقط، لأجلِ والدها.
تسلّلت زفـرةٌ من بينِ شفاهِه، بقيَ ينظُر لها ولعينيها اللتين تنظرانِ إليه وكأنّه هو من آذى عبدالله ومن أوصلهُ للمشفـى، ضيّق عينيه ببطء، هذا البطء، طـال حنجرتهُ ليستحوذ على نبرتِه وكلماتِه : أحد قايل لعيونك إنّي اللي ضريته؟
إلين بنبرةِ جمود : أنت ضريت الحيـاة بكبرها لمّا تواجدت فيها ، الحيـاة لئيمة، بس ما تستاهل إن عقابها يكون أنت!
ابتسـم، كلماتُها التي تُريد بها استفزازهُ كانت عامِـلًا ومُحفّزًا ليردّ هو بما يُخرسها، مرّر إبهاميه على وجنتيها، اقترب من وجهها وهو يلفظُ بابتسامةٍ وأريحيّة : أثـاريك بكل مرة كنتِ فيها توقفين قدامي على أساس إنّك القوية كنتِ تكذبين .. هذي أنتِ قدامِي .. وبدموعك! وما أستبعد إنك بكل مرة تواجهيني كنتِ تحبسينها.
عُنقها شعرَت بهِ يتشنّج، سرى تيَـارُ حقدٍ في أوصالِها، وربما لو أنّ للنظراتِ القدرةَ على القتلِ لقتلَت . . ابتسمَ بحنـانٍ لتلك النظرات، يُنـاقضُ نفسهُ وبالرغم من غضبِه الذي فرّغ جزءً منه في متعب بحقارةٍ لم يستطِع أخيرًا أن يؤذيها أكثر، كانت تبكِي وهي التي لم يرى دموعها منذ تزوَج بها، منذُ أصبحت في كنفِه بالمعنى الصحيح، كانت هذهِ الطفلةُ الوقحَةُ تبكي! . .
لفظَت بخفوتٍ وهي تتطلّع بملامحهِ الخشنةِ والقريبةِ منها، بسخريةٍ مريرة : لو بلحظة بس حسيت نفسي راح أبكي قدامك أفضّل أقلع عيوني ولا تشوف دمعها.
أدهم : عاد أنا أبي أشوف زينها! بنت أبوك جربِي.
إلين وكلماتُه الأخيرة استفزّتها : مانِي بنته.
ابتسم : دايم تسيئين الظن، قصدت عبدالله.
رفعت كفيها كي تمسكَ بمعصميه تريد أن تُخفض كفيه قسرًا عن ملامسةِ بشرتها الناعمـة والتي جفّت من دموعِ بكائها المالحـة، وبحدة : أنت ما تعرف تحترم أحد؟ ما تعرف تقدّر اللي أكبر منك؟ قول عمي لا تقول عبدالله كذا حاف!
أدهم يرفع حاجبه الأيسر وهو يضغط على وجنتها بعنادٍ لكفيها اللتين تحاولانِ جعله يتركها : والله أعتقد بإمكـاني أختار الطريقة اللي أنادي فيها أحد بكيفي.
إلين باحتقار : أيه اطلع على حقيقتك ، اترك المثاليـة الكاذبة عشان أرضى عليك.
سحبَ إحدى كفيْه ليضعها على جبينهِ وهو يهتف بضحكة : اووووه واضح إني كنت صبور كفاية عشان تشوفيني بهالنظـرة . . مين قالّك إن المثالية بعمي ومدري أيش! مفهومك خاطئ للأسف.
إلين بِصوتٍ كأنّها تلفظهُ من " أنفها " : علّمني المفهوم الصح للمثاليـة.
ابتسمَ وهو يُخفضُ كفيهِ جانبًا، وبنبرةٍ " رايقة " : ما يكون الإنسان غبِي ، ما يكون يتكلم من طرف خشمه مثل اللي أنتِ تسوينه الحين ، ما يكون كل وقته مسوّي إنّه الشخصية القوية اللي ما تبكِي وتتحدا وهي من جنبها.
اتّسعت عينـاها بغيظٍ واستفزازهُ جرَى في مَجرى كلماتِها لتلفظَ بصوتٍ عالٍ حانـق : تدري إنّك انســ . . .
وضعَ كفّه اليُسرى على فمها مباشرةً ليُخرس صوتها العالِي، همسَ بهدوءٍ وسكينةٍ مُستفزّة : شششش .. لا تفضحينا يا عُمري.
أرادَت عضّه في تلك اللحظَة، تَفتح فمها ملء ما تستطِيع حتى تستطِيع ذلك لكنّه كان يُكمّم فمها بطريقةٍ لم تسمح لها، ضحكَ بتسليةٍ ولؤمٍ وهو يرفعُ كفّه اليُمنى ليضعها على رأسها من الخلف، داعبَ شعرها البُنيّ باستمتـاع، قرّبها منه وهو يلفظُ بابتسامة : خاطرِي بشيء .. وهالمرة ماراح أرد نفسي.
اتّسعت عيناها أكثـر، وكأنّها فهمت ما يجول في " خاطرِه " ، همهمَت بغضبٍ وهي تُحاول نزعَ كفّه القوية عن فمها والمقاومـة، لكنّه شدّ رأسها أكثر إليـه .. حتى التصقَت شفاهُه في صورةٍ شاهقةٍ لا تنكسرُ بعينِها اليُمنـى، قبّل جفنَها المُنتفـخ من دمُوعٍ سابقة، وكفّه تضغطُ على فمها مانعةً اعتلاء شهقتها المُختنقة، يشعُر بكفّيها اللتين وضعتهما على كتفيه بمقاومةٍ واهنـة، تحاول دفعهُ باعتراض، تلتوي ولا يتركها بل يشدُّ على رأسها أكثـر . . من غيرِ المُنصف أن يُقاوم أكثـر، من غيرِ المُنصف أن يرى عينيها ويُشيح أحداقه بدافِع نزاهـةِ صداماتِه بها، لستُ نزيهًا، منذُ أوقعتُ نفسي في طفلةٍ غادرتنِي النزاهـة ولا أريدها أن تعود .. أريد لكلّ ذنوبِي أن تُغفر، مـا عداكِ أنتِ .. ذنبي الذي يُثقلُ موازين الحسنات! الذنبُ الذي يُذيقنا الجنان .. حُبّكِ وعينيك.
انتـزع نفسهُ منها، وكأنّه نزعَ بقبلته تلك رموشها، تراجعَت وهي تُغطّي عينها بكفّها تشعُر أنّ تيارًا سرى فيها، صدرها يرتفعُ بأنفاسٍ حادةٍ لا تنعكِفُ لينًا ولا تنـسابَ بمزاجيّةِ الرقّة.
عينُها الأخـرى - السليمة - كانت تنظُر لهُ شرزًا، زمّت شفتيها بكرهٍ وهي تمسحُ على عينِها وكأنّه لامسهَا ببصقةٍ وليس قبلة !! . . ابتسمَ باستفزاز، ومن ثمّ لفظَ بخفوتٍ رقيق : والحين مدام أدهم ممكن تعلميني ليه ما اتصلتِ عليْ وعلمتيني باللي صار؟ ليه ما قلتيلي أوصلك !
إلين بحقد : أول شيء لا تقول مدام أدهم!
أدهم : طيب حبيبتي نعتذر .. الحين ممكن تردّين على أسئلتي من بعد إذنك؟
زفـرت بغيظٍ من أسلوبِه المُستفز، لكنّها ردّت بصوتٍ مُتعالِي : كنت حضرة جنابك مشغول ، ما حبيت أشغلك.
أدهم يرفعُ حاجبه الأيسَر : عذر أقبـح من ذنب .. الحين كنتِ شايلة هم انشغالي لهالدرجة؟
إلين تحرّك أحداقها بضجر : أحلف إنك ما كنت بتجي لو اتّصلت عليك!
أدهم باستهزاء : يا الله صرتِ تعرفيني ما شاء الله .. يا بختي.
إلين باحتراقٍ تنظُر له : اي خلاص رحت مع تاكسي ، فيه مُشكلة لا سمح الله؟
أدهم ويشعُر أنّه يحادث طفلةً غاضبةً تُريد أن تُغيظه فقط بأسلوبٍ ضعيف : أتوقع فيه مشكلتين .. يمكن بعد ثلاث ماني متأكد.
إلين بغضب : لا تستفزّني !
أدهم : أحب أستفزك طيب! تصيرين أجمل.
إلين تتحرّك بخطواتِها حتى تخرج من المجلسِ وهي تهتفُ بغضب : لا حول ولا قوّة إلا بالله !!!
كتم ضحكتهُ وهو يستديرُ برأسه كي يُتابعها بأحداقه : مع السلامة .. وتراني جوعان قوليلهم يعجلون بالغداء.
إلين بخفوتٍ وهي تُطبق الباب : وجججججع!! يظن نفسه بمطعم هالوقح!
،
ألقـَى قنبلةً اكتفَت بتفجِير مرورِ الوقتِ للحظَة، حيرة، وعدمُ فهمٍ اكتنـز ، عقدةُ حاجبين، وفمٌ مـال قليلًا بينما صوتٌ خافتٌ انبعثَ إلى مسامِع شاهين بتعجّب : شلون؟!
شاهين يتنهّد بضيق، يُشتت عينيهِ حيثُ يجلس، بالجدران، بالصورِ - الوهميّةِ - على الزوايـا مُقتبسةً من تارِيخِ خيبة، ملحمةِ أسَى، وشفتاهُ تختارانِ الصفِير الصامِت الذي يعنِي الحُزن والفقد المريريْن . . في يومين .. فقد اثنين، والأدهى، أنّه فقدَ شخصًا مرّتين! هكَذا ببساطةٍ تتقلّب الصفحـاتُ في مسيرةِ الفقد التاريخيّة، في هذهِ الملحمَةِ الأوديسية التي مـا عاد فيها البطـل ، بل مـات ، واندثَر. تتقلّب الصفحـات، وكلّ ما يخشاه الآن أن تستقرّ الأخيرة منها على مأساة.
وضعَ كفّه على فمِه وهو يشعُر بأحشائِه تحترق، واللوعـة يكادُ يتقيّؤ منها، أردفَ فواز دون فهم : وش اللي تقصده يا شاهين؟ ما فهمت!؟
شاهينْ بصوتٍ يختنقُ منْ كفّه التِي صارت تضغطُ على فمِه وكأنّه بذلك يمنعُ آهاتِ الخيبةِ من صدرِه دون الكلمـات : متعب رجَع يا فواز .. متعب حي! ما كان ميّت وما دفنّاه !
صمتَ فواز للحظات، لا يفهمه! لا يستوعبُ ما يقُوله، يظنّ أنّه لا يسمـع سوى خيالاتٍ وأوهـام، ملامحهُ تغضّنت قليلًا، شدِّ على الهاتف وهو يعقدُ حاجبيه ويلفظَ بنبرةٍ هادئـة : شكلك مشتاق له!
شاهين بنبرةِ أسى وهو يُحرّر فمهُ الذي شعرَ بِه يؤلمه من شدّة ضغطِه عليه : كثيييير .. مشتاق له حتى بعد ما شفته .. اشتقت له أكثر !!
فواز يتنهّد وهو يحاول جعل أنفاسه تنتظم بعد أن انفعلَت، قلبه بدأ ينبضُ بقوّةٍ وهو يلفظُ بحدّة : شاهين تعبان؟ فيك شيء !!
شاهين بذاتِ النبرةِ وهو لا يدري هل ما حدثَ كان أمرًا يتلهّف لهُ أم لا! لا يدري هل عودةُ متعب من أحداثِ حياتِه الجميلة أم لا! : ليتني تعبان .. والحمدلله إنّي مو تعبان !!
فواز بحدةٍ اعتلا صوتهُ فجأة : شاهِيــــــــــن !!!!
شاهين بهدوءٍ غريبٍ يحتلُّ صوته : لو كنت تعبان والا مشتاق له، تتوقّع بوصل لمرحلـة إني أقرر هالقرار؟ أطلّع أسيل من حياتِي !!
مرّر أنامـله بينَ خصلاتِ شعره، عينـاهُ تتوسّعـان تدريجيًا، ملامحه التي أجفلَت حرّكها دونَ تصديق، بنفيْ، كـان يهزّ رأسه، لا يصدّق ما يسمـع ... وصدره، كان يختنق! يبدأ بالتنفِس بسرعـة ، تتوغّل الكلمـات في رأسـه ، ينهضُ من قعودِه دون شعور ، تتحرّك أقدامـه وعقلهُ لا يدرك أين سيتّجه بخطواتِه، وقد كانَ اختناقهُ يحرّكه تلقائيًا حتى وقفَ أمام النافذة، كفّه الأخرى ارتفعَت ليفتحها ، ومن ثمّ يتّجه لأزرارِ قميصهِ ليُحاربها بأنامِله ويُعطِي صدرهُ القليلَ من الراحـة .. كل ذلك فعله دون إدراك! فعلهُ وعيناه لا تزالانِ مُتّسعتـان، أصبحَ ينظُر للشـارع ولتضارِيس الحياة، البيوت، السمـاء، بينما الصمتُ حلّ بينهما، لا أحـد منهما تحدّث، كلٌّ منهما يحاول أن يستوعب المُعضلة، أحدهما استوعبَ الحياة، وبقيَ الخذلان لم يستوعب أسبابَه، بينما الآخر لم يستوعب بعد مسألـة البعث، للحيـاة الدنيا لا الآخرة! متعب الصديق منذ سنينَ طويلـة ، صديقه الذي توفّيَ محترقًا ، كيف يُمكن ذلك!!! كيف؟!!!
همس ببهوت : شاهين ... أنت مستوعب اللي قاعد تقوله؟
شاهين بثقة : أيه مستوعبه .. لا تظن إنّي انجنيت!
فواز بخفوت حاد : لا انجنيت! انجنييييت!!
شاهين يبتسمُ ابتسامةً خافتـة : حتى أنا للحظة ظنيت إنّي مجنون !
فواز بغضبٍ لم يستطِع أن يكبحـه : وش هالمصخرة وين احنا فيه؟ فيلم والا إيش؟ لا واضح إنك تعبان وإلا مجنون وصدّقت جنونك اللي طلّعتها بأسِيل !! صاحي أنت صاحي؟
صمتَ شاهين للحظـات، يبتسمُ بأسـى، لا يلُومه، فهو كان يسمعُ صوتهُ ولا يصدّق، يسمعُ اسمه بنبرتِه التي يعرفها ولا يصدّق، فكيف بفواز الذي لم يسمعهُ أبدًا؟ كيف قد يصدّق عودة ميّتٍ لثلاثِ سنين تقريبًا؟
لفظَ بعد لحظاتِ صمتِه الطويلة وهو يستمعُ لأنفاسِ فواز التي اعتلت : شايفه بعيني .. شايفه .. ومتأكّد إنّه هو ، إنّه حي!
أغمضَ عينيهِ بقوّة، أسندَ كفّه على حافّة النافـذةِ وهو يتنفّس بانفعـال، لم يستطِع أن يصدّق، لم يستطِع أن يستوعبَ ما يقُول، لذا لفظَ من بين أسنانه بغضب : عمى بعينك !! لا تجيب أعذار غبيّة لخطأك !! لا تصير بهالدناءة!
شاهين بهدوء : لو بترك أسيل بدون سبب ماراح أستخدم أعذار غبية على قولتك! الموضوع ماهو هيّن عشان أكذِب فيه .. ماهو هيّن لا تنسى إنّ فيه امي بعد !
فواز بصرخة : شلووووووون؟ ميت شلوووووووون تبيني أصدق إنّك شايفه وعشان كذا تركتها؟!!
شاهين بجزع : ماهو ميّت .. كان حيْ! دفنّا غيره وشلون صار كل هذا ما أدري ... لا تسألني كثير عن التفاصيل .. لا تسألني لأنّي شوي وأنجن من التفكير! شوي وأذبـح نفسي!! أنا نفسي ما أدري عن كل شيء .. ضايع وأبغى أحد يفهمني اللي قاعد يصير .. وليه صار!
صمتَ فواز، وأنفاسُه وحدها بقيّت تتحدّثُ بانفعال، يضغطُ على حافّة النافـذة، ولو كان يستطِيع لحطّم الجدار، النـاسُ من حوله صاروا سرابا، صاروا عدم! لم يعُد يرى شيئًا وهو يحاول أن يفهم ، أن يستوعب الذي قاله شاهين.
بينما أردف شاهين بخفوت، يُفسّر أكثر .. يُخبره عن مواضيع اختبأت بينه وبين متعب فقط قبل وفاتِه – المزعوم -، : ضرُّوه كثيييير . . بسببهم ما رضى يعيش مثل ما يبي! تذكر شلون كان يأخّر زواجه وكثيير تتضايقون؟ كان مريض . . بس ماهو بالسكر مثل ما تظنون .. تلاعبوا فيه ... يعطونه حقنات أنسولين وهي في الأصـل بَـلوة بلوه فيها . .
عقدَ فواز حاجبيْهِ قليلًا دون فهم، ارتخَت يدهُ قليلًا وظهرهُ يُصلب . . لفظَ دون فهم وبتوجّس : وضّح أكثـر . . ما فهمت! مين اللي ضرّوا مين؟
شاهين يبتسم بأسـى : ما أدري مين هم .. بس ضروا متعب . . واحد من الأطبـاء ، ما أدري أيش كان اسمه! لما بحثنا عن اسم الشخص اللي صرف العلاج له طلع ماله وجود بالمستشفى! قاله أنت مُصاب بسكر النمط الأول .. وعطاه أمبولات أنسولين .. وهي في الأساس أمفيتامينات!
فواز بصدمة : نعم!!!
شاهين : أيه .. وتدري وش اللي يقهر أكثر؟ * بقهر * إنّي مرَات كنت أحقنه بيديني!! بيديني يا فواز، كنت أحقنه في الوريد مباشرة وأمشي ورى نصائح الدكتور اللي اعتمد عليْ كوني دكتور وأعرف بهالأمور . .
صمتَ يبتلع ريقهُ بقهر، بينما أفرج فواز شفتيه وهو لا يستوعب كلّ ما سمِع منذُ بدايـة الإتصـال، ماهذا الجنون! ماهذا الجنوووون؟!!!
لفظَ ببهوت : لا تكون تجننت فجأة وتخيّلت إنه قدامك والحين كل هالأمور!
شاهين يعقدُ حاجبيهِ قليلًا، وبضيق : جنوني ما يوصله .. صدّقني طول ما أفكر فيه أنا صاحي . .
فواز : وليش ما علمتوني قبل؟
شاهين يبتسم بسخرية : وش تبينا نقول؟ والله متعب مُدمن معليش ما يقدر يكمل مع بنتكم حاليًا؟ . . أساسًا هو ما درى ولا انتبه إلا منّي . . لاحظت أعراض غريبة عليه، كان غريب! وكان يبي الأنسولين بكثرة بوريده مباشرة وهو ما يحس! غلطه إنه كان مُهمل كونه ما تعوّد على وضعه .. أقوله لازم الفحص اليومي لنسبة السُكر .. بس هو معيي ومو مهتم كثير .. وصار اللي يبونه!
فواز بانشداه : شلون تأكدت؟
شاهين : حاكيته .. في البداية ظنيت فيه سوء .. كنت أشوف فيه أعراض الإدمان ، وحاكيته بشكل مباشر. .
أردف بخفوت : في البداية عصّب مني .. كنت جدي لدرجة إنّي استفزيته فقرر يفحص بس عشان يوريني إنّي غلطـان .. وأنا عشاني كنت شبه متأكد كلّمت دكتور أعرفه شخصيًا عشان يكون الفحص سري . . وطلع فعلًا مثل ما توقعت.
مرّر أصابعه بين خصلاتِ شعرِه وهو يعقدُ حاجبيهِ بشدّة، جبينهُ تجعّد بخطوطِ الجنونِ الذي لُفظَ تباعًا دفعةً واحِدة، في البدايـةِ كونُه حيْ، والآن – مُدمن -!!
لفظَ شاهين يوضّح أكثر : ولأني شكيت بالأنسولين اللي يستخدمه من كثر ما يبيه من غير لا يحس خليته يسوي فحص سكر من جديد ، كنت من البدايـة غلطـان .. أعراض السكر ما كانت ظاهرة عليه! شلون ما خليته يفحص بمستشفى ثاني! شلون ما أفدته وأنا أدرى !! شكيت إنّ فيه غلط .. بس سكت! وش اللي خلانِي أسكت؟ سكر ونمط أول مرة وحدة؟ كنت غبي ... آآه!!!
لم يستطِع أن يُضيفَ شيئًا، عضّ شفتهُ السُفلــى بحسرة، هذه الحسرةُ لا تُفيد، عتـابُ الذات، الألـمُ الذي ينهشُ صدره، ما الذي يجعله الآن يتذكّر كلّ شيء! يتذكّر الخطيئة التي نسبها يومذاك لنفسِه، لامَ ذاتـه كثيرًا ، اعتذرَ منه كثيرًا، ولا يُضاعف سوى الألـم لمتعب الذي شعر أنّ الدنيـا أصبحت ضيّقةً جدًا، لا تُعـاش.
ما الذي يجعله يتذكّر؟ أنّ متعب يظنُّ بهِ السوء! يظنّه الذي ساندَ في مقتلِه؟ يسترجع أخطاءه وزلّاته ليعذره! لم يكُن السند الكافِي له ، لم يسانده، ولم يُصرّ عليه بأن يذهب معه في سفرِه خارجًا، في علاجٍ سريّ! لم يصرَّ عليه بعد أن رفضَ رفضًا قاطِعًا أن يذهب معه .. حاول كثيرًا، قـال أنّه سيحاول جعل أمّه تسافر معهما أيضًا، لن تدرك شيئًا .. لكنّني لا أريد البقـاء هنا وأنت ستذهب هناك وحدك! لا أريد!
شدّ على الهاتِف بأسـى، ضيّق عينـيه وهو ينظُر للجدارِ أمامه، للزوايـا، صوتُه رحَل ، لم يجِد ما يقُول أكثر، لذا همَس : بقفّل الحين .. وياليت تفكّر بأسيل! عجزان أفكر بنفسي بهالوقت .. كون معها.
،
" بغضّ النظـر ، فيه شخص دخِيل بيننا .. شلون عرفوا عن فيصل؟ فيه شخص يدري باللي نخطط له "
يقفُ خلفَ البابِ وهو يستمعُ لتلكَ الكلمـاتِ التي تنسابُ من بينِ شفتيْ سالِم بنبرةٍ حادةٍ قلِقَة .. عقدَ حاجبيهِ بفضولٍ ولم يتحرّك من مكانِه ينتظرُ ما يوضح لهُ خطَطه تلك.
بينما في الداخِل استمع سالِم لكلماتِ سعُود الباردة : إذا فيه هالشخص فهو راح يكون أنت أو أحمد .. محد يدري عن اللي نخطط له غيرنا!
ابتسمَ سالم باستفزاز : وليه ما يكُون من عندَك؟
سعود : أنا حتى تميم ما يدري عن كلّ تحرّكاتِي .. مين اللي بيقدر يعرف مني شيء أجل؟ * بحدةٍ غاضبة * راجع الوضع عندك .. والا بيكون لي تصرّف ثانِي معك أنت والغبي الثاني ، دايم مورطيني بأمور مالها معنى! بالأول هذاك متعب .. لو إنّك ذابحه يومتها ما كان أريح لراسنا الحين!
سالم ببرود : استفدت منّه في عمليّة ما كانت بتصير بسبب أوضاع رجالك الأغبياء وقتها .. محد كان قدها لأنّ هويّاتهم مكشوفة وما كان فيه جديد يغطّي . . متعب قدر وقتها يتجاوز الجمارك ويهرب لك الكميّة الكبيرة اللي ربحت منها كثير . . . شايف غبائي؟ أقل شيء منّه فايدة.
سعود بحدة : طيب .. خلنا من ذا .. الاثنين اللي عندك وين نصرفهم؟ * يقصد إبراهيم وسعد *
ابتسمَ سالِم دون مبالاة : خلّهم عليْ . . بصرفهم لك.
انتهَت المكالمـة ، والتي لم يفهم منها سعدْ شيئًا، من كان يقصدُ بـ " متعب "! والذين قصدهم بـ " بصرفهم لك "! يومًا بعد يومْ يُدرك أنّه حلّ في مجزرة! بدأها مباشرة، ويعلم جيدًا أنّه انتهـى، انتهـى ولا مفرّ من مصيرِه الذي يعني " الخيانـة "! فكونهم أيضًا دخلوا معمعة الجمارك وتهريب فهذا ما لن تستمرّ حياتهُ من بعده وهو دخَل بينهم.
خطى باحتراقٍ فوقَ الأرضِ التي يشعرُ بنتوءآتٍ توخزُ باطنَ قدمه بعد أن تجاوزت حذاءه، يتجاوز كلّ العقبـات التي تحول دونَ الألـم، هذا الألم الذي يتذكّر بهِ عائلته الصغيرة، أمّه وأخوتُه، ما الذي فعله بنفسه؟ وكيف عساه يخرج من كلّ ذلك؟ هل يُخبر سلطان؟ يبلّغ الشرطة، ما الذي يجب عليه أن يفعله ولا يعرّض فيهِ عائلته للخطر؟
دخـل الغرفـة التي يجلسُ فيها إبراهيم، ينبطِحُ على بطنِه ويلهو بهاتِفه بعد أن كـان في الأسفل يتدرّب مع سند، هذا التدريب الذي لا يدركون أنّه مجرّد تمويهٍ على كونِهم لازالوا يستعدّون للانضمـام إليهم بعمليّاتهم المُحرّمة وجرائمهم، بينما هم لم يعودوا كذلك، تواجدهم أصبح لا فائدةَ ترجى منه لدى سالِم.
صرخ بغضبٍ بعد دخُوله : وش تسوي أنت يا المصيبة اللي طاحت علي من ذنوبي! ربي ماهو راضي علي والله العظيم ما كان راضي عشان كذا جابك بطريقي.
نظر لهُ إبراهيم بابتسامةٍ باردَة ليلفظ باستفزاز : يمكن اختبار لك بس .. احتسب الأجر يا صاحبي .. والفلوس طبعًا.
سعد بحنق : حتى عبيد الدرهم والدينار ما سووها واختاروا يضحّون بحياتهم في سبيل الفلوس.
إبراهيم يعود للنظر لهاتِفه دون مبالاة : أنا حالة مستفحلة.
سعد يركلُ الطاولة التي بجانبِه : الله ياخذك يا دابّة الله في أرضه.
إبراهيم ببرودٍ وأصابعهُ تضغط على شاشة الهاتف : آمين بس بعد عمر طويل ألعب في بالفلوس.
لعنـه ولم يستطِع أن يُمسك زمام لسانِه من قهرهِ وهو يخرج ويطبق الباب من خلفِه ويهزّ رأسه بالنفي . . لا فائدة ، لا فائدة تُرجى من عقلِه.
،
انحصـر الجلوسُ في هدوءٍ صاخِب، تلك انعكفَت على هاتِفها، باتت غريبة! هذا ما تراه غزل، لازالت تضحك وتمزح لكنّ بها من الغرابةِ الكثير ولا تدري ما هو! أزاحت نظراتها عن والدةِ عنـاد وهي تبتسم وتلفظ : غيداء يا الماصخة اتركي جوّالك وتعالي.
غيداء بهدوءٍ وهي مُستلقيةٌ على ظهرها وهاتفها ترفعهُ فوق عينيها على بعدِ سانتيمتراتٍ قليلة : لحظتين بس.
غزل بامتعاض : بعد لحظتين؟ مين الفاضية اللي جالسة لك بهالوقت.
ام عناد : هذي صارت هوايتها بس عالجوال وهالخرابيط.
غيداء بضجرٍ تتأفف : يمه بالله لا تبدين موّالك مالي خلق.
تنهّدت أمها وهي تهزّ رأسها بيأس، نهضَت وهي تلفظُ بضيق : بروح أجلس مع العيال شوي، . . * لتخرج *
بينما كانت غزل تعقدُ حاجبيها، تنظُر لغيداء باستنكارٍ لا تفهم سبب هذا البرود و " التأفف " الذي لم تسمعها مرّةً تُطلقهُ لأمّها . . وآيةٌ قرأتها في القـرآن، مرّت عليها مرّاتٍ كثيرةٍ لعدد ما ختمت القرآن من شدّة لهفتها " ولا تقُل لهما أفٍّ . . " فما الذي حدث فجأةً لتقولها غيداء التي لطالما كانت علاقتها معها أكثر من ممتازةٍ حدّ أنها كانت تغـار في لحظاتٍ منها بسببها؟ العلاقاتُ التي رأتها في عائلتهم والتي كانت تُخبرها بأنّها شذّت عن قواعِد كثيرة.
اجتذبها من أفكارها صوتُ غيداء المتذمّر بغيظ : الحين تروح تعلم الأخ عنـاد . . أف
اتّسعت عينـاها بقُدسيّة الأخ التي تراها الآن تُحلُّ في ماءِ تذمّرها وسخطِها ، ما الذي يحدث؟ لم تكُن مخطئةً حين قالت أنّها تغيّرت وبها وبـاءٌ ما؟ . . لفظَت بصوتٍ باهت : غيداء حبيبتي شفيك معصبة؟ وضعك غريب اليوم!
غيداء دون مبالاةٍ وهي تجلسُ وتضع هاتِفها جانبًا : ولا شيء بس ضايق خلقي شوي.
مطّت ذراعيها بكسلٍ وهي تبتسم بطفوليّتها المُعتـادة وتهتف : وين قطوك؟ خلنا نشوفه زين ما حصلت فرصة مع الغداء والحوسة.
ابتسمت وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب : الحين أقول لسالي تجيبه ... وبعدين احترمي جنسها تراها قطوة ماهي قطو.
غيداء بتعجّب : من جد؟ أوووه الله يعينك بعد سلطان ما لقى يجيب لك إلا أنثى؟
غزل وهي تقف حتى تستدعي سالي : أحلى وأظرف.
غيداء بضحكة : لا وين أظرف بتبتليك بحمل وعيال . .
غزل وكأنها تنتبه لتلك النقطةِ لتوها : لا أعوذ بالله بعزلها عن أي قطاوي حولنا.
غيداء : ههههههههههههههههههههههه منتِ صاحية ..
غزل : أي ماهو ناقصني أربي جيش وراها.
غيداء بضحكة : قوليها لسلطان ما عرف يختار .. حلوة ذي تعزلينها.
غزل بتذمّرٍ وهي تتّجه للباب : وبعدين ما أبيها تتوصّخ وتجيها عدوى وفطريات من أي قطو وصخ .. يعني أكيد بنتبه.
غيداء : هههههههههههههههههههههه يا رب ارحمني.
خرجّت غزل لوقتٍ قصير لتعودَ وهي تحمل قطّتها معها، ابتسمّت غيداء بلهفةٍ ومن ثمّ نهضت بسرعةٍ لتحملها قبل أن تصل إليها غزل، وبافتتان : يمممممممممممه كيوووت تجنن.
داعبت شعرها الأبيض بينما كانت تشعر بعدائيّة القطة التي لم تُرِدها وكانت تُحاولُ أن تنسلّ من بين يديها ومواؤها يُظهر اعتراضها على هذهِ اليد.
ضحكت غزل بتعجب : شفيها شكلها ما تبيك.
غيداء تتمسّك بها بعناد : تنثبر والله ما أتركها ، عادي الحيوانات تصير عدائية بأول مرة.
غزل : أنا استحسنتني من البداية حتى سلطان وهو ما يحبها وسالي أول مرة بس كانت عدائية معها.
غيداء : أنا مثل سالي بتحبني بعدين وأكثر منّك بعد.
غزل بسخرية : ورينا شطارتك.
ابتعدت عنها غيداء لتتّجه لهاتفها وهي تهتف بحماس : بصوّرها وأوري سارونة .. بتموووت عليها.
غزل ترفع حاجبيها : سارة؟ أي صح شلونك معاها بعدك تكرهينها؟
غيداء : لا ويييييييين بالعكس صارت أقرب وحدة لي تجنن ..
أردفت بابتسامة : ياخي خرابيط الأهل بس! لو ما طلعتِ لي كنت ظليت نفسية طول عمري
،
حلّ الليل ، كان صفيرهُ الهادئُ جزءً من ضجيجٍ في نفسْ، السماء حالكـةٌ بعد أن ارتدَت فستان سهرتها الأسود، زيّنت ملامحها بغيومها المُتحرّكة برماديّةٍ شفافة، قمرُها يضيء ضوءً لا يُسعف ظلام اللّيل . . هذا هو القمر ، قد يغفل عن إنـارة أجزاءٍ عديدةٍ بعكسِ الشمس التي ما تُعـاق سوى لتخلق الظل.
كم باتت تكره القمر بأحشائِه الواهنِة - ضوئه - ، الليلُ الذي اجتمعّت فيه معه. مشّطت وجهه بعد أن ركبَت للسيّارة، نظـرت لملامِحه المُسترخيةِ وابتسامتهِ الهادئة، لا تستطِيع أن تمسك زمـام لسانها، غاضبـة، منذ أيّامٍ وأشهر، غاضبـة ، ولا تريد أن تهدأ أمامه وتُصبح " عاقلة "، تريد هذا الجنون الذي تخبرهُ بهِ أنّها تكرهه ولن تتقبّله في يومٍ ما.
لفظت بسخرية : أي مبسوط حضرتك .. ما خليتني أقلها أجلس عندهم اليوم، وش يضرّك لو نمت عندهم عشان أبوي تعبان يعني؟
أدهم ينظُر لها نظرةً خاطفـةً ومن ثمّ ينظُر للطريق : قلتيها .. تعبان، حتى نظرة الحقد ما شفتها منه بعد ما رجّع، ما يقوى على شيء حتى طبيعته، عشان تعرفين بس إنه تعبان.
إلين بحنق : أيش هالبرود اللي عندك؟
أدهم : رجعنا لتقييم الناس وأوضاعهم على كيفك؟
نفخَت فمها بغيظٍ وهي تكتّفُ يديها وكأنّه يعامِل طفلـة، للأبدِ ستبقى طفلة! لفظَت بضجر : ما أبي أرجع الفندق.
عقد حاجبيه : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. ننام بالسيارة يعني؟
إلين : ليه أنت ما عندك بيت؟ مشرّد والا شلون؟
اتّسعت عيناه دون استيعابٍ في بادئ الأمـر، لكنّه سرعـان ما ابتسم وهو يهتفُ دون تصديقٍ وينظُر نحوها : تبين نكون ببيتنا يعني؟
إلين تتأفف ومن ثمّ تردف بنبرةٍ حادّةٍ بعض الشيء : أول شيء ناظر الطريق أبي حياتِي .. ثاني شيء لا تسميه بيتنا ولا تنسبه لي بهالوصف اللطيف ذا اللي ما يناسبه! اسمه سجن يا أخي.
أدهم بلا مبالاةٍ استفزّتها : طيب طيب سجن حفرة اللي يعجبك بس لا تضيقين خلقي الحين بأشياء سخيفة ومالها داعي ..
إلين تتقدّم بجسدها للأمام بانفعال : نعم؟!!
أدهم يرفع حاجبه الأيسر وهو ينظُر للأمام : ما قلت شيء غلط .. كالعادة تركزين على القشرة بس.
إلين تحرّك كفيها وكأنّها تشرح لطالبٍ لا يفهمها فنشر الانفعالَ في أوردتها : عند لبّ؟ عندك شيء يرتجى منك؟ ماهو أنت كلّك سطحيات وقشور؟ اااااخ يا ربي أجر أجر بس.
لم تتوقّع أن يكون ردّه .. ضحكة! ضحكةٌ متسلّيـة!! في غُمرةِ غضبها وحدّة صوتِها يضحك .. لا تُثير فيه سوى الضحك!! . . صرخت دون شعورٍ وعينيها تكادان تخرجانِ من محجرها من شدّة غيظِها : وش اللي يضحكك يا اللي بلا روح؟ بلا ضمير ولا معنى ... يا ســـطــــحـــــــــي!!!
أدهم يكتُم ضحكتهُ وهو يستمع لنبرتِها الغاضبةِ بنعومةِ صوتِها الفطريّة : أفا ! بعدين لا تقولين يا أخي ! قولي ياخِي مباشرة.
إلين بصدمة : بـــالله؟
أدهم : أيه كنت بقول أنا زوجك لا تقولين لي هالكلمة بس بعدين تذكّرت إني سطحي.
وضعَت كفيها على رأسها تكادُ تضرب نفسها وهي تهمس ببهوت : يا صبر أيوب .. يا صبر الأرض .. يا صبر البشر أجمعيييييييييييين!!!!
صمتَ ولم يُضِف شيئًا لتبقى هيَ تُتمتم بكلماتٍ لم يسمعها، حسرةٌ أو ما شابـه، لكنّه بقي يبتسم بينما اختارت هي عدم الجدالِ مع شخصٍ سيجلب لها الصداع بالتأكيد.
طـال وقت مكوثِهم في السيّارة، نظرت للطريقِ من نافذتها وصدرها يغلي، الأنوارُ تزيدُ في ظلام عينيها، لا تُضيء، أبدًا لا تضيء، وهذا القمر لم يعُد كفيلًا بانعكـاس ضوءِ شمسِه، يحفّزها على الغرَقِ في كآبتِها وضيقِها الدائِم، كلّما تذكّرت أن ليلةً هربّت فيها إليهِ تشعُر بالخزي، كلّما تذكّرت أن ليلةً جمعتهما تزدادُ في حقدِها على الليل.
عقدَت حاجبيها بعد استيعابها بأنّ الوقت طـال وهم لم يصلُوا بعد، نظرت نحوهُ وهي تهتفُ بوجوم : مو كأننا طوّلنا بالسيارة؟ وين رايح أنت مو للفندق؟!
أدهم بتعجبٍ وهو ينظُر لها نظرةً خاطفة : عندك زهايمر لا سمح الله؟ مو توّك قبل كم دقيقة قايلة تبين تروحين سجننا؟ أعتقد عارفة طريقه ما يحتاج أعلمك إنه بعيد شوي عن بيتكم.
كان يلمّح لكونها أتتهُ يومًا .. صدّت عنهُ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، وبخفوتٍ بائس : كانت ليلة سوداء.
ابتسم : شفت فيها وجهك بعد سنين .. ماهي سوداء والله!
إلين بسخرية دون أن تنظر نحوه : اللي يسمعك يقول كنت متلهف لشوفتي .. مو كأنّك كنت شوي وتشوتني.
أدهم : أشوت قلبك لي بس عشان تحبيني.
إلين بامتعاض : غزل تعبـان ... غيره بالله وبعدين لا تفكر إنّي ممكن أحبك.
أدهم يرفع سبّابته : الله قادر.
إلين تتكتّف وهي تُكمل بضيق : يرمّلني قريب.
أمـال فمهُ ومزاجـه لا يدري لمَ هو مسترخٍ، لا يغضب ولا يشعر أن كلماتها تؤذيه : قاسيـة .. بس الله يطول عمري ونشوف عيالنا قريب .. أبِي درازن من الحين أعلمك.
لم تردّ عليه، كـانت قد انفجرّت بحمرةِ خجلها، أغضبتها كلماته، لكنّ خجلها أخرسـها بدلَ أن يمدّ غضبها بالصراخ الكافِي في وجههِ لتغضبه . . . متخلّف!!
،
دخـل بخطواتِه الهادئـة للغرفـة، ابتسمَ ما إن رآها قد أنهَت صلاتَها وكانت تطوي سجّادتها، تقدّم للسرير، وجلّس على حافّتِه وهو ينحنِي ليخلعَ حذاءه، بينما سوادُ الليلِ يطُوفُ على جسدِها، الفتنـة التي هتفَ بها مراتٍ كثيرة .. الأسودُ لم يُخلق إلّا لهـا ، لم يُخلق إلا لانحناءاتِ جسدها الأنثوي.
هتفَ بابتسامةٍ وهو يراها تتّجه للبـاب كي تخرج : تعـالي أبيك بكلمة راس.
نظـرت ديمـا نحوهُ وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب، مكثّت واقفـةً لثوانٍ قصيـرةٍ سُرعـان ما بُترَت بتحرّك أقدامها نحوهُ بانصيـاعٍ صامت.
سيف يضعُ كفّه على السريرِ بجانِبه قُرب الوسادات : اجلسي هِنـا.
أمالَت فمها دون رد، وتحرّكت حيثُ أشـار لتجلسَ وهي تنتظرُ ما يريدُ منها .. بالتأكيد لن يكون سوى حديثٍ مُملٍّ يُخبرها فيها بأنّه ينتظر عودتها، بأنّه يحبها وأنّه نـادِم !
هتفت بخفوتٍ بـارد : هذاني جلست وش تبي؟
سيفْ يبتسِمُ وهو ينحنِي حتى استقرّ رأسـه في حُجرها ، وبصوتٍ لا جدالَ فيه : العبي بشعري.
رفعَت حاجبيها بتعجبٍ واستنكـار، بينما أغمضَ هو عينيهِ منتظرًا ملامسَةَ يدِها لشعره التي جاءت بعد ثوانٍ قصيرة، تحرّكت أصابعها بين خصلاتِه الناعمة، وهي ترفعُ حاجبًا باستغرابٍ من تصرّفه الآن كطفلٍ يُريد عنايـةَ أمّه!
بينمـا هو .. لم يكُن يُريد من كلّ ذلك سوى قُربها .. قُربها فقط، يستحوذُ على كلّ فرصةٍ وأخـرى .. يريدُ الشعور بها بأيّ طريقـة ..
لم يكُن بينهما حديث .. فقط صمتٌ تداعـى فيهِ الكثير من " الصمتِ الداخلـي " .. لا أحـد منهما يقرأ ما يجول في عقلِ الآخـر .. والتناقضات .. كانت عديدةً بشكلٍ مؤلم!
،
قميصهُ مرميٌّ ببعثـرةِ الألـم على أجزاءِ جسدِه، عاري الصدر، وكفٌّ قاسيةٌ لازال يشعر أنّها تضغطُ على جرحِه بداعِي " إيقافِ النزيف " ، يدُ طبيبٍ لملمَت جُرحهُ وخاطته، طبيبٌ أحضرهُ الرأس الكبيرِ للرازِن ، حتى الطبيب كان كمن يعلم من هو ومن يكُون وكأنّه اعتـاد أن يأتِيه في حالاتٍ طارئةٍ وسريّةٍ كهذِه! . .
نظـر للضمادِ المُلتفِّ على جُرحِه، جعّد ملامحهُ بألـمٍ وهو يشتمُ في سرّه، حتى الآن لم يرى سعود ولم يرى أحدًا سوى ذاك الطبيب بعد أن أدخلـه أحد الرجـال الذين هاجموه، والغريبُ في كلّ الوجوهِ التي غابّت أنّه لم يرى " تميم "! غريبٌ كيفَ أضـاع على نفسِه متعة التشفي بِه ومشاهدتِه!
أعـاد رأسه للخلفِ ليسندهُ على ظهرِ الكُرسيّ، لم يكُن يرتدِي سوى بنطالِه الجينز وحتى قدمهُ كان قد خلـع حذائها أو أرغم على ذلك بالشكلِ الصحيح، خافُوا أن يكون ساعدهم في إمساكِه وكلّ ذلك فخ لذا تأكدوا من خلوّ أي أجهزةِ مراقبةٍ أو حتى آلآتٍ حادةٍ تساعده على الهرب.
سمعَ صوت بابِ هذهِ الغرفـة الكئيبة بألوانِها تُفتح، نظـر نحو البابِ ذُو اللون الخشبـي ، ومن ثمّ ابتسمَ بسخرية، هاهو جـاء، لتوّه كان يفكّر به وكيف أنه أضـاع على نفسِه فرصةً كهذِه ... يا للسخرية!
كان يبتسم بسخريةٍ من حالِه بينما تميم ينظُر لهُ بصدمةٍ وكأنّه لا يصدّق أنه هنا فعلًا بعد أن علِم من همساتِ الخدم بأنّ رجلًا جاءهم مُصابٌ وأُحضر له طبيبُ العائِلة ، دفعـه الفضول ليسألهم عن مكانِه وجاء إلي هنا ، لكنّه لم يتوقّع ولو لوهلةٍ أن يكون بدر! غير معقولٍ ما يراه!!
مالّت ابتسامـة بدر وهو يلفظُ باستهزاء : شفيك واقف وتناظرني كِذا! لا تضيّع على نفسك جزء من الثانية أنا قدامك ومنصاب بعد.
رفعَ تميم أحد حاجبيْه، أفرج شفتيه قليلًا، زفـر من بينهما هواءً حارًا وهو يُغمض عينيه بضجر، وبصوتٍ غيرِ مستوعب : طلعت أنت!!
بدر بسخرية : أنا وجرحي لا تتجاهله.
تميم وهو لا يزال يُغمض عينيه : ما كملت يوم حتى من بعد ما بلغتك إنك هدف له .. لا حول ولا قوّة إلا بالله .. أثاريك مُمل بشكل مُزعج! وتنكّت بعد بنكت سخيفة مثل وجهك.
بدر يضعُ ساقًا على أخرى ويدهُ اليُسرى تعبر بأنامله فوق ضماد كتفِه بينما ذراعهُ اليُمنى تتدلّى بغيبوبةِ حركتِها المؤقته، وبنبرةٍ باردة : وش كنت متوقع مني؟
تميم يفتح عينيه لينظُر نحوه بسخرية : ولا شيء بصراحـة .. بس تأمّلت شوي تسلية منك آخرتها يمسكونك بنفس اليوم اللي حذرتك فيه !!
بدر : هه! حذرتني؟ لهالدرجة مهتم؟
تميم يقتربُ منه بهدوءٍ وبرود : بغيتك تتمرجل شوي وتحرّك اللعبـة بشكل أفضل من هالبرود.
بدر بغيظ : لعبــة؟
تميم : شيء من هالقبيل.
اشتعلت عينـاهُ وهو يخفض كفّ يدِه السليمةِ عن ضمادِه، نظـر لهُ بحقد، لم يشعر بنفسهِ وهو يشدّ على أسنـانه بغضب، وفي اللحظةِ التي وقف فيها تميم مباشرةً أمامه ارتفعَت قدمُ بدر كي يركله حيثُ تصل لكنّ تميم كان منتبهًا فتلافاها بتراجعه للخلفِ وهو يضحك : عصّبت ليه؟ ما أظـن قلت شيء مُستفز للحين!!
بدر بنبرةِ غضبٍ تكادُ أن تكون صراخَ جحيمٍ يشتهي العظـام الصلبـة من أجساد البشر : لعبة؟ الوضع اللي ينذبح فيه أبوي وأمي وزوجتي لعبة !!! كل هالأمور عندك جمعتها بمصطلح لعبة؟؟
تميم : لا تصير أنانِي! ماهم أهلك بس اللي ماتوا .. ناس كثير ..
بدر باحتقارٍ وبرودهُ وهو يلفظها يُضاعفُ من اشتعالِه : ومازال اسمها لعبة؟
تميم يحشرُ كفيهِ في جيبي بنطالِه، وببرود : مالِي ومال الناس اللي ماتوا؟ قصدت لعبتي المنحصرة فيك وفي غيرك.
بدر بحقد : غيري أتوّقع يوسف وأهله!
تيم باستفزاز : يمكن !
أراد في تلك اللحظـة أن يبصق عليه، هذهِ النـار في صدرِه ما يُطفئها سوى أن يراهم موتَى، حتى القضبان لا ترضيه، أسرهم لا يرضيه ، محاكمتهم لا ترضيه! لا يرضيه سوى أن يرى النار التي في صدرِه تندلـعُ فيهِم ببأسٍ أشد، تعذّبهم حرقًا ولا تقتلهم .. لأبيه وأمّه ، وزوجتِه ، لكلّ الذين فُقدوا وللعوائلِ التي بكَت موتَ أحبّائها . . هذهِ الدنيـا ظالمـَة! البشـر ، الأفئدة ، لمَ جُبلَ البعضُ بهذا الإجرام حدّ أن لا يبالوا بمن سيقتلون، إن كان له طفْل، أبُ كهل، أمٌ عاجِزةِ لا أحد لها سوى – من سيموت -، لا يبالُون بالحرقـة التي يخلّدونها في قلوبِ المُسنّينَ " في أرواحِهم " من الفقد .. وكل ذلك ، لأهدافٍ تمرّغت بوحلِ الجشع ، لمـالٍ أو منصِب . . فقط!!
أمـال فمهُ بازدراء، أشـاح عينيهِ عنه وكأن رؤيتهُ لهُ ستلوّثه، ابتسم تميم . . وانحنى بجسدهِ للأمام قليلًا وهو لا يزال يضع كفيه في جيبيه، يفصله عنه بضع خطواتٍ لا تسمحُ لقدمِ بدر أن تصله وفي حالتهِ هذهِ لن يقوى على النهوضِ والمواجهة، فدونًا عن إصابتهِ كان وجههُ شاحبًا جدًا.
لفظَ ببرود : تدري وش بيصير فيك الحين بسبب غباءك؟
لم يردّ عليه وهو يبتسم بسخرية، بينما تابـع تميم بذاتِ النبرة : لو وصل مسيو سعود .. أتوقّع بيستجوبك دامك وصلت له حي .. يمكن فيه شيء بخاطره أو موضوع استجد ويبغى يعرف عنّه منّك . . . تدري شلون بيستجوبك؟
تحرّك بخطواتٍ قصيرةٍ إليه، كان بدر يتجاهلهُ وابتسامتهُ ما زالت تزيّن ثغـره، خطى حتى وقفَ خلف كرسيّ مباشرة، ابتسمَ تميم وهو يرفع كفّه ليُلامس كتفهُ المصابـة ولم يجِد من بدر سوى أن ارتفعت كفّه اليُسرى ليضعها على يدِ تميم بعنف.
ارتفعت يدُ تميم الأخـرى ، وفجأةً كان قد أمسك بتلك الكفّ التي قبضَت على يدهِ تلك، أزاحها وهو يضغطُ عليها بقوّةٍ حتى كاد أن يُحطّمها، لم يكُن مخطئًا حين قرأ الإجهاد على ملامحه فهو لم يقاوم سوى مقاومةٍ واهنـة، ويبدو أنّه قد فقد الكثير من الدمـاء ولم يسعفوهُ حتى بشيءٍ يأكله أو يشربهُ فيمدَّ جسده ببعضِ الطاقـة.
أردف بخفوت : تدري شلون بيستجوبك؟ . . أبســط أسلوب ، بيكون ذا . .
ضغطَ على جرحِه دون انتظـارٍ آخر، بينما كان بدر يتوقّع تلك الحركـة منه ، لكنّه وبالرغمِ من ذلك، لم يستطِع أن يُسيطِر على صرخةِ الألمِ التي انبعثَ معها الدمـاءُ من جرحِه من جديد، تحرّك بجسدٍ واهنٍ كان لا شيء أمام يدِ تميم التي بقيّت تضغطُ بقوّةٍ أكبر وهو يُتـابع بحدّة : وبيتسلّى وهو يسمع ألمّك ... بيتسلّى كثيييييير .. وكل هالشيء من غباءك!!
بدر بصوتٍ مُتألمٍ ورأسهُ يميل بألمٍ بينما أنفاسه تتصاعد : حقيييييييييييير .. طول عمرك بتظل حقيييير ..
تميم يبتسم بشرْ وكفه لا تتوانـى عن إيلامِهِ حتى تلطّخت بدمائه التي أغرقت بيـاض الضمـاد : ما عندي مشكلة مع الألقاب الدنيئة والشتائم . . طلّع حرّتك .. طلعها يا بيبي.
اشتدّت كفّه اليُسرى المقيّدةَ على مفاصِل تميم، كان يضغطُ دون شعورٍ من الألـم الذي كان أشدّ من سابِقه، يشدُّ على أسنانِه، حتى انطفأ شدّه فجأه، ارتخّت يده، وإغمـاءةٌ تسلّلت لعينيه بينما ساقيه تضعفانِ ولم يعد يشعر بهما، جسده تخدّر بعد لحظاتٍ من هجومِ تميم الوحشيّ على جرحِه الذي لتوّه قبل ساعات قليلةٍ أُخيط.
ارتفعَ وجه تميم فجأةً دون أن يخفّف ضغطهُ على كتِفه وهو يسمع صوتَ البابِ الذي فُتِح، كان سعود الذي بهت فجأةً حتى اتّسعت عيناه بصدمةٍ وهو يلفظ بحدة : تمييييييييييييم!!
تراجع تميم للخلف، وفي اللحظةِ التي ترك فيها كتفه كان جسدُ بدر يسقطُ على الأرض، صرخ سعود بغضب : وش اللي قاعد تسويه يا كلــــــــــــــــــــــــــب!!!
تميم يبتسمُ ببرودٍ وهو يمسحُ كفّه الملطخة بالدمـاء على قميصِه البُنيّ ليزداد قتامةً بالحُمرة : يحتـاج مستشفى.
غابَت مسامع بدر في تلك اللحظـات عن أصواتِهم والإغماءةُ تبتلعه، الألـم في كتفِه لم يُغادِر بعد، والنزيفُ كـان يزداد ... بينما صوتُ سعود الغاضب تناغمًا مع خطواتِه الحادةِ كان يخترق أذني تميم اللا مُبالي : يا حيواان وش سويت أنت؟ كان طيّب وصاحي وش سويت فيه؟!
تميم يكرّر ببرود : يحتاج مستشفى!
سعود بغضبٍ حارق : بجهنننننننننننننم أنت وياه خربت كل شيء علي!!
تميم يتصنّع المفاجأة : كنت تحتاجه أجل؟ وأنا أقول ليه جايبه حيْ! * أردف بضحكةٍ مستهزئة * خلاص أجل خذه للمستشفى وعالج جرحه وشوف وضع دمّه قبل لا يموت وبعدين أرجع وشوف شغلك معاه ... وفي النهاية وبعد ما تخلص عادي اقتله.
سعود يضع كفّه على جبينه وهو يكاد يقتل تميم من قهرهِ بينما كان بدر قد غاب كليًا عن الوعيِ في هذهِ اللحظات، لفظ بغضب : قلعـــته .. خلاص قلهم يرمونه ماني ملزوم فيه.
ضحك تميم بسخريةٍ بينما زمّ سعُود شفتيه بتشتتٍ وكأنّه لا يدري ما الخيـار الصحيح في هذهِ اللحظــة!! . . زفـر بيأسٍ لتتحرّك خطواتُه فجأةً مبتعدًا عن الغرفـة وهو يصرخ بإنجليزيةِ غاضبةٍ مُنفعلـة : فليجهز أحدٌ مــا السيارة لنقلِ مريضٍ هنـــــــا . . * أردف شتيمةً بذيئةً بعربيّةٍ حادة * .. *****
،
تنحدِرُ نظراتهُ للأسفل، يقضمُ طرفَ اصبعهِ بشرود، كـان واضحًا لعينيها الشرودُ الذي يحيـاه، القلقُ الذي يغتالـهُ بالمعنـى الصحيح، وكم من مرةٍ سألت نفسها والهواء المُحيطَ بهما، موجاتُ صوتِه الصامِت " شفيه؟ "، ما الذي يُضيّق الحال في عينيه بهذا الشكل ليقلق قلقًا لم تُكن تراه يدفعه لكلّ هذا التفكيرِ حين كان قبل أشهرٍ يعيشُ وضعًا سيئًا مع جيهان!
لم تستطِع أن تصمتَ أكثـر، في معمعةِ قلقهِ أيضًا وتقلّب مزاجِه رفضَ بشكلٍ قاطعٍ دراستها، وهو لطالما فصَل مزاجهُ عن قرارتِه التي تعنيهنّ، عنهنَّ مُجملًا ، لذا هي متأكدةٌ أنّ ما بِه الآن حجمهُ ضخمٌ كفايـةً ليؤذي راحتـه بهذا الشكل.
وقفَت من مقعدِها الذي كان قُربه، تجلس على أريكةٍ منفردةٍ وحدها، لكنها فضلت أن تكون أقرب منه، لذا وقفت واتّجهت لتجلس على نفسِ الأريكة التي يجلسُ بِها.
نظرَ لها مباشرةً وكأنّ قعودها بجانِبه اقتلعه من شروده، عقدَ حاجبيه وابتسم ببهوتٍ في اللحظةِ التي وضعت فيها كفها على كفّه التي تستقرُّ فوقَ فخذِه، همست بقلق : يبه . . .
قاطعها يوسف بهدوءٍ ظاهري : أدري باللي ودك تقولينه .. معليش حبيبتي ، بس خلاص قراري نهائي، ماراح تدرسين هنا.
أرجوان تعقدُ حاجبيها بصمتٍ قصير، تنظُر لعينيه الشاحبِ بياضها وكأنّ التفكير صدّع أركانِها وزواياها، تنهّدت بضيقٍ ومن ثم همست بتساؤل : هنا؟ أفهم إننا بنرجع والا شلون!!
يوسف يُشيح بنظراتِه عنها لينظُر للأرض أمامه : ما بعد قرّرت . .
أرجوان : لا قررت . . فيه شيء قلب أفكارك فوق تحت وما خلّى بعقلك حجّة للتفكير بقراراتَك وكأنّك واثِق إنها صح!
يوسف بصوتٍ باهِت : أتوقع إنّها صح.
أرجوان برجاء : يبه ! تكفى احكي قول وش فيك منت على بعضك من الصبح .. كأنّك خايِف أو شيء مثل كِذا! ما قررت عدم دراستي هنا من فراغ!
وقفَ لتنسلّ كفّها عن كفّهِ بانسيابيّة التلقائيّة التي حجّرت هذا الصمتَ وقوقعتهُ في أذى يلمسُ القلوبَ ويزعجها بلمساتِه " الخشنة "، الخشونَةِ التي غلّفت ملامحهُ التي لطالما كانت حنونةً حتى على تضارِيسها، التي غلّفت صوتهُ أيضًا وهو ينبعث إلى مسامعها بكلماتٍ مجازها " تقفل الموضوع " : وين خواتك ما أشوفهم!
مرّرت لسانها على شفتيها بيأسٍ وهي تزفُر هواءها الضّار من صدرِها، فقط الهواء وليس " مزاجه " الذي أصابّ صدرها بالضررِ أيضًا، وبخفوت : ليان داخِل تتسلى بالرسم ، وجيهان تتروّش.
أومأ بصمت، ومن ثمّ تحرّكت خطواتُه الصارخـةِ بصمتٍ تناقض مع عينيه التي تزاحمَت فيها كلماتٌ كثيرة، اتّجه لغرفتِه، فتحَ بابَها ليختفي من أمـام عينيها لتبقى جالسةً في مكانها تخطو على خطواتِه بأحداقِها القلقَةِ عليه.
وفي جهةٍ أُخرى ، أغلقّت المـاء المُتسرّب إلى مساماتِها التي توسّعت بنارِه، نارِ شوقِها إليه، ونارُ هذا الكبرياءِ الذي أسقطهُ وأسقطتهُ بنفسِها أيضًا ، حين عشقت! فقط حين عشِقت بعد أن كانت تتحلّى بجفائها نحوه ، تمسّك بها في تلك اللحظـات كثيرًا، تمسّك بِها، وكـان لا يربط الكبرياءَ بالحُب أبدًا، فكيف لم يختر هذا الارتباطَ إلا بعد أن وقعَت بِه؟ لم يختَر أن يُنجزَ هذا البُعدَ بسنونِه التي اُختزلَت في أشهرٍ في آنِ حُبها له . . ابتسمَت بأسى وهي تتناولُ منشفتها، هذا هو قدرها، أن تسقطَ في اللحظةِ العظمى للإرتفاع، فتكون النتيجة أن يتحطّم عظـام الثبات، أن يتمزّق جسدُ المضي .. من قال ذلك! أنّ المضيّ تمزّق! سأكذِب أكثر، سأخدعُ شوقي أكثر، حاجتي إليك .. وأقولُ بكلّ نبراتٍ مهترئة : لي حيـاةٌ من بعدِك، لن أنتهي لديك، فالحيـاة لا تنتهي عند رجلٍ وحُب!
ارتَدت روبَ حمامِها، خرجت وهي تجفّف شعرها وتبتسم ابتسامتها تِلك، الكاذبة كقناعاتِها التي لا تؤمنُ بها في هذهِ اللحظة! لا تؤمنُ بها بالرغمِ من كونِها تتصنّع ذلك!
رأت ليان تنبطِح على سريرها، أمالت فمها وهي تفتح خزانتها كي تخرج ملابسها، وبتهكّم : وش جابك لسريري أنتِ؟ قومي اذلفي من وجهي بلبس.
تجاهلتها ليـان وهي تتلاعبُ بساقيها وترسُم على كراسَتِها البيضاء، زفـرت جيهان بضجرٍ وهي تعودُ للحمـام، لكنّها تراجعت وهي تقرّر في هذهِ اللحظة أن تُعانِدها، اتّجهت إليها بعد أن رمَت ملابسها على أقرَبِ كرسيّ، جلست بجانبها بفوضويّةٍ وهي تلفظُ بحدة : وش تسوين؟
ليان تخطّ على كراستها بهدوء، وبتركيزٍ شديد : أرسم.
سحبت جيهان الكراسة وهي تهتفُ باستفزاز : وريني وش قاعدة تخربطين يا دافينشي زمانك.
تأففت ليان بضجرٍ وهي تعقدُ حاجبيها، بينما قطّبت جيهان جبينها وهي تحاول أن تفهم الصورة التي أمامها، وبتساؤل : مين ذي؟ لا تكون الموناليزا بصورة عربية؟
ليان بمللٍ وهي تجلس : هذي ماما.
ابتلّعت ريقها وابتسامتها الساخرة تتلاشـى، نظـرت للصورةِ الفوضويّة أمامـها بأنامِل طفلةٍ لا تجيدُ أكثر ممّا تطمحُ بنظرتِها الصغيرة، زمّت شفتيها وهي تتأمّل الملامح بحزن ، لو كنتِ هُنا، معِي، بالتأكيد كُنتِ لتختاري لي الأفضل، والذي أُدرك أنّه سيكون النسيـان أو التناسِي، أن أؤمن بأنّ الحيـاة لا تنتهي عندَ أحد! أنّ رجلًا لا يُمكنهُ أن يبتلع بسمتِي ويَخلق الخيبةَ فيّ، أنّ الحيـاة عدْوٌ لا يتوقف، لا ينتهي عند حاجِز .. لكنّني أضعف من ذلك يا أمّي! أضعف من أن أؤمن بكلّ ذلك، لست قويّة، للأسفِ لستُ كذلك، ولكم أتمنى أن أكون بقوّةٍ تكفيني أن أبدأ من جديدٍ مثله، أن أتزوج أيضًا ولا أبـالي .. لكنّي لا أقدر، لا أقدر على البدءِ من جديدٍ وأُقنعه أنّه انتهي برجلٍ آخر، لا أقدِر سوى أن أحـاول البدء لنفسي .. دون رجل، دون حياةٍ زوجيـة، وأؤمن أن ذلك واقـع ، الحياة لا تنتهي عند رجل، لكنّني عجزتُ أن أؤمن بِه " لنفسي ".
نظرت لليان وهي تبتسمُ بحزن، مدّت الكراسةَ لها وهي تهمس : ارسميها كويّس .. لا تخربين ملامحها.
ليان تمطُّ شفتيها بحنق : هذي هي رسمتها . . والحين برسم أبوي جنبها.
جيهان بنبرةٍ مازحـة وهي تطرد الأفكـار السوداء التي داهمتها : طيب .. بس انتبهي عليهم.
ليان وأصابعها بدأت تخطُّ على الورَقِ استعدادًا لرسمِه : بخليه يمسك يدها .. بابا زعلان مررررررة منها .. وأنا براضيهم.
جيهان بابتسامةٍ تجاري كلماتِها البريئة : ليه زعل منها؟
ليان براءة : قبل لا تجين كان يقول لأرجوان لا تعلمك .. ما يبيك تزعلين منها أنتِ بعد.
جيهان وابتسامتها تنكمشُ بينما حاجبيها ينعقدان باستغراب : أفا! لا ما نزعل من ماما شدعوى.
ليان تجلسُ بحماسٍ وهي تضعُ قلم الرصاص، وبنبرةٍ خافتةٍ وكأنها لا تريد لأحدٍ أن يسمع : بابا ما يبغانا نعرف .. خايف نزعل كان يكلمها ويحسب إني نايمة.
اختفت ابتسامتها فجأةً وهي تلفظُ دون فهم : مع أرجوان؟
ليان تهزُّ رأسها بالإيجاب لتُردف جيهان وعقدةُ حاجبيها تتضاعف : وش كانوا يقولون بالضبط؟ سمعتيهم؟
ليان بحماسٍ لازالت تهتفُ بصوتِها الهامِس ذاتِه : يقولون إنّك بتزعلييين مررررة ويمكن ماما تطيح من عيونك .. ما فهمتهم صح .. بس بابا كان يقول لأرجوان لا تعلمينها عن أمّك واللي سوتّه قبل لا تموت .. تجلس زعلانة مني بس مو من أمّها ... أيوا صح ماما ليه ماتت؟ فواز يقول ما ترجع! شلون كِذا؟ أبي أوريها رسمتي لها مع بابا . .
لم تسمع بقيّة الكلمـات، عينيها كانتا تنظُران لجهةٍ واحدة، للفـراغ! تنفرجُ شفاهُها والهواءُ البـاردُ يعبُر من بينهما ليُثلج حنجرتها، رئتيها، قلبها . . وتلك الطفلـةُ تابعت حديثها الذي تضخّم بهِ صوتُها في أذنها، تضخّم ، وتضخّم أكثر حتى باتَ صريرًا صدّع حُنجرتها المُثلجة والتي كانت تهتفُ بصوتٍ يرتدُّ إلى حبالِها الصوتيّةِ فيُقطّعه، " لا تعلمينها عن أمّك "، " تجلس زعلانة مني مو من أمّها " ،
لا تعلــــــميــــــــنها عــــن أمـــــــــــــــك!!!!
عن ماذا؟ عن أمّها؟ مابِها أمّها؟ ما الذي فعلته قبل موتِها! ما الذي قد يجعلها " تزعل " منها إن علِمت!!
نهضَت ببهوت، تحرّكت أقدامها بآليّةٍ وهي لا تفهم، لم تُسعفها كلماتُ ليان بالفهم، ما الذي بين أرجوان ووالدها ولا تعرفه هي؟ ما الذي يخفونهُ عنها والذي له علاقةٌ بأمّه و " زعلها " السابق من والدها!! . . . ابتلعّت ريقها، وكفّها المرتعشةِ تحمل ملابسها المرميّة على الكرسي، بينما عقلها البــاطن كان كمن أدرك أنّ لهُ علاقةٌ مباشرة بسببِ موتِها ، أنّ والدهـــا . . لم ، لم يكُن . . . !!
أخفضت رأسها وهي تتنفّس بقوةٍ وانفعـال، تشوّش تفكيرها وهي تتّجه للحمـام، أنفاسها تشتعلُ بعد ثلجيّتها لتُذيب كلّ شيءٍ في طريقها، فمها، حنجرتها، بلعومها، رئتيها ، تشتعلُ داخليًا وهي ترتدي ثيابَها في الحمام، ترتديها بآليّةٍ وهي تفكّر بعمقٍ عن الكلمـات.
انتهّت، لتخرج من الحمام وهي لا تزالُ باهتةً بملامِحها، تنظُر للأرضِ وتمشي بصمتِها الموبوء، اصطدمَت بأرجوان التي كانت تقفُ أمامها باستنكارٍ لشرودها، هنـاك والدها والآن هي هنا! . . تراجعت جيهان بعد اصتدامِها ذاكَ بها، نظرت لملامحها بشفتين منفرجتينِ بفتور، عقدت أرجوان حاجبيها وهي تقتربُ منها وتلفظ : بسم الله عليك شفيك؟ لا يكون تفكرين فيه من جديد!!
بلّلت شفتيها بلسانِها وهي تُشيح عينيها وتتنفّس بانفعالٍ والأسئلة تتفاقم وتتصارعُ في حنجرتها تُريد البزوغَ إليها، ابتسمت أرجوان بحُزنٍ عليها، وبخفوت : ما بقول ما يستاهل .. بس أنتِ اللي ما تستاهلين تفكيرك الدايم فيه .. حرام على نفسك.
رفعَت جيهان كفّها المرتعشةِ لتضعها على فمِها وهي تنظُر بأسـى لعينيْ أختها، تريد أن تفهم ما معنى ما قالته ليان، ما الذي يخفونهُ عنها! ما الذي يرتبِط بأمّها ولا يريدونها أن تدرِي عنه!!
ابتلعت ريقها بضعف، تمرّر بعض اللزوجةِ في فمها الذي جفّ وفي حنجرتها حتى تستطِيع أن تبعث الكلام بعدَ موته، أن تهمس بضعف : شفيها أمي؟ وش كانت مسوّية قبل لا تموت؟
أدركت أرجوان في نظراتِها وفي شفتيها اللتينِ تفرجهما حينًا وتُطبقهما حينًا آخر أنّها تريد أن تتحدّث وتقول شيئًا، اتّسعت ابتسامتُها لتضعَ كفّها على كتِفها وتلفظ بهدوء : شفيك؟ تبين تقولين شيء صح؟
ارتعشَت شفاهُها أكثر، لا تدري لمَ احتقنَت عيناها بدمعٍ استعدّ لموجةٍ صاخبةٍ من البُكــاء . . همسّت أخيرًا بضعفٍ بعد أن استطاعت دفع الكلماتِ بصعوبة : أمّـي .. وش كانت مسوّية .. قبل لا تموت؟
|