كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
صباحَ الريـاض، ككل الصباحاتِ يبدأ هادئًا، مُسالمًا، يغسلُ أوجـاع الليلةِ السابقـة أو على الأحرى - يدثّرها - بتناسٍ مؤقت . . أغلقَ باب الشقّة بعد دخوله وفي إحدى كفيْه يحمل كيسَ الفطُور الذي أخذهُ من المطعمِ المجـاوِر، وضعه على الطاولةِ في منتصفِ الصالـة ومن ثمَّ نظر إلى بابِ غرفتها، يشعُر بالقليلِ من الحِيرةِ نحوها، اليوم حين طرقَ باب غرفتها بعد أن نهضَ من نومهِ متأخرًا على غيرِ عادته، كانت وقتها مستيقظة، عاتبها على عدمِ إيقاظها له من أجِل الصلاة التي أقامها في غرفته بعد أن استيقظَت عيناهُ في السادسةِ صباحًا، وكأنّ ضغوطاتِ البارحـةِ وأوجاعِها اتّكأت على أجفانِه وأدخلتهُ في سباتٍ وجعيٍّ لم ينهض منه في أوقاتِه المعتـادة.
كانت هادئة! تتحاشى النظرَ إلى ملامحهِ بربكةٍ واضحة حدّ أنها لم تُجبه سوى بـ : " آسفة، نسيتك! ".
أمـال فمهُ قليلًا باستنكـار، يذكُر أنه البارحـة نام دون شعورٍ أسفل تأثيرِ يديها الباردتين أو ربما أسفلَ أطنانِ قهرِه . . تحرّكت أقدامهُ باتّجاه بابِ غرفتها، وقف أمامهُ مباشرةً ومن ثمّ ارتفعَت يدهُ ليطرق الباب مرةً واحدةً وينتظِرَ صوتها.
بينما كانت هي في الداخِل تمشّط شعرها أمام مرآةِ التسريحة، تنظُر لوجهها بشرُود، ملامحها المُصفّاة من أي مكياج، بشرتها التي تشحُب بسمارِها، تشحُب بعتابها الجافِ لاندفاعِ أناملها لملامحه! لم تستطِع النومَ جيدًا في الليل ونهضَت باكرًا، لم تستطِع مواجهةَ عينيه صباحًا بإحراجها واضطرابِها، وكأنّها كانت تقُوم بجريمةٍ ما حُرّمت عليها وهاهي تنتظرُ الحدَّ المرجو منها، جريمةٌ دفعتها لتغطيةِ أنظارها عنه، لوهنِ أحداقها دونَ استطاعةِ النظرِ لوجهه الذي كان ساحـة جريمتها تلك، أناملها تحترقُ وتتجعّد بحرارةِ بشرتِه وخشونتها، كيف فعلتها والزهرُ حين يُزرع في أرضٍ لا تناسبه لن ينمو؟ علاقتهما عقيمة، عقيمةٌ كما تريدُ هي وتحتاج! كما يطمحُ والدها، علاقتهما تفتقرُ للمزيدِ من الجفـاء حتى تخلعَ هذا الخوفَ من جسدِها، لم تعُد تخافُه، أصبحَت تشعر تجاههُ بشيءٍ آخر كالأمـان! بأنّ ابتسامتها معهُ تكون عفويةً وشخصيتها تنسلخُ من الوهم.
ارتعشَت بخيبةٍ وهي تُخفضُ رأسها، ما الذي تفعله؟ ما الذي تفكّرُ به؟ كم أنا ممتنةٌ لكَ يا سلطان كما أعتبُ عليك، ممتنةٌ لأنّك تعلّمني ابتسامةً تظهرُ في عُمقِ التوتّر، وعاتبةٌ لذلك أيضًا!!
أغمضَت عينيها قليلًا وصورةُ والدها تزورُها، في لحظةٍ مـا، في مكانٍ مـا بين غاباتِه وحنانِه، هيَ الآن ترى أنها شرارةُ لعنةٍ حلّت عليه، نبتةٌ تخضرُّ بسقيا حنانِه، لكنّ تلكَ النبتة تجذب نارٌ إليها بطريقةٍ ما محاولةً تكثيفها في غابتِه، تخدعه! تخُون شكرها لهُ وامتنانها بخداعِها لهُ ووقوفها مع والدها في مكرٍ تجهل كيفَ وصل إليه بعد كلِّ ما رأتهُ منه!
عضّت شفتها وهي تُخفض رأسها أكثر لينسدلَ شعرها حول ملامحها، لا قوّة لها على شيء، شكرًا على القليلِ من التغيير الذي تبثّه فيَّ والذي أُدرك أنه - مؤقت -، أنه سيزول ما إن ينتهي كلَّ هذا وعلاقتنا، شكرًا على كلِّ شيءٍ يا سلطان لكنني سأؤذيكَ رغمًا عني.
انتفضَت حينَ سمعت صوت بابِ غُرفتها يُطرق، تجمّدت ملامحها وحدقتيها بالمرآةِ لتنظُر للبابِ منه، أفرجَت شفتيها قليلًا وهي تدرك أنّ لا أحـد سيكُون خلفهُ سواه، لا أحد سيكُون خلفه سوى من يحاول زهقَ حُزنها وهي بالمقابل تحاولُ إيذاءه . . زفَرت بألمٍ واستياءٍ في ذاتِ اللحظة، ما بالكِ يا غزل أصبحتِ تفكّرين في نطاقٍ خارجَ نفسك؟ لا يهم! يجب ألّا يهمني فهو لن يُجيرني من أذًى وبأسًا سيطُولني إن رفضتُ معاونـة والدي فيما يُريد، إن انقضَت السنةُ وابتعدنا عن بعضنا وعن كل هذا الأمـانِ وحنانِه!!
عضّت شفتها بقهرٍ وهي تنهض، لا يهمني، لا يهمني! أنا فقطْ أحببت اهتمامهُ بي، وهذا في النهاية داخلَ نطاقي، كل شيءٍ يموتُ عند " نفسي "، كل شيءٍ يصغُر ويتضاءلُ أمام مصلحتي يا سلطان حتى الحنانُ الذي لطالما احتجت!
فتحَت البابَ قليلًا ووقفَت مقابلةً لهُ بجزءٍ من جسدها دونَ أن تستطيعَ مواجهتهُ بأكمله. ابتسم باستنكارٍ لهروبها منه، عيناها تنظران للأرضِ ولم تلتقِ بعينيه، البابُ فتحتهُ قليلًا وكأنّها تخشى أن يدخل إليها على سبيلِ المثال!! . . رفعَ حاجبهُ وهو يُعيدُ كفيه للخلف ليشبكَ أناملهُ ببعضها، وبهدوءٍ وبحّةٍ جعلت خلاياها ترتبك : جبت الفطور ، أكيد جوعانة.
بللت شفتيها بتوترٍ وهي تُطلقُ أنفاسًا تكتئبُ برعشةِ جُزيئاتِها، شتت عينيها دونَ أن تنظرَ إليه وكفها تشدُّ على مقبضِ الباب. بهمسٍ متوترٍ لفظَت : لا ماني جوعانة.
شاركَ حاجبه الآخر الأوّل في ارتفاعِه، الآن تأكّد أن هنـاك شيئًا ما يصوّرها بهذا الهروبِ الآن، أمـال فمهُ قليلًا ليتنحنحَ حتى يطردَ بحّة صوتهِ ويخرج نبرتهُ نقيّةً من أي شيء : أكلتي شيء؟
غزل تهزُّ رأسها بالنفي وهي تنظُر لأقدامهِ ولكلِّ شيءٍ حتى تشغل حدقتيها عن الارتفاعِ إليه. أردف : أجل!
غزل بخفوت : مالي نفس.
سلطان : طيب ارفعي عيُونك لي وش داعي هالهرب!
تشنّجت يدها وسكنَت أنفاسها للحظة، بينما تحررت أنامله من عناقها لبعضها ليضعَ كفّه على الجدارِ بجانبِ الباب حتى يسند جسدهُ قليلًا للأمـام، وبتلكَ الصورةِ كان قد اقترب! قليلًا فقط، قليلًا بدرجةٍ كانت كافيةً لجعلِ عطرهِ يغزو خلاياها ويسدَّ مجرى الهواءِ إلى أنفها، فغَرت فمها حتى تتنفّس برويّةٍ وهي ترفعُ رأسها بسرعةٍ إليه وتُعلّق أحداقها بحدقتيه، التوى فمهُ في ابتسامةٍ هادئة وهو يسندُ كتفهُ إلى الجدارِ هذهِ المرة ويهتف بخفوت : ما أذكر إني مسوي لك شيء ! ليش تهربين مني؟
ارتعشَت شفاهها وهي ترمُق ابتسامته تلك باضطراب، شتت عينيها وقلبها ينتفض، حواسها انتفضت والكلماتُ في حنجرتها أيضًا، ما الذي يحدث؟ إلهي ما الذي يحدث لي؟ أنا التي لم يكُن يحدّها شيءٌ عن الرد ببرودٍ وجفاء، - بوقاحةٍ - إن تطلّب الأمر! أنا التي كانت تعتليه بنظرةِ غرورٍ وازدراءٍ لجنسهِ أجمع ولم ينسلخ يومًا عن تلك النظرة فما الذي حدثَ لأصبح متوترةً الآن من - بسمَة -؟! ما الذي حدثَ ليجعله ينسلخُ عن أبنـاء جنسهِ وأقعَ دونَ شعورٍ في بحيرةِ الليونةِ معه؟ مابكِ يا غزل؟ مابك!!! انظري إليه وقولي " ما تهمنِي عشان أهرب منّك "، قولي لهُ بأنّ يدك المحترقةَ والمتشققةَ بملمسِ بشرتكَ لفظَت شعُورها بكَ ونسيَت حتى رغبتها باستكشافِ ملامحك، قولي بأنّكِ جُننتِ وهو السبب.
ابتلعت ريقها بصعوبة، رفعَت رأسها أكثر ببطءٍ إليه لتتحرّك شفاهها وينطلقَ صوتها من بينِ شفتيها محملًا بنبرةٍ حاولت بثّها بالهدوءِ وطردِ ربكتِها : تتوهّم، مو قاعدة أهرب بس نفسيتي خايسة اليوم.
سلطان باهتمامٍ اعتدلَ في وقفتهِ وتصلّب جسدهُ أمامها لا يفصُل بينهما سوى خطوتينِ فقط : من؟!
غزل تمنعُ حدقتيها من التشتت وتثبّت أنظارها في عينيه محاولةً إقناع نفسها بأنّه لا يؤثر بها لتهرب! : يمكن لأني ما نمت زين.
صمت قليلًا وهو يتابعُ نظرتها بصمت، يقرأ تحديًا ما في عينيها، تحديًا غريبًا وكأنّه لنفسها فقط وليس له!! . . مرر لسانه على شفتيه ليتراجع للخلفِ وهو يلفظُ بنبرةٍ لا تقبل الجدَل : أجل تعالي حضّري الفطور وكلي معي وبعدها ارجعي نامي.
صمتت دونَ أن ترد وهي تضعُ كفّها على بطنها الذي يشعر بالجوعِ فعلًا، مطّت شفتيها قليلًا لينصاعَ عقلها هذهِ المرّة وهي تحاول أن تثبت لنفسها أنها تستطيعُ تجاهلهُ تمامًا، فما الداعي لتهرب من الطعامِ لأنه سيُشاركها فقط؟ . . كادت تتحرّك متّبعةً لهُ إلا أنّ خطواتِه توقّفت فجأةً ليستديرَ جسدهُ إليها وتبتسمَ شفاهه، ارتعشَت بقوّةٍ من ابتسامتهِ للمرةِ الثانية! تصلّب جسدها وكفّها على بطنِها، بينما بقيَت عيناها معلّقةً بفمهِ الذي تحرّك بشكرٍ لم تقرأهُ وأصبحَت صمّـاء فجـأةً كما خسرت عيناها الإدراك لحركةِ شفاهه، كان يشكُرها على ما فعلته لهُ البارحـة لينام، شكرها برقّةٍ متناهيـة، برقةٍ لا تليقُ إلا به، برقّةٍ لم تدرك منها شيئًا لضياعها بابتسامتهِ بينما كانت تجهل فعليًا ماقد يحدثُ لربكتها هذهِ لو أنّها أدركت تلك الرقّة!
تحرّك ليبتعد دونَ أن ينتظرَ ردّها على شكره، في حين كانت قدماها تفقدانِ ماهيّتها وتتحوّلانِ لهلامٍ وصراخٌ في رأسها يصتدمُ بجمجمتها ويتكرر صداه، ما الذي يحدث لي؟ ما الذي يــحــدث!!
،
دخَلت الفصل باستعجـالٍ بعد أنْ تأخـرت لعشر دقائق تامـة، وقفَت بعد أن مشَت خطوةً واحدة وهي تنظُر للمعلّمة بإحراجٍ بعد أن نظـرت إليها مستنكرةً تأخرها، وبنبرةٍ متساءلة : توّك مداومـة؟
هزّت رأسها بالإيجاب وهي تبلل شفتيها بلسانها إحراجًا : تأخّرت بزحمة الطريق.
المعلمة : طيب مافيه مشكلة أول مرة تتأخّرين مو من عوايدك عشان كذا ماني قايلة لك شيء.
شكرتها بخفوتٍ ثمّ تحركت باتّجـاه مقعدها، وفي تلك الأثنـاء سقطَت أنظارها على سـارة التي تجلسُ في الخلفِ كما العـادةُ دائمًا وكما تُحب، ابتسمَت تلقائيًا ببراءةٍ حينَ نظرَت إليها وابتسمَت لها ملوحةً بكفّها.
جلسَت بجانبِ صديقتها التي وكزتها بمرفقها وهي تغمز هامسـة : ماني قايلة لك شيء هـاه! اوووه يا غدو يا بختك على هالشعبية بين الأبلات واحنـا لنا الله بس.
ابتسمَت لها وتجاهلت حديثها وهي تُخرج كتابها وكلَّ مستلزمـاتها.
مرّت الحصـة بهرولـةٍ والوقتُ لا يُجيد المرورَ ببطء، كانت تمدُّ ذراعيها بكسلٍ وهي تتثاءب : آآآه محد ينـام زين مع هالمدرسة.
صديقتها : إذا هالكلام يطلع من الطالبـة المجتهدة وش نقول احنـا.
غيداء بمللٍ وهي تُخفضُ يديها : نقُول صبرًا جميلًا والله المستعـان.
وصلَ إليها صوتٌ تعرفهُ جيدًا في تلك اللحظـة : غيداء ..
استدارَت بسرعة وابتسمَت : أهلين.
سارة تقفزُ بخفةٍ لتتربّع فوقَ طاولتها، وبدلال : يا هلا فيك شلونك؟
غيداء : طيبة ولله الحمد.
بدأتا بالحديثِ والضحكِ لدقائقَ حتى جاءت المعلمةُ الأخرى وعـادت سارة إلى مكانِها بينما كانت صديقةُ غيداء تنظُر لهما باستنكـار، وما إن ذهبَت سـارة حتى لفظَت دون تصديق : من وين طلعت الشمس اليوم؟
غيداء التي أدركَت مباشرةً قصدها : سارة؟
صديقتها : أي مو كنتِ تقولين ما تعجبك ومن هالكلام وش صار بالدنيا؟!!!
غيداء بِحبور : بالعكس عسل عسل كنت ظالمتها والله.
لفظَت دون استبعابٍ لهذا التغيير المفاجئ في ليلةٍ وضحاها : آهـآ
ضربتها على كتفها : وشو آهآ قاعدة تسلكين لي؟
فركَت كتفها بألمٍ وهي تكشّر : وش تبيني أقول يعني الله يجمع بينكم على خير ويرزقكم الذريّة الصالحة؟
غيداء تلوى فمها : ماااالت
،
مرّت الأيـامُ تباعًا، يُطوى ظرفُ الزمانِ بسرعَة، ويظلُّ ما فيهِ سيُمحى وإن كانت الممحاةُ واهنة، سيُمحى! هذا ما يُعقَدُ عليه الأمل، ستُشفى الممحاةُ ذات يومٍ وتمحو الأحزانَ بسرعة، وإن لم تمحُها ستفعلُ رغمَ وهنها وتُخفي كل الآلآمِ - تدريجيًا -.
يبتسم للقهوةِ التُركيّةِ أمـامه، كان يجلسُ في إحدى المقاهي ينتظرُ - فيصل - ككل يومٍ ما قبل الغروب، يعقدُ معهُ اتّفاقاتٍ وخُطط، هو الآن في حمايـةِ جهازِ أمنٍ كما يقُول، بالرغمِ من كونِه استنكر في بادئ الأمر كيف تكون الحماية بهذا الشكل؟ دون أن يتبدّل مكانهُ ويصبح في آخرَ مُحاطًا بحمايةٍ أكبـر، لكنّه تجاهل الأمـر وأمله بالله ثمّ بهِ كبير، كبيرٌ حدَّ أنه بدأ يرى نورًا يلوحُ في الأفقِ شاقًّا سوادَ السمـاء، تلكَ السمـاءُ التي تصِلُ بينهُ وبينَ وطنِه، تشاركُ من يُحب، ثلاثتهم! . . يتجاهلُ الثالثَ رغمًا عن حبِّه ويستمدُّ الشوق من الاثنين، أمي وأسيل، جنّتي ودُنياي، في الأولى سنيني التي ذهبت وسنيني التي سأكبرها وفي الأخرى حاضِري ومستقبلي كذلك! لازالتْ السمـاءُ تصِلنِي بكم! لم يعُد الليل فقط ما أحكِي لهُ رواياتِي، حتى النهارُ وسماؤه، الحُزن لا يتركني! لا يتركني عنكم لكنّه يتهاوَى مريضًا تحت لحافِ أملِي ، لمَ أقولها؟ أخبروني لمَ أصِيغُ كلماتي بالجمعِ لا المثنى؟ قلتها! سأنسى الثالث، "و ما قوِيت! " ، لازلتُ أجمعكم في إطار كلماتِي وأصوغكم بالشوق رغمًا عني، رغمًا عن خذلاني، رغمًا عن حزنِي الواهنِ وانتظـاري الذي يكادُ يحرقني.
ايقظه من سباتِ أفكارهِ صوتُ هاتفهِ الذي صرخَ مُناديًا له، رفعهُ من على الطاولة ونظر لاسم المتّصل، ابتسم، والتمعَت عينـاه بمشاعر خاصة لا يملكها سوى من اتّصل به، ردّ عليه ووضعَ الهاتفَ على أذنه، وبابتسامـة : كيفك؟
من الجهةِ الأخرى، لفظَ أدهم بابتسامةٍ وهو يسندُ ظهرهُ على ظهرِ المقعدِ الذي يجلسُ عليه : يا هلا والله بالقاطع وقليل الأدب اللي ما يستحي على صداقته! وينك يا كلب!!
ضحكَ من الجهةِ الأخرى : يخي احترم صداقتنا طيب ولا عاد تسب!
أدهم يبتسمُ بمكر : إنّي رأيتُ كلابًا خرجَت عن أمرِ صاحبها وحان وقتُ جلدها.
تجهّم وجهُ متعب بضيق : ما يجوز جلد الحيوانات.
أدهم بشر : أنت آخر كلب بجلده وبعدها صدّقني بتوب.
متعب : اوووه جالد لك كم كلب من قبل؟
أدهم : هههههههههههههههه معترف إنك كلب؟ شكرًا على الشفافية يا كلبي.
متعب : بآخذها بمعنى " يا قلبي " بالعراقي وراح أتغاضى . . شنو تسوّي هسّة؟
أدهم بمداعبة : كاعد أنتظر واحد، وأنت؟
متعب بابتسامة : كاعد أنتظر مثلك.
عقدَ أدهم حاجبيه باستنكـار : مين ذا؟
عضّ شفته حين انتبهَ لخطئه، كيف نسيَ أنه يُريد تدثير الموضوعِ عن أدهم بعد غضبهِ ذاك اليوم؟ يُريد إخراجهُ من إطـارِ حياتهِ بالمعنى الصحيح حتى يتّزن يومهُ بعيدًا عن كلِّ هذا الاضطراب وهذا الخطر. شتت عينيه وهو يلفظُ بسكُونٍ واهٍ : محد.
أدهم بحدة : نفسه فيصل؟
متعب باستسلام : أي هو ، * أردف باندفاع * اسمع تراه ماهو مثل ما تظن ، أمس عطاني أمل بأني أقدر أرجع السعودية متخيل؟ برجع بعد سنتين!!
صمت أدهم لبعض الوقتِ وهو يعقدُ حاجبيه للنبرةِ المتلهفةِ في صوتِه، لكنّه لا يستطيعُ إحسـان الظنِّ بذاك، لا يشعر بالراحةِ نحوَه، يخافُ أن يثقَ ماجد/متعب بهِ في لحظةِ أملٍ وينتهي بعد ذلك!! .. لفظَ بخفوتٍ ساخر : بيرجّعك كيف؟ بجواز سفر مزوّر وهويّة كاذبة!!
متعب باعتراض : ماهو أنا عايش بهويّة كاذبة أساسًا؟!!
أدهم : لأنّ هالشيء أقصى اللي قدرنا عليه.
متعب : مين قالك أساسًا بيستخدم هالأسلوب؟ هذا جهاز أمن ويتسهّل عندهم كل شيء ماهو أنت وأنا!
أدهم بسخرية : يبطي يكون مثل ما تظن ، صدقني قلبي ماهو مرتاح له!
متعب بسخريةٍ مماثلة : أنت من متى قلبك يرتاح لأحد أصلًا؟
أدهم : شوف شوف بيبدأ الـ ...
متعب يقاطعه بحدّة : سب وبوريك علوم المرجلة يا أبو لسان نسائي.
أدهم بعنادٍ مطّ نبرتهُ باستفزاز : يـــــا ****
متعب بغضبٍ واستفزازٍ التحمَ بهِ سريعًا : الله يلعـ .... أستغفر الله الله ياخذ هالوجه وبس.
أدهم بضحكةٍ ساخـرة : عصّب الرجال عصّـ ...
قاطعَ كلماته سريعًا بأخرى انقشعَت عنها نبرة السخرية وتهلّلت بالترحيب : يا هلا بليث وش أخّرك ياخي؟
وقفَ ليصافحهُ وهو يضعُ الهاتفَ على أذنهِ متناسيًا الآخر باستفزازٍ واضحٍ له، ابتسمَ شاهين في الجهةِ الأخرى ابتسامةً بـاردة وهو يلفظُ بهدوء : زحمة الطريق أخّرتني.
أدهم : ما عليه تفضّل اجلس عجزت وأنا انتظرك * يُوجّه حديثهُ لمتعب * أتّصل فيك بعدين.
متعب الذي وصَل إليه صوتُ شاهين متذبذبًا خلفَ ضبابِ الخفوتِ فلم يتبيّنه : لحظـة يا معفّن . . .
لكنّ أدهم كان قد أغلقَ الخط ولم يستمع إليه، رمى هاتفهُ بضجرٍ على الطـاولة وهو يتمنى لو يكُون عنقه الآن بين يديه فيخنقه. نطقَ بخفوتٍ من بين أسنانه : أنت حرام يكُون عندك جوّال تمارِس أسلوبك الزفت عليه.
تناول كوبَ القهوةِ التركية من أمامه والتي كادت تبردُ وانطفأ دُخانها المتصاعد، انتظر لخمسِ دقائقَ ومن ثمَّ نظَر لساعةِ يدهِ عاقدًا حاجبيه ليتأفأف، ما الذي أخّر فيصل بهذا الشكلِ المُضجِر!
زفَر وهو يضع كوب القهوةِ اللاذعة والتي ازدادَت لذاعتها مع برودتها، فقدَت لذّتها حين انسحبَت عنها الحرارة، تأمّل المارِين على قارعةِ الطريق وابتسامتهُ تتشكّل على قارعةِ الرعشة! قلبهُ ينتفضُ بشكلٍ لا يفقهُه ولم يشعر بهِ قبلًا وكأنّ السعادة التي تشكّلت في أملهِ هذا تجاوزَت كل نطاقِ السعادةِ المُحتملَة.
طفَى من بحرِ نشوتِه بصوتِ فيصل الذي جلسَ أمامه وهو يلقي السلام ويُردف : تأخّرت عليك.
متعب نظَر إليه وهو يسندُ ذقنه على ظهرِ كفّه اليُمنى، وبضجر : وعليكم السلام ، مرة تأخّرت يا رجّال شوي وأنام بمكاني من ملل الانتظار.
ابتسمَ لهُ فيصل بهدوء : المفروض مع أخباري اللي جايتك ما تمل ، ثبتت لنا امكانية رجعتك للسعُودية بأمان كامل.
فغَر فمهُ للحظةٍ وهو ينظُر لهُ بعينين تلتمعان، ماتت الكلماتُ على شفتيه بالرغم من كونِه كان يملك خلفيةً كافية جعلتهُ ينتشي بأملهِ ويرى نفسهُ يحطُّ رحالهُ في أرضِه، يلامسُ ترابَ صحرائِه الحارة بقدمين عاريتين ولتنسلخا! تكفيرًا لكل هذا البُعد عنها، لتنسلخا وينقشعَ كلُّ ألمهِ الذي كان ومازال وما سيزولُ تحت سماءٍ ليست كأيِّ سمـاء.
اتّسعت ابتسامةُ فيصل وهو يرى بوضوحٍ ارتعاشةَ أهدابهِ واضطرابَ تنفّسهِ من حركةِ صدرهِ السريعة، مدَّ يدهُ ليضعها على كفّه اليُسرى الممتدّة فوقَ الطاولة، وبخفوتٍ وهو يشدُّ عليه حتى يمدّه بالثقةِ والأمـل : بترجع يا متعب ، بترجع.
تنفّس بتحشرجٍ وهو يشدُّ قبضتهُ أسفلَ كفِّ فيصل، وبصوتٍ يختنقُ بمشاعر تتضاربُ في صدرهِ فتوهنه : قلتلك لا تناديني متعب.
ضحكَ فيصل وهو يسحب يده : شدعوى ما تحب اسمك والا نسيته؟
متعب يُغمضُ عينيه ويبلل شفتيه بلسانه : كنت بنساه بس ما قويت، أحد ينسى هويته؟
فيصل بابتسامة : أجل؟
متعب يفتحُ عينيه ويبتسم لهُ بفرحةٍ تتراقصُ حوله وفيه : أحس اسمي يتلوّث لا ذكرته بغير أرضي ، خلاص خلني طول عمري في باريس ماجد! متعب أنقى منها وما يهُون عندي ألوّثه بهالمكان.
فيصل يُعيد ظهره للخلف : خلاص يا ماجد ولا يهمك ، ماجد ماجد . . . * بجدية * الحين ما تبي تعرف الخطّة؟
متعب بلهفةٍ يتقدّم للأمام ويسندُ ذراعيه فوقَ الطاولة : أسمعك.
فيصل : أول شيء وقبل لا أعطيك التفاصيل احنا مضطرين نأخّر هالسالفة فترة.
عقدَ حاجبيه باستنكارٍ ليلفظَ بنبرةٍ تحمّلت بالخيبة : نأخّرها؟ ليش طيب ولمتى؟
فيصل بجدية : كذا شهر ، ما أدري كم بالضبط بس ما راح يكون خلال هالأسابيع.
تراجعَ للخلفِ بعنفٍ ليصتدمَ ظهرهُ بظهرِ الكرسي بقوّةٍ أعلنَ بها تحرّك الكرسي احتجاجه، وبنبرةٍ باهتة : شهور؟ ليه طيب ماهو كلّها سفرة تقدر تأمّنها لي بسهولة؟
فيصل : شوف ، نقدر نأمّنها بظروف طبيعية وباسمك بس غيره لا!!
متعب بعقدةِ حاجبين : باسمك؟ ليه هو أنتم ناوين ترجعوني بهوية ثانية بعد؟
فيصل : أيه.
متعب بفتورٍ وقلق وهو يستذكر كلمات أدهم : وش الداعي لكل ذا؟ ما أعتقد يصعب عليكم ترجعوني باسمي وهويتي بسرية وبدون شوشرة ومخاطر؟
فيصل يهزُّ رأسه بالإيجاب : صح بس بدون مخاطر؟ ذي لابد منها لو عطيناها احنا مجـال ، تظن ما يقدر أحد يحصّل اسمك الحقيقي بين المسافرين وتروح بعدها بستين داهية؟
متعب بإصرار : أيضًا ما يصعب عليكم!
فيصل يتنهّد بصبر : اسمعني يا متعب أو ماجد اللي تبيه ، تذكِر اللي قابلته قبل مدة قدام شقتك؟ السكران أو الشبه سكران اللي حاكيتني عنه؟ وش قال لك بالضبط؟
متعب بضيق : ناداني باسمي وعطاني كم كلمة تهديدية!
فيصل : وكيف كانت هيئتك؟
متعب بسخرية : مثل الحين متدثّر بالثياب شوي واختفي.
فيصل : قلتها، شوي وتختفي وقدروا يعرفونك وعرفوا بعد شقّتك اللي كمان ماني متطمّن لها.
متعب باعتراض : الشقّة طلعها من حساباتك تكفيني حماية منكم ، أنا يا دوب قدرت أتأقلم فيها وأتجاوز حالات الرعب اللي كانت تجيني بكل ليلة أنتفض فيها من النوم!
فيصل دون اقتناع : تمام ، تقدر تصبر كم شهر؟
متعب بابتسامةٍ مستوجعة : كم شهر؟!! تدري وش قوّ الضيقة فيني والكره لهالبلد؟
فيصل : هانت يا متعب هانت!
يُتبــع ..
|