كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرجمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للرواية اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حُسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$
وعسى تكون الرواية شاهدة لي لا عليْ . . ()
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(75)*1
" اسمي هو جوزيف "
أمـال رأسـه وهو يلفُظها ببسمـةٍ خافتـةٍ لكنّ وراءها تجلّى الكثيـر من المكر ، عقَد يُوسف حاجبيه حين سمـع الاسم الذي نطقـه، وسُرعـان ما ابتسـم حتى ظهرتصف أسنانه، وباستحسـانٍ لـه : ياللعجب وأنا اسمـي يوسف .. الذي يعني جوزيف في الأصـل.
تميم : آه ياللصدفـة .. أنت عربي؟
يوسف يهزُّ رأسه بالإيجاب، ليردّ عليه تميم بنبرةٍ باسِمة : أدركتُ ذلك ... عينـاي لا تُخطآن تمييز الملامح.
يوسف : كيف حالك اليوم؟ هل تأذّيت كثيرًا؟
تميم : لا أنا بخير.
يُوسف الذي لم يُرِد أن يطُول بحديثِه معه، رغمًا عنهُ يشعر بالضيق هذا الصبـاح، يشعُر أنّ العيُون كلّها تتّجه إليه وإلى فتياتِه، يريد أن يصعد إليهنّ فقط ويحميهن، حقد رغمًا عنه على بدر، كيف أمكنه أن يفعل بِه ذلك! لفظَ بهدوء : أشكركَ مرةً أخـرى على ما فعلت لأجـل ابنتي .. لا أدري كيف أشرح لك مدى امتنـاني.
تميم : لا داعي للشكر .. من كان في مكاني سيفعلها، الاختلاف أنّني كنت الأقـرب فقط.
يوسف : حسنًا أراك فيما بعد.
ابتسَم تميم ولم يُضِف شيئًا، بينما ابتعـد يُوسف ببطء، وعينـاه تراقبانِه بلمعـانٍ شفافٍ وببطءٍ مُمـاثل، يزرعُ كفيْهِ في تُربـة جيوبِ معطفِه البُنيّ، يتبعهُ بأحداقِه وهو يبتعدُ حتى تلاشى عن عينيه في دهالـيز ما بين جدرانِ المبنـى الذي يسكُنه.
تنهّد بخفوتٍ دون أن يفقد ابتسامتـه، استدارَ وغيُوم السمـاء البيضـاء دافئـةٌ ناورها البرودةُ وابتعـد، هذهِ الغيُوم العذراءُ التي حملتْ في رحمِها جنينًا أسعف الدنيـا بصياحِ المطـر هذا الصبـاح، وفي المقابـل أنبتت الأرضُ خشيةً وطردت السكينـة في قلبِ الأب.
ابتعـد وعينـاهُ لا تُطيقان النظـر للنـاسِ من حولِه، يشعُر أن الدنيـا لا تحمِل سوى السُفهـاء، جُبل تفكيره على أنّ البشـر أغبياء، العربُ حمقـى، يتقاتلُون لكسرةِ خُبزٍ وهم شِبـاع، بينما الجيـاعُ يراقبُون بصمتْ، باهتزازِ القدرةِ على أفواهِهم وأيديهم.
ضجيجُ يتداخـل، الأرضُ تحتضنُ صفائـح شفافةً من بقايـا المطر . . شعـر فجأةً بكفٍّ اشتدّت على كتفِه وأدارتـه في اللحظـة التي تبدّلت فيها ملامحهُ متفاجئًا من الهجُوم الفُجائِي، ظهـر بدر أمامه، يشدُّ على أسنانهِ بحنقٍ وهو يرفعُ كفّه الأخـرى ويُمسك كتفهُ الآخر بقوةٍ تكادُ تحطّمه، وباحتقـار : وش اللي قاعـد تخطط عليه أنت والزفت جدّك؟
رفـع تميم كفّه اليُمنـى وهو يدثّر ملامحه بالبرود، نفضَ كفّيه عن كتفيه وكأنّه ينفضُ حشرة، وببرودٍ وهو يدرك أنّه يعنِي رؤيتـه لهُ مع يوسف : اللي هوّ .. بس طبعًا حاول ما تتدخّل عشان ما تتعب زود منت تعبـان.
بدر بحدةٍ من بين أسنانِه وهو يكادُ أن يضربه في أيّ لحظـة : وش تبي فيه؟ ماله دخـل فيني .. عرفني من قريب وماله علاقـة مباشرة فيني.
تميم بجمود : وأنـا أبي أتأكد من هالشيء أو عدمه، عشان كذا لا تعطلني.
بدر بغضب : يا حيواااااان.
تميم يبتسم باستفزاز : عفوًا محنا من نفس الجنـسْ .. لذلك أخاف ما تفهمني كويس من تلميحاتِي . . أنا ودّي أتأكد من علاقته فيك، عاد لو كنت صادق راح يبيّن فيه هالشيء بس لو كذّاب .. بقدر أميّزه حتى لو تصنّع العكـس ، فحـاول ما تتدخّل والا . . * أردف بلطف * بيموت مباشرة .. حاليًا ماني ناوي على شـر .. عشان كذا لا تخليني أنويه.
بدر باحتقار : ما تقدر على شيء !
تميم : لو حطيت براسي شيء بجيبه لعندي ..
مالَ قليلًا نحوهُ حتى همسَ لهُ قريبًا من كتفِه : على فكرة، هالمرّة جدي العزيز ناويها على كل شخص يضيّق خلقه .. ما كان يحب يقتل اللي ما يشكلون عليه خطر ، بس من باب يريح راسه من أي مشاكل مستقبلًا قرّرها تصفية مُبكّرة من فترة طويلة .. انتبه.
لفظَ كلمـته الأخيرة باستهزاء، ومن ثمّ تحرّك ليبتعدَ عنه بخطواتٍ بطيئةٍ مُستفزّة وهو يدسُّ كفيه في جيبيْ معطفِه . . وتركهُ خلفه، يشتعلُ كرهًا.
،
كـان بإمكـان الصبـاح أن يكون أكثـر حرارةً، لكنّهُ كـان باردًا في بوادِر صيفِه، للأسـف . . البرودةُ عانقَت صدرهُ بمعطفِ الرجفـة، عانقَت عينـاهُ بلحافِ الأسـى ، ورغمًا عن كلّ شيء ، عن خيبتِه وحقدِه، كُرهِه .. كان يشتـاق! لأنّ الكُره لم يتحلّى بالقُدرة الكافيـة حتى الآن على قتلِ الشوق.
ابتسمَ بعد كلماتِ غسّـان التي بكته، بعد أحرُفٍ اهتزّت بين أصـابعِ الخيـانةِ والغدر، الغُربـة جعلت منهُ انسانًا ضعيفًا، لا ! لم تكُن غربتـه، كـان حُزنه، بكلّ ما حدث ، بصدمتِه.
نظـر بعيدًا عن ملامحِه، هيئته .. تغيّر كثيرًا ، ليس كثيرًا جدًا، لازال يُشبهه، لكنّ ما اختلفَ فيه عنـه أنّ الحيـاةَ تسكُنه وإن كان بريقها مُتشتتًا الآن، جسدهُ اختلف، آخر مرةٍ رآهُ قبل سنين كان نحيلًا عن الآن وعن قوّةِ جسدهِ الفتي، بعكسِه هو، أحيـتهُ الدُنيا في بطنِ الموت، ولم يكُن يكبُر ويتقوّى أكثـر بحجمِ ما كـان يشيخُ فقط ، يشيـخ . . ما هذا الأسى! لم يتخيّل ولو لوهلـةٍ في سنين حياتِه كلّها أن يقفَ يومًا أمـام أخيه ويتذكّر الهيئات التي كانـا عليها قبـل سنين ، يا الله! كلّ ذلك كـان مكتوبًا لنـا قبل أن نولد، لم ندرِي أنّ المسافاتِ ستمتدُّ بيننا، أنّنـا سنغيب، سنغيب ، أو أغيبُ أنـا ، أن نختلف ، أن نقفَ في يومٍ مـا خصمين ، ويومَ القيامـة كذلك .. هو خصمِي .. للأسف! هوَ خصمـي ، للحُزن، للخيبة، للخُـذلان.
مرّر لسانهُ على شفتيهِ بسُخريةٍ وهو لا يُحاول ولو بضعفهِ أن يُعيد أحداقهُ إليه، لا يرى في ملامحه سوى الكذب .. فقط . . . لفظَ باستهزاء : للحين تكره الشعر يا شاهين؟
عقدَ شاهين حاجبيه، والأنفـاس يجتذبها لرئتيْه بصعوبـة، هذهِ اللوعـة التي تحرقُ معدتهُ وسعادتـه، تحرقُ كلّ شعورٍ بالفرحـة ، هذهِ اللوعـة التي لا يدري كيف يُخفيها ويبتسم، رغـم كلّ الحقدِ في عينيه وكلّ الصـد الذي يُخبره بوضوحٍ أنّهما اختلفـا، اختلفـا وباعـد بينهما دربٌ تشعّب ، مضى كلّ واحدٍ منهما في شُعب، ولا إيـاب! الحسرةُ ألّا إيـاب ، هل من العـدل أن يحدُث كلّ ذلك بيننا! هل من العـدل أن تُبتـر العلاقات بهذا الشكلِ الموجع؟
عضّ طرفَ شفتِه، لم يستطِع منع نفسهِ من اللفظِ بصوتٍ حـادٍ وهو يشدُّ على قبضتيْهِ بعُنف : ماهو ذا موضوعنا ! ما تهم هالأسئِلة التافهـة . . .
قاطعـه متعب وهو يوجّه أنظـارهُ إليه، بأحداقٍ حملَت بعض الرجـاء، بعض الرجـاء الذي شعر أنّه يكسر ظهره : تحب الشعر يا شاهين؟ والا مازلت تكرهه!!
ابتلعَ ريقه، لا يدري ما يُريد بسؤالٍ كهـذا، لكنّه سيرد، إن رأى في عينيه هذهِ النظـرة ، لن يصدّ كما يفعـل! . . ابتسمَ بحُزن : حبيته.
متعب بوجَع : كتبت شيء؟ حتى لو خرابيط .. قد جرّبت وترجّلت قصيد؟
شاهين بنبرةٍ تختنقُ وهو لا يدري أين سيصِل : أيه .. كتبت .. مجموعة خرابيط بس، ما تجي رُبع من كتاباتك.
ابتسمَ حتى بانَت أسنانه، أغمضَ عينيه ولم يستطِع أن يكتُم آهةَ حُرقةٍ أخـرجها بلهيبها الحـارقِ من صدرِه، لم يستطِع أن يحبـس هذهِ الحـرقة وهذا الوجـع، يشعُر بسكاكين ، تقطّع من جلدِه وتبتعد عن المنـاطق التي قد تقتلـه .. تريد بكلّ ساديّةٍ أن تعذّبـه فقط، تريد أن تجعلـه يتألّم .. يئن .. يئن ، ولا يتوقّف أنينه ، كيف ينثُر الملـح على جُروحِ الحـرب التي خلقَت مجزرةً في مشاعِره ، تنثُره يا شاهين على جراحِي الملتهبـة لأغصّ في ألمـها ولا أنساه.
لفظَ بحسـرةٍ وهو يضحكُ بسخريـةٍ مما وصـل إليه : حبيتها !!!
في يومٍ مـا ظنّ أنّه سيعُود ولن يكُون ألمـه سوى في الغـدر الذي أحلّه شاهين، ظنّ أن الألـم سيكُون عنيفًا، لكن ليسَ بهذا الشكلِ الذي يعتصـرُ قلبهُ بكفٍّ مُلتهبـة، ظنّ أنّه سيعُود ، وسيجدُ امّه وأسيـل تنتظرانه، هُمـا من ستسكنـان حُزنـه في لحدِ الممات . . كلّ تلك الظنُون ، خذلته ، كلّ تلك الخيـالات، غابَ شمسُها وتلاشَت ، كلّ الأمـل في نسيانِ الحُـزن اندثـر .. ماذا بقيَ له؟ ماذا بقـي له؟ استكثرتَ عليّ حيـاةً وامرأة، استكثـرتها عليّ يا شاهِين . . مُعـاذ الله يـا قلبِي .. لم أعِذك من حُزنك، ربّمـا قصّرت في حقِّك، وجـاء عقابي قاتلًا، جـاء عقابِي بانصهـار الحديدِ الذي صُبَّ في حُنجرتِي، أحترقُ واللهِ بكلّ هـذا، أحتـرق ولا أُجِيد الكـلام بعد الألـم، تؤذيني الكلمـات أكثر، لأنّها تخرج، بعد عبُورها بمحطّةِ الاحتـراق.
أجفـل شاهين بعد كلمـته تلك، فهمَ أخيرًا معانِي أسئلته ، لم يستطِع سوى أن يرفعَ كفّه ويفتح أوّل زرّين من ثوبه وهو يشعُر بالاختنـاق يتضاعف، يُشتت عينيه بخِزيٍ وألـم، يشعُر أنّ جسدهُ يتفتّت، يتبدّل تكوينـه ليتلاشى .. كيف يستطِيع رفـع أحداقه والنظـر لعينيه وكأنّ لا شـيء حدث؟ كيف يستطِيع؟ كلّ هذا الصمُود لأجلـه، لأجـل أن يعودا ، يريد أن يرجُوه بأن يعُودا ، وليحلّا المُعضلـة بعد ذلك، كلّ شيءٍ باجتمـاعهما سيكُون سهلًا ، يُريد أن يعُودا فقط ... فقط!!!
أردفَ متعب وهو يضعُ كفِه على جبينِه المُصـاب بحُمّى الخُذلان، بنبرةٍ مُهترئةٍ بسخريـتها : صرت شويعر عشانها .. يا الله! يا الله يا شاهين حبيتها!! حبيت زوجتي يا قوّ هالكلمـة على قلبي !! يا قوّ كـل شيء على اللا شيء اللي فيني ! أنـا فراغ ! للأسف فراغ !!!!
شاهين بغصّةٍ ورجـاء : الله أكبـر من هالفـراغ !
متعب بصوتٍ يحتدُّ قهرًا وهو يُطوّح بكفيه غضبًا : عشـان كذا غدرت فيني؟ كنت تحبها من قبل؟ كنت تخونني بحبها؟ قتلتنـي بغربتي .. قتلتني عشانها !!!!
شاهين بحدة : متعب الا هالكـلام! أدري إنك مقهور بس لا تفسّر كل شيء على كيف قهرك!
متعب يبتسمُ بسخريةٍ وهو يحترق، يكادُ أن يقتله الآن من شدّة غضبِه : تزوجتها وإنت تدري إنّي حي ! عاشـرتها بالحرام يا شاهين !! بالحـرام بس لأنّك تبيها؟ تبي زوجتي؟!!!
آآآه يا الله !!!
أدارَ وجههُ بقوّةٍ وهو يغطّي عينيه بإحدى كفوفِه، ابتسامتـهُ لازالت هُنـاك على شفتيه، ابتسامتـه الساخـرة التي صمدت بعد آهتهِ المستوجعَة ، التمـع الحُزنُ بقوّةٍ في أحداقِه وأخفى التماعها بكفِه ، لمَ يُخفي؟ أليـس من بكاهم كثيرًا، وبكـى نفسه، أليس من تحسّر كثيرًا بدمعـة ، أليسَ من سقطَت دموعه على ورقة!!! لمَ يُخفي حُزنه الآن ما إن تضاعف؟ بـات حمله صعبًا ، صعبًا جدًا!
نظـر إليهِ وهو يتركُ للهـواءِ تجفيف الحُزنِ من مقلتِه، لم تسقُط، لكنّها خُلقت ، وسيئِدُها قبل أن تسقُط ويراها، انزلقَت كفّه إلى حنجرتهِ ليضغطَ عليها بقوّة، يُخبـره بحركاتٍ لا يعيها أنّه يمُوووت، أنّه يختنقُ مثلـه، يُخبرهُ أنّه يهوِي في مُحيطاتٍ سوداءَ لا يرى فيها زعـانفَ ضوء، انطفأ كلّ شيءْ ، انطفأ النهــار !!
لم يكُن شاهين يستطِيع أن يُدافع عن نفسه، لا يملكُ شيئًا حتى الأساليبُ في الاقنـاع لم يعُد يدركها. متعب بصمتِ الهدوءِ في صوتِه : تدرِي .. ليتك جيتني قبل ثلاث سنين تقريبًا ... وقلت لي خاطرِي فيها .... لا لحظة لا تناظرني كذا ، طبعًا ماراح أقُولك بكل بساطة هي لك وتستاهلها ، هه! ماهي سلعـة ، هي حبيبتي! ولو إنّك جيتني بيوم وقلتها لي كـانت بتنتهي أشيـاء كثيرة بيننا ، مثل الحين ... بس تدري الفرق وين؟
عقدَ حاجبيهِ وهو يهزُّ رأسهُ لا يرضى بالكلمات والتفسيراتِ التي يلفظها من بابِ غضبِه، بينما أكمل متعب بسخرية : الفـرق بأنّك لو اتّبعت الطريقة الأولـى كان ممكن بهالوقت احنا واقفين ونضحك مع بعض، كنّا تجاوزنا كثير عن أخطـاء بعض كالعـادة، مهما كبِر شيء بيننا ومهما بقى بقلبنا، كنّا بنتجاهلـه، وكنت بتناساها وأقول معليـش ، غِلِط . .
أردفَ بعد أن شهقَ بكمٍّ كافٍ من الأكسجين يؤخّر اختنـاقه : بس الحين! للأسـف يا شاهين ، ذبـل هالدم اللي يجمعنا ... ذبحتني عشانها ! ذبحتنـي ثلاث سنين ، ذبحتنـي عُمر ، عشانها !!!
شاهين بخفوتٍ باهت : ذبحتك!
متعب بحقد : بأقـسى طريقة.
شاهين بأسـى : ذبحتْ تراب قبـرك من كثـر ما لامسته ورجيته يكون بارد عليك .. ذبحت سريرك من كثـر ما حاكيته ريحته لا تروح! ... ذبحت الهواء اللي بغرفتنـا، ما أفتح النوافذ، ما أترك الباب مفتوح .. عقلي الغبي يقول هالهواء هو نفسه اللي تنفسه متعب قبل سنين، لا تجدده! تنفسه معـاه .. بيبقى حيْ! . . . بحق ربك شلون تقوى تقولي أذبحك وأنا أنت .. عشان تبقى حي!
تنفّس بانفعـالٍ وهو يسندُ كفّه على السيارة التي لم تكُن سوى سيّارة شاهين، نظـر جانبًا لسوادِها، لالتمـاعها بصورتِه المِنعكسـة بفوضويّة الحُزن على ملامحِه، صدرهُ يرتفعُ لأقصـى درجات الانفعـال ولا يُجيد الهبُوط . . لم يشعر بكفّه التي ارتفعَت فجأة ، ليهوي بها بكلّ قوّةٍ على سطحِ السيارة ويضربَ هذا الانفعـال في جسدهِ وهو يصرخُ بملءِ حُنجرتهِ وصوتـه : كفااااااااااااااايـــة . . * نظر نحوهُ ليُردف بصوتٍ غاضبٍ وعروق عنقهِ تنفُر * كفايـة كذب .. كفايـة تمثييل خلاااااااص ... ندري عن بعض، ندري بكل شيء ، تكمل تمثيل ليه؟ ليييييه؟!!
بهتَت ملامحُ شاهين لانفجاره، تنفّس بقوّةٍ وهو يتحرّك بخطواتٍ مُنكسـرةٍ نحوه ويعقدُ حاجبيهِ قليلًا، وبخفوت : تمثيل أيش واللي يعافيك؟ ما أقدر ألومك بس بطّل هالدراما.
رفعَ متعب كفّه في وجههِ حتى يمنعهُ من متابعةِ خطواتِه نحوه، وبحدةٍ من بينِ أسنانه : لا تقرب .. صدقني ماراح اتردد بذبحك ، خلاص أنا طقيت منك .. بنسى إنّك أخوي مثل ما نسيتني وبذبحك!
شاهين بإصرارٍ أكمـل خطواتهِ وهو ينظُر بقوّةٍ لعيني متعب التي تشتعلُ أكثر وأكثر كلّما اقترب، يشدُّ على قبضتيه وكأنّه يستعدُّ فعلًا لتمزيقه .. وقف أمامه مباشـرة، لا يفصلُ بينهما سوى خطوة، بينما كانت عينا متعب تنظُر لهُ بحذر، لم يستبعد أن يُحـاول في هذهِ اللحظـة قتله، بل للأسفِ كان شبه واثـقٍ بذلك.
لفظَ بجمود : لا تحاول تسوي شيء ، صدقني ماراح تعدي على خير مثل كل مرة.
شاهين بغيظٍ من بينِ أسنانِه : تستهبل؟ غبببببي أنت؟؟! هالسنين غيّرتك والا زواجِي؟ شلون تفكّر بهالطريقة المريضة؟!
رفعَ شاهين يدهُ إليه، لم يستطِع منع كفيه من القبضِ على مقدّمةِ جاكيته وشدّهِ بغضب، عقدَ متعب حاحبيه وهو يُمسك معصمه بقوّةٍ كادَت تحطّم عظامه، بينما لفظَ شاهين بحرارةٍ وقهـر : أنا شاهييييين .. أخوك ، شلون بضرّك؟ بطّل هالتفكير المريض ، لا تحجّم الموضوع بهالشكل !! أنا شاهين اللي تمنّى كثير تكون ليلة عزاك كابُوس شفته بمنامي وبصحى ألاقيك نايم قريب .. بذبحك!! أذبحك وأنا ما أدري الحين أفرح والا أحزن لأنّك حي وكنت ميت سنين ؟!!!
متعب بسخرية وهو يضغطُ بقوّةٍ على معصمهِ وكأنّه يُريد تحطيم عظامه فعلًا، بتر صوتِه الكاذب، تفريغ قهرهِ بالقليلِ من إيـلامه : أخوي؟ هه . . ضرّيت هالمعنى كثير ... أنت مجرد حقيييير ، للأسف مجرد حقييييير ووصخ وما عرفت هالشيء الا متأخر!
اتّسعت عيناه دون تصديقٍ لكلمـاتهِ التي يقُولها، الحقد في عينيه ، لا يعقل أن يكون كلّ ذلك لموضوعٍ لم يقصده ! لا يعقـل أن يرى هذا الحقدِ فقط لأنّه تزوج بأسيل وهو لا يعلم أنّه حي !! أن يكُون فسّر كل شيءٍ كمـا يحلُو له، فسّر أنّه كـان يريدها منذُ زمـن . . ما هذا الجنون الذي يجعلهُ يحلّل كل ما يحدث كما يريد؟!!!
لم يُبالِي بكفّه التي تغيّر لونها من شدّ متعب على معصمِه، عظامهُ التي صخبَت بألمـها الذي لم يشعر بهِ فعليًا وهو يهمسُ ببهوت : ليه هالنظرة؟ هالكلام !! تتبرّأ مني عشان شيء ما قصدته ! لأنّي تزوجت بأسيل وقت غيابك؟!! ماهو ذنبي! لا تلومني على شيء هو خطأك أنت ! أنت غايب لهاليوم حتى رسالة ما أرسلت !! وتلومني أنا؟!!!
متعب بغيظٍ لم يشعُر إلا وكفّه الأخرى ارتفعَت بقبضتِه الغاضبـة، لكمـه بقوّةٍ فرّغ فيها صـرخةَ سنينَ وأشهـر، صرخـة غدر ، فرّغ معهـا حُزنه، فرّغ معها غُربتـه ، وسمـاءً اشتكـى لصفيحتها أيامًا، فرّغ معها رسوماتٍ خطّها على الورق، كلماتٍ رقصَت رقصـةَ باليه بطيئةٍ على الأسطـر، بانسيابيّةٍ لا تستقيم! فقد استقامـة أصابعهِ فوقها، فقد القدرة على الكتابـة بثباتٍ وكان في كلّ مرةٍ يخطُّ " فضفضةً " ترتعشُ أناملهُ فتتعرقلُ ساقطةً للسطرِ الذي وراءها .. حلفَت الأيـامُ ألّا تجعلـهُ يرتـاح، ألّا يشتكي، وألّا - يُفضفض -!
جـاءته اللكمـة قُرب أذنه، وكانت قويّةً بشكلٍ كافٍ حتى يشعُر بطنينٍ أخبرهُ بصدَى لا يتوقّف أنّ من أمـامه كان حاقدًا، حاقدًا بقوّةٍ لا تتّسع زواجـه فقط! حاقدٌ وهذا الحقدُ صقِل لسنين، وليسَ لفترةٍ بسيطةٍ فقط!
لم يسعهُ أن يستوعبَ تلك اللكمـة حتى جاءتهُ ركلةٌ من ركبتهِ على معدتِه، أغمضَ عينيه بألمٍ وهو ينحنِي وكفيهِ تسقُطانِ من على مقدّمةِ معطفِه . . أمسكَ متعب بيدهِ اليُمنى ليرفعهُ من انحنائِه ويقبضَ أصابعهُ بقوّةٍ يُريد تحطيمها بحقدِه الذي أثمـر أخيرًا بانفجـارِه.
لفظَ بنبرةِ احتقـارٍ وحقد : ألومك ليش ومافيه مُلام غير ثقتي فيك .. أي ثقة؟ مافيه مُلام غير هالدم! اللي خلّى الثقة شيء فطري بيننا، الحُب شيء فطري، كل شيء حلو كان فطرِي! شلون ملت عن الفطرة؟ شلون مِلت وغدرتني؟ ذبحتنـي ودفنت جثتي ليه! حسبي الله عليك .. حسبي الله علييييييك يا شاهين !
،
في جهةٍ مواريـة، يعصُر الغضبَ حتى يسيلَ ذائبًا من خرقةِ الوقتِ البـالي . . يسندُ مرفقيهِ على الطاولـة، ينظُر للأمـام، لظهرِ الرجُل الذي أمامه، والقهوةُ التي طلبها بردَت وانسكَب منها رذاذْ ، كان يحملُ في كلّ قطرةٍ منـه وجهها، وكلماتها، وتمرّدها!
زمّ شفتيه بانفعـال، ومن ثمّ مدّ كفّه ليرفع الكوبَ ويرتشف من برودتِه التي صنعَت من مرارتِه " لذعَة " ألهبَت لسانهُ بشتيمةٍ خافتـة : تبِـن !!!
وضعَ الكوبَ بقرف، لوَى فمهُ بحنق، لولا الأولويّة هنـا لترك المكان وذهبَ إليها ليُقيم الأرضَ ولا يُقعدها، لكنْ هُنـاك ماهو أهمٌّ الآن ويجب أن يصوّب تركيزهُ إليه.
هاتفهُ المغضوبُ عليهِ صـرخ، حملهُ بمزاجٍ سيء، لكنّه حين رأى المُتّصل ترك لملامحه الانبسـاط رغمًا عن انفعالاتِ الغضب، ردّ على أحد الذين هُم الآن قُرب متعب، وبلهفة : هاه وش صاير عندكم؟
الآخر : تطمن ، جاء لوحده وواضح ما بيده شيء عشان يأذيـه . . بس ..
أدهم يعقدُ حاجبيه بتوجس : بس إيش؟
الآخر : تضاربوا!
أدهم باستنكار : نعم!!!
الآخر : تطمن متعب اللي يضرب ، هو جامد ما رد عليه للحين !
اتّسعت ابتسـامةُ تشفّي على وجهه، استرخَت ملامحه وشعر أنّه الآن " رايق "، أعـاد ظهرهُ للخلفِ ليسندهُ على الكرسيّ ويهتف بصوتٍ مرتـاح : لا تتدخـلون ، أخوان خلهم يحلون مشاكلهم بين بعض ههههههههههههههههههه
ابتسم الآخر : لئيم!
أدهم بجدية : عاد مو تصدق ، إذا تجرّأ الحيوان ذاك عليه شوفوا شغلكم .. وطنشوا الغبي متعب لو منعكم ما عليييكم هو عاطفي بزيادة.
الآخر يقلّد نبرة صوتِه باستهزاء : أخوان خلهم يحلون مشاكلهم بين بعض . . . * ليُغلق *
ضحكَ أدهـم بشرٍّ وهو يُخفض هاتفه، وبخفوت : أيه يا حبيبي اضربه وطلّع حرّتك فيه .. بعد عيب يسوي كل ذا فيك وتسكت !!!
،
بينما بينهما اشتعلَت نيرانُ غضبِ متعب ولم تنطفئ، ولو أنّها كانت مرئيّةً حيّةً لأحرقت كلّ ما حولهما وهُما أيضًا.
الكلمـاتُ حطَب، كـانت تزيدُ النـار، نظـرات شاهين وقُود، تُلهِبها أكثر وتجعلها سوداءَ داكنـةً بتفاوتِ درجاتِ حقدِه.
سمعَا صوتَ فرقعةِ أصابعه، لكنّ كلًّا منهما لم يهتم، متعب بحقدهِ لم يُبالي إن كان سيحطّم عظامه، وشاهين بدورهِ كان ينظُر لملامحهِ بصدمة، يغفِل عن ألـم جسدهِ في هذهِ اللحظـة، يُفرج ما بينَ شفتيْه باستنكار، وتُخلقُ بين حاجبيه شبهُ تجعيدة . . وهو يهمس باستنكار : مِلت عن الفطرة! ذبحتك ودفنتك؟ .. أنت وش تقول بالضبط؟ دفنتك لأنّك أنت اللي ذبحت نفسك وبعّدت عن هالحيـاة! أجل تبيني أعلق جثتك بغرفتنا مثلًا؟!
استفزّه استهزاءه الذي لم يكُن استهزاءً بحجمِ ما كانَ استنكارًا، عضّ شفتهُ بحنقٍ ليتركَ يدهُ الموبوءةَ بغضبِه ويُمسك بعنقهِ بحدّةِ قهره، وبنبرةٍ تحتدُّ ببطشِ انفعالاتِه : طبعًا لا .. ما بغيت منك غير تسكت من قبل لا أمُوووت! ما تقُولهم ويني عايش فيه! ما تعلمهم بمكانِي بميونخ عشان يوصلون لي ... كل اللي بغيته تكون أخوي وتسندني بس! ما تغدر فيني ! ما تذبحني وتمشي بجنازتي وتصلّي علي صلاتك الكـاااذبة! طُول عمـري .. كنت حاط ببالي كلّ الناس تغدر ، بس أنت لا .. أنت تخلِص في كومـة غدرهم!!
مرّرت الصـدمةُ بحدّها المنقوعِ في سمٍّ رُعـافٍ نفسها على ملامحـه، انبسطَت عضلاتُ وجههِ وتجمّدت أحداقهُ وهو ينظُر لهُ بنظراتِ اللا فهمَ والإدراك ، بنظراتِ الاستنكـار لما يقُوله، الطلاسمُ التي نطقها بعضلةِ لسانِه الملتويةِ على انحناءاتِ الأسـى.
لم ينطق بغير البهوتِ على ملامحهِ وهو يترك لهُ المتابعـة بقهرٍ حارقٍ حتى يفهم ما معنـى طلاسمه : ولا فوق كل شيء كنت مبسووووط ، مبسوط بفيصل وأنا على مقصلته ، مبسوط وأنا أتعذّب ، مبسوط إنهم بيذبحوني . . فرحتـك هذي هي اللي خلتني خلاص أقتنـع بأن ثلاث سنين تقريبًا .. راحت عدَم ، والسبب أنت! فرحتك هي اللي خلتني أصدّق إنه أنت .. آخر موقف في بارِيس ، آخر هجوم وآخر محاولـة اغتيال .. هي اللي صفعتني وخلتني أصدّق إنك أنت اللي خذلتني وكنت معاهم عشان بس أمووووووت.
دفعـه بقوّةٍ بعد تلك الكلمات، تراجع للخلفِ بعنفِ دفعتهِ وسقطَ جالسًا من وهنِ جسدهِ الذي أصبـح فراغًا، أصبـح هشًّا، رخويًا، وكلّ التكويناتِ الواهنَة! أصبـح بتكوينٍ يكفيه ألّا يستقيم، أن يهتزَّ وينكعفَ على توازنِه .. بينما الكلمـات كانت تدخُل بعنفِ السهامِ المندفعـة إلى أذنيه، يترجمها عقلهُ ببطءٍ قاتـل، يفهمها حرفًا بعد حرف، تتداخـل فيها الأبجديات فيستغرق زمنًا حتى يستوعب ، أنّه غدره! وسـاعد في مقتله، أنّه كـان فرِحًا في غربته، أنّه كان السبب في تلك الغـربة، السبب في غيـاب متعب ، وهذهِ الحُرقة في عينيه، الحقد، الألـم ، كلّها زرعها فيه ... لانّه غدره!!! أهــذا ما ظنّه؟!!!
نظـر للفراغِ بصمتٍ كئيب، عينيه تُظلمان، قلبـه تخفتُ نبضانه، عروقهُ تلتهبُ وتتمزّق، جسدهُ كلّه يتمزّق، وصوتُه يتلاشـى في عدمِ الفراغ، تآكلَ الهواءُ من حولِه حتى فقد صوتـهُ قدرته على العبُور، على الوصُول إليـه، فقد الكـلام قدرته على الكـلام يا متعب! فقد القدرة بعد أن فقد الاستيعابُ محلّه.
يحرّك شفتيهِ بصمت ، دون صوتِه الذي دخـل في غيبوبةِ الصدمة، يقُول لهُ باختنـاقِ نبرةٍ تحتضر، بشفاهٍ ترتعش، بقلبٍ يهوي، وأضلعٍ تتحطّم : مجنووووون لو ظنيت فيني هالظن! مجنوووون يا خـــوووي ... مجنــــووووووون
لكن كيف تصلهُ الكلماتُ والصوتُ ماتَ في الحُنجرةِ ودُفنَ فيها؟ كيف تصله؟ بينما صوتُ متعب .. لازال يصله! بكلماتِه الحاقدة حقدًا شعر أنّه الآن يسلخُ جلده، هذا الحقدُ زرع بيننا! هذا الحقدُ منْ شفاهِكَ يُتلى! يا الله !!!!
متعب بنبرةِ خُبثٍ مُنتقم : إذا تبيني أمُوت ، ما متّ، إذا تبي أسيـل .. فماهي لك ... عفتها ، عفتها ولا عاد أبِيها ، بس بتظل لي ، لأنّك بس حبيتها! وأنا أبـي أقهرك بس !!! ما عاد أبيها بقلبي ، بس أبيها بحياتي ، والشـرع واقف بصفّي وبصف انتقامي . . . أسيل اللي ذبحتني عشانها ، زوجتي أنا . . عشان بس أحرقك مثل ما أحرقتني !
،
In your eyes
I see the sea
I see the blue of the water
In your eyes
I see the sheet
You write in it
Your tears
أغمضَت عينيها بقوّة ، لمحـةٌ من الحُزن عـادت بضعفين من حُزنها الذي كان قد بدأ يتناقـصُ تدريجيًا، لكنّه الآن عـاد، يوخزُ قلبها الذي عاد ينتمِي لعالـم الموتَى النابضين بشطرِ حياة . . كـانت أغنيةً قديمة، لا تدري لمَ تسمعها الآن، رُبّما لأنها تحكِي حالتها الآن، تبكِي بصمتٍ وقهرٍ من الفشـل، تكتبُ دموعها على صفحةِ عينيها من الأسـى، ليس حُبًا الآن بقدرِ ما كـان فشلًا، لا تدري ما الذي فعلتهُ بالضبط حتى يطردها من حياتِه بهذا الشكل!
حملَت هاتفها وأغلقَت الصوتَ المبحُوح المنبعث منه، لطالمـا كرهت الأغانـي التي تجعلها تحزنُ أكثـر، منذُ زمنٍ قاطعتها، تحديدًا بعد موتِ متعب، فهي كـانت حزينةً كفاية، ولا تريد مزيدًا من الحُزن، تكـادُ تموت، وهذا الحرامُ المنبعثُ من الحناجِر والآلآتِ سلاحٌ آخر يزيدُ في احتضارها.
جلسَت على السرير كجلُوسها المُعتاد بعد وفاة متعب حتى زواجها بشاهين، ترفعُ ركبتيها لصدرِها وتلفّ ذراعيها حولهما كنوعٍ من الحمايـة، رُبّما الحماية من الحُزن! يا لوهنِ درعها!
زفـرت بضيق، ومن ثمّ نظرت للمفرش السُكريّ الناعم أسفلِها وهي تهمسُ بغصّة : فشلت معاه يا متعب .. فشلت مع أخُوك ... كان من بين كلماته نطق اسمك! وش كان يقصد بكلامه؟ وش دخّلك بكل اللي صار وباللي سوّاه فيني! * أخفضَت رأسها لتحشُر ملامحها بين ركبتيها هامسة * سمع منّي شيء! قلت شيء مثلًا وأنا نايمة !!!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تتأوّه، شدّت أكثر في احتضانِ نفسها وهي تشتمُ ذاتها، هل يُمكن أن يكون سمعها تقُول شيئًا ما في نومها؟ هي لا تتحدّث نائمة، لكنّ كلّ شيءٍ مُتوَقع، وشاهين لطالما كان حليمًا معها، حتى في ليلة زواجهما تغاضـى عن وقاحتها وعن كلّ شيءٍ بالرغم من كونِها توقّعت منه حدّةً في الرد، لكنّه كان حليمًا وسامحها! وفي المقابِل ... قال لن يُسامحها مستقبلًا وانتهَى مجـال الغُفران، فبالتأكيد فعلت ماهو خاطئٌ حتى تركها فجأة !!! . . عضّت شفتها السُفلى ودمعةٌ تلتمعُ سقطَت بعد دموعِها الأولى، همسَت بضيقٍ وهي تظنّ أنّهما انتهيا بسببها، لأنّها فعلت شيئًا لم تُدركه، وكان ما فعلته هو النهاية، فهو قال لن يغفر للمزيد! : يارب سامحني ، يارب سامحني وسامحه على اللي قاعد يسويه فيني بهالوقت ،
لأنّه أدخـلها في دوّامـة التفكيرِ هذه ... دون خروج!
أيقظها من حالـة الأسـى هذهِ صوتُ رنين هاتفها، رفعَت رأسها ببؤسٍ ونظرت إليه للحظـاتٍ قبل أن ينكسِر جمودها وتمدَّ كفها نحوَه، حملته ببطء، وتطلّعت بالرقمِ لتبتسم بشوقٍ رغم ضيقها، ردّت عليهِ لتلفظَ مباشرة : زعلانة منّك يا القاطِع.
ابتسمَ من الجهةِ الأخـرى ليلفظَ بإرهـاق : كل يوم أتّصل على امي .. وكم مرة أتّصل عليك وما تردين مين القاطع الحين !
أسيل : تتّصل بوقت غلط وما يكون الجوال حولي.
فواز يرفعُ حاجبه الأيسر : ما تعرفين ترجعين تتّصلين علي؟
أسيل باستفزاز : اللي يبيني يحاول يتصل مرتين وثلاث.
فواز يبتسم : يا شينك لا تغلّيتي.
أسيل بغنج : ما يحق لي؟
فواز بهدوء : لا تتصنّعين !
صمتت فجـأة، بينمـا زفـر فوّاز بضيقٍ وهو يسمعُ في صمتِها حُزنًا مريرًا، همسْ : وش صار بينكم؟
شتت عينيها بصمتٍ بائس، لا تسألني هذا السؤال الذي بحثت عن جوابِه لأُرهِق نفسي في النهاية ولا أعثُر سوى على الحُزن والمزيدِ من كلماتِ الفشل!
همسَت بضيق : ولا شيء.
فواز باستنكار : ولا شيء! كذا بس حب يتركك؟
أسيل التي سمِعت نبرة الغضبِ في صوته، لفظَت بدفـاع : يمكن أنا الغلطانة!
فواز بتعجب : يمكن !!! أسيل لا تحاولين تدافعين وبس .. هو حتى ما فكّر يرد على اتّصالاتي واضح قاعد يتهرّب لأنّه بس غلطان !!
أسيل بتشتت، رغم قهرها ممّا فعل إلا أنّها وضعت احتمـال أن تكون أخطأت ضمن تفكيرها، فهو لم يكُن ليطردها من حياتِه فجأةً بعد صبره، لم يكُن أبدًا، نطقَت بخفوت : ما كان بيننا مشاكـل ، يا كثر ما صبر عليْ وتغاضى فاللي صـار الحين ما يخليني أفكر غير إني غلطت بشيء! ويا خوفي لو كان لا !!
فواز بغيظ : لا تقللين من قدرك عشانه .. أنا بوريه شغله بس يرد علي بالأول.
ضحكَت رغمًا عنها وهي تمسحُ على خديها التي جف منهما الدمع، وبرقّة : لو أدري مشكلة بيني وبين شاهين بتخليك تتكلم معاي كذا كنت من زمان شِلت عفشي وطلعت من بيته.
فواز بحدة : لا والله !
أسيل : والله .. اشتقت لصوتك ذا .. صاير بارد من فترة طويلة ... متغيّر مرة من بعد ملكتك على جيهان قبل سنة ونص.
سمعَت بوضوحٍ تحشرج أنفاسِه وتعرقلها، صوتهُ الذي تغيّر فجأةً وأصبـح باردًا وهو يلفظ : اتّصلت عشانك ماهو عشان جيهان أو غيرها !!
أسيل وشفتيها تُظهران شبح ابتسامة : قبل سنة ونص هربت ، كنت متضايق بالرغم من فرحتك .. يا كثر ما تمنيتها وأمي ترفض تبي أرجوان ! ولمّا حصلت الفرصة تزوجتها .. بس بعدين سافرت، هربت وللحين هارب ، أدري تقدر بأي لحظة ترجّع شغلك لهنا بس أنت ما تبِي .. خصوصًا بعد ما طلّقتها، تبي تكون قريب منها هناك صح؟
فواز بحدةٍ غاضبة وهو يوسّع عينيه رافضًا لكل تحليلاتِها : ماشاء الله صحى هولمز اللي فيك وقمتي تحللين بمزاجك ، يا ماما تراني بس متزوج غيرها مو عن أبي أكون قريب منها !
أسيل بابتسامة : أدرِي .. علمتني امي بعد ما قلت لها بأيـام قليلة .. حتى ديما صارت تدري .. وكلنا زعلانين منك.
فواز بسخرية : لا حبيبتي لا تحاتين تلاقين امّي مبسوطة.
أسيل باعتراض : يا سلام أجل كانت ما تبي جيهان اللي نعرفها كلنا وبتوافق على بنت غريبة ماقد شافتها؟
فواز بهدوء : تراها حلوة وبتعجبها.
أسيل بضحكة : تكذب على نفسك؟ أدري ما بعد جيهان حلوة بعينك.
فواز : تراها أحلى من جيهان بعد.
أسيل بحدة : فواز خلاص أدري منت مقتنع بكلامك فلا تقعد تسوي هالمقارنات بس عشان تقنع نفسك . . أنت تحب جيهان وماراح تحب من بعدها، تشوفها الأجمل ومستحيييل تتجمل بعينك بنت غيرها . . فلا تحـاول تتأقلـم مع وضعك بأسلوب ما تعرف له ولا تؤمن فيه . . عمرها المقارنات ما كانت حل ولا طريقة لإقناع الذات.
تنهّد فواز وهو يُدرك أنّ كلامها صحيحٌ لا يستطيع الجدالَ فيه، لفظَ بنبرةٍ هادئـةٍ كانت تخفي خلفها الكثير من الأعاصيـر : مضطر أقفـل . . وبحاول أتّصل بشاهين وأكلمك بعدين.
،
دخـل لمكتبِه بهدوءٍ دون أن يطرقَ البـاب حتّى، رفـع الآخر عينيه إليهِ ليرفعَ أحدَ حاجبيه ويُخفض الآخر وهو يلفُظ بجمود : قفل الباب وراك وتعال .. بتغاضى عن قلّة أدبك المعتادة الحين.
ابتسـم رغمًا عنهُ ومن ثمّ أغلق البـاب واتّجه إليه، جلسَ أمام مكتبِه وهو يراهُ يغلقُ بعض الأوراقِ التي كان يقرأها ويوقّعها ومن ثمّ يضعها جانبًا : وش هالأوراق؟
سعود بجمود : مالك شغـل.
تميم بابتسامةٍ لئيمـة : ورني عاد ما يضرك . .
مدّ يدهُ يُريد أخذها، لكنّ سعود أمسكَ بكفّه بقوّةٍ ليلفظَ من بين أسنانهِ بحنق : جعلك الكسر اترك حركـات الحريم هذي ! تمرجــل !!!
تميم ببرود : حُب استطلاع ماهي منحصرة على حركات حريم .. زهقّتني من هالكلمـة.
سعودْ بتجهّم : حب استطلاع أجل؟ حتى هذي اتركها عنّك ما أحبها.
سحبَ تميم كفّه ليتكتّف ويلفظَ بملل : وأنا بجلس على نار اللي تحبه واللي ما تحبه يا شيخنا الكريم؟
سعود يحمل الملفّات بعد أن أشـاح نظراته عنه، سحب الدرج ومن ثمّ وضعها فيهِ وهو يهتف : تدري إنّي ماني بكريم.
تميم : أدري إنّك حاقد عليْ بسبب الكم يورو اللي تصدقتها عنك.
نظـر لهُ بعينين تشتعلانِ شررًا وذكر هذا الموضوعِ يستفزّه، وبغيظ : الكم يورو؟!! هذا ردّك؟
تميم يُعيد ظهرهُ للخلفِ وذراعيه خلفَ رأسه يضعها حائلًا بينهُ وبين الكرسيّ، وببرود : قاعد أحاتيك هذا بدل ما تشكِرني .. دام الفلوس اللي عندك كلها حرام ومافيه فايدة منها تصدّق بشوي يمكن تشفع لك عند ربّ العالمين.
سعود باستفزاز : يا شينك لما تصير صالح من حيثُ لا نحتسب.
تميم بابتسامةٍ مشاكسـة : المشكلة إنه - من حيث لا نحتسب - .. أنا نفسي ما عرفتني.
سعود : أفهم من مواعظك ما عاد تآخذ مني فِلس .. وبشوف ترجع لمين.
تميم يعتدلُ في جلستِه : افا وتبي تخليني على خطّ الفقر؟
سعود : هذا اللي تستاهله.
تميم : لا تقعد تتمنن علي ترى جزء من صفقاتك وتجارتك أنا أساسها.
سعُود يغيّر نطـاق الموضوعِ فجأة : خلنا من سوالفك التافهة .. أيش صار معك؟!
تنهّد وهو يفرشُ ذراعهُ الأيمن على طاولـة المكتبِ ذات اللونِ الخشبيّ، وبجمود : قابلتـه.
سعود : خلاص حفظت بيته وين بالضبط؟
تميم الذي لا يُريد أن يعلـم بكونِه يعرفـه منذ وقتٍ طويلٍ نظرًا لمراقبتهِ لِبدر حتى بات يُدرك من يعرفهم : أيه بعمارة بحـي *** بس ما بعد عرفت رقم الشقة.
أردف بجدّيـة : بس ما أظـن له علاقـة ممكن تضرك ببدر ، واضح مجرد شخص عـابِر ماله بوجع الراس.
سعود بجمود : مافيه شيء يثبت كلامك.
تميم يرفعُ حاجبيه : وعلى هالأسـاس ودك تذبحه؟ أجل تصرّف مع بناته بعد أما تقتل الأب اللي ما أظـن لهم غيره هنا! امسح العائلة كلها من الوجود مرة وحدة.
سعود بحدة : كأنّي أسمع نبرة اعتراض لا سمـح الله؟ صاير تتعاطف مع الناس ماشاء الله.
ابتسمَ تميم باستفزاز : لأنّي ما أشوفهم ضرّوك بشيء ... تأكّد بالأول، ترى أنت كِذا أو كذا بتآخذ إعدام يعني ما يحتاج تضاعف عدد ضحاياك يا جدي العزيز .. فلا تتعّب نفسك عشان توصل لطموحك التعبان ذا.
اتّسعت عينا سعود بغضب : تتمصخر حضرتك؟!
تميم : محشوم طـال عُمرك * وقفَ وهو يبتسم ابتسامةً مُستفزّةً لسعود * والحين اسمح لـي بطلع .. واترك هذاك الرجـال علي، أوعدك لو أكتشف له علاقة مباشـرة ببدر بمسحه من الوجود . . . خلّه عليْ بس.
سعود بغضبٍ مكبوت : اذلف عن وجهي.
تميم بهدوء : أفهم إنّك موافق؟
سعود بحدةٍ يعتلِي صوتُه : اطـلع ... خلاص تصرف إنت بس فكني من غثـاك.
،
وقفَ ما إن رآه يدخُل، الوقتُ طـال وتوتّر بعد أن اتّصـل بهِ من همْ معهُ وقالوا بأنه ابتعدَ ليفقدوا أثره فجاة، ومنذ ذلك الوقت وهو متوترٌ وغاضب . . اقتربَ منه متعب بملامح جامـدةٍ لا يُعرف اتّجـاهها ولم تكِن توضِح مشاعره في تلك اللحظة، أسند أدهم كفه على الطاولـة ليلفظَ بحدةٍ ما إن رآه : حسبي الله عليك أنت وين رحت؟ كذا فجأة تختفي وتخليني أحاتيك يـا . . .
قاطعه متعب ببرود : ماني أصغر عيالك عشان تخاف علي بهالطريقـة ..
وجلـس متجاهلًا أيّ كلمـةٍ أُخـرى، بينما اتّسعت عينـا أدهـم بحدةٍ و " تنرفز " ليجلس هو الآخر بعنفٍ وهو يهتف بغضب : تكلّم معاي بأدب لا أعدل خريطة وجهك الحين.
متعب ببرودٍ يتناول قائمة " المنيو " على الطاولة وهو يلفظ : جرّب وبوريك التعديل الصح.
أدهم من بين أسنانِه : ماجد تراك . .
ارتفعَت عيني متعب بحدّةٍ له وكل البرودِ غادره ، قاطعـه قبل أن يُكمل حديثه بنبرةٍ تُشيّد الحدّة في أوصالِها : متتتتتتتعععععععب ... لا عاد تذكر هذاك الاسم ... وهذي آخر مرة أقولها لك.
تراجع أدهم للخلفِ وهو يبتسمُ باستفزاز، وضعَ كفيه خلفَ عنقهِ ليُردف : اسم ماجد ترى أحلى من مِتعب .. يكفي الأوّل سترك من الموت والثاني هوَى ذبحك.
رمَى قائمة الطعام بانفعـالٍ ليضرب الطاولـة بكفّه وعينيه تحمرّانِ بغضبِ نبرتِه التي نفخَت عليهما من جورِها : تعايرني ؟
أدهم يُخفض يديه ليتقدّم للأمامِ حتى لامس ببطنِه حافة الطاولة : يمكن أعايرك.
متعب بحنق، ينتظـر القليل منه فقط لينفجـر وانفجاره على شاهين لم يُرِحه بحجمِ ما ضاعَف حقده : الله يرزقك على قد نيتك!
أدهم وشفاهه تبتسمُ ابتسامةً تعمَل باتقانٍ على استفزازِه : تبي لي بالمِثل؟ اووووه يا حبيبي طلعت حقود.
متعب : والله هذا يعتمِد على لؤمك وحقارتك . . * وقفَ ليخلع الجاكِيت ويرميه في وجههِ بغضب * كثّر الله خيرك يا صاحبي ... وابتسِم ترى خطتك جابت نتيجة ، خلاص كرهته نهائيًا هالمـرة .. وزادت ضيقتي.
نطق كلماتهُ ومن ثمّ ابتعـد حتى يخرج، زفـر أدهـم بضيقٍ وهو يضعُ الجاكيت جانبًا، لا يدري لمَ فرّغ غضبهُ من إلين بِه حين رآهُ ورأى مزاجه السيء.
رفـع هاتفهُ بهدوء، نظـر لرقمها مطوّلًا، لا يريد الاتصـال بها، فلو سمع صوتها الآن سيصرخ بغضبِه ويفرّغ ما بقيَ فيها. لـذا وجدَ نفسه يذهب لرقمِ ياسِر الذي أخذه يوم قابله، اتّصل بهِ على مضض، وانتظـر حتى جاءهُ صوته ليهتف بهدوء : السلام عليكم . . . كيفك؟ . . . الحمدلله طيب عساك دايم بخير ، معليش حبيت تبلغ إلين إنّي بمرها الحين . . .
ياسر بنبرةٍ متضايقة : أبشِر ومعليش أكِيد إننا ضايقناكم على هالصُبح وخوفناها.
عقدَ أدهم حاجبيهِ قليلًا، شعر أنّ لكلماتِه معانِي جعلتهُ يتوجّس، لفظَ بحذر : أبد ما عليك بس شلون الوضع الحين؟
ياسِر بنبرةٍ مُجهدةٍ بوضوح : إن شاء الله خِير . . طلع عنده ارتفـاع في الضغط بس .. * أردف بتكرارٍ قلق * إن شاء الله خير.
اتّسعت عينا أدهم قليلًا .. " عنده "!! من قد يعنِيه بصيغةِ المذكّرِ هذهِ وهاءِ الغائِب غيـر . . . وقفَ ببهوتٍ وهو يتنحنحُ ويلفظ بتلعثم : معليش ياسر كنت مشغول كثير من الصبح وما قدرت أمركم .. معليش قولي اي مستشفى نسيته!
،
غُرفتـها باردة ، باردةٌ جدًا ، غُرفتـها جليد/صقيع تجاوزت البرودةُ فيها مراحـل عديدة .. لمَ هي باردة؟ والتكييفُ مُنخفـِض! . . كان قد وصـل للمنزلِ منذُ دقائق قليلةٍ بعد أن تـاهَ هُناك وفي ذاتِ المكـان الذي تاهَت فيه أفكـارهُ وتركه متعب يغرقُ في صدمتِه، لفظَ كلماته تِلك .. ومن ثمّ ابتعد ليبقى هو وحدهُ هُنـاك ، يُحلّل معنى كلماتِه، ويغرقُ في الأسـى، واللا تصدِيق . .
عـاد قبل لحظات، لم يشعُر خلالها بنفسِه وهو يتّجه لغُرفة امّه، يفتحُ بابها بهدوءٍ جائِر، قهريّ، لم يكُن رغبةً منه بحجمِ ما افتعلتهُ فيه الصدمـة. الغُرفـة مُظلمة، أغلقَ بابَها بعد دخُولهِ واتّكأ بظهرِه عليه، مـالت ساقاهُ قليلًا وانعكفَت رُكبتاه في تعبيرٍ عن الانكسـار، فرشَ ذراعيهِ جانبًا، ولامسَ بباطِن كفيه سطحَ البـاب وهو ينظُر لجسدِ امّه النائِم ، وتلك البرودة ... لم يكتشف أنها .. لم تكُن إلا منه !
يكـادُ يمُوت، بوجههِ الشاحِب ، وامّه الآن تنـام، تغيّر معدّل نومها، على مشارفِ سنين طويلةٍ اعتـادت أن تصحُو منذُ الصبـاح الباكِر ، لا تنام أبدًا في هذا الوقت .. لكنّها أصبحَت تنـام ، بينما صوتهُ الميّت ، يُريد أن يشكُو لها بضعف ، أن يهمِس : لا تنامين يا يمّه .. لا تنامين .. أخـاف تحلمين فيه ويجيك فجأة مثلـي! أخـاف تموتين!! بالحيل عِشت، بالحيل عِشت!! . . لا تنامين يا يمّه ، هوّ حيّ، بس تكفيييين لا تشوفينه بمنامك ، يبتسم لك، ويقول اشتقت ! وأنا .. أنا كنت أشوفه ... يقولي نارك للحين تحرقني !! يناظرني بنظراتْ ماقد شافتها عيني منّه ... ما فهمتها ، بس الحين فهمت!!
أغمضَ عينيه بقوّة، رفـع رأسهُ للأعلـى وعينيه الشاحبيتينِ تُسقطُ دمعًا صدِئ، دمعًا - صديد - يتركُ لوعةً في مجرى حُنجرتهِ ويذُوقها بكامِل لذعتِها . . رأيتُه ، وكنتُ أراهُ ليـالي وتشكُو عيني لنفسي في المرآةِ عن رؤياي، رأيتُه، وانعكـف الفهمُ والإدراكُ في جماجِمَ من العـذاب، ظننتُ النـار في البرزخ، وظهـر أخيرًا في الدُنيـا، ومنّي أنا ، وليس لفحةً من جهنّم ، ظننتُها نـارَ السقَر ، ما بالها جاءتنا في الدنيا وزفـرت في وجوهِنا من حمِيمها! ظننتُها نـارًا أخـرى، ما ظننتُ أن تكون احتـراقًا داخليًّا من ذاتِي إليك . .
أنـا لم أخُنك وأغـدُر بك! أنا لم أفعلها ، لم أؤذِك! . . أنا .. أنـا . . . ابتلعَ ريقهُ بالعبراتِ التي تضخّمت في صدرِه ومنعت الحديثَ من الحديث ، حتى حديثُ النفسِ هذا يُمنـع ، لكنّهُ كان يُقـاوم كل عوامِل المنـع، ويُرثِي نفسه، بكلماتٍ صامتـة، لا صوت لها ، ولا نبـرة، ولا وجُود !
أنـا لم أخُنك .. أنا فقط شاهين ، وفقط أخوك، وفقط - السند - الذي تقول ما كُان فيّ . . أنا مُنقشعّ عن الـ - فقط -، أنا كلُّ شيءٍ وكـل ما تريد . . لم أخُنك !
فتـح عينيه برعشـةِ شفاهِه، نظـر للسقفِ المُتلاشية نقوشهُ بعض الشيءِ في عُمقِ الظـلام، والصديدُ يُكمل عبورهُ على خدّيْه، هنـاك اندثـارٌ حدث بيننا، لم أكُن سببًا فيه ولا أنت ، هُنـاك من آذاك وأنا معك ، لستَ وحدك ، هنـاك من جعلني أخذلك في خُذلانٍ صوريٍّ جرفنـا في سوءِ الفهم هذا . . هنـاك من شرخَ العلاقـة بيننا ، وجعل عينيك .. يا للأسف! تنبُض بحقدٍ تجاهِي!
زمّ شفتيه بأسـى، أخفضَ رأسـه ومن ثمّ تحرّكت خطواتهُ نحو أمّه، جـلس على ركبتيهِ بجانبِ السرير، لم يشعُر بنفسه يعُود صغيرًا في خيبتِه، لم يشعُر بنفسِه يحتاجها كمـا اليوم، يحتاجُ رائحتها، فهو اليوم ضعيف ، ضعيييييييفٌ جدًّا !
دسٌ رأسه بجانبِ رأسها على السريرِ الدافئ والذي لم يشعُر بدفئه، أغمضَ عينيهِ وهو يستمع لصوتِ أنفاسِها الهادئة، رائحتها التي تعرفها انفُه كحياةٍ له .. لا يُعقل أن يكون متعب حُرم منكِ هذهِ السنين ، متعب يا " يمّه " حي، متعب هنا على أرضِنـا ، أين كان ، ولمَ مـات .. كيفَ استمرّ حيًا ، وكيفَ مـات!! . . لا أدري! .. لا أدري يا أمّي ما أجوبةُ أسئلتي التي أدرك أنّها ستكُون موجعـة، ستكُون قاتلةً لـي . .
على تلك الأفكـار، تداخـل النوم الذي لم يذقهُ ليومينِ جيدًا في عينيه، لم يشعُر بنفسهِ وهو يغيبُ إلى عالـم الرؤيـا الحيّة ... إلى عالـمٍ أنبأهُ عن الأوجـاع ولم يفهم نبأه.
،
قُرب الظهيرة.
تجلسُ على كرسيّ المطبخ، مرفقيها مستندانِ على الطاولـة بينما عينيها تنظُران لسالِي وهي تغسلُ السمك وتنظفه بتقزّزٍ واضـح، قطتها تتحرّك فوق الطاولـة حول ذراعيها بدلالٍ بينما غزل تتجاهلها تمامًا والرائحة تكادُ تجعلها تتقيّأ . . دخـل سلطان وهو يرفعُ كميْ ثوبِه إلى مرفقيهِ وذراعيه مبلولتانِ بعد وضوئِه، نظـرت لهُ نظراتٍ خاطفـةٍ لم تطُل، فسرعانَ ما تمزّقت وهي تُشيحها بابتسامةٍ خجولةٍ جعلتهُ يبتسم.
سلطان يفتحُ الثلاجة ليتناولَ قنّينة الماءِ الباردة، وبهدوء : بعيونك حكِي .. قوليه.
عضّت طرف شفتِها بحرج، تنحنحَت ومن ثمّ رفعَت رأسها لتوجّه نظراتها لملامحهِ التي تعشَق، النظـرة الحنونة في عينيه، ابتسامتـه، لا تصدّق أنّ نهارًا جلبَ إليها قبلةً منْه، أنّه اليوم ليس والدها، بل زوجها !!!
شعرَت بقلبها يشتدُّ فيهِ الحربُ السجـال ما بين انقباضاتٍ وانبساطاتٍ عنيفة، ابتسمَت برقّة، ومن ثمّ مدّت يدها للقطّةِ بحركةٍ لا إراديّةٍ متوترة، داعبَت عنقها وهي تلفظُ بخفوت : المطبخ ريحته سمك .. صرنا بميناء محنا في بيت!
ضحكَ بخفوتٍ زلزلَ روحها المُصابةَ بِه، وبنبرةٍ ضاحكة : وجالسة في هالمينـاء ليه؟
غزل بجزعٍ خجول : بس كذا أبي أجلس.
أغلقَ باب الثلاجـة ومن ثمّ رفـع حاجبهُ بمكرٍ ليلفظَ بكلماتٍ قصدَ بها إحراجها : ترى فاهمك ، تبين تقنعيني بجلستك إنك سنعة وممكن تسوين شيء .. بس محد قالّك إن هالجلسة جلسة رفلات؟
غصّت بما لا تعلـم، سعلَت بقوّةٍ وهي تضعُ كفّها على مقدمةِ عنقها وتُوأدَ كلماتُها في مقبرةِ السُعال، عاد ليفتح الثلاجـة ويتناول المـاء بعفويةٍ ومن ثمّ يقتربُ منها وهو لا يستطِيع كتم ابتسامته، ناولها الماء وهو ينطق : بسم الله عليك خذي اشربي.
تناولَتهُ من كفّهِ لتشربَ مباشـرة، كـانت ذات القنينة التي شربَ منها، مُشبعةً برائحـة عطرهِ التي نثرها بكفّهِ على سطحِها ، رحـلت رائحة السمكِ وحلّ عطـرُ بَحرِه في مينائِها الفقير ، أخفضتهُ وهي ترفعُ كفّها الأخـرى وتمسحُ بسبّابتها بلل شفتيها ، لم تنظُر نحوهُ مباشرة، بل بقيت تنظُر للأمامِ وهي تُمسك بالقنّينةِ في كفّها . . وضعَ سلطان كفّه على الطاولـة يسندها، ومن ثمّ مال قليلًا وهو يلفظُ بابتسامة : معليـش.
ابتلعَت ريقها وحضورهُ وقربهُ ونبرةُ صوتِه الرجولية تُثير فيها زوبعةً من الربكـة، وجنتيها المُحمرّةُ جعلت من صورتها لطيفةً بلونِها البرونزيّ، شعرها الذي يطوفُ من حولِها كشلالٍ يحطُّ على وادٍ من السهـل الخصب.
همسَت بحرج : جـاملني ترى بقطِّع سلطة.
سلطان بابتسامةٍ ذاتِ مغزى : ما يضـر .. أهم شيء لا تقربين الطبخ.
نظرت لهُ بوجهٍ متجهّم : شتقصد؟ بفشّلك عندهم يعني؟
سلطان بشفافية : هذا الواقع للأسف.
غزل بحنق : طيب ... اليوم عشاك على يديني يا الواقع المؤسف.
سلطان بتسلية : افا ويهون عليك أنام جوعان؟!
غزل بقهرٍ فعليٍّ وقد استفزّها : بتاكل غصب عنك زين؟
ضحكَ بقوّةٍ ومن ثمّ مد كفهُ لوجهها ليمرّر سبابته ما بين حاجبيها، على التجعيدةِ المُثقلة بغضبِها النـاعم، وبخفوت : مو زين لوجهك ذا .. بعدين تطلع لك تجاعيد.
فغـرت شفتيها وقُربهُ منها سِحر، لا ينفكُّ ولا رقية لـه، نبرةُ صوتِه سحر، وعينيه سحر، لا تُجيرها أذكـار الصباح والمسـاء منـه، تراجعَت للخلفِ رغمًا عنها وكأنّها تهربُ من سحرِه ذا، والمطبـخ بات فارغًا، لم تنتبه لسالِي التي كانت قد خرجت منذُ وقتٍ طويلٍ بينما انتبـه هو لذلك فاستغرقَ بأريحيّةٍ في استفزازِها . . تراجعها كان عنيفًا على الكرسيّ كفايةً حتى يشهقَ بصريرِه وتشهق معه، كـادت تصرخ لولا كفّه التي وضعها خلف ظهرها ليُثبّتها عن السقُوطِ وهو يضحك : انتبهي يا وردة .. الفهاوة ماهي زينة بعد.
أغمضَت عينيها تُحاول أن تطردَ تأثير سحرِه لبعضِ الوقت، فتحتهما لتنظُر لهُ من قربِه العنيفِ هذا، والمؤلـم لقلبها الذي يضخُّ الدمـاء بانفعـالٍ لا يهدأ. وبخفوت : لا تسيء للإطراءات.
سلطان يعقدُ حاجبيه : نعم !
غزل تُميل برأسها وتبتسم : ماني وردة ... أنا بس غزال .. غزالة سلطان.
،
نظرتـا لهُ بتمعّن، يأكُل بصمتٍ كئيب، رُبما أكل لقمتين فقط منذ جلوسِه قبل رُبع ساعة، يلتهمهُ التفكِير بطريقةٍ جعلت عقلهُما يُدرك أنّ هنـاك ما حدثَ لهُ صباحًا حتى جاءهما بهذا التغيير، بمزاجِه العكِر وقلقهُ من شيءٍ ما!
لم تستطِع جيهان أن تصمت، لفظَت بنبرةٍ هادئةٍ متسائلة وهي تعقدُ حاجبيها : يبه شفيك ما تآكل؟
وكأنها اجتذبتهُ من عالمـه، نظـر لها بسرعةٍ وهو يقطّب جبينه، وبتيه : نعم؟
جيهان بتشديدٍ على كلماتِها : ليه ما تآكل؟
يُوسف بنبرةٍ هادئةٍ وهو ينظُر نحو الطبق وعقلهُ ليس معها : آكل ما عليك مني كملي غداك بس.
جيهان بضيق : طيب شفيك؟ منت طبيعي اليوم!
يوسف بحدةٍ مُفاجئة : جيهان كملي غداك وأنتِ ساكتة مالي خلق أحكي مع أحد الحين.
لوَت فمها بضيقٍ وقد نهضَ عنـادها ولم تستطِع منع نفسها من النهوضِ لتلتفّ حول الطاولـة حتى وصَلت إليه، تابعتها أرجوان باستنكارٍ وهي تعقدُ حاجبيها، بينما ليان تأكل بصمتٍ وهي تنظُر لها بفضول.
يوسف بحدةٍ مُستنكرةٍ ينظُر إليها : اجلسي على كرسيك وكملي أكلك.
جيهان تجلسُ على الكرسيّ الشاغـر بجانبِه وهي ترمقهُ بعناد : ما أبـي مكاني أبي هنا.
زفـر بصبر : يا صبر أيوب! جيهان بطلي حركات البزارين هذي !!!
مدّت يدها نحو طبقه وهي تبتسمُ ابتسامةَ عناد، حملت ملعقتهُ لتأخذ من الأرزّ وهي تنطُق ببطءٍ وتشديد : إذا تسميها حركات بزارين أجل يا حلوها من حركات .. * نظرت إليه لتُردف بجدّية * خذ هاللقمة منـي .. شكلك مشتاق ترجع لأيـام الأكل من يديني لما تعصّب وتبطّل تاكـل.
نظـر لها بنظراتٍ مذهولـة، لكن سُرعـان ما ابتسم ، رغمًا عنهُ وعن غضبِه الذي تلاشـى ليضحكَ أخيرًا وهي تقرّب الملعقـة من فمه، فتح فمه بتلقائيةٍ ليلتهمَ اللقمـة منها، بينما ابتسمَت أرجوان وهي تُكمِل طعامها بدورها، وجيهان في هذهِ اللحظـات تُمارِس دور الأمّ وتُطعمه رغمًا عنهُ لتجعـل قلقهُ ينقشـع لبعضِ الوقت.
،
" شوف هالوردة هناك .. كأنّها ذابلة! . . روح اسقِها مويا "
ابتسمَ وهو ينظُر لامّه، أمـال رأسه هاتفًا بخفوتٍ مُداعِب : بعد هالجدار مغطّي عنها نور الشمس .. ما تبيني أكسره؟
لتردّ بحنـان : إذا ما ساندت هالوردة مين يساندها؟
اقتـرب من تلك الوردة التي تكـاد تذبُل حتى يسقِيها ، وحين اقتـرب ، طـال شوكُها فجأةً ليُصيبه، اخترقَ جلدهُ ببضعِ سانتيمترات ، تأوّهَ ودمُه يسقُط في قطراتٍ صغيـرة ، نظـر للوردةِ التي تفتّحت وعينيهِ تتشوّشان متفاجئًا بما يراه ، تلك الوردةُ الذابـلة ، تفتّحت وأشرق لونُها الأحمـر بعد أن أصابته .. وكأنّ دواء ذبُولها كـان دمـه.
" شاهين ... شــــاهين .... شـــــــاهين "
وصـل اسمهُ إليه عن بعدٍ جعل الصوتَ خافتًا بمناداتِه، يسمعهُ يتكرّر، يعلُو أكثـر، وكفٌّ مـا تتخلخلُ بدفئِها شعره، نبـرةٌ قلقَة، ودفءٌ جـاءهُ بعد برود، الضيقُ يزيدُ من الكبـس على أضلاعِه، لكنّ الدفءَ يُحاربـه، ويبقيان متعادلان، لم يتدفّأ كما يجب، ولم يُرَحِّل الضيق كمـا ينبغي!
رفـع أجفانهُ ببطء، رأى مـلامح مشوّشة للحظـات، شفاهُها تتحرّك بصوتٍ تلاشى أخيرًا، ملامحها قلقَة، استطـاع رؤيتها أخيرًا بوضوحٍ ما إن استوعَب . . انتفضَ واقفًا، نظـر لها ببهوت، تجلسُ على السرير وتنظُر لهُ بصوتٍ يرتعِش قلقًا وخشية : شاهين يا بعد عين امّك .. وش صاير معك؟
تنفّس بعمقٍ وهو يمسحُ بكفّهِ على ملامحهِ وينظُر بتشتيتٍ يبحثُ عن ساعةٍ يرى بها الوقت، وبنبرةٍ واهنـة : كم الساعة؟ أذن ظهر؟
عُلا بوهنٍ هي الأخـرى، وهنٍ زرعـه في جسدها بعد أن ارتعبَت من تواجدهِ قريبًا منها وملامحه النائمـة كانت تلفُظ مأساة : أذن وأقـام وصلوا بعد ... الساعة 1 ونص.
شاهين بخفوت : استغفر الله ... * اعتلا صوتهُ بوضوح * معليش يمه بروح أصلي وأرجع أكلمِك.
استدار ينوي الذهاب، لكنّ صوتها الحـاد جاءهُ مرتفعًا غاضبًا : تعـال ... منت رايح لين ما تسمعني . .
شاهين بجزع : يمه واللي يعافيك . .
صرخت بغضب : ابلع لسانك .. والله طالت بعد ما تسمع كلمتي! ماراح آخذ منك وقت بسألك سؤال وانقلع.
تضـاعف ضيقُه، والدفء الذي تسلّل إليهِ ارتحـل، استـدار بملامِح بائسة، لم ينظُر نحوها، لا يريدها أن ترى الضيق وتغضب أكثـر منه كما لا يريد أن يستمـع! لا يشعر بأنّ له القدرة الآن على العطـاء، يريد فقط أن يختفي من أمـام عينيها حتى لا يفضح كلّ شيء! كان غبيًا حين عرض نفسه لكل هذا بضعفِه، غبيًا حين استسلم ونام قَريبًا منها.
اقتربَت عُلا منـه، عقدَت حاجبيها وهي تقفُ أمامه، رفعت كفّها لتُمسك ذقنه وترغمه على النظر إليها، وبحدة : شفيك؟ منت طبيعي من كم يوم .. في البداية أسيل والحين حالتك ذي !!!
شاهين بخفوت : اسمحيلي يمه أسيل خلي موضوعها بيننا.
عُلا بغضب : لو تبيني أغضب عليك اتركها عند أهلها يوم زيادة وقتها والله واللي خلقك وخلقني ما عاد أحكِي معك بكلمة.
أغمضَ عينيه بأسـى ، لا يحتمـل المزيد من هذهِ الضغوطاتِ النفسية التي تكادُ تسحقه، لا يحتـاج للمزيد حتى يفقد المتبقي من عقلـه، لا يحتاج للمزيد .. لذا توقّفي أرجوكِ عن ذلك !!
لفظَ بجزع : يمه واللي يعافيك ما . . .
قاطعتهُ بغضبٍ حاد : من الحين لين ترجع أسيل ما أبِي أسمـع صوتك فاهم !! اذلف من وجهي الحين.
زفـر بيأس، لو لهُ الطاقـة الآن لمكثَ يرجوها أن تتركَ موضوعه وأسيل بينهما ، لكنّه الآن لا يقوَى على الجدال .. لذا ابتعدَ دون كـلامٍ واتّجـه للبابِ كي يخرج.
صعَد للأعلـى، لم يفكّر إطـلاقًا بالاتجـاه لجناحِه وأسيل، كلّما رأى بابهُ شعر بالذنب، شعر بعضلاتِ وجههِ تتمزّقُ في تجعيدةِ أسـى، كلّما رآه تمنّى لو أنّه مـات قبل أن يفكّر بالزواجِ منها، ولو أنّه عارض رغبـة امّه !! يا للخـزي !!
لا يُنكـر أنّ حزنـه لا يقتصـر فقط على خطئِه، على متعب، بل هو أيضًا حزينٌ من أجِل نفسه، من أجلِ امرأةٍ دخـلت حياته ولم يُردها القدر لـه، لكنّ كل مشاعره - حرام - في شريعةِ هذهِ الدنيا التي أعـادت الأموات " المشتاق حيييييل لهم " ... حزين ، من أقصـى المغربِ إلى حبـائل المشرق.
حزين ، من شمـالِ الأرضِ لجنوبِها .. وبقيّة الجهاتِ الفرعية .. لم تقدر على بثّ القليل من الراحـة لقلبِه.
لا يدري هل يُنصف حزنهُ بمتعِب ، أم بأسيل . .
اتّجـه للمغـاسِل، توضّأ وابتعـد عن الغرفتين ، غرفته مع أسيل، وغرفتـه مع أخيه . . ابتعدَ عنهما ، وفضّل اللجـوء لأخرى ، كي يطرد طيفهما ولو لبعضِ الوقت .. يريد أن يرتاح قليلًا، ومن ثمّ سيفكّر بمعضلاتِهِ وأوّلها متعب، من أدخـل تلك الأفكـار لرأسه؟ من فعل بنا هذا؟ من قتلـه باسمي وغرّبه؟ من فعـل كلّ ذلك !!!
صلّى الظـهر وأطال بعد أن صلّى ركعتي السنة ومن ثمّ الأخريتين بعد الفريضة، أطـالَ في لجوئِه إلى الله، ضـاع ولن يستطِيع أن يجدَ نفسهُ إلا عند الله ، لا أحـد سيستطيع اللجوء لهُ سواه .. يدعُوه ، يسألـه أن يسانده، أن يُضيء له الطريق الصحيح فعقله البشريّ لا يستطِيع استيعـاب كلّ هذهِ الخيوط التي تشابكَت في عقلهِ في محض يومين فقط .. يومين أو ثلاث ... وربّما أكثر! لا يدري .. فحجمُ ما حدثَ جعلهُ يجهل الأيـام وتتابعها.
،
بعـد الغداء، لم تستطِع أن تحتمِل ، كانت قد اتّجهَت للمغـاسل وتقيّأت بلوعـةِ معدتها التي تمرّدت عليها غير محتملةٍ الرائـحة، كانت صامدةً طيلة وقت الغداء، لكنّها لم تحتمل وما إن نهضت حتى ركضَت لجهةِ المغاسِل.
تبعتِها ام عنـاد بقلقٍ بعد أن نظرت لغيداء وهتفت باهتمـامٍ بالِغ : نادي سلطان.
نهضَت غيداء بهدوءٍ عنيفٍ يغتالُهـا على غير عادتها، اتّجهت نحوَ المجلِس وما إن وقفَت أمام البابِ حتى طرقت ودخَلت لافظة بشكلٍ مُباشر : سلطان ترى مرتك تعبانة.
كـان سلطان وعناد قد انهيـا غدائهما منذُ وقتٍ سبقهن، وفي هذهِ اللحظـة يتناولانِ الشـاي، وضـع الكأس بشكلٍ تلقائيٍّ ونهـض بقلقٍ وهو يقتربُ منها : تعبانة؟ وش فيها!!
وقفَ أمامها وهو يعقدُ حاجبيه، لتردّ غيداء بهدوء : ما أدري فجأة صارت تستفرغ.
خـرج وأغلق البابَ وهو يلفظُ بحزم : يلا جاي.
تحرّكت أمامـه وتبعَها، اتّجـه للمغاسِل ليجدَ ام عناد تقفُ بجانبها بينما غزل تمسحُ وجهها الشاحِب، اقتربَ منهما، ووقفَ خلفها ليضعَ كفّه على كتِفها وهو يلفـظ بخفوت : سلامتك .. وش صار؟
ام عناد بلهفةٍ لم تستطِع اخفاءها : يمكن حامِل .. خذها للمستشفى عشان تحلل وتتأكدون.
بهتت ملامحُ غـزل وتيبّست كفوفها فوق وجهها، بينما تبدّلت ملامح سلطان فجأةً وغسـلها شلالٌ من جُمودٍ مُفاجئ، شعرَت بِه يضغطُ على كتفِها بانفعـال، لم تستطِع سوى أن تحرّك أناملها وتشملُ عينيها في الإخفـاء عنهم، كي لا ترى ملامحـه عبر المرآة أكثر .. وهي تتبدّل .. بشكلٍ أخافها رغمَ ثقتِها بِه!
ام عناد بنبرةِ أمـل : يا الله جعلني أفرح اليوم بهالخبـر اللي منتظرته من زمان ... من متى تستفرغين يا غزل؟ تحسين بشيء غير الاستفراغ؟ تشتهين أي شيء؟!
غزل وشفاهُها ترتعشُ بارتبـاك، أناملها تشنّجت، وصدرها شعرت بهِ يضيقُ فلم تستطِع الردّ عليها وهي تشعُر من كفّ سلطانْ وصدره الحـار الذي يُلامس كتفها الآخر أنّ تلك الفكـرة جعلته ينفعلُ بشكلٍ مُرعب.
لم يصِل ام عنـاد ردًا منها، عقدَت حاجبيها وفغرت فمها ، لكنّ سلطان قاطـع الكلمات التي كادت تخرج، بصوتٍ جافٍ بـارد، جامِد ... أثـار قشعريرةً حادةً في جسدِها وهي تشعُر بكفِّه ترتخي قسرًا ببطء : ماهي حامل . .
ام عناد تعقدُ حاجبيها ببعضِ الضيق : متأكد؟
سُلطان بجمودِ صوتِه الذي يتضاعف : أيـه . . * ابتسم بصعوبة * بعدين بدري شفيك مستعجلة علينا؟
ام عناد بإحباط : خاطري أشوف عيالك وعيال عناد .. عاد أخوك ما منه رجـا معيي يتزوج الحين.
تراجـع سلطان للخلفِ دون أن ينظُر لوجهِ غزل ولو للمحـة، وبهدوءٍ ظاهري : عاد ما يصير يستقوي عليك اخطبي له وحطيه في الأمـر الواقع.
ام عناد بوجوم : تبيني أجبره؟
سلطان يبتسمُ وكلماته التي لا يقتنع بها لكنّه أراد أن ينتقم بِها من عناد لأنّه شعر بالقهر منْه البارحـة، لفظها بهدوء : صدقيني عناد ينطبق عليه " اغصبني وأتغيصب " يعني لا تترددين يا الغاليـة . .
صمتتْ ام عناد دون اقتنـاع، بينما تجهّمت ملامح غيداء بصدمةٍ من حديثه، رفعَت حاجبيها وهي تنظُر لهُ بتوجّسٍ بينما نظر لها سلطان وهو يبتسم .. ليُشير أخيرًا بشفتيه بكلماتٍ لا صوت لها : لا تقوليله.
ابتسمَت ببهوتٍ ولم تعلّق، بينما بدأت امه تُمطر عليه بكلماتٍ مُتسائلةٍ عن سبب تقيؤ غزل إن لم تكُن حاملًا، واستطاعت غزل أخيرًا بصوتِها المرتعشِ أن تضـع عذرًا كاذبًا لها بأن معدتها منذُ الصباح غير مستقرة . .
ابتعدَت عنهما، وبقيَت هي معـه، تنظُر أمامها للمغسلة، تضعُ كفيها بتوترٍ على طرفِها، ترفعُ أحداقها للمرآةِ لتصتدمَ بجانبِ وجههِ فقط، عينـاهُ تنظُران حيثُ كانت تقف امّه بصمتٍ جعلها تتوتّر أكثـر.
ابتلعَت غصّةً حارقـة، شتت أحداقها وصدرها يرتفعُ بأنفاسٍ مُنفعلـة، عبـرت الكلمات عبُورًا لم يكُن سلسًا بسببِ تحشرجِ نبرتِها ، لفظَت بخفوتٍ مختنق : عصّبت؟
صمتَ لثوانٍ طويلةٍ كسرَتها، استدارَت ببطء، وخصرها يتّكئ على طرفِ المغسلةِ عوضًا عن كفيها، تنظُر لهُ بأسـى، بحزن، وملامحه القريبة والبعيدة تُضاعف كسرها بجمُودِها، : م ما أدرِي شلون فكّرت إنّ ... إنّنا . . .
قاطعها سلطان بخفوتٍ جاف : إنك حامِل . . طبيعي تفكّر بهالطريقة.
غزل برجاء : وأنا وش ذنبي.
استدارَ بكامِل جسدهِ إليها . . وابتسم : ما كان ذنبك .. مافيه أي ذنب كـان يرجع بكاف الملكية لِك، الذنب كله - ذنبه - ، ذنب الحيوان . . وذنب سلطان . .
ابتلعَت ريقها بصعوبة، أخفضَت رأسها لتتساقطَ خُصلات شعرها بكثافتها حولَ ملامحها السمـراء، نظرت للأرض، بينما اقتربَ بخطواتِه المُتّزنة منها لتدخل أقدامه في نطاقِ رؤيتِها، مدّ يدهُ ليضعها خلفَ رأسها، ومن ثمّ اجتذبها إليهِ بقوّة .. حتى انتهـى مقعدُ رأسِها في كتفِه العريض والدافئ، وتتضاعفُ معهُ العبـرات .. أشعُر بسؤالك يُلامس أطراف لسانِك ويسلخه، من هو؟ هل تذكرين ملامحه؟ هل تذكرينها؟! . . نعم أذكرُ ولو قليلًا ! لكنّني لا أريد البوح، في كلّ مرةٍ تسألنِي أصمتُ أو أقول لا أذكـر ، كانت ليلةً سوداء نسيتُ فيها الوجوه . . عداك!
أنسـى الوجوه كلّها يا سلطان ولا أنسـاك أنت، أنسـى كل ما أصابني وأذكرُ المُصابَ الذي ابتدأ مأسـاةً لي والآن أعيشهُ كأجمَلِ ما احتضنهُ قدرِي . . في لحظـةٍ مـا ... بكيتُ بين لحافِي وسريري، بعد أن أخبرني والدي بأنّ سلطان النامي تقدّم لخطبتي، ولن ترفضي!!
بكيتُ كثيرًا يومها .. واشتكيت ... بكيت لأجـل سواك، وكُنتُ غبيّةً حين أمضيتُ أيـامًا كثيرةٌ أرفضُ زواجي بكَ وبغيرك ... والآن ، أنا على مشارفِ الجنون، سينقطعُ الخيطُ أخيرًا، وأسقطُ في الجوَى نهِمَة.
همسَ بصوتِه الدافئ الذي جعل جسدها يقشعر : من أيش بطنك يعورك؟
أُكسجينها باتَ رائحتـه من كتفِه، مرّغت وجهها فيه ونبرتُها تعبُر عبور قاربٍ يهمسُ فوق البحرِ باستقراره : ما تحملت ريحة السمـك .. تفشلت منهم لو دروا.
سلطان يضحك بخفوت : الله يهديك ما حصلتِ غير تكرهين السمك ! اللي كلنا تفضله من بين كل اللحوم.
غزل بدلالٍ وهي تُمرّر أناملها خلفَ عُنقه : معليه بتنحرم منه.
سلطان : ولو حبيتيه؟
غزل تلوِي فمها : مُستحيل . .
سلطان بخُبث : بتغدا منه بكرا وبعد بكرا وطول هالأسبوع واللي وراه بعد لين ما تتعودين عليه وبعدين تحبينه.
تراجعَت للخلفِ وهي تجعّد ملامحها بتقرّف : لا واللي يعافيك لا تصير نذل كِذا !!
أمسك أرنبة أنفها بتحدي ليضغط عليها : الا ... وترى هذي نعمة لا تقعدين تقلبين وجهك كذا.
سحبت يدهُ عن أنفها بضيقٍ وهي تضوّق عينيها : يوووه لا تمسكني كِذا !!
،
جـلس في المجلِس بصمتٍ بعد عودتِه مع ياسِر من المشفـى، تنهّد وهو يفتحُ أوّل زرين من ثوبِه، نظـر لهُ بينما جلسَ ياسِر وهو يلفظُ بابتسامة : متغدي؟ يا ويلك لو تقول اي.
ابتسم أدهم : متى أمداني أتغدا يالذكي وأنا معك من قبل الظهر.
ضحكَ وهو يقِف : أقصد فطور متأخر عن غداء.
أدهم بهدوء : لا تطمّن غداي كان قهوة " وباردة بعد ".
همسَ بالكلمتين الأخيرتين دون أن يظهَر صوته، حينها لفظَ ياسر : أجل بقولهم يحطون الغداء لنا.
ارتفعَ صوت أدهم قليلًا وياسِر يُمسك بمقبضِ الباب : بس ماعليه قول لإلين تجيني بالأول أبي أكلمها.
ياسر يبتسم : أبشِر. * ليخرج *
تراجعَ للخلف، أسندَ ظهرهُ على ظهرِ الأريكةِ العربية، يكـادُ يُغرق جسدهُ فيها وهو يكتّف ذراعيه وملامحهُ تتجمّد وتنظُر للأمـام بشرودٍ يمرّر حدّته بين الهواءِ فيمزّقـه.
بينما كان ياسِر قد ذهب إليها، تجلسُ مع هالـة وهديل بتوترٍ أعمـى، اتّصل بِهم ياسر منذ ساعاتٍ طوال وأخبرهم أنّه بخير، ارتفـاع بسيطٍ في الضغط وهو الآن يُكمل فحوصاتِه في المشفى، لكنّهن بالرغمِ من ذلك لم يستطعنَ إلا القلـق، ملامحُ هديل تغرقُ في حُمرتها وتنتفخُ من البُكاء، بينما عيني هالـة تحكِي قلقًا وخشيةً وتشتتًا جعلَ ياسِر يعقدُ حاجبيه بعطفٍ ما إن دخـل ورآها، وبهدوء : وش جو الكآبة هذي مين قالكم أحد مات علينا؟
استدارت الرؤوس إليه بسرعة، قفزت هديل لتهرول إليه وهي تلفظُ بنبرةِ بكاءٍ وبحّة : ياسِر أبـــووووي . . .
وغرقَت في سيلٍ من بكاءٍ ناعمٍ لم تستطِع منهُ أن تُكمل جملتها، وقفَت إلين خلفها لتضعَ كفيها على كتفيها، وبصوتٍ مبحوح : خلاص هديل ذبحتي نفسك من البكا . . * نظرت لياسِر لتُردف برجاء * احلف إنّه بخير طيب؟
ياسر يبتسم : والله وبالله وتالله إنه بخير.
هديل دون تصديق : طيب ليه تركته بروحه في المستشفى؟
ياسر : تفشّلت من الرجال معي من الصبح .. عشان كذا رجعت أبيه يتغدا وبعدين برجع المستشفى.
عقدَت هديل حاجبيها : رجّال!!
ياسر بهدوءٍ وهو لا يدري أنّ كلماتِه خلقَت ضجيجًا صاخبًا في صدرِ إلين : زوج إلين ... * نظر لامّه ليبتسم * وشفيها ام ياسر ما تحكِي؟ طلعت غلاوة أبوي لما طاح يعني؟
نهضَت هالـة دون كلمَة، ملامحها المُتجهّمـة كانت ردًا كافيًا عمّا تشعُر بهِ حاليًا، تجاوزتهم ولم تقف، بينما وصـل إليهم صوتُها الجامـد بعد أن شلّت الصـدمة مشاعر صوتِها : بقول للخدامة تحط لكم الغداء .. هو جاهز بس محد كان وده فيه.
تابعها ياسِر بملامح متضايقةٍ من حالتها الآن حتى اختفَت من عينيه، وجّه نظراته لهديل ليهتف بنبرةٍ حازمة : خليك معها . . وأنتِ * يوجّه حديثه لإلين * روحي لزوجك يبيك بالمجلس.
سرَت الربكـة في مجرى عروقها حتى أصابَت جسدها كلّه وقلبَها، لم تُرِد أن تقابله، لكنّها بالتأكيد لم تكُن لتستطيع الاعتراض أمام ياسِر.
أومأت ببطء، وأقدامها بتلقائيةِ رفضها لا تتحرّك ، تحرّك ياسِر يُريد الذهاب بينما كانت هديل قد غادرت مهرولةً خلف امها، وقفَ فجأةً وهو يعقد حاجبيه باستنكار : إلين شفيك؟
إلين بصوتٍ مرتبكٍ وهي تشتّت نظراتها بصوتٍ مُختنق : يلا رايحة له.
تحرّكت بخطواتٍ واسِعةٍ إلى المجلِس، وجهها المُتضايق تضاعف ضيقه، حتى في كومةِ حُزنها يأتِي ليُضاعِف هذا الحُزن، يقسُو بعينيه العنيدتين فقط كي يُضايقها.
فتحَت باب المجلس، دخـلت ولسانها يُلقي السلام بتلقائية، لم تنظُر نحوهُ واستنسخ عقلها الجدران وزخارفِ ورقِ الحائط، لون الأرائِك الحمراء، والطـاولات الصغيرة الموزّعـة برتابةٍ مُملّة في المجلِس، بينما كان ينظُر لها بعينيه الحادتين، ردّ عليها السلام ببرود، ومن ثمّ نهضَ وهو يراها قد تركَت الباب مفتوحًا بمحاولةٍ طفوليّةٍ في الحمايـة وكأنّها تتغافـل عن حُرمة البيت ونسائِها، تحرّك بخطواتٍ بطيئةٍ جمّدتها في مكانها وغرست قدميها في الأرض، تسمعهُ يقترب، وينبضُ مع صوتِ خطواتِه قلبها بشدّة، تجـاوزها بجفاء، وحين وصل للبـاب أطبقه بهدوء، ولم يكُن ذاك الهدوءُ سوى صريرٍ مُزعِج، مرّ على أذنيها وخرقَ طبلتهما، ليتبعهُ نبرةُ صوتِه وتمرّ بحدّتِها مسامعها المجروحـة فتتألّم : كنتِ تقدرين تحكين لي اللي صار وتتركين غرورك ذا ولو شوي . . بس طبعًا لا ... ولا كأنّ وراك رجال . . .
أخفضَت وجهها لتنظُر أحداقها لموضِع قدميها، تحرّكت خطواتهُ من جديدٍ حتى وقفَ خلفها وهي تشعُر بقُربه الذي جعل جسدها يرتبك، أردف ببرود : وين كان الضرر لو اتّصلتِ علي وقلتيلي أبوي تعبان! خذني له؟
لم تُرِد أن تبرّر، ولم ترى أنّه يستحقّ تبريرًا، لـذا صمتت وتجاهلَت أسئلته تجاهلًا استفزّه، أمسك كتفيها ليُديرها إليـه بحدّةٍ طالت صوتهُ وهو يلفظُ بعينين تتّسعان غضبًا : نجــلاااااااء . . .
لكنّه أُخرِس فجأةً وهي يرى احمـرار وجهها الباكِي .. الباكـي!!! كانت تبكِي؟ أجفانُها منتفخة، احمرارُ عينيها أخفتهُ عنه بإخفاضِها لوجهها.
صمتَ لثوانٍ طـالت، كسـرها بكفيه اللتين ارتفعتا لتُحيط وجهها، رفـع ملامحها إليه ببطء، نظـر لعينيها المُحمرّتين . . وبنبرةٍ متسائلة : كنتِ تبكين؟
،
الاتّصـالات لم تكُن تتوقّف ، ذاتُ الرقمِ الذي يُخبـره بوضوحٍ أنّه علِم بما حدثَ لأخته وهو غاضِب، يُريد أن يستفسر عن السبب أو ربّما فقط يلعنهُ بكلمات !!
لم يكُن يُريد الردّ على أحـد، طردَ مكالمتـه وأحال هاتفه للصامِت وتجاهلَه اتّصـالاتِه المُتكرّرة .. طـال الوقت، وهو ينظُر للأمام، يحلسُ على إحدى أرائِك الصالةِ العلوية، كفيه على فمِه، عينيه للفـراغ ، يفكّر كثيرًا، من قد يفعل بِهم ذلك؟ من؟ سند؟ أم رُبّما أدهـم؟ من؟ ولـمَ؟! إن كان لفترةٍ طويلةٍ يظنُّ أنّ أدهـم السبب في الكثير ، فهل أصبـح الآن السبب في كلّ شيء؟ سبب ما حدث لأخيه من البداية للنهايـة، سبب انشطـار العلاقات !! هل يُعقل؟ ولمَ لا؟ لمَ لا وهو الأقـرب لذلك ورُبما فقط يتصنّع أنه صديقه !!
زفـر بتشتت، حرّك أحداقهُ لتسقُط على الشاشةِ المنيرة باسم فوّاز، شعر بالضجـر من اتصالاتِه الغاضبة التي لا تتوقّف، لـذا رفعه أخيرًا ، وردّ عليـه : نعم فواز؟
فواز بسخريةٍ من الجهةِ الأخرى : وأخيرًا تمرجلت وقرّرت ترد؟
شاهين بجمود : وش تبي بالضبط؟ إذا عن أسِيل فمالك شغـل ، اترك الموضوع بيننا.
فواز بذهول : أتركه بينكم؟ ماشاء الله وأنت مخلي فيها توضيح تقدر تفهم منه وش اللي السبب بالضبط عشان يكون بينكم؟
شاهين بيأسْ : أختك ماراح ترجع لـي . . أعتذر لهالشيء يا فواز !
فواز بصدمةٍ غاضبةٍ وهو يوسّع عينيه : نعـم!!! وليه إن شاء الله وش مسوية أختي وأنتوا حتـى ما كملتوا سنة!!!
شاهين بأسـى : ما سوّت شيء .. أنا اللي سويت .. أنا والزمن بس!!
فواز بتوجّس : شاهين ممكن تبعِد عن الكلام اللي ماهو واضح وتقولي وش اللي أنت مسويه بالضبط؟
شاهين بنبرةٍ واهنـة : بتدري عن كل شيء بعدين ... اسمح لي بقفّل . .
فواز يقاطعه بصرخةٍ غاضبـة : يا ويلك لو تقفّل .. يا ويييييلك . .
شاهين بقلّة صبر : لا تقعد تهدّد .. بقفل لأنّي ماني فاضي لك الحين .. عندي مواضيع لفوق راسي وتكفيني.
فواز يبتسمُ بغيظ، ومن بين أسنانه : إذا كنت رجّال تكلّم .. لا تقعد تتهرب بهالطريقة التافهة!!
شاهين : محاولة فاشلة عشان تستفزني.
فواز : وعشاني فاشل بالاستفزاز على قولتك تكلّم . . مافيه شيء يمنعك !
شاهين بتنهيدةٍ يُغمض عينيه لثوانِي، نبرتهُ استطـالت للخفوت، كلماتهُ المهترئةُ اهترأت أكثـر ، همسَ بفراغ : لأنّ متعب يا فـواز .... رجـع.
،
يجلسُ مستترًا في إحدى الأروقة، كتفهُ مضرّجةٌ بالدمـاء ، كان تحذيرًا مستترًا وتجاهلهُ فعليًا حتى جاءهُ الهجوم في غمضةِ انتبـاه . . شدّ على أسنانِه وهو يضغطُ جرحهً كي يوقفَ الدمـاء المُتدفقة، سمِعَ صوتَ خطواتٍ تقترب، الإرهـاق الذي نـال من جسدِ إثر نزيفه جعل أقدامهُ واهنَة لذا لم يستطِع أن يقفَ بسرعةٍ ويبتعد أو يصلبّ جسدهُ ويواجِه . . تراجع للخلفِ وهو يشتمُهم في داخِلهِ ليدسّ جسدهُ في زاويةٍ مظلمـةٍ وهو يًدرك أنّهم سيجدونه بكل سهولة، لكنّها فرصته الأخيرة وإن كانت نسبةً نجاحِها بسيطة . . .
.
.
.
انــتــهــى
قـراءة ممتعة للجميع، وموعدنا كما قُلنا، الثلاثاء إن شاء الله ()
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|