السـاعة الثانية عشرة والنصف بتوقيتِ الرياض.
توقّفت سيارتُه أمام منزلِ والدتِه، كان ساكنًا كسكونِ الأرضِ حتى في وجودِ غابةٍ في وسطِها تحترق بنارٍ لا تهدأ، نارٌ تُطلقُ دخـانَ الاهتزازِ الذي لم يطُل لجسده.
رفعَ هاتفهُ واتّصل بغزل التي لم ترد أولَ مرة، زمَّ شفته محاولًا إسكان هذا الغضبِ الذي يخشى أن يطُولها اليوم، منذ ذلك اليوم وهو لا يطمئن لغضبه هذا، لو كان الأمـر بيدهِ لتركها تنـام عند والدته لكنَّ ذلك صعب، لذا هو مضطرٌ لأن يكُون معها، ومضطرٌ لأن يسيطرَ على نفسه.
اتصل مرةً أخرى وبقيَ الرنينُ يتناغمُ على أذنه حتى صمَت، زفَر وكـاد يرمي هاتفهُ ليدخل إليها ويجرّها جرًا، لكنه تنفّس بانفعالٍ للحظاتٍ يشهقُ بأكسجينِ سيارتِه الملوثِ بزفير غضبه ليزفُر محاولًا تجديدَ هوائه، وأي هواءٍ هذا الذي قد يُجددهُ والأكسجينُ من حولهِ ملوّث؟
اتّصل بها مرةً أخرى وهو ينظُر للطريقِ الخـاوي والليلِ الساكنِ على أرجائه، الرّصيفُ يمتلئُ بالصمت، الهواءُ أيضًا صامِت، لا قدرةَ للهواءِ على الإزعـاج حينما يكُون ساكنًا، هذا الهواءُ لا يصرخُ إلا حينَ ينفعل! حتى الهواءُ يصرخ على - كلِّ - الخلقِ ولا يستثني أحدًا في غضبِه بما أنّهم عاشُوا في المكانِ الذي انفعلَ به، فلمَ أضطرُّ للخرسِ لأجلها؟ هي التي دخَلت حياتِي عنوة، أضطرُّ دائمًا لأكون إنسانًا معطاء، لأنّها فتـاةٌ يجبُ علي أن أضحي بسنةٍ من عُمري حتى لا أجلبَ إليها حديثًا في مجتمعٍ لا يرحم، لأنّها فتاةٌ وأنا الرجُل سأحتملُ مسألةَ هذا الغضبِ ولا أفرّغه أبدًا قُربها، فهيَ فتـاة! حتى وإن لم يكُن غضبي منصبًا عليها سيؤذي طمأنينتها إن فرّغتهُ بأشيائي أنـا. ولأنّها فتـاة، دائمًا ما تحاول أن تثبت أنّها قويةً حتى في اللحظـةِ التي كُنت فيها غاضبًا وواجهتني دونَ أن تحتمي في غرفتها، الخطأُ يومها كان علي! بالتأكيد، لأنني رجلٌ رغمًا عني سأصمت حتى وإن واجهتني بثقةٍ مهزوزة، الخطأُ التصقَ بي ظلمًا حين كدتُ أضربها بينما كانت هي البريئةُ منهُ حينما لم تحتمي بعيدًا عني وهي التي تدرك بأنني كنت يومذاكَ مستفَزًا بشكلٍ كافٍ منها.
بلل شفتيهِ حبنَ وصل إليهِ صوتها الضاحك وهي تحادثُ غيداء : طيب طيب اهجدي خلني أكلم . . . ألو.
سلطان بجمودٍ ودونَ أن يخالجَ صوته أيَّ تعبير : مرة ثانية لا أتّصل عليك أكثر من مرة وما تردين . . . اطلعي أنا برا.
ختمَ كلماتهُ الجامدة بأن أغلقَ ورمى الهاتفَ بجانبه، بينما كانت تلكَ من الجهةِ الأخرى قد تجمّدت دونَ استيعابٍ والهاتفُ لازال على أذنها، عقدَت حاجبيها وهمسَت باستنكار : ألو ، ألو سلطان أنت معي؟؟!!
أخفضَت الهاتفَ دونَ استيعابٍ ومن ثمَّ نظرت لغيداء التي هتفت مستنكرة : وش فيه؟
غزل تنهضُ وهي تحملُ حقيبتها : أخُوك شكله اليوم منفّس حتى ما سلّم ولا شيء.
غيداء بحيرةٍ أمالت رأسها : سلطان؟!
غزل تبتسم : مين أجل عناد المتخلف مثلًا؟!
تجهّمت غيداء : كم مرة أقولك احترمي نفسك؟
غزل تضحكُ برقة : معليش بس أثبت لك والا لا؟
غيداء بالرغم من كونِها رأت صورةً أخرى لسارة بعد جلوسٍ ممتعٍ دامَ لأكثر من ساعتين معها لكنّها لم تكُن لترضى أن يُقال ماهو سيءٌ لأخيها، لفظَت دون مبالاة : امشي بس واذلفي لزوجك الله يعينك دامه معصّب . . بروح أنادي أمي من المطبخ قبل لا تطلعين انتظري.
صعدَت بعدَ وقتٍ وأغلقت الباب خلفها وهي تدقق النظر بملامحه التي كانت تتّجه للأمـام ولم ينظر إليها ولو نظرةً خاطفـة، ازدردَت ريقها ووضعت حقيبتها بجانبها لتهمسَ بعد أن حرّك السيارة : جوالي ما كان عندي وقت اتّصلت عليْ.
هل تُبرر له؟ هل فعلًا فعلتها؟ تُبرر لسلطان!! بللت شفتيها بتوترٍ واستدارت تنظُر للطريقِ بعد صمتهِ وتجاهلهِ لما قالته، عضّت لسانها وهي تشعر بالندم لأنّ أول ما فعلته دونَ تفكيرٍ أن بررت له عدمَ ردِّها عليه بسرعة، ما الذي يفعلهُ بها حتى باتت تُبرر!! شعرت بغيظٍ من تجاهلهِ لكنّه صمتت، تستحق هذا التجاهل بغبائها.
بقيَ يقُود بسكونٍ وصمتٍ مزعجٍ أطبقَ على السيـارة، مرّت دقائقُ قصيرةً قبل أن ينقطعَ هذا الهدوء برنين هاتفه، وجّهت نظراتها نحوَ يده التي حملت الهاتف ومن ثمَّ رفعت عينيها إلى وجههِ لترى عينيه اللتين كانت تنظرانِ للشاشة يقرأ اسم من اتّصل، ومن ثمّ ردْ عليه لافظًا بهدوء : يا هلا بالغالية . . . معليش يمه كنت تعبان ومستعجل ما أمدانِي أدخل . . . افا ليه الزعل؟ . . * ابتسم * يعني يرضيك أنام وأنتِ زعلانة؟ ، خلاص مرة ثانية نسهر عندكم تعبان والله! . . . طيب جعلني فدا خشّتك أنتِ تامرين أمر .. فمان الكريم.
أغلقَ ليضعَ الهاتفَ جانبًا ومن ثمَّ زفَر، مررَ يدهُ على جبينهِ ليخلعَ غترتهُ فجأةً ويرميها للخلفِ بعنف، حينها ارتبكَت كفاها لتفركهما ببعضهما البعض وهي تنظُر لقدمِها بتوتر، ما الذي طرأ على مزاجهِ فجأةً ليُصبِح بهذه الحدّة؟
عمَّ الصمتُ من جديدٍ حتى توقّفت السيارة أمام الفندُق، نزل لتنزل هي في المقابل، كان يعقدُ حاجبيه وشعرهُ مبعثرٌ بفوضويةٍ من تمريرهِ لأنامله بين خصلاتهِ في كلِّ حينٍ وقد كان على شفا حفرةٍ من اقتلاعِ خصلاته خصلةً خصلة.
تركْ " غترته " في سيارتِه دونَ أن يحملها وتحرّكت وهي بجانبهِ حتى وصلوا للطابقِ الذي هم فيه، فتحَ الباب ودخَل لتدخلَ من خلفه، ومن ثمّ اتّجه مباشرةً نحو الأريكةِ ليرمي بجسدهِ عليها جالسًا وهو يرفعُ رأسهُ للأعلى ويسندهُ على ظهرِ الأريكة مُغمضًا عينيه، نظَرت إليهِ عاقدةً حاجبيها بتوجسٍ وهي تغلق الباب، تشعُر بفضولٍ يدفعها لسؤاله عمّا فيهِ الآن، فضولٌ لطالما كان أقوى منها لذا اقتربَت بهدوءٍ لتقفَ أمامهُ وتلفظَ متسائلة : سلطان وش فيك؟
سكَن للحظةٍ دون أن يفتحَ عينيه ويُجيب، ابتعدي يا غزل، ابتعدي! لا أريد أن أؤذيكِ ببرودي وتجاهلي إن لم يكُن بكلماتي.
زمَّ شفتيه وهو يتنفّس بهدوءٍ ظاهريٍ لم يكُن يحتويه داخليًا، لطالما كان يكتم مافي صدره وسيذهبُ ضحيّة هذا الصمتِ يومًا.
حرّك شفاههُ ليلفظَ بصوتٍ مرهقٍ خافت : اتركيني يا غزل ، اتركيني ترى مزاجي في الحضيض وما ودّي أزعلك.
ارتبكَت رغمًا عنها وتراجعت خوفًا من هذا المزاج الذي حذرها منه، بالرغم من أنها شعرت أيضًا بالغضب قليلًا مما قاله لكنّها فضّلت الصمت والتراجع، تحرّكت خطوتين بعد أن استدارت، لكنّه أوقفها هذه المرّة وهو يفتحُ عينيه وينظر إلى ظهرها : مصدّع! ادخلي غرفتي وجيبي لي بنادول من درج الكومدينة، ولا تنسين تجيبين لي مويا بعد.
رفعَت إحدى حاجبيها بتعجبٍ دون أن تستدير، أليسَ هو الذي قال منذُ قليلٍ أن تتركهُ فقط حينما سألته عمّا فيه؟ وهاهو الآن يأمرها بأن تحضر له دواءً وماءً وبأسلوبٍ باردٍ أيضًا.
لوَت فمها بحنقٍ وهي تنتزعُ نقابها وتتحرّك نحوَ غرفتها، اتّجهت للكومدينة لتسحب الدرجَ بعنفٍ وتلتقطَ شريطَ الدواء، عادت لتخرجَ إليه حتى وقفت قرب الطاولة ورمَت الشريطَ عليه ومن ثمّ اتجهت للمطبـخ. تجاهلَ الإنفعال البادي عليها من رميها للشريط، مدَّ يدهُ ليأخذه ومن ثمّ تناولَ قرصًا وعاد ليرميه على الطاولة منتظرًا مجيء الماء، ولم تمرَّ لحظاتٍ حتى عادت وهي تحمل الماء بيدها ليأخذه وهو يرمي الحبة بفمه ويتبع الماءَ من خلفها.
بللت شفتيها وهي تنزعُ " الطرحة " وتخلعُ عباءتها، تحرّكت تنوي الذهاب لغرفتها متجاهلةً ملامحه التي كانت تتقطّب بألمٍ واضح، علّقت عباءتها وهي تزفر، لمَ قد تهتمُّ بهِ أصلًا وهو ما إن يغضب أو ينقلب مزاجه حتى يصبح باردًا وتعامله سيء. جلسَت على السريرِ وهي تعدِّل قميصها الأحمر، وجدَت نفسها تفكّر بملامحهِ المتألّمة من جديدٍ لتزفرَ بحنقٍ وهي تحاول طردها لافظةً بحدة : أنا شدخلني فيه؟ والله لو ينفجر راسه بعد.
لوَت فمها وتمددت، لكنّها عضّت شفتها بقهرٍ وجلست لتقفَ أخيرًا دونَ أن تستطيعَ السيطرةَ على شعورها نحوهُ بالرغبة في إزهاقِ هذا الألم! لا تدري لمَ تحرّكها تلكَ الرغبة الآن، ربّما لأنه لطالما حاولَ أن يمحقَ ألمها الذي يتشعّبُ في صدرها ويُزهر.
خرجَت من غرفتها دونَ أن تبالي بأيِّ فكرةٍ قد تدفعها لتتراجع، نظرَت للصالـةِ التي وجدتها خاويةً كالكوبِ الذي كان يستقرُّ فوقَ الطاولة، ولم تكن تحتاجُ لذكاءٍ حتى تستنتجَ أنّه في غرفتهِ وتتوتّر! هل يعقل أن تذهب إلى غرفته؟ لا لا ماهذا الجنُون ، هي تُريد مساعدته، لكنَّ مسألة تواجدها معهُ في غرفةٍ واحدة أخطرُ بكثيرٍ من فكرة أن ينفجرَ رأسه!!
عضّت شفتها وهي تنوي التراجع إلى غرفتها، لكنَّ ملامحهُ المتألمة عادت لتغتالَ ذلك التوتر، تنفّست باضطرابٍ وتحرّكت، ستذهب إليه، ما الذي سيحدثُ أصلًا وهو الذي أخبرها بأنّه لن يفكر بها أبدًا ولن يرى زواجهما في غيرِ ما رسمَه.
وقفَت عند البابِ لتزدردَ ريقها وهي تراهُ يجلسُ على طرفِ السرير وقد خلعَ ثوبه ورماهُ على الأرض، يسندُ مرفقيهِ على ركبتيه وكفاه تدلكانِ رأسه الذي يكادُ ينفجر، عقدَت حاجبيها بشفقةٍ نحوه وتجاوزَت الباب لتدخل وهي تهمسُ مناديةً باسمه : سلطان
رفعَ رأسهُ متفاجئًا من تواجدها، توسّعت عيناه قليًلا وانعقد حاجباه : غزل!! وش تبين؟
غزل بتوترٍ وقفت أمامه على بعدِ خطوتين وهي تفرك كفيها ببعضهما : تبي مني مساعدة؟
سلطان بنبرةٍ مستنكرة وهو يضوّق عينيه : مساعدة في أيش؟
شتت عينيها وهي تزدردُ ريقها بحرج، ودونَ أن تنظرَ إليه : راسك يعوّرك صح؟ تبيني أسوي لك شيء تشربه أو أدلك لك!!
صمتَ للحظاتٍ وهو ينظُر إليها بغرابة ودهشَة، لم يتوقّع منها أبدًا هذه المبادرة وأن تفكّر في صداعِه وراحته . . ابتسمَ رغمًا عنه، مهما كانت سابقًا ومهما حدثَ يبقى قلبها بريئًا وإن أظهرَت عكسَ ذلك. لفظَ بابتسامة : ودك تسوين لي شيء أشربه؟ عزَّ الله نمت في المستشفى اليوم بتسمم غذائي.
وجهت نظراتها إليهِ بصدمةٍ مما قال وسرعان ما احمرَّ وجهها بإحراجٍ وغضب : تسمم غذائي!! أنا أستاهل والله!!
تحرّكت بغضبٍ تنوي الخروج ودخانٌ يكادُ يخرج من رأسها بعد ما قاله وهي التي جاءت كي تساعده، لا يستحق!! حقًا هو لا يستحق.
ضحكَ سلطان رغمًا عنه متناسيًا ألم رأسه وهو يلفظُ
بسرعة : تعالي تعالي أمزح معك يا غزالة.
ارتعشَ جسدها من ذاكَ اللفظِ ككل مرةٍ يقُولها لها ولا تمرُّ
بشكلٍ عادي، توقِفت أقدامها عن الذهابِ رغمًا عنها
وكأنّ كلمتهُ تلكَ تجيءُ لتجمّد حركتها.
سلطان بابتسامة : تعالي لا جد احتجت أحد يدلك لي هالراس يوم قلتيها.
استدارَت نحوهُ وهي تُميل فمها محاولةً طردَ ربكتها عن كلماتها التي جاءت متذمرةً وهي تضع يديها على خصرها : أخاف أنقل لك شحنات زايدة براسك وتموت علينا بعد!
سلطان : هههههههههههههههههه شدعوى زعلتِ أمزح والله!
ابتسمَت ابتسامةً صغيرةً متوترة وهي تقتربُ منه بخطواتٍ ترتعش، ما هذهِ الربكةُ الآن؟ وتلكَ الرعشةُ التي تغطِّي أطرافها الباردة! . . نظرَت لعينيه الجذّابتين رغم ارهاقهما، توتّرت أنفاسها وشتت نظرتها عنه رغمًا عنها . . ماهذا الجنون الذي يحدث!! أفيقي يا غزل أفيقي.
عضّت شفتها وهي تُريد ضربَ نفسها للربكة التي جاءتها في غفلةٍ منها ودونَ سابقِ إنذار، دونَ سببٍ واضحٍ يُذكر!!
همسَت بتوترٍ وهي تقف عند سريرِه : طيب تمدد ، أنا بجلس عالطرف.
لاحظَ توتّرها لكنّه كان بحاجةٍ فعلًا ليدٍ تطرد هذا الصداع، لذا تجاهل توتّرها بأنانيةٍ وتمدد على السريرِ واضعًا رأسه على الوسادة مُغمضًا عينيه، شعرَ بها تجلس بجانبِه وتمدُّ يدها الباردة لتُلامسَ جبينه، رعشَتها كانت تصلُ إليه، يُدرك سببها جيدًا فهي في غرفته وهذا الوضع ليس طبيعيًا بالنسبةِ لهما على الأقل، صمتَ ولم يعلّق أو يرحمها بأن يطلب منها التراجع أو يخرجا للصالة على الأقل، هي التي جاءته وهو من الجهةِ الأخرى مُتعب ويُريد النوم، ولن ينـام الليلة أبدًا مع هذا الصداعِ الذي ولّده سلمـان الذي ينام الآن براحةٍ بالتأكيد متجاهلًا كل الفوضى التي يخلّفها فيه، لذا سيكُون غبـاءً منه أن يرفضَ عرضَ غزل.
عضّ باطنَ خدّه حينما جاءتهُ صورته، حاولَ طردَها أسفلَ لمساتِ غزل الناعمةِ والباردة على جبينه الساخنِ بأفكارٍ تحتكُّ ببعضها البعض بفوضويتها لتخلفَ شرارةً لا تُريدُ أن تنطفئ، هذهِ الفوضى ستهلكهُ يومًا، ستهلكه إن لم يعثر على يدٍ تلملمها وتحشُرها في قنّينةِ راحةٍ تجعله ينامُ بسلام، ينامُ دونَ أن يفكّر بآلآمهِ كالآن، ينـامُ كطفلٍ رضيعٍ يحتاجُ يدًا تعلّمه دربَ المنـام، لطالمـا احتاج الأطفـالُ ليدِ أمٍ تحتضنهم وتربّت على ظهورهم حتى ينامُون، مهما شعروا بالنعاس فلن يستطيعوا في كلِّ مرةٍ الوصول إلى ما يُريدون بأنفسهم ، هوَ لم يجرّب طعم الأم! لكنّه جرّب طعم الأبِ في - اثنين -، جرّبها ونطقَ " يُبه " مرّتين لتمُوت تلكَ الكلمةُ مرتين أيضًا! أولًا حينَ رحلَ الأوّل إلى عالمٍ آخر، وثانيًا حينَ رحلَ الآخر مع قافلةِ الغدر.
سيطرَت عليه أفكاره التي تطأ عليها يدُ غزل من الجهةِ الأخرى، لملمت الصداعَ برّقتِها، وهو وصَل أخيرًا مع تلكَ الأفكـارِ إلى بلدةِ الأحلامِ حينَما أدركَ دربه أخيـرًز.
انتظمَ تنفّسه وسكَنت أجفانه، نظَرت لملامحهِ الساكنَة بصمتٍ متوترٍ وهي تُسكِنُ كفّها فوقَ جبينهِ وتُسكن معهُ اضطرابها، بللت شفتيها ورفعَت يدها، همسَت ببحةٍ خافتةٍ حتى تتأكّد من نومه : سلطان نمت؟
لم يُجبها ويبدو أنّه غرقَ حتى وصل لقاعِ المنـام لإرهاقه بعد هذهِ الليلةِ القاسيـة، بينما بقيَت هي تتطلّع لملامحهِ بصمتٍ وصدرها يرتفعُ بأنفاسٍ متوترة، هاهو الاضطرابُ يعُود إليها أضعافًا ككلِ مرةٍ تجدُ فيها الفرصة لتأمّل لوحةٍ باذخة الجمـالِ تجسّدت فيه، ارتعشَت شفاهها ومرّرت حدقتاها على عينيه، هاهي مرةً أخرى عرضَت عليه عرضها الغبيَّ لتُلامسَ رأسه، لتغرقَ في أفكارها المجنونةِ وتبدأ بتأمّله، لم تستطِع منع عينيها من فعلِ ما رغبَت بهِ وهما تنحدرانِ على أنفهِ الطويل، ارتفعَ صدرها بعنف، انحدرَت أحداقها لتستكين على فمه، انتفضَت بقوّةٍ ونهضَت وهي ترتعش، هاهيَ الفكرة الأشدَّ جنونًا تعود! هاهي رغبةُ أطرافها بتلمّس ملامحه تعود وكأنّها عميـاءُ تريدُ أن تهتدي إلى صورته عن طريقِ أناملها.
هزّت رأسها بالنفي وهي تعضُّ شفتها بعنف، جنون! ما تفكّرين بهِ يا غزل جنون!! تراجعَت للخلفِ حتى تخرج، لكنّها وجدت عيناها تعودانِ للنظرِ إليه، ارتعشَت أقدامها قبل أن تفقد قدرتها على السيطرة وتعود للاقترابِ منه، لم تستطِع كبحَ رغبةِ يدها المجنونة، جلسَت بجانبهِ ببطءٍ وحذرٍ وكأنّها تخشى أن ينهضَ في لحظةِ جنونها، امتدّت يدها اليُمنى التي كانت ترتعش، أسكَنت أطرافَ أناملها على أهدابِ عينيه ونبضَ قلبها باضطرابٍ ضخم، ازدردَت ريقها وهي تتنفّس بتحشرج، لم تكُن يومًا بهذا الجنونِ معهُ يا الله لكنْ أن تكبحَ رغبتها أكثر فهي تدرك أنّ العواقب لن تكون بسيطة، ستستغل لحظة نومهِ المُرهقة لتُريحَ يدها من هذهِ الرغبة التي تكاد تكون حاجةً حمقاء! . . تلكَ المرّة رغبَت في تلمّس عوارِضه، زمّت شفتيها وهي تُخفضُ يدها عن رموشِه وتتلمّس فكيهِ بتوتر، رغبَت أيضًا بتلمّس فمه!! لا لا هذا جنوووون!!!
هزّت رأسها بالنفي وصدرها يرتفعُ بعنفٍ وينخفضُ بسرعة، انحنَت قليلًا بجسدها إليهِ وهي تُعيدُ شعرها خلفَ أذنها وتزدردُ ريقها وحلقها تشعرُ أنّه باتَ جافًا، تجاهلَت رغبتها بتلمّسِ فمه وتلمّست أنفه، حرّكت أناملها عليه بحذرٍ إلى أن وصلَت لحاجبيه، أعظمُ تهورٍ قامت بهِ منذ تزوّجت بهِ هو أنّها عرضَت عليه أن تطردَ صداعه وجاءتهُ إلى غرفته!! هاهو الآن نائمٌ وهي تفقدُ نفسها وقناعتها بأنّها لن تتأثّر به ! . . من قال أنّها تأثّرت بهِ أصلًا؟ هي فقط أرادت أن تتلمّس وجهه! فقط!!
عاودتْ عضَّ شفتها السُفلى وهي تُغرِق أناملها بين خصلاتِ شعره الكثيفة، شعرهُ مُغري لتلعبَ به!
أغمضَت عينيها عند تلك النقطةِ من التفكير واجتذبَت يدها من شعره بسرعة، يا الله ما الذي تقُوم به؟ هل جنّت؟ هل عـادت لجنونِها الماضِي وعدم سيطرتها على ذاتِها؟ هي التي خسِرت كلَّ شيءٍ بسيطرتها المعدومةِ تلك! هي التي أفسدَت حياتها بتهوّرها فكيفَ تجيء الآن لتغرقَ بهذا الشكلِ في تفاصيلِ سلطان!! سلطان الرجُل الأكثر خطورةً عليها، " زوجها "!! والذي إن اكتشفَ حقيقتها لن تستطيعَ تخيّل ماقد يفعله، مهما كان حنونًا ورقيقًا لكنّه سيكون كأيِّ شرقي ولن يتساهلَ في أمرٍ كهذا . . لذا ليذهب جنوني هذا! ليذهب بعيدًا.
نهضَت ومحاجرها ترتعشُ بدمعٍ لم يفُر منها، لا داعي للبكـاءِ الآن، لا داعِي له!!
تراجعَت للخلفِ واستدارت لتخرجَ مسرعةً من غرفتها وهي تضمُّ يدها اليُمنى التي كانت تلامسُ ملامحهُ التي ولّدت تياراتٍ جرَت الآن في عروقها . . كان جنونًا منها!! كانَ جنونًا!!
،
في بروكسيل.
توقّفت السيـارة أمام العمارة التي يقطُن فيها، كان يشعر بالإرهـاقِ يستنفدُ كلَّ طاقته، هذا إن كان لازال لديه طاقـة، كان التعبُ واضحًا وضوحَ الشمسِ على ملامحه، بعد أن انتهوا من كلِّ شيءٍ اتّصل بهِ عبدالله وأوّل ما قام بهِ هو أن سألهُ عن
غادة وحسـام، حينها أخبره بأنّهما أصبحـا في الشقةِ سالمِين، حادثـهُ بإيجازٍ عمّا حدثَ وأقفَل، والآن هاهوَ يقفُ ولا يفصلُ بينه وبينَ فراشِه سوى القليل، لم يعُد يريد أيّ شيءٍ سوى النوم ... النومَ فقط.
كـادَ يخرجُ من السيّارة لكنّ صوت هاتفهِ جاءَ مُقاطعًا له، نظرَ لهاتفهِ ليتراءى أمامه رقم عبدالله، حينها عقد حاجبيه ليردَّ مباشرةً ويضعهُ على أذنه : سم.
عبدالله بحدةٍ دونَ مقدِّمـات : مين ذا يُوسف وليه متهجّم عليه؟!!
تجمّد في مكانـه بصدمةٍ وأجفـل للحظاتٍ ناظرًا أمامـه دونَ استيعاب، ما الذي جـاء بيُوسف هنـا الآن وجعلهُ يتطرّق للحديثِ إليه، كيفَ عرفَ بأمرهِ أصلًا!!!
لفظَ بارتبـاكٍ وصوتٍ حائرٍ بعض الشيء : وشو؟
عبدالله بغضب : لا تتهرّب ، وش مهبب يا ولد!! مين ذا يُوسف اللي تهجّمت عليه؟
بدر بتوتر : لحظة الحين وش جاب سالفة مثل ذي؟
عبدالله بحدة : جاوب على قدّ السؤال.
رفعَ حدقتيه للأعـلى وهو يعضُّ شفتهُ ويستسلمُ بإجابةٍ خافتةٍ بها بعض الكذب : شخص متعرّف عليه هِنا من فترة وصارت بيننا مشكلة بس.
عبدالله بغضب : كذّاب!
بدر : جد ما أكذب أساسًا وش تبي بهالموضوع؟
عبدالله بصرخة : بتجنني!! بتجنني أنت وتهوّرك وتصرفاتك اللا مباليـة.
شتت عينيه بضيقٍ وهو يلوي فمهُ بحنق، ما الذي جعلهُ يعلم الآن؟ يريد فقط النوم، ليسَت اللحظة المناسبة للإستجوابِ والصراخ.
عضَّ زاويةَ شفتهِ السُفلى بتهكّمٍ وهو يفتحُ فمَه ليتكلّم، لكنّه أجفل للحظةٍ واتّسعت عيناه بصدمةٍ من الفكرةِ التي وصَلت إلى دمـاغه كتيارٍ عنيفٍ ترجمهُ في كلماتٍ تحمّلت فوقَ نبرةِ دهشة : لحظة لحظة ، أنت سامع كلام تميم ويّاي؟!!!
عبدالله بعد صمتٍ لثانيتين : وش هالكلام؟!!
بدر بدهشة : لا تتهرّب ، أنت سامع كلام تميم!! الا سامعه، هو الوحيد اللي تكلّم عن يُوسف وتهجّمي عليه ... شلووون؟!!
عبدالله بحدّة : ماشاء الله وتميم داري قبلنا بعد؟!
بدر يشدُّ على قبضتهِ وهو يلفظُ ببهوت : قلت لك لا تتهرّب!! أنتو حاطين معي جهاز مراقبة وأنا مو داري والا كيف؟ لا لا لو إنّك سامع كلام تميم ويّاي كنت هاوشتني لما اتّصلت فيني أوّل ، الكلام واصلك بعد ما اتّصلت فيني . . وش قاعد يصير؟!!!
عبدالله بحزم : بديت تخبّص وشكله من آثار النوم ، روح نام وحسابي معاك بكرا بخصوص هالموضوع.
بدو : لحظـة ....
انقطعَت كلماتُه بإنهاءِ عبدالله للإتّصال، نظرَ للشاشـة ببهوتٍ وهو يحاول تفسير معنى الذي قاله منذ لحظات، ما معنى ذلك؟ ما معنى ذلك!!!!
،
وضعَت كوبَ القهوةِ على الطاولـةِ أمامها وهي تزفُر وتعيدُ ظهرها للخلفِ لتسندهُ على ظهرِ الأريكة، عيناها تكادانِ تسقطَان من النعاس، لكنّها لم تستطِع النوم! عقلها يطُوفُ حول بدر وقلقها عليه، منذ خرجَ من المطعمِ لم يتّصل بها ليُخبرها إن كان أصبحَ في دائرة الأمـان، وعدمُ اتّصاله يجعل احتمالَ كونهِ في دائرة الخطرِ أكبـَر.
يا الله اجعلهُ بخير، اجعلهُ بخيرٍ ولم يتّصل بها كعقابٍ فقط! لا يهمّها إن كان تجاهل إخبارها وإن كان ذلك سيؤلمها، لكنّها تريده بخير، فقطْ تُريده بخير.
أغمضَت عينيها وهي تهمسُ بدعواتٍ وتُرفقها بـ " آمين "، ليكُن بخير، ليكُن بخير.
سمعَت صوتَ قُفل البـاب يُفتح، حينها انتفضَت وهي تفتحُ عينيها وتقفَ بتوجّس، رأتهُ يدخُل وهو يمسحُ على وجههِ المُرهق وعيناهُ تُسافرانِ نحوَ أفكـارٍ كانت في مجملها - أعاصيـر -.
شهقَت ببكاءٍ كانَ يغصُّ فيها طيلة وقت انتظـارها إيّاه، لفظَت بنبرةٍ هزمَتها البّحة وهي تمسحُ دموعها التي اعلنت انتفاضةً على محاجرها : بــــدر!!
نظَر إليها بدر بعينين محمرّتينِ بتعب، مسحَ على جبينهِ ليهمسَ بجمود : ما نمتِ للحين؟
غادة تقتربُ منه وهي تبتسم : لا ، كنت أحاتيك.
تحرّك ليتجاوزها حتى يذهبَ لغرفته وهو يردُّ عليه بصوتٍ جاف : ما كان فيه داعي تحاتيني هذاني قدامك بخير.
أنهى جملته تلكَ وهو يقفُ عند بابِ غرفته بينما وقفَت هي دونَ حراكٍ وهي تبلل شفتيها، ستحتملُ جفاءه، لا يهمّها ما سيقُول وبأيِّ نبرةٍ كانت، يكفيها عن كلِّ شيءٍ أنّه عاد بخير، لذا لن تهتم.
عقدَت حاجبيها باستنكارٍ حين رأته لا يزال واقفًا أمام البابِ ولم يتحرّك، أعادت خصلةً من شعرها لخلفِ أذنها وهي تهمس بتساؤل : تبي شيء؟
بدر يوجّه نظراتٍ إليها، رأتْ في أحداقهِ غضبًا جعلهَا تنتفضُ بتوترٍ وهي تزدردُ ريقها، تحرّكت أقدامه فجأةً إليها، حينها شهقَت بفزغٍ وهي تتراجع بينما وصَل إليها بحدّةِ ملامحهِ ليُمسك بمعصمها ويلفظَ من بينِ أسنانهِ بنبرةٍ حادةٍ وهو يشدُّ على معصمها : وكـان فيه ناس ملاحقينك بعد؟ كنتِ بتروحين يومتها يا غــادة بسبب تمرّدك وتهوّرك؟!!!
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تنظُر له بخوفٍ ونظراتهِ تُربكها، تركَ معصمها بانفعالٍ وهو يتراجعُ ويهتفُ بصوتٍ مقهورٍ غاضب : كنتِ بتروحين فيها!! بتروحين فيها وما اهتميتِ وش بيصير فيني من وراك؟ تدرين إنّي ما عاد أتحمّل موت أحد قريب منّي!
شتت نظراتها وعيناها تبكيـانِ بوجَع، أردفَ وهو يمرر كفهُ على شعرهِ ويزفُر بقهر : احمدي ربّك لأنّك ما زلتِ بخير ، لأنّه لو صار لك شيء ما كنت بسامحك، كنتِ بتآخذين ذنب حُزني!!
يُتبــع ..