كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
يجلسُ في مقعدهِ بهدوءٍ أقربَ لجمودِ التفكيـر الذي توقّف عند تلكَ الكلمـات المعوجّة، يسترسلُ جمودهُ بالعُمق في تلكَ الكلمـات وما تعنيها، هاهـي ربكةُ البارحـة التي أصابتها تعُودُ لشغلِ تفكِيرهِ بعد كلماتِ سالِي، احمرارُ عينيها، خوفُها، ومن ثمّ ربكتها مرةً أخـرى وكذبها عليه! هل تكُون سالِي صادقةً في كلِّ ماقالته؟ منذ رأتها تبكِي حتى هذهِ اللحظـة؟ . . ارتفعَت نظراتُه نحو غزل التي دخَلت وهي تُخلخلُ بأناملها شعرها الذي ربطتهُ في ذيلِ فرس، مررتْ أصابعها على ذيلِها الطويل الأسـود والذي لازال رطبًا، في حينِ كـان هو يراقبُها بتركيزٍ وهي منشغلةٌ بشعرها ولم تنظُر لملامِحه، ما معنى ذلك؟ أن تحـاول دخُول غرفتهِ بشتّى الوسائل وتهدد سالِي كي لا تخبره، أن تستخدمَ أساليبَ وضيعةً لتفتحَ قُفل بابِ المكتبِ حتى تدخُل، وتضع الصينية أمام البابِ كإنذارٍ لدخوله! كلُّ ذلك ليس مجرّد فضـول! لا يمكن ، ليس فضولًا ما يجعلها تصلُ إلى هذهِ النقطة التي تجعلها تأخذ حذرها بهذا الشكل.
نظرَت نحوهُ بعد أن انتهَت من مداعبـة شعرها، ابتسمَت بتوترٍ ليبقى بنظراتِه الجامدة نحوها قبل أن يُشيحَ بعينيهِ عنها وينظُر لطبقهِ بصمت، توتّرت أكثر وهي تزدردُ ريقها ونظراتها تميل نحوَ الاستنكـار، لكنّها لم تقُل شيئًا وهي تتّجه للكرسي وتسحبهُ حتى تجلس.
باقترابِ صـلاةِ العصـر.
بقيَ ساعةٌ إلا ربعًا على موعدِ الصـلاة، تجلسُ في غرفـةِ الجلوسِ معه وبينهما أحاديثُ كانت باردةً من جهتهِ ومتوترةً من جهتها، أحاديثُ قصيرةً تُبترُ كل دقيقتين باللعب بهاتفها مللًا، مابِه؟ فجأةً أصبحَ باردًا معها ولا يبتسمُ بعد أن دخلَ باسمًا . . ازدردَت ريقها وهي لا تُحب أن يكُون بهذا الشكل، لكنّها صمتت بضيقٍ ولم تسألهُ عن شيءٍ وهي تتصفّح برامجَ هاتفها بضجـر.
وقفَ سلطـان فجأة، حينها ارتفعَت نظراتُها إليهِ عاقدةً حاجبيها بتساؤل، تحرّك خارجًا وهو يهتفُ بجمود : بجهز للصـلاة * أدار رأسهُ إليها * ترى بتأخّر اليوم، ماراح أرجع الا بعد المغرب ووقتها بآخذك للمشغل.
أومأت برأسها وعينيها تلتمعـان وقد وجدَت في خروجهِ الآن الفرصةَ السانحـة لها، خرجَ من الغرفة ليتّجه للأعلى حتى يبدّل ملابسه ويخرج، في حينِ كانت غزل تجلُس منتظرةً خروجه وهي تقلّب الهاتفَ في كفّها، تنظُر للأرضِ بتفكيرٍ عميقٍ وساقُها تهتزُّ باهتزازٍ رخويٍّ واهِ، كيف لها أن تتّبع دينًا يودِي للجحيم؟ أن تتّبع دين الغدرِ والخداع؟ ستبقى تقولها وتُكرر، ما ذنبي أنا؟ كي أحضى بهذهِ الدونيّةِ وجلدٍ لذاتِي، كي أظفرَ بصفةٍ لم أُرِدها يومًا فيّ وأنا التي مسّها الغدرُ حتى انتهَت حدودهُ في عينيّ، من ذا الذي يُكرر مآسيه في سواه؟ لا أحـد، لا أحد سوى المجبولُ قلبهُ على الأنانيـة، لحظة! ألم أقُل سابقًا أنّي أنانيّةٌ ولا أهتمُ إلا لنفسِي؟ لكنّ ذلك مختلف! مهما تأصّلت الأنانيـةُ فيّ لم أكُن لأقرنها بالغدرِ والخداع.
زفَرت بيأسٍ وأجفانها تسقطُ كقطراتِ ندى أرادتْ سُقياها، لكنّ تلك القطرات أخطـأت طريقها وانحرفَ مسارها ليجفّفها اليـأسُ أبدًا.
سمعَت صوتَ خطواتِه الجاثِمة على عتباتِ الدرج، نظراته اليوم غريبة! منذ الغداءِ وهي تلحظُ جمودَ صوتِه ونظراتِه التي لا تلتقِي بها إلا ورأت فيها شيئًا ما ! شيئًا لا تعلـم إلا أنّه حارٌ وإن أصابـها ستحترق!!
هزّت رأسها تطرُق تلك الأفكـار التي أرعبتها، بالتأكِيد هنـاك شيءٌ ما في عملهِ جعلهُ يأتِي بمزاجٍ سيءٍ ولم يحادثها كثيرًا حتى لا يجرحها بقسوةِ صوتِه، نعم ، هذا هو سلطـان، الذي يحاول عدم جرحِها . . وتؤذيه!!
قطّبت جبينها بانزعـاجٍ وهي تنهضُ بعدما سمعَت صوتَ البابِ الذي أطبقهُ بقوّة، مزاجـه فعلًا سيء، ويبدو أنّه لم يُرِد أن يجرحها بمزاجِه فعلًا . . آسفةٌ يا سلطان! حقًا آسفة، كلّ ما أفعلهُ رغمًا عنّي وحينَ ظننتُ أنّي أملك الخيار اكتشفت العكس.
تحرّكت لتخرجَ من الغرفـة، نادَت بصوتِها الحاد على سالي التي هرولَت إليها بسرعة، نظرَت إليها غزل ببرودٍ لتلفظ : هالمرّة ماراح أحط صينية عند الباب، زين إن كذبتي الواضحة مشَت عليه أوّل ، خليك قُرب الباب لين أخلص وإذا دخل سلطان اهذري على راسه بكل صوتُك لين أغطّي اللي سويته.
سالِي بخوفٍ تعترضُ به : بس مدام أنا مافيه شُغل مع عصابة زي إنتَ ، أنا إنسان مافيه شيطان مجرم.
اتّسعت عينـاها بغضبٍ من كلماتِها لتصرخ : وقطع لهاللسـان يا حيوانة ، شكلك مشتهية أعلّقك من شعرك بالسقف؟!! ولسانك بقطّعه واقطه للكلاب . . امشي بس سوّي اللي قلت لك عليه والا بتشوفين وقتها شغل العصابات جد . . الله يلعنك !!
تحرّكت الخادمة وهي تنتفضُ بخوفٍ منها، وقفَت قُرب البـاب لتذهبَ غزل وتقُومَ بذاتِ الذي فعلتهُ عند الظهيرة . .
،
أوقفَ سيّارته أمـام منزلِ يوسف، زفـر بإرهـاقٍ وهو يرفعُ هاتفهُ ويتّصل بهِ ليُوقف الاتصـال بعد رنّةٍ واحدة كدليلِ قدُومه، أخفضَ أجـفانهُ التي تثقُل بهمّه وأفكـارهِ وبؤسِ الليلة السابقـة التي كان من المفترضِ أن يكُون فيها يحترقُ لهفةً، أنزلَ رأسهُ ليسندهُ فوقَ كفيْه على المقود، ومن ثمّ أغمضَ عينيهِ يُريدُ من ذاك الثقلِ فوقَ أجفـانهِ أن يسقُط، يريد لحظّهِ السيء أن يمُوت، يريدُ لكلِّ القضـاء أن يردّ بدعواتٍ يرتّلها من شفاههِ بأن تمضي هذهِ الليلةُ على خيرٍ وينتهي كل شيء، أن يضمّها بينَ ذراعيهِ كما رغبَ وكمـا تطلّعَ وكما يحتاج! الحاجـة أشدُّ ما سيُخبركِ عن عشقِي لك! هل أخبرتكِ يومًا أنّك العناصـر الأربعة للطبيعة؟ مائِي الذي يسقيني، هوائي الذي أتنفّس، نارِي التي تشتعلُ في عروقي لأجدّدَ بها عشقي لكِ، الترابُ الذي تنبتُ من فوقِه الحيـاة وتُزهر! يتوقّف نموُّ الأشيـاء يا جيهان دونَك، نعم ! - الأشيـاء -، حتى الجماداتُ تنمو أمـام عظمتِك.
مرر لسانه على شفتيه وهو يرفعُ رأسهُ ما إن سمِع البابَ الذي بجانبِه يُفتح، نظرَ إلى يوسف نظرةً خاليـةً من الصفـاء وهو يراهُ يجلسُ بجانبهِ ويُغلقَ الباب، ملامحهُ كـانت جامـدة، تُخبرهُ بوضوحٍ كيفَ أنّه غاضبٌ عليهِ وعاتب، غاضبٌ لأنّه كسرَ الأمـانة التي عهدها إليه، عاتبٌ لأنّه أبكـاها، أحـال شظاياها لسراب.
لم يتحرّك أبدًا وهو يُخفضُ كفيه عن المقودِ وصدرهُ يرتفعُ بنفسٍ عميقٍ يجتذبُ بهِ اكسجينًا زائفًا، فلا أكسجين حقيقيَّ سواها، تدافعت الأحرفُ إلى فمهِ برتابةٍ لينظّمها في جملةٍ متسائلةٍ خرجَت من بينِ شفاههِ بخفوت : كيفها جيهان الحين؟
صمتَ يُوسف وهو ينظُر للأمـام بسكُون، ينتظرُ منه فوّاز إجابـة تشفي أعاصـير القلق، يدرك أنّ حُزنها مُدللٌ سيدفعها للبكـاء لساعاتٍ حتى تجفَّ عينيها دونَ نضوبٍ للدمع، يدرك أنها تعزّي ذاتها وتلعنُ زواجها بهِ وحبّها، حبّها الذي يخشى زوالـهُ فعلًا!
لفظَ بضيقٍ وهو ينظُر إليهِ بقهرٍ من كل شيء : عمـي . .
قاطعهُ يُوسف بجمودٍ تخلخلَ من بينهِ الكثير من العتـاب، الكثير من خذلانِه بِه : ليش سوّيت اللي سويته فيها؟!
فواز برجـاء : لا تسألني عن شيء ، تكفى لا تسألني.
يُوسف بجمودٍ دونَ أن ينظُر نحوه : تحرّك ، خلنا نلحق عالصلاة ما بقي عليها شيء، وبعدها نكمّل حكِينـا.
فواز يجتذبُ أنفاسًا تثقُل بجزيئاتِ الهواء التي تشاركهُ الحزنَ الثقيلَ الذي يتّكئُ على عينيه المنكسرتين، لفظَ بألم : عمي، هي لو تدري بقدرها في قلبي كانت بتشوف نساء الأرض كلهم - عدم -!!
يوسف بذاتِ نبرتهِ الجامدة والصارمـة في آن : تحرّك الحين ، نحكِي بعدين . .
زفَر باستسلامٍ وهو ينظُر للأمـام بحشرجةِ الوجعِ في محجريْه، شدّ على المقبضِ بيديه قبل أن يحرّك السيـارة وصوتُ الأذآن يرتفِع، ردّد من خلفِه بصمتٍ تتحرّك بها شفاهه، ومن ثمّ صلّى على النبيّ وقـام بالسنةِ ليُردفَ بصوتٍ فارغٍ لم يصلْ إلى يوسف وهو يُنهيه قبل أن ينسلّ من بينِ شفاهه . . اللهمّ ربّ هذهِ الدعوةِ التامـة ، والصلاةِ القائمـة ، آتِ هذا الحُب الثباتَ الكافي في أركانِه حتى يتّزنَ ويُخلّد !!
،
النـارُ تركَت آثـارها هُنـا، الاسودادُ يشقُّ الجدرانَ في وشوماتٍ كارثيّـة، ينطبعُ على رفُوفِ الكُتبِ برسوماتٍ مأسـاويّة، كُتبٌ محترقٌ نِصفُها، وصورٌ احترقَت وسقطَ إطـارها الملهوبُ بدخانِ النـار الأسـود . . تحرّكت خطواتُها نحوَ الداخِل ببهوتٍ وهي تضعُ كفّها على فمها وعيناها تتّسعان بذهولٍ مِمّا تراه . . ما المأساةُ التي حدثت هُنا؟ وكأنّها دخَلت إلى فيلمٍ مُرعبٍ فجـأة، فيلمٍ يُعاني فيه صاحبُ هذا البيتِ من جنونِ الذكريـات التي تجعلهُ يحتفظُ بكلِّ هذا في صورةِ مأسـاة، ماهذا الجنونُ الذي تراه؟ ماهذا الذي يُخفِيه سلطان هنـا بهذا الشكل المُرعب؟ بلونٍ أسـود يُحرِقُ العيُون في النظرِ إليها ذُعرًا.
تحرّكت للداخِل أكثـر ويدها تنخفضُ عن فمها لتبلل شفاهها وهي تتنفّس باضطراب، هل يكُون سلطان مجنونًا حتى يترك مكانًا كارثيًّا كهذا؟ هل يكُون فاقدًا لعقلهِ كي يدسّ احتراقًا في جيبِه ويحتفظَ به!!!
اتّجهت نحوَ إحدى الخزائِن التي تحوِي داخلها كتابًا احترقَ نصفُه، وقفَت أمامها وجسدها يقشعرُّ من شكلِ المكـان، تضمُّ أصابعَ قدمها من فوقِ حذائها البيتيَّ بشكلٍ متوترٍ وكفيها يتعانقان ومن بينهما هاتفها قبل أن تفكّ عناقهما وتتركُ لإحداهمـا الامتدادَ نحوَ الكتـاب المحترق لتراه، لترى الغيـابَ في أوراقِه، دخـان القهوةِ المرّةِ في الغلاف، تلك القهوةُ التي تجاوزَت مرارتها كل المذاقاتِ في حنجرةِ سلطان، لترى بؤسَ خمسَةَ عشر عامًا ظنّها سعيدةً واكتشفَ أنّ سعادتها مُحيَت بممحاةِ الحقيقة، لترى انكسارَ كأسِ علاقةٍ دامَت كومضةٍ صعد من فوقها وأسقطتهُ فجأةً في مُحيطِ الغـدر.
أمسكَت الكتـاب بكفٍّ مرتعشـة، لكنّه سقطَ فجأة! انسلّ من بينِ يديها بذعرٍ حين انتفضَ صوتُ سلطـان من خلفِها بغضبٍ وهو يدخُل بعد أن كـان يراقبها خارجًا منذ البداية : غـــــــــزل !!
استدارَت بسرعةٍ وهي تشهقُ وظهرها يصتدمُ بالخزانة، عيناها اتّسعتـا بذعرٍ ناظرةً إليه كمن أُمسك بالجرم المشهود، وفعلًا كان هذا هو ما حدث!!
ركل سلطان الباب من خلفهِ بغضبٍ وهو الذي كان منذ البداية يكذبُ في خروجهِ حتى يرى إن كانت سالي صادقةً أم لا، ولم تكُن كاذبة! صدقَت ليرى بعينيه تحرّكاتِها المُبهمة والمثيرة للريبة!! . . تحرّك نحوها والغضبُ يرسم خطوطهُ في تجعيدةِ ما بين حاحبيه وتضييقه لعيناه، اقتربَ منها لتتراجع للخلفِ ولا - خلف - بعد الخزانة التي كانت تلتصقُ بها، ارتعشَت شفاهها لتتلعثم الكلماتُ في فمها وتخرج إليه متوترةً خائفةً زادَته يقينًا بأنها تقوم بأمرٍ خطِر : أ أ .. بــي ، أشـ وف فها ، أنـ ...
قاطعها بصوتِه الحاد وهو يقف أمامها مباشرةً وينظُر إليها نظرةً لم تعتدها، نظرةً أذابت كل أمانٍ لها لتُصيب الرعشة كلّ خلاياها : وش اللي قاعدة تسوينه من وراي * كرر بصراخِ صوتِه * وش اللي قاعدة تسوينه يا غـــزل !!!
انكمشَ كتفاها بذعرٍ وأحداقها ترتعشُ بنظرها نحوه : والله ...
صرخ : لا تحلفيــن كذب !!
أمسكَ كتفها وهو يقرّب وجههُ منها ويلفظَ بصوتٍ كالفحيحِ في خطرِه : وش تعنِي حركاتِك ذي؟ تدخلين من وراي وتستخدمين أساليب رخيصة؟؟!!! وش اللي تسوينه يا غزل!!
فتحَت فمها المرتعشَ تبحثُ عن كذبةٍ تقُولها، لكنّ الكلمـات تمُوت في حنجرتها قبل أن تُكمل صعودها، انزلقَت أعذارها الكاذبةُ وصوتُ رنينِ هاتفها يعلو في كفّها مسببًا انتفاضـة ذعرٍ أخرى، شدّت على الهاتفِ وهي تنظُر إليه باتّساعِ عينيها وشفتيها الفاغرتين، في حين انتقلَت نظراته الغاضبة من ملامحها إلى كفّها، لم يستغرق بالنظرِ إليها أكثر من ثانيتين قبل أن يمدّ يده الأخرى ويقتلع الهاتف من كفّها بحدة، قلّبه في يدِه ليرى أمامه اسم " أبوي " وتُظلم عينيه أكثـر، ظلامًا كان مُرعبًا، مرعبًا أفقد قلبها الحيـاة لثوانٍ لتموتَ النبضـات ويتلاشى الأكسجين في حرارةٍ انبثقَت من جسدهِ أحرقتها بخوفها، بسقُوطِها في هذا الغدرِ الذي كانت تُقيمهُ عليه.
لم ينظُر سلطان ناحيتها أبدًا، بل بقيَ ينظُر للهاتفِ بصمتٍ ويدهُ الأخرى تقسُو وتثقل فوقَ كتِفها، حرّك اصبعه ليرد ومن ثمّ شغّل مكبر الصوت، وفي تلك اللحظة شعرت أنّ كل شيءٍ ينتهي وهي تستمعُ لصوتِ والدها الذي انبعثَ باردًا، نبعَ بميـاهِ ينبوعٍ تكادُ تكون جليدية، بنبرةٍ تحمّلت بكلماتٍ أدركَت أنّها أنهتهـا حينَ ارتفعَت نظراتُ سلطان إليها متّسعةً بنـارِ غضبٍ عــارم : هاه حصّلتي اللي أبيه؟
،
تحمِل صينية الشـاي والقهوةِ بين يديها، خطواتها ترتبكُ رغمًا عنها حين تتّجه أقدامها للمجلسِ الذي يتواجـه فيه - أمجد -!! ابتلعَت ريقها وهي تطردُ تلك الربكة، ما دافعها الآن ووالدها موجودٌ معه؟ حتى عينيها لن تترك لها فرصةَ الالتقـاءِ بعينيه، ستضعُ الصينية وتصبّ لهم القهوةَ والشاي وتقدّمه ومن ثمّ تخرجُ مباشـرة.
توقّفت خطواتُها أمام البابِ وهي تتنفّس بتعثّر، تُحاول مدّ ذاتِها بالشجاعـة حتى تُكمل خطواتِها وتدخل، كانت ترتدِي حجابًا وملابسَ تسترها كفايةً بما أنّ الشكَ خالجها بأنّ أمحد ليسَ خالًا لها! بالرغم من كونِها تستنكر أن يترك والدها تلك الحريّة بينهما حدّ أن تسلّم عليه لمرات ! لكنّها بالرغمِ من ذلكَ ستعامله كشخصٍ أجنبيٍّ عنها حتى يثبت هذا الأمـر أو العكس.
تحرّكت نصفَ خطوةٍ لتدخل، لكنّها توقّفت فجأةً حين انساب صوتُ أمجد بعد رحلـة الصمتِ التي كانت بينهما : في مثل هاليوم ولدت ام فارس الله يرحمها ولدها الميّت، وأهدَت حليبه لغيره!
تجمّدت في مكانها للحظةٍ وهي تعقدُ حاجبيها للجملةِ التي أطلقها، في حينِ كان جوابُ ناصر هو الصمتُ لخمسِ ثوانٍ قبل أن يزفر بضيق : الله يرحمها ، بس أيش اللي جاب هالموضوع الحين يا أمجد؟!
أمجد بغموض : ونقُول بعد إنه في مثل هاليوم اكتشفت بنتَك اللي ما كِنت تدري عنها !
ناصر بزجرةٍ بعد أن انقبضَ قلبهُ بضيقِ تلكَ الذكريات : أمجـد قفّل عالموضوع.
أمجد الذي وقفَ بقهرٍ من مقعدِه : عجزت أطرد هالموضوع من بالِي اليوم وكل شيء صار بالماضي يرجع ويتكرر وكأنّه صار أمس! أختِي ، زوجتك اللي خدعتنا ، وجنـان اللي كانت نار تحرِق أختي وهي تشوفها كل يوم وغصب عنها لازم تعاملها كبنت لها !!
،
كثيرًا ما تقتُل الحقـائق أمورًا كثيرة، حينما يلوّث البيـاض، حينما تُمزّق صورةُ البراءة وينكسرَ إطارها، حينما يسقطُ اليقين بيقينٍ آخـر . . ماتت تلكَ النظرة التي كـان يراها بها " غزالًا " بريئًا، لطالمـا قـال بأنّها بالرغم من كل مساوِئها هي نقيّةٌ من الداخِل، لطالمـا رسم لها صورةً كاذبةً سرعان ما صـارت وشمًا في دمـاغه، وشمًا تأصّل فِيه وصدّقه بيقينٍ غبي . . يا قبحُ الحقيقة الزائفة! يا قُبح الخداعِ الذي يُهلكُ ويسبِي من دمِه الجريـان، يا قُبحَها في عينيه الآن بعد أن رآها الطاهـرة من الغـدر، بعد أن جرّدهـا من والدها وقـال " مالها دخل "!!
" مالها دخل! قالها . . وانكسر قوله بغدرها "
نظـر إليها باحتقـار، لا يدري ما الكمّ الذي يكفيه من نظراتِ الاحتقـار الآن، من الكرهِ والبغضِ الذي اندفعَ في صدرِه نحوها، لم تكسِره! خدعته، قهرته، لكنّ الكسر لا يجيءُ إلا ممن يتأصّلونَ فينا، الكسرُ جاءهُ حين غُدِر من " أبيه "، فقط! يومذاك كُسر، شعر بأنّ الدنيـا تذوبُ أسفلـه، والآن لم يشعُر سوى بالقهر، هـاهو يعُود ليُغدَر به، يعود ليُمارَس عليه ذاتُ الصفةِ التي على الأحـرى لم تُكتَب لسـواه، ذاتُ الصفةِ التي تحطّم الثقةَ في داخِله، ذات الصفةِ التي محَت البراءةَ من عينيها.
كانت تنظُر إليه بذعرٍ وكلماتُ والدها انتهَت حين أغلقَ سلطـان الهاتف، رمـاهُ بأقصى قوّته، فرّغ غضبـه في رميتهِ تلك التي كانت جانبيةً ليصتدمَ بالجدارِ وتتحطّم شاشته، تحطّمت لتنتفضَ بقوّةٍ وهي تنظُر لملامحه بإجفـال، ماتَت كلُّ الكلمات، كل التبريرات، لم تجِد نفسها إلا وهي في فتحةٍ ضيّقةٍ لم تعثُر فيها سوى على الإختنـاق ونظراتُه المحتقرة والغاضـبة تلكَ كانت كلهيبٍ أذابها، انتظرَت من بعدِها صفعةً لم تمتدّ إليها منه بعد، فحتى وهو الذي لم يضربها قط إلا أنّ نظرتهُ في تلك الأثنـاء كانت لشخصٍ آخر ، لم تكُن لسلطان ! لم تكن له.
اقتربَ منها أكثر وهو يرفعُ يدهُ الأخرى ليُمسك كتفها الآخر، ضغطَ عليها بقوّةٍ حتى شعرت أنّه سيهشّمها، بينمـا كانت هي قد فقدَت الإحسـاس في تلك اللحظـة، شحُبَ وجهها، انسحبَت الدمـاءُ منها، وارتفعَ الأدرينـالين بارتفاعِ خوفِها ! قرّب وجههُ المتشنّج بغضبٍ صلبٍ وشفتيه القاسيتين تنفرجـان في نبرةٍ محتقرةٍ تمتلكُ الكثيرَ من السخرية : هي مالها دخـل ! قالها من قبلي عنـاد ، وكنت مؤمن فيها بداخلِي . . مالها دخـل! ونسيت إنّ دمه فيك ، نسيت إنّ حقـارته فيك * ارتفعَ صوتُه وهو يشدّ على كتفيها أكثـر بقهرٍ غاضِب * شلوون تتجرأين؟ شفتيني حليم؟ نسيتي تتّقين شرّ الحليم؟!!!
كانت ترتعشُ أسفلَ كفيه وهي تكـادُ تسقطُ من رعشةِ قدميها، لكنّ كفيّ سلطان كانتا تشدّانها لتبقى واقفة، يقرّبها منهُ قليلًا وهو يتنفّس بانفعـال غضبهِ ويُردف بخفوتٍ أشبه بفحيح الأفعى : . . .
.
.
.
انــتــهــى ..
البارت معضمه حوارات لأنّه يحتاج هالشيء، ما كان مشاعر كثر ما كان حقائق والا !
موعدنا الجـاي هو الأربعاء واحتمال يتقدّم لو قدرت أخلص البارت الجـاي قبله ، ينتظرنا شيء حافل بالتشويق وانقبلابة كبيرة بحياة غزل وسلطان ()
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|