كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف خير وسعادة
حابة أنوّه على شغلة، الرواية عمل بشري قابـل للخطأ ومستحيل تكون كاملة، لذلك أي خطأ يُصدر فيها لا تخلونه مجال لفرد العضلات، مجرد توجيه يكفي وأكون شاكرة. + الأفكـار كلها خيالية قاعدة أترجمها بطابع واقعي سواءً الافكار الاجتماعية، الأحداث الماضية والحاضرة واللي بيصير مستقبلًا، مافيه قصة اقتبستها من واقع سمعت عنه بس كلها ممكن تصير بواقعنا، الأحداث البوليسية الطفيفة والعسكرية أيضًا أترجمها حسب تصوّري فلا يجي أحد ويقول واحد من أقاربك يشتغل في الاستخبارات لوووول :P أملك معلومات قليلة أعتقد تكفيني عشان أقدر أكتب.
والرواية بتستمر برمضان بس ماراح أقدر أنزل كل اربعة أيام مثلًا! قدروا إنّي أحتاج وقت بعد للعبـادة، برمضان فراغ الوقت عندي " للكتابة " وليس وقتي للكتابة وفراغه للعبادات! أكيد لا . .
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$
بسم الله نبدأ ،
قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
المدخل اقتباس الجميلة طعون/رماد الشوق لحـال متعب
يآخوي
ترجف هالمحآني من سنين
وآنآ كذآ يآخوي عمري أعده ..
فيني طفل
موجووع..خآيف ومسكين..
يضحك رغم أن الحكآيآت ضده
يآقلب آنآ
ويآك نضحك على مين؟
يآقلب لون الحزن مانيب قده
للحشرجه
بآوتآر صوتي سكآكين
والدمع لو يقفي لجفني مرده
تدري بأني
قلب ضمن المسآجين؟
يعني ينآم وخوف نبضه يهده ..
يعني يخآف
الورد من نكهة التين
يعني وصل بي حزن جوفي لحده
كآن البكآ
مآهو لنا وصرت هالحين
آلمح موآري دمعته فوق خده
أحيآن اقول
احنا غلطنا ومخطين
واضم بعضي وابكي..شلون اصده
واصيح بك
صرخة سكآرى مجآنين
فرقى مآهي بيدي ولاهي بيده
اخيط جرحك
انت...من وين لي وين
وذراع جرررحي ابتره مآ أمده..
فمآن جرحي
يالرياض ش توصين
يمكن يجفف دمعتي بحر جده
يآخوي
انا اقفيت لكن على وين
والله مآدري درب مانيب قده
* أسـاور حلم
(74)*1
لم يجِد في جعبةِ حنجرتهِ سوى الصمت، تكوّنت على أطرف لسانهِ كلماتٌ لم يستطِع قولها، انقطعَ القولُ وملامحهُ تفرغُ من الوجُود . . هُنـاك أحاديث، نتمنّاهـا كثيرًا، هُنـاك أمنيات، لا تعلُو عن الحقيقَة، نتمّى كثيرًا أن يعُود أشخاصٌ غادروا الحيـاة، ونقُول سنطيرُ فرحًا، لكنّنا حينَ نسمعُ تحقيق معجزةٍ نُصدم بدرجةٍ تجعلنا لا نفكّر بالفرحِ أبدًا! ننسى الأمنيـات في معمعةِ الصدمة!
راقبـه ببهوت، ردّة فعلهِ الآن اختلفَت عن ردّة فعلهِ قبل أشهرٍ طويلة، تلك المرّة غضبْ، لأنّه ظنّه يتلاعب في موضوعٍ كهذا، لكن الآن! لا يملك الحقّ في غير الصمت ، لأنّ صوتَ متعب اقترنَ مع هذا القول، لا يملك سوى الصمتِ الذي تمنّى أن يفتديه بكلمـاتٍ مـا . . أن ينطُق بشيءٍ يُثبت أنّه يحيا!! لا يوجد! لا يوجدُ سوى هذه النظرات الميّتة ، الشحوب الذي انتشـر على جلدهِ وهو يسمعُ صوت نبضاتِ قلبهِ بعلوٍّ صارِخ.
التوَت ابتسامةُ سنَد بتشفّي وهو يعضُّ زاويـة فمهِ مردفًا بصوتٍ أشبـه بفحيح الأفعـى الماكرة : وشلون دريت يا سند؟! التقيت بالدكتور اللي كـان له دور بتزوير تحاليل الـ DNA بمستشفى الهدى * اسم وهمي * ، قفطته وهو يتكلم مع شخص أعتقد له مكانته بين الضُبّاط عن هالموضوع .. والعجيب إن اسمه كان يتطابق مع اسم أخوك وعائلتك! متعب !! قدرت أسحب منه الكلام بعدين بالغصب وعرفت إنّ هالشغلات كانت سريّة ولها دخـل بأمن وخرابيط كثيرة . . . * أردفَ بتساؤلٍ ساخـر * عندك علم وش دخّل متعب بهالمواضيع يا عزيزي؟
ارتعشَت يدُ شاهين المُمسكةِ بقميصه . . عقدَ حاجبيهِ بضياعٍ وهو يتنفّس بقوّةٍ ويختنق! يُخفض رأسه بتعبيرٍ عن الانهيـارِ وهو يشدُّ بقبضتهِ على قميصِ سند دون شعورٍ وكأنّه بذلك ينقذُ نفسه من السقوطِ على الأرض، من الضعفِ الذي هاجمَ أطرافهُ في رجفَة.
لم يُضِف سنَد شيئًا وهو يتابعهُ بنظراتٍ متسلّية، يُتابع انهيـاره الهادئ، يُتابع رجفَة شفاهِه وسقوطَ أجفانه ببطءِ السقُوط داخلـه، تهوي مشاعرهُ ليشعر أخيرًا أنّه في فـراغ، أنّ لا شيءَ يتسلّل بين أضلعِ صدرهِ وفقراتِ ظهرهِ سوى الهواء! الهواء الذي يحتكّ ببعضهِ وبعظامهِ فيصدرَ أنينًا كأنين الحيتانِ في عُمقِ المحيط!
ابتلعَ ريقه بصعوبة، لم يستطِع رفع رأسهِ وهو يغفر فمهُ بعذاب ، يهمسُ بصوتٍ خافتٍ لا يكـاد يُسمَع : وش . . اسمه ... هالدكتور؟!!
سند بابتسامةٍ باردة : ممممم .. أعتقد اسمه اسامة أو شيء زي كذا! ماني متذكر .. بس عمومًا ماراح تلاقيه لأنّه بعد كم يوم سافـر وقرّر يستقرّ برى السعودية.
ثقلتْ يداهُ على صدرِ سند، ارتفعَ صوتُ أنفاسِه أكثر وهو ينظُر للأرضِ بعينين تتّسعان رويدًا رويدًا ، أكثر وأكثَر، بعينين لا تصدّقان ما يحدث ، أيّ جنون هذا؟ أيّ جنوووون!!!! ... إن كان في الأمسِ استرجعَ حالتـه في عزاءِ متعب ، فالآن هو يعيشُها! يعشُها بشكلٍ أعنف ، يعُود للشعورِ بالاختنـاق وكأنّه فقد رئتيه التي يتنفس بها، يتشنّج فمهُ ولا يستطيعُ تحريك فكيْه كي يُنصف الموقف بقول " جنوووون "، الآن أصبـحت للمعجزاتِ اصبعُ حقيقةٍ توجّهها نحوَ الموت! كيف ذلك؟ قاربنا أن نُكمل ثلاث سنينَ وأنت لنا ميّت! من فعل ذلك بنـا؟ ولمَ؟ من فعلَ بنـا هذا الحُزن واقترفهُ في حقّنا؟ . . في هذهِ اللحظـة لم يملكْ سوى الموتِ حيًّا وهو يقفُ في مكانهِ يُحاولُ أن يستوعب أمورًا كثيرة، عقله البـاطن لا يصدّق، يخبره من جديدٍ أنّها لعبةٌ من سند أيضًا، ربّما سند وأدهم شريكين! ربّما .. ربّمـا !! لكنّ الصوتْ ... يجيءُ من سطحِ الذاكرةِ ويثقُب كلّ انكـار ، الصوتُ الذي ناداه باسمهِ البارحـة .. والذي هتف بهِ اليــ . . .
شحبَت ملامحه أكثـر ، وأذنـاه استرجعتا تلقائيًا كلمـاته، ذاك الصوتُ كان صوت متعب! ذاك الصوت كـان صوته!!!! يا الله !! قـال ، قــال " الحضن الحرام " !!!!
شهقَ وهو يتركُ قميصَ سند ويتراجع بأنفاسٍ مُهلكـة ، وضعَ كفّه على صدرهِ الذي يرتفعُ وينخفض بقوّة، شعر أنّ قلبه سيخترقُ قفصه الصدري ويخرج، نظر للأرضِ دون حيـاةٍ وهو يهزّ رأسه بالنفي وصوتهُ يهمسُ بعذاب : أ .. أسـ ـيل !!! .. شلون ! وش .. هالجنوووون !!! شلون !! .. ما أحلم أنـا ! ما أسمعك بحلم! مـا كنت ميّت ! أنت حقيقة؟ أنت مبعوث! أنت . . أنت . . . آه . .
تأوّه بقوّةٍ وهو يحرّك ذراعيه ليحيطَ جسده المرتعش ومحاجره تكاد تقذف عيُونه، ضمّ جسده أكثـر . . يرتعشُ وهو يهمهمُ بكلماتٍ لم يفهمها سند ومعظم ما سمعه " أنت حقيقة " ليغرق في كلماتٍ أخرى لا يفهمها وكأنّه يحاكِي روحه بلغةٍ خاصّةٍ بينهما .. يتأوّه وعيناه جافّتـانِ بشكلٍ مُهلك، لم يبكِي في هذه اللحظـة بالرغمِ من أنّ صدرهُ بكَى، فقد التوازن في ردّات الفعل ، فقد ردّات الفعل المنطقيّة كلّها !! حالتـه الآن كانت أعنفَ من تلك الليلـة التي بُعثَ فيها الموتُ في الحيـاة ، والآن حينَ بُعثَت الحيـاةُ في الموتِ لا يدري أين أصبـح، أين صار جسده؟ روحه؟ لا يدري! لم يعُد يشعُر بشيء، لم يعُد يشعرُ سوى بغصّةٍ تنتحبُ في حنجرتهِ وكلماتٍ مبحوحةٍ متألّمةٍ يخاطبُ فيها متعب .. حتى أسيل التي تذكرها في غمرةِ " لفظ " نسيها لوهلةٍ وهو يفكّر بالأمرِ الأكبـر والمعجزةِ التـي فقدت هيبتها ، فقدَت هذهِ الكلمـة هيبتها في عدمِ الحدوث!
يحدثُ كثيرًا أن نفـرح في لحظةٍ وفي نفس الوقتِ لا نشعُر بفرحتنا هذهِ من حجمِها اللا معقول، لأنّ هذهِ الفرحـة كانت مُحالةً منذ الأزل، وحين تتحقّق ، لا نشعُر بها، وتختلطُ بالألـم .. كان يواجه ذلك الآن، لم يشعُر بأنّ شاهين الذي قال البارحة " أبيع كل شيء لجل أشوفه " كان في عُمقه الغائبِ يفرح! كان يتألّم أكثـر، من سنواتٍ غابَها فيها، من سنواتٍ كـان يظنّه فيها ميّتٌ في لَحد! يتصدّق عنه ، يعتمرُ عنه، يدعُو لهُ كثيرًا .. والآن حي!!!
لم يفكّر في هذهِ اللحظـة بالكثير ، بمعنى الكلمات التي قالها متعب لهُ قبل دقائقَ طويلة، لم يفكّر بمعضلةِ أسيل لوهلة .. لم يفكّر! وبقيَ يحاول أن يستوعب تلك الفكرة التي أرادها كثيرًا ، بقي يحاول أن يقتنع بأنّه في الواقعِ ولا يحلـم ، بقيَ يحاول بأشياء كثيرةً مُفردها " حياة متعب "، وجسدهُ يتفاعلُ مع مكوّناتِ السقُوط في هوانٍ وانحبـاس ثاني أكسيد الكربُون في رئته، جسدهُ يرتعش، وذراعيه تشدّان حولهُ دون شعورٍ في الواقع حتى يُطفئ رعشتـه.
بقيَ سند يراقبه ببرودٍ وهو يبتسم، وأخيرًا هاهو يشعُر بانتصـارٍ خبيثٍ وضميرهُ اندثـر خلفَ رغبته في إيلامِ شاهين ، لم يُبـالي بتوابع تلك الحقيقة التي أخفاها وهو يُدرك أنّ شاهين تزوّج بأنثـى لم يمُت زوجها كما يظن! لم يُبالي بشيءٍ وصمتَ وهو يتابعُ هذهِ المهزلة بمتعة.
تحرّكت أقدامهُ بجمودٍ نحوَه، وقفَ أمامهُ مباشرةً وكفوفُه ترتّب العبثَ الذي قام على قميصه، مدّ يدهُ أخيرًا نحوَ شاهين الذي لم يشعُر بهِ حتّى، وضعها على كتفهِ بابتسامةٍ عابثة وهو يلفظ : لا تفكر بشيء بهالوقت .. فكر بس بزوجتك ... وزوجته!
قالـها بسخريةٍ وانتصـار ومكرُ الثعالبِ يُضيء في عينيه، فترَت مشاعرُ شاهين في هذهِ اللحظـة، نظرَ لهُ بعينينِ ميّتتين وهو يفغرُ فمهُ ويُرخي من ذراعيهِ حوله، ذهبَ التشوّش الذي هاجمَ عقله رويدًا رويدًا، والتمعَت عينـاه أخيرًا بذهولٍ وهو يهمس بصدمـةٍ وقد استوعبَ كلّ شيءٍ أخيرًا، استوعب وغادرته صدمـة ما قيل ، لفظَ الشيء الوحيد الذي يشرح ما يحدثُ في هذهِ اللحظـات : مستحييييييييييييييييييييييييييييييييييل !!!
سند يُخفض كفه عن كتفِه وهو يلفظُ بسخرية : وش اللي مستحيل؟ انه عايش!! من يوم فتحت هالموضوع قبل شهور وأنا أدري بمصداقيته .. لو إنّك وقتها صدقتني أو أقل شيء نبشت بالموضوع ما صار اللي صار وتزوّجت وحدة مسمّاها أرملـة وهي غير كِذا ، بس ما أقـدر أنكر إنّي مبسووووط باللي وصلت له . . مبسوط يا شاهين!
شاهين ببهوت، يشحُب وجههُ أكثر وهو لا يريد أنْ يصدّقه، لا يريد أن يصدّق ما يُقـال ، لا يريد! لأنّه بحجمِ ما يتمناه قاتل! يخاف حقيقته كما يخاف كذبَه، أن يُصدم بأنّ كل ذلك ألاعيب ، ويعُود ليعيشَ أيـام وفاتِه من جديد، أن يكُون كلّ ذلك صدقًا، ويتألـم لثلاثِ سنين ، قضاها فيهِ الابن الوحيد لعُلا .. والبكرُ مات! في حريق . . كيف تأتِي الخياراتُ كلّها موجِعة؟ كيف عساها الدنيا تكون ناشزًا عن الراحـة في خياراتها بهذا الشكل!!
هتفَ بخفوتِ صوتِه وشحوبِ ملامحه : كذب .. كذب!! مستحيل هالشيء المجنون ... كذب!!!
سند بلا مبالاة : لا تصدّق .. براحتك، روح لزوجتك الحين و . .
صرخَ شاهين بغضبٍ وهو يقبضُ على عنقهِ ويدفعهُ للخلفِ حتى ارتطمَ ظهرهُ بالجدار بقوّةٍ حتى كادت فقراتُ ظهرهِ بها تتحطّم ، بغضبٍ جارِف : لا تتلاعب معي .. ابلع لسانك القذر ولا تتلاعب معي بموضوع مثل ذا!! أحـذرك يا سند .. كل شيء الا متعب .. تبي تنتقم مني بشيء ابتعد عن متعب ... كل شيء الا متعب !!!
ابتسمَ سند ابتسامةً ضيّقة وظهرهُ يئنّ لذاك الصدام كما أنّ وجههُ يقتربُ من الحمرةِ من قبضتي شاهين التي تكادُ تسحقهُ وهو لا يشعر بنفسه : ما جبت شيء من نفسي .. مو أنا اللي سويت فيه هالأمُور عشان تحطها براسي ... روح دوّره بتلاقيه ممكن بنفس المدينة اللي احترق فيها غيره.
شاهين بغضبٍ يحمرُّ وجههُ وهو يضغطُ على حنجرتهِ يكاد أن يحطّمها : أنت مجنووون؟ مجنون؟ هذي ماهي لعبة يا سند .. أرواح الناس ماهي لعبة! الموت ماهو لعبة!! العالم ماهي لعبة بيدينك! امي يوم وصلها وفاته كانت بتموووت عليْ، قلبي للحين يعيش بعزاه، ريحة السدر والكافور من غسيله للحين ما راحت! أنت مجنون؟ حقير لهالدرجة عشان تفكّر تنتقم مني بالموت والحياة؟
سعلَ سند وماتت كلماتهُ تناغمًا مع جحوظِ عينيه وهو يحاول بكفيه أن يدفعَ يدي شاهين من معصمِه، لكنّ شاهين كان يضغطُ على عنقهِ دون شعور، يشدُّ على أسنانه يريد عقلهُ الباطـن قتلهُ لأنّه استهـان برحلـة الموتِ وذهابها الذي ما كـان فيها إيـاب، سينتقم لاسم متعب الذي لُطّخ بـ " هوَ حي " من بابِ الحقد والانتقـام ، هذا الانتقام! هل للبشـر قلوبٌ تدفعهم لهذا الخطِّ من اللا انسانية؟ آه يا متعِب .. تلاعبُوا باسمك لمآربهِم المريضة ، تلاعبوا باسمك!
زمجرَ بغضبٍ وهو يرخي قبضتيهِ بعد أن استوعبَ ملامح سند التي تتلوّن أمامه وسعالهُ المتواصل باختنـاق، تركه وتراجع وهو يشتعلُ غضبًا، نظـر لهُ بحقدٍ ولم يستطِع منع نفسه من البصقِ عليه باحتقـار، أدار ظهرهُ نحوه ، وتحرّك خطواتٍ ضعيفةٍ مبتعدًا وجسدهُ دون شعورٍ منه ... لازال يرتعشُ من هولِ تلك الكلمات! - متعب حي -! ، متعب ، زُوّرَت أوراق تحاليل الجثّة التي دُفنت مكانه .. متعب ... في ميونخ!! يا للجنون ، بعُمق ثلاث سنين، كيف يظنّ أنه سيُصدّقهم؟ كيف يظنّ؟
لم يتحرّك سوى خطواتٍ قليلة ، قبل أن يأتيه صوتُ سند الخافتِ باختناقٍ بعد ارتطامهِ بالأرضِ بضعف ، صوتُ ضحكةٍ صغيـرة ، تبعتها كلماتٌ ساخـرةٌ منه : رووووح ... رووووووووح لها ... وصدقني .. لمّا يرجع متعب، بيكون حاقد عليك ... بس لأنّك أخذتها منه ... هه! أخُوه ، ياخذ زوجته .. وهو حيّ!
أغمضَ عينيه بعذاب ، رفعَ رأسهُ للسمـاءِ الزرقـاء، فغـر فمهُ باتّسـاع موجـاتِ الصرخـة التي اعتلَت في صدرِه ولم تكُن كافيةً لتخرجَ للعالـم كلّه سوى في آهةٍ صغيرة ... آهةٍ صغيرة .. آهةٍ لا تشرحُ الموتَ الحيّ الذي اعتلّ بأعضائِه . . سقطَت أقدامه، جلس على ركبتيهِ ويديه متدلّيتان جانبًا وهو يفتحُ عيناهُ وينظُر للسمـاء دونَ تصديق .. احتكّت أحشاءهُ ببعضها جعلها تشتعل ، هذهِ الشمسُ أمامـه .. ضحكَت عليْه، هذا القمرُ المتخفِي خلف ستـار النهار ، يشمتُ بصمتِه وعدمِ تواجـده، النجومُ الغائبـة، السُحبُ الباردة، الزفِير الذي يأتيهِ من لفحَة الصيفِ الخريفيّ بجفافٍ أخـرس .. هل تذكُر هديّتنـا الأولى لامّي ذات يوم؟ حين كنّا صغارًا وكان والدنـا لا يزالُ بيننا ، هديّتنا الأولى .. التي ادّخرنـا لأجلها جزءً من مصروفِنا، حتى اشترينـاها لها، عقدًا من الذهب ، هل تذكُره يا متعب؟ هذا العقدُ يا متعب، لازال يقبعُ في أحد أدراجها، لم تبهُت ذهبيّته ولم يتّسخ، لأنّها كانت تضمّه إلى قلبِها، وليسَ على نحرها .. هذا العقد، يشبهُ الخريفَ في ذهبيّته ، هل تذكُره؟ تذكُر فرحتها بِه، وضحكةَ والدنـا مازحًا بأنّه - يغار - ويُريد منّا هديّةً أيضًا .. وعدنـاه بأنّها ستأتيه قريبًا ... لكنّها لم تأتِه، مات ، قبل أن تصلَ إليه!! .. هل تذكُر كلّ ذلك يا متعب؟ هل تذكُر تلك الفرحـة؟ أتدري أنّها كـانت حُزنًا يومَ متّ؟ هل تدري أنها ضمّته إلى صدرِها بعد أيـامٍ من عزائِك، نسيت أنّه مني أيضًا ، واعتبرتهُ فقط منك حتى تحتفظَ بالذكرى الأولى منك ... لمَ فعلت بنَا هذا؟ لمَ تلاشيتَ من سمائِنا؟ لمَ جعلت فرحتها بـ - هديّتك - الأولى حزنًا؟ لمَ غبت؟ بأيّ ذنبٍ وأدتَ البسمة؟ لمَ غبت؟ ما الدافـع لهذا التلاشِي ، لهذا البُكـاء، لهذا الحُزن ، لهذهِ المتاهـة التي دخلنـا بِها ، ما الدافـع لتترك أسيل؟ ما الدافـع لكلّ هذا؟ . .
ابتلعَ ريقهُ بصعوبـة ، سقطَت دمعةٌ وحيدةٌ من عينِه اليُسرى ، سقطَت ببطء ، كبطء استيعابِه لهذه الحقيقة أخيـرًا ، كبطء السنين والأيـام، كثقلِ الأيـام من بعدِه ، شقّت خدّه القاسِي . . وهو يستوعبُ أخيرًا . . أنّ متعب حي!
،
يستغرقُ في قراءةِ أوراقٍ ودراستها وسطحُ مكتبهِ يعجّ بأوراقٍ رغمَ كثرتها مرتّبة، لطالمـا كانت حياتهُ داخل إطـار بيتهِ تعيشُ في رتابةٍ يحبّها ولا ينحلّ عنها.
رنّ هاتفهُ المكتبيّ فجـأة، مدّ يدهُ دون أن يرفعَ عينيه عن الأوراقِ أمامـه، رفعَ السماعةَ ليضعها على أذنهِ ويلفظ بنبرةٍ هادئة : أنا ماقلت لا تزعجوني بهالوقت؟
من الطرفِ الآخر : عذرًا طـال عمرك .. بس الاستاذ سلطان يبي يشوفك.
اتّسعت عيناه بصدمةٍ وانخفَضت يدهُ الأخرى بالأوراقِ التي يحملها حتى جعلها تستقرّ على المكتبِ وهو يلفظُ بصدمة : سلطان هنا؟
الآخر : أيه ، منتظرك بالمجلس من ربع ساعة ، معليش كان مُصر يقابلك.
سلمان بحدة : وليه ما علمتني من وقت ما جاء؟
ارتبكَ الآخر ما إن احتدّ صوتُ سلمان في اللحظـة ذاتِها التي عقد فيها حاجبيهِ باستغرابٍ من غضبه الذي لا يأتِي كثيرًا لأيّ أمـر، وبصوتٍ مُرتبك : بس أنت قايل ما يزعجك أحد قبل الظُهر.
سلمان : سُلطان استثناء! * زفـر بحنق * استغفر الله .. خلاص الحين بشوفه.
أغلق دون أن ينتظـر ردّه، نظـر للبـاب بجمودٍ وهو ينهضُ وعقدةٌ نبتت بين حاجبيهِ من بذرةِ الاستغراب ، بالتأكيد لم يجيء سوى لتلك الرسـالة التي أرسلها له البارحـة، فبغيـر فهد لا يوجد ما يدفعهُ لألـم لقائه.
تحرّك ملتفًا حول طاولة المكتب ومن ثمّ خـرج ليتّجه مباشـرةً نحو المجلِس، يولّد النظـرة الجافـة في عينيه والجامـدة ببرودها، فتحَ البـاب بهدوء، ليصتدمَ مبـاشرةً برؤيتِه جالسًا وهاتفهُ في يدهِ ناظرًا إليه بملامحَ جامـدةٍ بقسوة، يشدُّ على الهاتف بقوّةٍ يكـادُ يحطّمه بِها في طريقةٍ لتفريغ أعصـابه، كـان يهزُّ ساقهُ اليُمنى، وما إن فُتـح الباب حتى أوقفَ هزّها ورفعَ وجههُ إليه مباشـرةً وهو يُرخي ضغطهُ على هاتفِه، التحمَت نظراتهما بصمت، جمُودٌ فقط ، عينيهما الشبيهتين ببعضِها تحمُل في تلك اللحـظة النظرة ذاتَها، المشـاعر المُتلاشيَة وراء ستـار الجمودِ والبرود.
تحرّك سلمان بعد وقوفهِ للحظتين فقط، أغلق الباب ومن ثمّ اتّجه للأريكة التي أمامهُ مباشـرة، جلسَ ليضعَ ساقًا على أخـرى وهو يرسُم على ملامحهِ السُخرية المرّة : ماراح أقُول غريبة جـاي لأنّي عارف السبب . . بس . . * رمقهُ من أعلاه لأسفله وهو يرى النظرة الحاقدة في عينيه، ليُردف * مو كأنّ حالتـك قاعدة تصير أسوء يوم عن يوم؟
سلطان بجمودٍ وهو يرفعُ حاجبه الأيسر : حالتـي؟
سلمان يبتسم : ما عهدتك بهالاعصاب النافـرة ، كنت عصامي مو زي الحين ... شوي وتنفجر من أعصابك.
سلطان بسخرية : ماشاء الله تقدر للحين تقرأني حتى بعد ما انكشف زيفك!
سلمان : زيفي ما يعني إنّي ما أفهمك .. أنت تربية يديني.
سلطان بحدة : تربّيت لسن الـ 12 بس ، لا تنسى هالنقطـة.
سلمان بتحدي : كل العلوم الاجتماعية والنفسية تثبت إن مرحلـة المُراهقة هي الحساسة بشخصية الانسان واللي تقوّم بقيّة حيـاته ... مين كان معك بهالمرحلة؟ طيف فهد؟ صوت فهد؟ صوَر فهد؟ والا سلمان بشحمه ولحمه؟!
سلطان بحقد : كان معي شخص زائف!
سلمان : المهم كنت معك .. ما تهم هويّتي.
سلطان : أقـدر أفهم ليه ودّك تكرّر نفس الموضوع اللي قبل أكثر من ثلاث شهور؟
سلمان ببساطة : لأنّه صـار تقليد في السنـة أربع مرّات . . عيب عليك بنخلص السنة وهو ما صـار الا مرة بس!
سلطان بغضبٍ يتقدّم بجسدهِ للأمـام وعيني سلمان تقرأهُ بوضوح : من متى يهمّك الشخص اللي ذبحته؟
سلمان : من قبل لا يموت . .
سلطان باحتقار : منافق.
ضحكَ بمتعة : للمرة الثالثة يمكن . . بتندم على قلة أدبك كلها معي.
سلطان بحدة : الغي كل شيء .. ما أقدر أمثل على حسـاب نفسي.
سلمان يرفعُ حاجبه الأيسر ويكتّف ذراعيه إلى صدرِه : كم مرة بكررها لك يا بو فهد؟ كم مرة بقولك صرت ضعيف يوم عن يوم! أعصابك ما تقدر تمسكها ، مُثير للشفقة وطلعت بشخصيتك الحقيقية اللي ما شفتها الا من قريب ، أكبـر ثغرة فيك تسمح لك تفقد نفسك هي إنّك موقّف حياتك على أشخـاص معينين ، لو خسرتهم أو خذلوك بتنتهي وراهم كذا ببساطة!
كلماتهُ استفزّت سلطان الذي نظـر لهُ باشتعـالٍ ليهتف بغضب : على أي أسـاس مستنتج إن حياتي وقفت عليك؟ هـذا أنـا ، ماني ضعيف ولا شيء .. الحقد يضعف؟ بالعكس يقويني .. مشاعر الحُب والامتنان ذي هي اللي تضعف، المشـاعر التافهة اللي مالها مكـان .. لأنّ مافيه شخص .. يستاهلها ، مافيه شخص!
سلمان يبتسمُ ببرود : عنـاد ، امك ، غيداء ، زوجتك ، كل هالناس ما يستاهلونها؟ بسببي أنا عمّمت نظرتك على كل اللي تعرفهم؟ شايف شلون وقفت حياتك علي؟ شلون صرت مُثير للشفقة لدرجة إن كل شيء انتهـى بحياتك عندي! واضـح كانت تربيتي لك بدون قصد مني أساسها أنـا! محورها سلمـان ، وحتى لو ما كنت حقدت علي وشفتني بعين ثانية .. لو متّ ، كانت حياتك بتتغير!
سلطان : لو مت .. كانت بتظل ذكرى حلوة وبس، وما بذكرك الا بالخيـر . . ما كنت بنصدم بأن حيـاتي كلها كانت زيف!
سلمان بابتسامة : لو مت .. كنت بتلاقي موتي حجّة عشـان تشوف إنّ الدنيا فارغة! وش كثـر أنت ضعيف يا سلطـان ، وش كثر أنت ضعييييف!!! . . . وبعدين يا يبه كم مرة قلت لك لو تفتح عمل الشيطان؟
سلطان بحنق : لا تقول يا يبه! ولا تنسى إنك أول من بدا يقول " لو "!!
سلمان بضحكةٍ قصيرةٍ باردةٍ بشكلٍ مُستفز : أيه صح نسيت ... يـا ولد!
عضّ شفتهُ بغضب، وقف وهو يشدّ على قبضتيْه وأسنـانه يكادُ يحطّمها ببعضها البعض من فرطِ الاستفزازِ الذي مارسهُ عليه وأتقنـه، لفظَ بقهرٍ بينما سلمان يُتابعهُ بعينٍ باردةٍ وابتسامةٍ مستفزة : تقــدر تسوي . . .
قاطعهُ صوتُ حطامٍ اعتلا فجأةً من خلفه، حطـام النافذة التي وراءه وقد اخترقتهـا رصاصةٌ اندفعَت مباشرةً لتجاورَ كتفَ سلطان ولا تُصيبه، اتّسعت عينـاه بصدمةٍ ولم يستوعب في تلك اللحظـة شيئًا بسـرعة .. اختلطَت الأصواتُ فجأة ، زجاجٌ تناثـر وأصابَت شظايا منهُ عنقهُ من الخلف، صرخةٌ اندفعَت بـاسمه، ومن ثمّ شعرَ بكفٍّ أمسكتهُ بعنفٍ لتدفعهُ على الأرضِ بقوّةٍ ومن ثمّ ينبطِح بجوارهِ وهو يصرخُ بانفعالٍ ويُحـاول دفعه ليزحف مقتربًا من الأريكة : قرّب من الكنب ، لا تكون بنطـاق النافذة .. قرّب من الكنب يا سلطـان . .
كانت عينـاه متّسعتـان بصدمةٍ ممّا يجري، ينظُر لملامحِ سلمان بجانبهِ والتي كانت تصرخ بانفعالٍ حتى تصاعدَ صوتهُ أكثر كي يُفيقه مما هو فيه : سلطــــــاااااااااااااااان
استوعبَ أخيرًا ، وتحرّك يزحفُ للخلفِ وكف سلمان على كتفهِ تدفعهُ كي يبتعد عن نطاق النافذة ورصاصاتٌ كانت تندفعُ بهجومٍ ضاري لتخترقَ قماشَ الأرائك التي لحقَت بها، التحقا بنقطةٍ آمنةٍ لا تصلهما فيه الرصاصاتُ من النافذة، تنفّس سلطان بقوّةٍ وهو يُعيد كفّه للخلفِ وقد هدأ هجومُ الرصـاصِ وصمت، وضعها على مؤخـرةِ عُنقهِ وهو يشدُّ على أسنانهِ بألم، سحبَ الشظيّة التي اخترقت جلدهِ بعمقٍ سطحي، رماهَا ومن ثمّ ضغطَ على جرحهِ كي يوقفَ نزيفه، وعينيه كانتا تنظُران لسلمان الذي سحبَ هاتفهُ من جيبِه وطلبَ رقمًا مـا ، أنفـاسه لم تهدأ، ينظُر لهُ دون تصديقٍ لمـا حدث، لمَ أنقذه؟ ما الذي يحدث أصلًا؟ من أين جاءت هذهِ الرصـاصاتُ ولمَ؟
انتبـه لسلمان الذي كان يُحادث بصوتٍ منفعل : أيه . . لا ماني متطمّن من الحركـة الحين يمكن للحين بمكانهم ينتظرون يشوفون أحد يتحرّك . . طيب ، لا تتأخـرون.
بقيَ ينظُر لهُ بصمتٍ مُريعٍ حتى أغلقَ هاتفه ونظـر لهُ بحدة، داهمهُ سلطان بنبرةٍ حـادةٍ قبل أن يقُول شيئًا : وش قاعد يصير هنا؟ وليه أنقذتني؟!!!
سلمان ببرودٍ مُستفز : ما أبيك تموت الحـين ، وبعدين لا تنسى ، سبق وقلت لك أهدافي مالها شغل فيك لذلك ماراح أنسى السنوات اللي ربيتك فيها مثل ولدي .. ما اعتبرك ولد فهد ، لذلك ما ودي أقتلك بهالوقت!
سلطان بغضب : بهالوقت؟
دفعهُ وقد فقدَ أعصابهُ باستفزازهِ له، صرخ وهو ينهضُ جالسًا بتهور : ودك تختار وقت موتي بعد؟ على أســاس بـ . .
سلمان بعصبيةٍ صرخ في وجههِ وهو يُمسك كتفهُ بحدةٍ ويُعيده للخلفِ قسرًا : اهجد يا حمــاااار
شدّ سلطان على أسنانه من ألمِ ظهرهُ وعنقهِ المجرُوح، وبنبرةٍ مختنقةٍ بقهر : ابعد يدك.
سلمان بحدةٍ وهو يُرخي ضغطَ كفه على كتفه : جرّب تعانـد ، وقتها ما بتحس حالك الا وأنت في السرير ومن يدي أنا ماهو من الرصاص! مبزرة !!
أشـاح وجههُ عنه بعصبيةٍ بينما بقيَ سلطان يرمقهُ بعينينِ حانقتين، لوهلـةٍ استرجـع الكلمات الكثيرة التي سمعها منه ذاتَ يومٍ وانقلبَت من بعدِها حيـاته، قبل أشهرٍ طويـلة، كـان يُحادثُ فيها أحمـد، وانسابت الكلماتُ على أذنه كرصاصٍ ذائبٍ لازال يحرقهُ حتى هذهِ اللحظـة ( سعيد إنّ اغتيـال فهد قبل سنين كان ناجح )
أغمضَ عينيه بقوّةٍ وألـم، غابَ الحقد خلفَ أجفانِه، وصوتُه يأتيه من جديدٍ بنبرةٍ مستخفّةٍ ساخـرة ( أتخيّل لو عايـش لهالوقت! )
( الحمدلله تخلّصت منه ، كـان غصّة ببلعومي )
تلك الكلمـات صنعَت على ملامحه البهوت، جعلتـه يموت ذاك اليوم، جعلتهُ يشعر أنّه فراغ، أنّه لم يكبر، ولم يحيا، ومـات مع أبيه . . كان يتحدّث كثيرًا ، يُفصح عن حقدِه وكرههِ لأخيـه، عن فرحتِه بموتِه، عن راحتـه من بعده، بينما كان كتفهُ يكاد ينغرسُ في الجدارِ من وراءِ البـاب الذي لم يكُن مُغلقًا كفايةً حتى يُخفي كلماتِ الحقيقة، يكاد الجدارُ يبتلعه، وفي عينيه غابَت الحيـاة وهو ينظُر لعالمـه ببهوت ، عالمه الذي تحطّم، تـلاشى، من بعدِ صوتِه.
لم ينتبه حين انطفأ صوتُ سلمـان، كـان يغرقُ في ضحيج أفكـاره التي فقدت القدرة على التصديق، يظنُّ بأنه يحيا كابوسًا، كلّ شيءٍ لم يكُن حقيقة، كـان يحيا كابوسًا.
خرجَ سلمان وملامحه يطغى عليها الجمود، تلاشـى الجمودُ فجأة، وحلّت على ملامحه الصدمـة وهو ينظُر لسلطان الواقف دون تصديق، ينظُر لهُ بعينينِ ترفُض فكرة أن يكُون سمعـه : سلطااااااان!!!!
نظـر لهُ سلطـان، واستطاع سلمان في تلك اللحظـة أن يلمحَ حُمرة عينيه التي تستعدُّ لبُكـاءٍ نادرٍ لم يرهُ منه سوى في أيـام المراهقـة ولأجـل فهد، دمُوعٌ لم تكُن تسقُط، لم تكُن تعرفُ الوجود . . . في تلك اللحظـة، حدثَ أن تحسّر سلطـان بكلمـات، هاجمهُ دون تصديق، حتى انتهى ذاك الهجومُ ببرودٍ ساخرٍ من سلمان .. اعترف فيه، أنّه بالفعلِ من قتله! .. في تلك اللحظة .. انتهت قصّة سلمان وسلطان، انتَهت قصّة الأبِ والابن.
أفـاق من ذكريـاته الموجعـة على صوت سلمان وكفّه التي استراحَت خلف عنقهِ لافظًا بحدة : ياقة ثوبك مليـانة دم .. من وين جاء؟
نظـر لهُ بعينين حاقدتين بقوّة، هذهِ النظـرة فاجئت سلمان لعلوّ الظـلام في زواياها، لتضاعفِ النـارِ فيها أكثر دونَ انطفـاء. رفعَ كفّه ليُمسك بكفّ سلمان ويرميها بحدّةٍ بعيدًا عنـه، وبحدةٍ حاقـدة : لا تلمسني .. حسّك ترجع تلمسنـي !!
ابتسمَ سلمان ببرودٍ مُستفزّ، رفـع يدهُ من جديدٍ ليضعها على جرحِه دونَ مبالاةٍ بنظرة الحقدِ والغضب، تشنّج جسدُ سلطان ليجلسَ مباشرةً بحدةٍ وهو يهتف بغضبٍ ناري : ابعد يدّك الزفت . . .
لكنّ كلمـاته أُخرسَت فجأة، انسدلَت أجفانُه وتأوّه من يدِ سلمان التي ضغطَت بمهارةٍ خلف عنقه، تراجـع ظهرهُ للخلفِ حتى استلقَى ببطءٍ على الأرضِ وهو يُغمض عينيه في حالـة إغماءٍ بطيئة.
مرّر سلمان لسانه على شفتيه وهو يلفظُ بصوتٍ وصل إليه مشوّشًا : قلتلك اترك العنـاد والمبزرة هذي والا ما بتحس على عمرك إلا وأنت بالسرير . . نــام يا سلطان .. نـام يا ولد !
غابَ عنهُ الوعي وهو يحاول أن يقاوم هذا الاغمـاء لكنّه لم يستطِع، وآخر ما شعـر بهِ هو كفّي سلمان التي حرّكت أحدهما رأسه جانبًا حتى يظهر لهُ عنقه، والآخرى مسحَت بأناملها الدمَ الذي أغـاب بحُمرتهِ لون بشرتـه . . . بحنان !!
يُتبــع . .
|