كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم :)
صباح الطاعة والطمأنينة بالعبادات
مساء الإستغفار وتجديد التوبة
فــ / أستغفرك ربي وأتوب إليك عدد نعمك علي
كل عام وانتم بألف خير وسلامة
كل عام وانتم بسعادة لا تنضب
كل عام وانتم إلى الله أقرب
كل عام وجمال روحكم وخُلقكم يسبق جمال خَلقكم
عساكم من عوادة
وصل البارت يا الغوالي أو نقـول البارتين
وهذي هي مُفاجئتي وعيديتي لكم
ماني أقل من غيري عشان ما أهديكم عيديه
وانتو تستاهلون أكثر من كذا وأمنياتي تعجبكم عيديتي لكم
+ هالبارتين إهداء خاص لجميلة ماتحرمني تواجدها مع كل بارت من بداية الرواية
ماودي أكون ظالمة مع البقية بس أوعدكم بيكون فيه إهداء بكل بارت وتأكدوا إن كل وحدة ساندتني بتشوف إهداء خاص لها ..
هالبارتين إهـــــداء للجميلة ( ثرثرة هادئة )
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
للكاتبة : كَيــدْ !
لا تشغلكم عن العبادات
(9)
الساعة الخامسة - عصرًا
قدماها تتحركان بخطواتٍ واسعة, تنظف البيت كما البارحة, لكن هذه المرة كانت تنظفه كاملًا وليس الجناح وحسب، لم تعد تجد ما يُشغلها عن أفكارها العقيمة، وهي بكل بساطةٍ استسلمت لمشاعرها في الصباح فباتت تغرقه بكلمات حبها التي لطالما كانت ترفعه عاليًا ليُصبح فوقها هي.
لتستسلم! لم تعد تريد الكفاح لتجد كرامتها، هو زوجها في النهاية، وهي من أخطأ حين تزوجت برجلٍ تزوج سابقًا ليفشل زواجه ويظن بزواجه الآخر سوءًا. إن لم تحصل على رضا نفسها فستشتري رضا الله، ليست مستعدة لأن تبيت الملائكة تلعنها لأنها تغضب زوجها ولا تؤدي حقوقه على أكمل وجه.
لكن ماذا عنها هي! ألا حقوق لها أيضًا ليعمل بها ويرضي الله؟
بعد لحظاتٍ كانت الخادمة قد جاءت إليها تريد أن تأخذ الأعمال عنها كما كانت تحاول منذ ساعاتٍ وهي لا تقبل، فلا عمل يشغلها سوى التنظيف، والجلوس مع امه يدفعها للإرتباك لكثرة تساؤلاتها عن علاقتهما.
وفي جهةٍ أخرى، كان هو لتوه يدخل ليتجهم وجهها، تعلم أين كان، ككل يومٍ في هذه الساعة يكون هناك ... معه!
ابتلعت ريقها وهي تُبعد عينيها عن مرمى عينيه، ليهتف بعد أن اقترب منها بملامح معقودة : ليه تشتغلين؟ والخدامة وين؟
ردت دون أن تنظر إليه : حاولت تاخذ الشغل عني بس أنا رفضت، ما عندي شيء أتسلى فيه غير الشغل
ازداد تجهم وجهه ثم هتف : أجل جهزي نفسك بعد المغرب عشان نطلع
نظرت إليه دون تعبير لتومئ برأسها, ما الذي يريده تحديدًا من الخروج معها؟
ابتسمت دون تعبير، أيعتقد أنه ببضع سهراتٍ خارجًا سيرغمها على التعمق في حبه أكثر وأكثر؟ وعدم التذمر معه؟ ... بالتأكيد هو لا يحاول إرضاءها أو إسعادها، فهذا آخر ما قد يفكر به سيف.
ابتعد بخطواته عنها ليتجه للصالة التي تجلس فيها امه دائمًا، وفور رؤيته لها اقترب ليقبل رأسها ويدها ثم جلس بجانبها لتقدم له فنجان القهوة ويأخذه هو من يدها : تسلمين يا الغالية
امه : الله يسلمك
ثم دون كلمة أخرى صمتت، لتعود للغرق في أفكارها التي كانت تداهمها منذ ساعات وهي ترى ديما تعمل وتضغط على نفسها بينما لمحات الحزن لم تخفى على عينيها، منذ مدة تلاحظ وتلاحظ لكنها تصمت، لا تريد التدخل بينهم، ولا تريد إشعال الفتيل بينها وبين ابنها كما بينه وبين زوجته، لكن “ الشيء إن زاد عن حده إنقلب لضده “ وسيف لا يدرك ذلك أو بالأحرى يدركه ويتجاهله، يومًا ما سيتجرع مرارة تلك الجملة وسيعاني ضد ما يعيشه. هو يقسو عليها، وهي بالتأكيد سترد بما قد يكسره بعد أن يطفح بها الكيل.
لاحظ هو والدته وصمتها، لا يعلم ما الذي تفكر به لكنه توجس، وحين حدثها لم تجب دلالةً على عدم تواجد عقلها معه. وضع فنجان القهوة ثم أراح كفه على كتفها، ليهمس : يا الغلا
رمشت بعينيها ثم أدرات رأسها إليه : نعم
سيف بحيرة : وين وصلتي؟
استنشقت الأكسجين ثم زفرت ذرات ثاني أكسيد الكربون، لتهتف بحزمٍ وقد اتخذت قرارها أخيرًا، لن تصمت أكثر، يكفي ظلمًا في هذا البيت : ليه مرتك للحين ما حملت؟
جفل، وعينيه تشتتا عن عيني أمه، لمَ تفتح هذا الموضوع الآن؟ ليس وقته أبدًا، ليس بعد أن بدأ في السيطرة بينما فقدها قبلًا بعد جملته المجنونة تلك، والآن عادت المياه لمجاريها تقريبًا ... لكن الواضح، أن امه تريد بناء سدٍ جديد يحبس الماء ويركده.
أردفت بعد سكوته الذي طال : ليه ما تحكي؟ تكلم ... والا فالح بس تضوق على المسكينة
رغمًا عنه اشتعلت عيناه بالغضب، هو سمع امه من قبل تحدثها عن هذا الموضوع، وبالتأكيد هي من فتحته لها واشتكت برغبتها في الإنجاب.
ثبت عينيه في عيني أمه ليهتف بثقة : ماودي
امه بغضب : هو بكيفك؟؟ والمسكينة؟
سيف بثقة : ما تبي، تناقشنا أنا وهي من قبل ووافقت
لم تقتنع، وكيف تقتنع وهي حدثتها مرةً لترى الحزن والأنكسار في عينيها؟ كيف تقتنع وهي بنفسها استشفت الألم في عينيها والرغبة الكبيرة بالأطفال؟
هتفت بغضب : أجل روح نادها لي وخلني أسألها بنفسي ... والا أقول، انا بناديها أخاف تقولها شيء أو تهددها لو اعترضت
رفع حاجبيه، هل أصبح الآن رجلًا مستبدًا مُبتزًا؟
ارتفع صوت امه مناديةً لها، وفي لحظاتٍ كانت قد قدمت لتقف أمامهم متعجبة من نظراتهم والجو المشحون الواضح من حولهم، فتساءلت بحذر : سمي خالتي
أم سيف : اجلسي يا بنتي بغيتك بكلمة راس
جلست بتوجس في مقعدٍ منفرد، ربما بحركتها هذه أرادت شيئًا يحتوي جسدها الصغير، ولم تجد سوي أريكةٍ مُفردة ليحتضن هيكلها الغضّ. بينما كان هو ينظر إليها بنظراتٍ أدركت انها مُحذرة فاقترب حاجباها بقلق، وقبل أن تسأل باشرت أم سيف بالسؤال : توني أنا وزوجك متكلمين في موضوع من زمان ودي أفتحه معكم اثنينتكم، وحصلت الوقت اللي افتحه فيه
ازداد توجسها وبدا على وجهها الإهتمام، لتعيد النظر إلى سيف الذي كان قد أخرج هاتفه “ الآيفون “ ليبدأ بالضغط على شاشته بحركاتٍ مُشتته أيقنت منها غضبه، وكيف لا تعرف علامات غضبه وهي التي عاشت معه أكثر من ثلاث سنين؟
عادت للنظر إلى أم سيف لتهتف بقلق : وش هو الموضوع خالتي؟ أسمعك
أم سيف باندفاع : موضوع العيال
ارتخى وجه سيف ليرفع نظراته إليها، بينما تشنج وجهها ودون إرادةٍ نظرت إليه في حركةٍ مُرتبكة، وهنا بدأت ام سيف بالنظر في كليهما تنتظر رؤية نظرات سيف المهددة، لكنها لم ترى سوى الهدوء والثقة. بينما هي، كانت الوحيدة التي تفهم هدوءه المحذر، يُخبرها بحركته هذه أن تُطبّق أوامره الصامتة بحذافيرها، فازدردت ريقها مرارًا وتكرارًا تدفع نفسها للإجابة، سترضيه، لن تعصيه، ستفعل ما سيُكسبها رضى الله قبلًا، ليست مُستعدةً الآن لغضبٍ ومشاكل، فلتعش مهدورة الكرامة لكن بصمتٍ ودون صراخ. هكذا كانت تحدث نفسها وتقنعها.
أخيرًا تحدثت بثقةٍ مهزوزة وشفتين مرتعشتين، بشخصية سلبية أرضته : وش فيه هالموضوع خالتي؟ * ابتسمت باهتزازٍ لتردف * أنا راضية حاليًا وما ودي بعيال
قطبت أمه حاجبيها دون رضى، كيف تكون راضية بينما عينيها تحكيان عكس ذلك، استدارت لسيف الذي ابتسم مُقدمًا لجسده قليلًا للأمام واضعًا مرفقيه على ركبتيه يمسك هاتفه بين كفيه اللذين تدليا في الهواء : قلت لك يا الغالية بس رفضتي تصدقين ... لهالدرجة طايح من عينك حتى تشوفيني بهالإستغلال؟ أكيد هي لها كل الحق بالعيال، بس احنا متفقين من قبل
تناقضاتٌ وتناقضات، أرادت الصراخ في وجهه غاضبةً عاتبة، لمَ يقول هذا الكلام الآن وهو يفكر بضده؟ ما كل هذا الإستغلال يا سيف؟ ما ذنبي لتقارن حياتك مع زوجتك السابقة بحياتك معي؟؟
وجهت إليه والدته نظراتٍ غاضبة، لتهتف بغضب : ثلاث سنين تكفيكم والحين لازم تجيبون عيال ... يعني منت راضي تسعدني بالضنا؟
سيف بابتسامةٍ لم يقصد بها جرح ديما، بل لم ينتبه أبدًا لملامحها التي تشنجت بانكسار : افا يا الغالية ... ووين راح زياد؟
امه بقهر : ولدك احنا محرومين منه بسبب امه، ما نشوفه إلا نادرًا وأنا ودي بأطفال أشوفهم قدام عيوني قبل أموت
سيف بعينين ضيقتين : عسى عمرك مديد يمه ... بفكر بالموضوع إن شاء الله ... والحين اسمحيلي بروح أرتاح شوي
وقف ليصعد دون النظر إليها، وهي كانت مطرقةً لرأسها بألم، هو جرب شعور الأبوة، بينما هي لا، لذا لن يشعر أبدًا بما يختلج داخلها، لن يشعر بكمية الحزن الذي ينهش روحها، ولن يشعر بتاتًا ببكاءِ رحمها يرتجي جسدًا يحتضنه.
رفعت رأسها حين تحدثت أم سيف مناديةً باسمها وعلى وجهها إمارات الشدة.
,
أكان العتاب يومًا مؤذيًا لقلب المُعاتِب قبل المُعاتَب؟ أكان الصدود بحقٍ معصية في يومٍ من الأيام؟ هي تصُد وتصُد، وينزف قلبها من ألم الصد، وهو يُصَد ويُصَد، ولازال يضحك بوجعٍ بينما تبكي هي بوجع! تراه الآن يضحك مع أختيها بينما الألم يشق طريقه في عينيه النديتين. تراه يحاول التحدث معها وإسعاد الإثنتين الباقيتين ممن يحملون اسم عائلتها في هذا الصرح، تراه رغم أحزانه الظاهرة يكافح ويكافح.
علمت الآن متى يكون الصد معصيةً حتى وإن كان لصدها سببًا معقولًا، هو معصيةٌ لكون المُصَد عنه هو والدها، هو معصيةٌ يعاقب قلب المرء عليه لكونه يعصي ربه في إيلام المصَد، بينما هي تتألم أكثر وأكثر جاهلةً بأن ألمها لا يساوي شيئًا عند الأخر الذي يكون والدها، الصابر على كل المصائب التي حدثت بسببه - في وجهة نظرها - ولا لسبب آخر.
إن كان حقًا يريد القرب من بناته فلمَ قتلها؟ لمَ حبسها؟ لمَ أذاقها الجفاف والجفاف؟ زمت شفتيها تريد أن تسأله، حقًا تريد أن تعلم، لمَ قام بما قام؟ لمَ فعل ما فعل؟
ودون أن تشعر بنفسها، كانت تهمس بصوتٍ وصل إليه وهي جالسةٌ على إحدى الأرائك رافعةً ركبتيها وذقنها مستندٌ عليهما، بينما كان والدها في جهةٍ مقابلة يجلس مع طفلتيه يتمنى انضمام الثالثة : يبه
ليستدير بلهفةٍ لم تخفى عليها هامسًا : عيون أبوها
ابتلعت غصةً في حلقها لتُنزل ركبتيها وتميل بشفتيها بينما احمرت وجنتيها البيضاويين دلالةً على قدوم البكاء : أبي أفهم بس ... ليه صار اللي صار؟
قطب حاجبيه ليقترب منها، نبرتها كسرته لشظايا فأكملت كسر الشظايا نفسها لتحيلها لذراتٍ لا تُرى ولن يساعد لا المجهر ولا شيءٍ إلكتروني آخر على رؤيتها. وفور وصوله إليها كان قد جلس بجانبها ليغطس بجسدها في أحضانه العذبة : صار وانتهى ... هذا قضاء وقدر
كم تمنت حضنه طويلًا لذا لم تتجرأ على الإبتعاد وبقيت، لتهمس بعتاب : ما كان بيصير لولا سواتك
يوسف وجملتها أوجعته : بيصير وإن كانت بعيوني دام ربي كتبه لها
ارتفع نحيبها تدريجيًا حتى بكت معها ليان التي لم تكن تعلم ما الذي يجري تحديدًا، لكنها اعتادت على أمرٍ واحد “ إن بكت إحدى أختيها تشاركها البكاء كما تشاركهما كل شيء “ .. أخذتها أرجوان في أحضانها تهدئ موجة بكاء هذه الطفلة، وجيهان كانت قد هتفت بالسؤال الذي أرادت السؤال به مطولًا : طيب ليه عاملتها بهذيك الطريقة؟ ... فهمني بس وريح عقلي
وهنا جفل كلٌ من يوسف وأرجوان، ليصمت دون إجابةٍ ترضيها، وبصمته الطويل أشعل فتيل قهرها لتبتعد بشدةٍ ذاهبة إلى غرفتها، صمته يقنعها أن لا سبب مقنع يسمح له بما فعل، ربما فقط ملّ منها، ربما فقط أراد ابعادها عن بناتها وحسب، وربما وربما ... توقعاتٌ كثيرة اقتحمت عقلها ولم تجد ما يقنعه فعليًا، لذا أكملت نحيب الجاهلة المُعذَبة والمُعذِبة لوالدها الذي بات يستمع لنحيبها خارجًا، يهمس بجزع : لا حول ولا قوة إلا بالله ... لا حول ولا قوة إلا بالله
,
: وش قصتك إنتِ؟ وش قصتك ... ما قلت لك لا تقربين؟ ما قلت لك لا تشوفك عيوني؟ أشوفك نار قدامي ... أشوفك جهنم وأنفاسك مثل السَموم!!
كان هذا الصراخ يتكرر مرارًا وتكرارًا في عقلها، ترفض ذكراه الإرتحال بعيدًا، وهي تتأرجح في أحضان والدها تتمتم ببعض الأدعية وعيناها شاردتان تمامًا.
وصاحب الصوت الصارخ يرمي بكل ما يراه أمامه عليها، وهي واقفةٌ تبكي بألمٍ من البعد قبل الضرب.
استفاقت على صوت والدها الذي كان يمسح خصلات شعرها البندقية : حبيبة أبوها وين راحت؟
لتبتسم وهي تقف مبتعدة عن حضنه ثم تعود للإقتراب لتقبل وجنتيه ثم جبينه : معك يا الغالي معك .. وأنا أقدر أسافر بعيد عنك؟
أمسك بذقنها المميز والمقسوم ليهتف بحنان : جعلني ما انحرم منك بس ... الا وين فارس؟
جنان بابتسامة : طلع مع صديقه فواز وبيرجع بعد المغرب مثل ما قال
وبعد أن نطقت بجملتها تلك كان بقية إخوتها يدخلون مع بعضهم. توأمان في الحادية عشر من العمر ( رامي وسامي ) والثالثُ ذو الخمس سنين يدخل وهو يجر معه شكلًا مأساويًا والرمل يغطيه
جنان بغضب : وائل وش ذا؟
تراجع الطفل وائل ليختبئ خلف أحد التوأمين وهو الذي يخاف أخته حين تصرخ عليه، بينما ضحك الذي يختبئ خلفه ليهتف : تسوي سواتك وتتخبى وراي ... * ثم استدار ينظر لجنان بشيطانية ليردف * كان يلعب مع جيراننا في الرمل .. ويوم قرب من الطين سحبته أنا ورامي
قطبت جبينها لتزفر أنفاسها بغضبٍ ثم اتجهت إليه ليتشبث بظهر سامي دلالة الخوف، وما إن وصلت إليه حتى جلست القرفصاء أمامه ليبتعد سامي تاركًا لأخيه مع اخته ينظر إليه بتسلية
جنان بعبوسٍ وشفتيها مضمومتان بجزع : الله يهديك بس ... توني من ساعتين مبدلة لك ملابسك
ثم بدأت في نفض ملابسه تتابع بعتاب : ليه ما تلعب بنظافة وأدب؟ كذا تعلمت يا وائل؟ والحين أنا مضطرة أخليك تغتسل من جديد
بينما كان والدها ينظر إليها بابتسامةٍ لنبرة الحنان في صوتها، لتكمل : وعقابًا لك بغسلك أنا عشان أتأكد من نظافتك
عبس بشدةٍ لتتابع وهي ترسم الجدية في وجهها وقد اتجهت انظارها للتوأم : شرايكم؟
ضحكا بشقاوة ثم حركا رأسيهما بالموافقة، وحينها فقط امتلأت عينا الطفل بالدموع ليتجه نحو والده شاكيًا : بابا بابا
ضحك والده بشدة، ليبدأ الطفل بالبكاء هاتفًا بتعثر : تبي تغسلني ... بابا شوفها
ضحكت جنان ولم تستطع كبح ضحكاتها، هكذا هو أخوها يكره أن يراه شخصٌ ما عاريًا، ودائمًا ما يبكي إن قررت أن تُحممه هي، بينما يترك باب الحمام مفتوحًا حين يغتسل أخذًا للحيطة، وتكون هي قريبةً منه خوفًا عليه.
أخيرًا هتفت بعد موجة ضحكاتها التي راودتها : توسخ نفسك مرة ثانية؟؟؟
نظر إليها عابسًا ليهز رأسها بالنفي، حينها ابتسمت لتقترب منه ثم جلست أمامه : أوكي روح انت اسبقني للحمام وأنا شوي وجايتك بالملابس ... واترك الباب مفتوح هاه
اتسعت إبتسامتهُ البريئة ليركض متجهًا للحمام بينما هتف سامي : ليه ما طولتي شوي ... بغيته يبكي!
رفعت إحدى حاجبها لتقترب منه ببطء، وقد كان رامي بجانبه، فشدت أذنيهما لتهتف بتساؤلٍ غاضب : وليه ما تبعدونه عن الرمل؟ جالسين بس للدشرة وأخوكم بالطقاق!
لتردف بجديةٍ وهذه المرة غضبت فعلًا : فرضًا صار له شيء لا سمح الله وانتو ما كنتوا منتبهين له
رامي بألم : ااااي أذني
شدت أذنه اكثر : وأقصها لك
بينما كان والدها صامتًا يعطيها كامل الحرية في التعامل مع اخوتها، فهو يثق بها وبتعاملها المحبب إليه
رامي : جنان والله مو لذي الدرجة متغافلين عنه ... كنا منتبهين له بس تاركينه يلعب
تركتهما لترفع إصبعها بتحذير : مرة ثانية يا ويلكم لو تغفلون عنه حتى في اللعب أوكي!
هزا رأسيها بطاعةٍ لتستدير باتجاه والدها تستأذنه الذهاب لأخيها، ليومئ لها ثم ينظر للتوأمين بحدةٍ ما إن ذهبت، حينها ابتلع احدهما ريقه بينما فرك الآخر يديه، وفي لحظةٍ كانا قد اقتربا منه ليُشبعا كفيه قُبلًا، ليهتف سامي : سامحنا يبه والله ماقصدنا ننشغل عنه ... صح إننا ما انتبهنا له وللعبه بس مو معناه نتركه نهائيًا
زفر والدهما أنفاسه ليهتف بحزم : صحيح إن المسألة عادية بس كونكم ما تنتبهون له ذي مصيبة ... فرضًا صار له شيء وهو طفل ما يعرف يتصرف
أطرقا برأسيهما خجلًا، فهما الكبيران كما يقول دائمًا ويجب عليهما الإنتباه لأخيهما
أردف ابو فارس : ماعليه ... حصل خير هالمرة .. وياويلكم لو تتركوه مرة ثانية
رسما ابتسامةً وهما يومئان برأسيهما، ثم استئذنا للذهاب ليتركا والدهما جالسًا وحيدًا، فأعاد رأسه للخلف قليلًا ليغمض عينيه المتجهتان للأعلى.
وبعد لحظاتٍ كانت الساعة تدق السادسة بتوقيت بروكسيل، ليلف رأسه باتجاه الطاولة المُجهزة من قِبل ابنته وبها علبة تحمل الكثير من الأقراص المتنوعة وكوب الماء، فمد يده ببطءٍ وما إن لامس بقليلٍ من العنفِ علبةَ الدواءِ المؤلفة من أجزاء يحمل كل جزءٍ منها نوعًا من الأقراص حتى تحركت وتأرجحت قليلًا لمكانٍ لا تصلها يده بسهولة نظرًا لشكلها الأسطواني، فتنهد ليُنادي باسم ابنته، لكنها كانت وقتها مُنشغلةٌ بأخيها ولم تسمعه، ليتحرك قليلًا يميل بجسده جانبًا باتجاه الطاولة وهو جالسٌ على كرسيه المُتحرك، ثم مد يده بشدة يريد الوصول لدوائه، حينها فقط دخل فارس ليراه بتلك الحالة، ليتحرك بسرعةٍ باتجاهه هاتفًا : يبه وش تسوي؟
اعتدل والده والشدّ على ظهره يؤلمه : بغيت علبة الدواء
فارس بعتاب : وليه ما قلت لجنان؟ كذا ترهق نفسك!
ثم تناول العلبة ليُخرج منها حبةً ويعطيه، فابتلعها والده ليُلحقها برشفةٍ من الماء، وهكذا عمل مع بقية الأقراص.
,
التاسعةُ مساءًا - الرياض
سيارته تقف أمام باب منزل من ستكون اليوم في بيته، غيرُ راضٍ بتاتًا عن كل ما يحصل، وشيءٌ ما بداخله يريد منه المتابعة، وهذا ما اختاره، سيتابع ما بدأ، سواءٌ كان خطأً أم صحيحًا، وليتحمل والدها كل ما سيحدث لاحقًا، لكنه البارحة بعد حديث عناد معه، بات يحاور نفسه مرارًا ومرارًا، يوعد نفسه بأنه لن يقوم بالإنتقام من والدها عبرها
ما ذنبها هي؟ وإن كانت ابنته ماذنبها بما اعتمله والدها؟ كرر هذا الحديث برأسه واقتنع بأنه لن يصل لمحاولةِ الإنتقام بها. وهاهو الآن يقف ينتظر قدومها، وما هي الا لحظات حتى رأى ظلًا أسود يخرج وخلفها السائق الخاص بهذه العائلة المُتباهية، يحمل لها حقيبةً متوسطة وأخرى كبيرة تزحف خلفه، بينما هي تمشي بشموخ أمامه رافعةً لوجهها الذي كان مكشوفًا!
ولم يعجبه ذلك، إذ قطب جبينه ورغمًا عنه شعر بالرغبة في الصراخ بوجهها آمرًا لها بتغطية وجهها، لكنه أمسك زمام نفسه. أيعقل أنها كانت تكشف وجهها منذ أن عقد قرآنه عليها ولم ينتبه! ... هه، وماذا يتوقع من ابنة شخصٍ قاتل؟؟؟
ترجل من سيارته ليساعد السائق في وضع الحقائب في الخلف، بينما هي بكل ثقةٍ اتجهت لتجلس في الأمام، لتستفزه بثقتها تلك، وهو الذي كان منذ لحظاتٍ يفكر خائفًا من فكرة أن يحاول الإنتقام عبرها، يبدو أنها فولاذية أم أن ذلك تظاهرٌ ليس إلا؟
عاد ليجلس مكانه بينما ذهب السائق، لم يخرج أحدٌ ليودعها، لم يحاول أحدٌ النظر إليها حتى!. والتي تسمى امها كانت هي من دخلت تأمرها بفضاضةٍ ان تخرج ثم اختفت في غضون ثواني ما إن رأتها تقف لترتدي عباءتها، وذاك والدها لم يخرج من غرفته حتى، لا ثمن لها عندهم، لا معنى أبدًا لوجودها أو لزواجها، المهم فقط أن تتزوج، والمهم أن يكون سلطان هو زوجها.
ابتلعت غصةً كانت في حلقها، وشفتيها اهتزتا بعبرة، وهي تدير وجهها للجهة المعاكسة لجهته، لن تكون ضعيفةً أمامه ولن تسقط دموعها يومًا أمامه، ستحتمل هذه السنة وبعدها سترحل، ورغمًا عنها تمنت أن تعود للمنزل خاويًا دون ابِ وامْ، فإن كان لا معنى لتلك الكلمتين فماذا تريد من تواجدهما دون أن يطبقا ما وجدت هي معهم لأجله؟
كان صوت سلطان الآمر قد وصل إليها ليُوقظها من كومة أفكارها العقيمة : غطي وجهك
وكأنها لم تسمعه، بقيت تنظر للخارج بشرود والسيارة قد تحركت قبل أن يهتف بأمره ذاك، ليعيده مرةً اخرى على مسامعها وتتجاهله هي مرةً أخرى. وللسخرية هو أول من طلب منها أن تغطي وجهها، وهو أول من اهتم. ولمَ قد يهتم؟ ألأنها أصبحت زوجته فقط؟؟؟
في لحظةٍ كانت قد انتفضت حين شعرت بكفه تسحب طرف " شيلتها " من الخلف ليُسدله على ملامحها البرونزية، فزمت شفتيها لتستدير باعتراضٍ وتمرد : خيــــــر
سلطان بغضبٍ اتضح رغمًا عنه في صوته : ما عندي بنات تكشف وجهها ... ومرة ثانية اتركي التطنيش على جنب
ليستدير ينظر للطريق وتتأفأف هي بتذمر، وبعنادٍ كشفت وجهها من جديد، حينها فقط أومأ برأسه فور انتباهه لها، وهو الذي كان يفكر كيف يُنصفها ولا يكسر أسوار قهره من والدها بها، لكن الواضح أن قهره منها جاء بعيدًا عن قهره من والدها ... و - حسابها عسيرٌ للعصيان -
,
يجلس على كرسي مكتب عيادته بذهنٍ شارد، وأمامه يجلس ذاك ينظر لأوراقٍ تخص حالةَ أمه، رسم للعين وتوضيح ما مشكلة والدته تحديدًا، وجد نفسه قد غرق في قراءة التفاصيل ونسي شاهين الذي نظر إليه مُفكرًا، هذه العملية يجب ألا تتم، هو واثقٌ من فشلها ليس يأسًا بل لخبرته الواسعة، وسند هذا لا يريد أن يفهم.
انتبه سند لنظراته حين رفع عينيه، فهتف ببرود : المشكلة وين بالضبط؟
شاهين بنظراتِ ثابتة وعملية : مشكلتها في الأعصاب، ومثل ما قلت لك وبظل أكرر، العملية صعبة والراجح بتفشل، وقتها بتفقد نظرها نهائي وتلحق بعينها اليسرى
لوى فمه بغير رضا بما يسمع، هو يخشى حقًا أن تصاب بالعمى كليًا، وقد اتجه لأكثر من طبيب والكل قال نفس ما قال شاهين، لكن الأمر هنا مختلف، شاهين من خيرة الأطباء البارعين وسينجح، كما أن هناك دافعًا قويًا سيجعله يثابر ليركض خلف نجاح العملية
هتف بعد مُدةٍ ببرود وبتفكيرٍ لا يدل على شيءٍ سوى التخلف : بس الحالة هنا مختلفة، انت مبدع ومعروف بالبلد، وبرضه عندك دافع قوي والا!!
ليرفع إحدى حاجبيه بأسلوبٍ استفز شاهين ليجعله يزم شفتيه حانقًا : انت متى ودك تكبِّر عقلك وتفهم؟ أقولك بتصير عمياء نهائيًا وقتها من وين بترجّع بصرها؟
وقف ليضرب المكتب بقوةٍ وغضب، ثم هدر من بين أسنانه بتهديد : وقتها بس بتسمع من كل لسان سيرة أخوك النظيف … هه
ارتعشت كل خليةٍ في جسده، ما الذي يقصده بما قال أخيرًا؟ ما الذي يقصده بـ * النظيف * ؟؟ … فار الدم بداخله، هو يرمي الكلام الآن غير مدركٍ لتلك النيران التي تتأجج داخله، والتي قد تحرقه لا محالة. كل شيء، كل شيءٍ قد يسمح به إلا أن يتحدث عن عائلته بسوء.
اندفع أخيرًا إلى أن وصل إليه في خطواتٍ بسيطة ثم بكل القهر الذي تولد داخله منذ وفاة أخيه لكمه لكمةً أسقطته للخلف، ليصرخ في وجهه مُحذرًا رافعًا سبابة يده اليمنى : حدك … لهنا وبس يا سند … ممكن أقبل تستفزني وتهددني وأظل ساكت. ممكن أحاول دون فايدة أنجح في العملية وأنا ساكت … بس إنك تتكلم عن نزاهة ونظافة متعب، هنا أنا بوقف بوجهك وبكسر راسك بعد
وقف سند غاضبًا ليمسح الدم عن شفتيه، ثم بكلماتٍ خرجت كفحيح أفعى جائعة وهو يرى الدنيا تتلون أمامه باللون الأسود من شدة غضبه وقهره : جنيت على نفسك بفعلتك هذي
ثم دون كلمةٍ أُخرى خرج ليتراجع شاهين إلى أن وصل لمقعد مكتبه فتهاوى عليه هامسًا : الله ياخذك .. وياخذ اليوم اللي …
استغفر يبتر باقي ما سيقوله، والله تعالى يقول في حديثه القًدسي (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )
أعاد رأسه للخلف هامسًا : لازم أتصرف .. لازم أنتهي من الأوراق اللي عنده قبل لا يفضح متعب وتروح فيها أمي * زمّ فمه حين تذكر أسيل * ومنها أتفاهم مع هالبنت اللي ضارب عقلها الجنون أكيد!
,
تعضّ شفتها مرارًا ومرارًا حتى كادت تُدميها، وإلى الآن هي تشعر بأنّ كرامتها شطرت لأكثر من نصفين. أحبته، لكنها لم تسعى يومًا لأن تتزوجه، وكل شيءٍ اندفع في وجهها دون أن تخطط له. بالتأكيد سيصل الموضوع لرانيا، وستبدأ برمي الكلمات المُستحقرة عليها. لكن مالم تفهمه إلى الآن، ما الذي قالته عنها أمام أم ياسر؟ كيف شوهت نظرة أم ياسر إليها؟.
رفعت الهاتف ببطءٍ ويديها ترتعشان من شدة انفعالها، لمَ هي بكل هذا الضعف لتصمت وهم يتهمونها في شرفها؟ كيف تصمت؟ كيف لا تُشهر بالسلاح أمام كلِ من ينطق في شرفها وعفتها بكلمة!
اتصلت عليها وجفنيها انخفضا بألم، هي قد خسرتها سابقًا، ولن يضر أن تخسرها مرةً أخرى، ستخسر الكل ولم تعد تهتم كالسابق، خسرت أم ياسر ولا تنوي التبرير لها بعد الآن، إن كانت كل كلمةٍ تخرج منها مدافعة تكون أمامها كالتهمة، فلمَ تحاول التبرير دون فائدة؟ وكأنها تدور في حلقةٍ لا نهاية لها!
وصل إليها صوت رانيا المُتضح به الملل، فاندفعت دون ترحيبٍ لتهدر على مسامعها كلماتٍ مقهورة ودموعها دون أدنى شعورٍ انسكبت دفعةً واحدة : ارتاحي ... صار اللي تبينه، تكسرت صورتي قدامهم، ولا عندي نية أحاول أصلحها، أنا بطلع من حياتكم، والخطبة رفضتها ورفضت ياسر، ماعاد أبي شيء من هالعيلة ... شرفي أهم، شرفي أهم
نطقت آخر كلمتين لتعيدها أكثر من مرةٍ وتغرق في نحيبها من بعد ذلك، لو لم تستجد هذه الأمور في حياتها لما عرفت نظرة أمها الوهمية ونظرة هديل الحقيقية إليها، وكم شطرتها تلك النظرة، الراحة التي لونت زوايا عينيها لرفضها لأخيها، لا تتشرف بها زوجةً لياسر، لا تريد أن تكون أقرب لها مما هي عليه، عرفت من هي بالنسبة لمن كانت تعتبرها أختًا.
" آه " .. تأوهت بألمٍ بينما الأخرى في الجهةِ المقابلة لم تفهم ما قيل تمامًا، ما الذي تقصده بتشويه سمعتها؟ و ... وخطبة! ياسر!
ازدردت ريقها لتهتف بتساؤلٍ قلق : ياسر خطبك؟
ابتسمت بسخرية، لا تقلقي يا رانيا، لا تقلقي، فأنا لم أوافق ولن أوافق. همست بحسرةٍ بعد برهة : اي خطبني ... بس ارتاحي، رفضته، خذيه لك، ما أبيه، بس أوعدك إني بحاول أطلعه من قلبي
تنهدت رانيا براحة، لكنها بعد لحظاتٍ همست بتشفي : لأن حبك كاذب ربي ما كان معك ... وحدة منافقة عندها علاقات وش أبي فيها تكون زوجة شخص قريب لي .... ولعلمك أنا ما أفكر بياسر كزوج مثل ما يظن عقلك السخيف، أنا شفقانه عليه منك
جفلت، لم تستوعب ما قالته
( وحدة منافقة عندها علاقات وش أبي فيها تكون زوجة شخص قريب لي )
شعرت بصداعٍ قويٍّ داهمها، ما الذي تقصده هذه الفتاة بمقولتها، ارتعشت وأنفاسها ترتفع تدريجيًا بينما قلبها ينبض بشدةٍ حتى شعرت أنه سيخرج لا محالة : ع .. علاقات!! ... لهالدرجة وصلتِ بظنك؟ ...
سحبت أكسجينًا وهي تشعر أنها تختنق، لكنها صرخت بعد ثانيتين قبل أن ترد تلك : عقلك مريض، مريض .... هذا اللي قلتيه لأمي؟ هذا اللي قلتيه لها؟
بكت بصوتٍ عالٍ وهي تغلق لترمي الهاتف على الأرض حتى ينفّك وتطير أجزاءٌ منه في كل جهة. تشعر الآن بأن ملك الموت يطوف حولها، كيف ذلك؟ كيف تمكنت من زرع فكرةٍ كهذه في رأس ام ياسر؟ وتلك صدقتها بكل بساطة! صدقتها!
آه يارباه، ألم يكن المنصف أن يوجد الإنسان في الدنيا حيًا حتى يموت! فكيف ظُلمت لأوجد ميتةً إلى أن أموت؟
,
بينما من الجهة المقابلة، كشرت لتضع الهاتف جانبًا : ووووي .. من زين الصوت عاد ميتة على سماعه
لتدخل أختها هاتفة : مين كنتِ تكلمين؟
بامتعاضٍ ووجهها متجعدٌ بازدراء : الست إلين
تجهمت : ليه؟
زمت شفتيها لتهتف : تخيلي ياسر خطبها
شهقت أماني لتضع كفها على صدرها، ثم مالبث أن ابتسمت : لايقين على بعض
لتنظر إليها الأخرى بحدة : اقول انطمي بس، قال لايقين على بعض
تسلل الحنق إلى أماني لتندفع جالسةً بجانبها، ورغبةٌ تزداد يومًا بعد يوم لمعرفة ما مقصد رانيا من كل ذلك، وما الذي تنويه بكل ذلك العداء، ألأنها فقط اكتشفت حُب إلين لياسر؟
هتفت بتساؤلٍ وبعينين ضيقتين : اعترفي رانيا ليه تسوين كل هالبلبلة عشان إلين وحُبها لياسر ... تحبينه!!!!
شهقت لتضرب صدرها، وأنظارها المتعجبة اتجهت إليها، أأصبح خوفها على ابن خالها الآن حُبًا؟ هتفت بغلٍّ مُحذرة : ياويلك لو فكرتي مرة ثانية بهالطريقة سامعة ... أحب ياسر!!!! لعلمك ترا ما أشوفه غير أخ وبس
أماني دون اقتناع : أجل وش سالفتك مع إلين؟ من يوم دريتي بحبها له وانتِ ملاحقتها بحقدك
رانيا بفمٍ مشدودٍ بازدراء : مين قال من يوم ما دريت ... ترا أنا كنت أدري من زمان بحبها ولا قلت شيء، بس من يوم ما عرفت حقيقتها رفضت هالحب
رفعت حاجبها : طيب أمطرينا بالحقيقة
رانيا : قلت ماني متكلمة
أماني بإصرارٍ هذه المرة : بتتكلمين والا أعلم أمي هذي المرة! تراك مصختيها بدون سبب
تعلم أنها لن تخبر أمها، فليست أماني من تخرج الحديث الذي يكون بينهما، لذا رفعت كفها دون مُبالاةٍ تخبرها بالذهاب، لتقف أماني حانقة مُندفعةً للباب لتغلقه خلفها بقوةٍ صدح صداها في الغرفة
بينما هي أغمضت عينيها بقوةٍ من صوت الباب، ثم تنهدت لتفتح عينيها تنظر لهاتفها، ما الذي كانت تقصده إلين بأنها قد كسرت صورتها أمامهم، هي لم تُعلم أختها حتى تفضحها عند من هم أكبر، لم تروي ما عرفته عنها لأحدٍ غير فكرها. وعقلها الآن يذهب لتلك الليلة، التي صُدمت بها بحقيقةِ أنثى كانت تشهد بعفتها وأخلاقها.
*
تقف عند باب غرفتها وكفها تطبق على فمها، لا تصدق ما تسمع، وكيف تصدق وهي التي خُدعت بتلك المُزيفة أخلاقها طول تلك الفترة، كانت قد صعدت تريد أن تدعوها للنزول معهم، لتصدم بها تتحدث في هاتفها بصوتٍ خافت كمن يقوم بجريمة، بل كانت تقوم بها بالفعل.
إلين وهي تهمس بتوسلٍ متوتر بينما كفها المُتحررة من الهاتف تقبع أمام فمها : تكفى أدهم الموضوع مو بهالبساطة
عضت شفتها ليرتفع صوتها قليلًا : أدهم!!!
لكن الآخر قاطعها لتقاطعه هي بعد كلمتين من فمه : اللي سويته كبير وانت تدري .. لازم تصحح غلطتك
تساقطت دموعها لتهمس بألم : أنا قريبة من قلبك أكثر مما تتخيل
تهشمت شفتيها من شدة ماعضتها، لتدق الباب دون شعورٍ وهي لا تستطيع تحمل سماع المزيد، بينما الأخرى أغلقت الهاتف بسرعةٍ بعدما صدح صوت رانيا الغاضب : إلين الكل ينتظرك تحت ... لا تتأخرين
لتشد خطاها ذاهبةً ووجهها لم تزل منه معالم الصدمة، بينما تنهدت إلين وهي تضع يدها على صدرها.
,
أغلق الباب بعنفٍ يعكس مزاج صاحبه المقلوب رأسًا على عقب، لكنها لم تستدِر وهي مُمددةٌ على السرير تواجه الباب بظهرها، تشعر أن كل ما حولها بات باهتًا، إذ كيف يمكن للدنيا أن تشرق دون أم؟ دون حُضنٍ دافئ! لطالما كانت تتألم على من فقد رائحة أمه ولم تتمنى يومًا أن تشعر به، لطالما كانت تدعو الله أن يعوضهم لكن بمَ قد تعوض الأم؟ بـــمَ؟؟
كيف لـي الآن أن أترك جميع المضادات لحزني وأوجاعي أبحث عن مُضادٍ واحد يدعى - الأم -، ذاك المضاد الذي ما طال يشفي كل أمراضي المُوهنة؟ كيف لي أن أشتم رائحة الدفء عن بُعدٍ قبل أن أشعر به؟ كيف لي الكثير وقد فقدت الأعظم كُثرة؟ كيف لـــي؟؟؟
وقفت أرجوان بجانب السرير وكل ما حدث ويحدث يفقدها السيطرة على هدوئها وصمتها المُضطر، لم تشعر برغبةٍ في الإفصاح عن السبب لكل ما حدث كما الآن، و ( الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس ). ولن تكون هي ذلك الشيطان الذي يصمت لأجل كل من تسبب بتلك المعمعة، لن تكون هي من ترى علاقاتٍ تُفسد وهي صامتةٌ لأجل إمرأةٍ واحدة هي أمها.
هتفت بحدة : جيهــــان
أغمضت جيهان عينيها بإرهاقٍ وهي التي لا تقوى على شيء، لتهمس : واللي يعافيك أرجوان ... اتركيني في حالي ماني طايقة أحكي مع أحد
جلست بجانبها وهي تشعر بروحها تتقطع، هذه فرصتها الوحيدة لتوضح كل شيءٍ بما أن والدها ليس هنا حاليًا وليان لاهيةٌ بالتلفاز في الصالة : ماني تاركتك ... في أمور كثيرة لازم أعاتبك فيها الحين
جيهان بأسى : ما أقوى على عتاب ثاني مع عتاب نفسي ... أحس نفسي ضايعة فلا تضيعيني أكثر بعتاب ماهو في وقته
زمت شفتيها بعبرة وكلمات أختها أوجعتها، ثم مدت يدها المرتعشة ببطءٍ لتمسح على شعر أختها المُنطلق بهمجية، وبألم : اشتقت لكلمة أرجواني
جيهان ببهوت : ضاعت لوقت ما يرجع محررها
أرجوان بابتسامةٍ عاتبة : صعبان عليك تحررينها عشاني ولو لمرة؟
أغمضت جيهان عينيها بأسى، ليس وقت العتاب الآن فيكفي كل تلك التناقضات في روحها، تريد أن تسترد نفسها لكنها ليست بذا قوةٍ لذلك، تريد أن تنادي وتنادي ( أين أنتِ يا جيهان؟ ... عــودي، عودي فعمركِ في الحياة واحدٌ لن يعود )
أرجوان : تذكرين طرق بروكسيل للحين؟ أنا ما نسيتها، للحين أحس قلبي يعرفها، ولدنا فيها وعشنا نص عمرنا فيها ... كان عمرك يوم تركناها 11 وأنا 9 سنين
أكملت بابتسامةٍ للذكريات : بس للحين أخاف من مارك ... كل ماشفت شعره الأبيض والمنكوش أتذكر نفسي يوم كنت أبكي منه ... من شبابه كان يحب الأبيض وللعجب يصبغ شعراته بهاللون
ابتسمت جيهان دون شعورٍ لتلك الذكريات وأرجوان تتابع : وأيام يجي فيها عمي عبدالعزير ( والد فواز ) الله يرحمه مع أهله ويعيشون بنفس العمارة معنا، وهنا تكتمل عصابة المشاغبات مع أسيل وديما ... مع إن ديما كانت تتكبر علينا أوقات شويتين لأنها الأكبر ... بس أول ما يبدا الحماس من مقالب مع بنات الحي العربيات على الشباب تقوم معنا متحمسة ( ضحكت قليلًا ثم تابعت ) وفواز زعيم فريق الشباب يا كثر ما كان يهزمنا
بهتت ابتسامة جيهان ما إن سمعت اسمه، “ فواز الزعيم “ .... كم كانت غبيةً حين كانت ترفض أن تتغطى عنه حتى وصلت السادسة عشرة، دائمًا ما كانت ترفض وترفض لتبقى تلعب معه، إلى أن أمرها هو بنفسه حين كان في الرابعة والعشرين أن تتغطى عنه لأن ذلك واجبٌ عليها فهي لم تعد تلك الصغيرة. وفعلت ماقال بطاعة ... فهو كان لها القدوة والأخ ولطالما أحبته داخل إطار الأخوة حتى حصل ما حصل ... حتى كرهته ونبذته رغمًا عنها بعد ما فعلته والدته معهما من سوء ظنٍ و - قذف -.
اقتربت أرجوان أكثر حين لاحظت تشنج جسدها ما إن ذكرت اسم فواز، تريد فقط أن تفهم، لمَ تكره فواز لهذه الدرجة؟ لمَ تكرهه وهو الذي كان لها كالأخ لا تشكي إلا له ولا تلعب مع أحدٍ من الرجال سواه؟
همست : ليه منتِ راضية تتقبلينه كزوج؟ معقولة تشوفينه أخ لدرجة كرهك لمسمى ثاني لعلاقتكم غير الأخوة؟
صمتت جيهان ولم تتحدث، لتردف : مستحيل أقتنع بهالشيء ... جيهان ليه ما تعترفين إنك مجبورة عليه؟
أغمضت عينيها بقوةٍ والماضي يتدافع في عينيها، زواجها به، وسفره هو بعد أن تم العقد بأيام، يقول أن سفره لمجرد عمل! وهي التي تعلم أنه لم يسافر إلا بعد ما حدث!
كانت ستتقبله، تقسم أنها كانت ستتقبله فهو ليس له ذنبٌ بظن أمه، لكن لمَ فعل ما فعل، لمَ سافر ليُشعرها أنه لا يريدها أو ربما اشمئز منها أو وأو وأو!! ... الكثير مما داهمها والمتعلق بأداة الإستفهام تلك، لمَ سافـر بعد زواجهما مباشرة؟ هل كان صعبًا عليه تقبلها حتى يفرّ كي لا يراها؟ وحبه لها أيكون وهمًا أم أنه لم يتولد إلا بعد أن امتلكها، أو ربما ليس حُبًا بقدر ماهو تملك
حيرتني يا فواز ... حيرتنـــي معك.
هتفت أرجوان بضيق : لا تطنشين! جيهان ليه صرتي بهالسلبية وانطفى مرحك؟ اشتقت لك تدرين؟ هذا وانتِ قدام عيوني بس في الحقيقة بعيد وبعيــد .... وش اللي غيرِك؟ موت أمي؟
حقيقةً ليس موت أمها فقط، بل الكثير والكثير مما تكدس وتكدس لتكسد هي!
فواز .. أمها .. بُعدها عن والدها ... والكثير من الصراعات التي تؤرق روحها، لكن متى تعود؟ متى ستنجلي تلك الغيمة العقيم من فوق رأسها؟ متى ستنير عينيها بالفرح وينضب دمعها؟ متى؟ .... متــــى؟
أرجوان بأسى : موتها والا السبب لموتها؟ ... لأنها ابتعدت عنا وراحت عالم ثاني؟؟ وبعد ابتعد عنك أبوي بعد اللي صار؟ ... صح؟ هالسببين هم اللي مغيرينك؟!
عضت جيهان طرف شفتها لتردف أرجوان : أو نقول في الحقيقة انتِ اللي ابتعدتي عنه!
بدأت جيهان بفقدان سيطرتها على أعصابها وهي تستشعر ضغط اختها عليها، لتهمس أخيرًا بصوتٍ اتضح به الغضب : اطلعــــــي
قطبت أرجوان جبينها بضيق، لتهتف بعناد : غرفتي بعد
جلست جيهان بانفعال لتصرخ في وجهها بعد أن استدارت إليها : اجل ابلعي لسانك وانطمــي ... ابثرتيني
ضحكت أرجوان رغمًا عنها لتقترب منها ثم عبثت بشعرها : صرتي مثل الأطفال تدرين؟
أتريد استفزازها أم ماذا؟ ... جيهان باستغراب : الحمدلله على نعمة العقل
ابتسمت تلك بسخرية : اللي خلاك تشوفين الحقائق من حولك؟
وكأنها بدأت تقول طلاسم، نظرت إليها بحاجبين اقتربا من بعضهما : وش قصدك؟
تنهدت أرجوان بضيق، أهذا وقت التردد؟ لمَ تشعر أن هناك قوةٌ تمنعها من الإفصاح عن حقيقة ما حدث، عن حقيقةِ أمها!
همست بجزع : ولا شيء
ثم دون كلمةٍ أخرى خرجت من الغرفة لتتجه للمطبخ، استندت بكفيها على الرخام وهي تهمس لنفسها بعتب : ليه سكتت؟ كان عندي فرصة أتكلم بس ليه صِعْبت علي الحقيقة؟
سمعت رنين هاتفها الذي كان ملقًا على إحدى أرائك الصالة سوداء اللون يتخلخلها خوطٌ حمراء وأخرى سكرية، لتخرج وتتلقفه مُبتسمةً للإسم الذي سطع نوره في الشاشه، وترد برقةٍ وحب : السلام عليكم ، حيّ الله جدتي المزيزنة
ابتسمت جدتها من الطرف الآخر هاتفه : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاتة ... كيفك يا بنتي؟
أرجوان برقة : الحمدلله طيبة ، كيفك انتِ يُمه؟
وبعد السلام والسؤال عن الأحوال، جدتها بلهفة : وينها جوج ما عاد كلمتني ولا سمعت صوتها
ضحكت أرجوان على “ جوج “، وهذا الإختصار لطالما وضعته لاسم جيهان التي كانت تتذمر منه، ومن جهةٍ أخرى “ تتمصخر “ كون جدتها تُطلق اسمًا أعجميًّا كهذا عليها وهي كما تقول جيهان “ دئة ئديمة “
أرجوان بابتسامة صادقة وحديث جدتها يبعث لها الراحة بعد كل ما حدث : فديتك يمه من زمان ما ضحكت بهالشكل
جدتها بانزعاج : وليه ما تضحكين وتنورين العالم بضروسك اللي تبرق برق؟
أرجوان بضحكة : تبرق؟ اي ما عليه تبرق تبرق ولا يهمك يا الغالية .. بس حبيت أقولك إن جيهان تبي تنام ويمكن تكون نامت
جدتها بضيق : ذياب يوم جاني بعد ما تتطاول على يوسف قالي إن جيهان كانت تبي تروح معه ..... وش فيه بينها وبين أبوك؟
صمتت أرجوان والضيق يعاود السكن بها، حتى جفناها تهدلا بحزن : مابينهم إلا كل خير
أم ذياب بغضب : وعمى ان شاء الله ... تكذبين علي يا بنت منى؟
أرجوان بسرعةٍ ودون قصد : بنت يوسف
ويا ليتها لم تقل ما قالت، كيف خرجت منها تلك الكلمتين وكأنها باتت تزدرء كون أمها هي - منى -، أيعقل أنها لن تكون كما قالت لوالدها وقد يؤثر ما فعلته أمها بنظرتها لها كأم؟
أرجوان بارتباك بعد صمت جدتها الذي طال : يمه ...
أم ذياب تقاطعها بحدة : وش سوت امك قبل موتها؟
ازدردت أرجوان ريقها بارتباك لتهتف : وش قصدك؟
أم ذياب بأسى : قلب الأم ما يخطي وكنت حاسة إن منى مسوية شيء مخليها تنتحر، يوسف ماله ذنب أدري، كل الذنب منها بس ما أقدر أوصل للموضوع بشكل واضح .... وش سوت يا بنتي ريحي راسي اللي صدع من التفكير
عضت أرجوان طرف شفتها وهي تجلس على الأريكة تشعر أن قدماها لا تستطيعان حملها، لتردف جدتها بشرود : اتصلت فيني قبل موتها بساعات تقول لي “ أنا عار ... عار وبخلصكم منه “ .. قلبي اللي كان مقبوض من أيام زاد انقباضه .. حاولت أفهم منها بس ضيعت السالفة وقامت تحكي وتحكي عن ماضيها وعن طفولتها وحياتها، وعنكم وعن يوسف!
ابتلعت أرجوان ريقها عند تلك النقطة، ما الذي كانت تقوله عن والدها، أكذبت وقالت - أحبه -؟ أم صدقت لتقول ما خالج مشاعرها تجاهه حتى خانته
أم ذياب : حسيت ان كلامها عنه ما صار مثل أول يوم تتكلم وأحس مع كل كلمة حب كبير لهالإنسان منها ... وكأنها كانت بس متأسية لشيء، كأنها كانت ندمانه أو تحس بالذنب!
تشعر بالذنب؟ أهذا حديثٌ يقال؟ أهذا كلامٌ يُطلق؟ ما فائدة أن تشعر بالذنب؟ وإن كانت حقًا شعرت به فلمَ انتحرت بدل أن تُحاول إصلاح ما كُسر وإن كان إصلاحه شبه مُستحيل، على الأقل لأجلهم هم، لأجل فتياتها، لأجل كونها أمهم.
أكملت برجاء : ما تبين تحكين وش صار؟ واضح إنك تدرين والا ما كنتِ سكتي
أرجوان بارتباكٍ واضح، ودون شعورٍ بدأت بالإلتفات تخشى أن تسمعها أختها، شيءٌ ما يأمرها بالتستر، لأنها أمها قبل كل شيء، من حملت بها، من تعبت وسهرت عليها، فكيف تكافئها في النهاية بفضحها؟ كيف تكافئها بازدرائها لها؟ ... هذا ما كان قلبها يُحدثها به حتى تتردد عن قول الحقيقة، حتى صمتت حين واتتها الفرصة لتحكي لأختها الحقيقة : ما أدري
أم ذياب بحدة : منتِ راضية تنطقين؟ ما عليه ... اسكتي وابلعي لسانك ... أكلم يوسف بدل لا أكلم صنم
كانت ستغلق لكن أرجوان هتفت بخوفٍ من فكرة أن تتحدث جدتها مع والدها وهو الذي يحاول النسيان أو ربما التناسي : لا يمه تكفين
ام ذياب : بتحكين؟
صمتت ولم تجب، لتردف جدتها بشكٍ وهذه الفكرة هي أول ما طرأت على عقلها منذ انتحار ابنتها، ولأنها الأم ستشعر، وليتها شعرت قبل موت ابنتها بمدةٍ طالت : خانت ربها وزوجها؟؟؟؟!
لتبتلع أرجوان ريقها مع جملة جدتها تلك، أكانت تشك منذ البداية لتفكر بذلك حتى تنطق به في أول خيار؟ هذا هو الواضح فماذا عساها تقول؟ لذا صمتت لتستنتج جدتها الإجابة ... والتي كانت - أجل -
برودةٌ أصابت مفاصلها، لتقبض بكفها على عكازتها وتتقلب عيناها بحسرة، تستغفر بخفوتٍ وألم، ربتها بأحسن ما يمكن، تقسم أنها ربتها كما يجب وكما يفترض في زمانٍ كزمانها، ربتها مع زوجها بكل ما تستطيع فكيف تخونهم بعد أن أصبحت تناهز الأربعين وإن كانت ملامحها لا تثبت ذلك العمر، ربتها كما أرادت أن تكون في مجتمعٍ كمجتمعها لا يرحم!
هتفت بعجز : بـ وشو نَقصْنا في تربيتها؟
ابتلعت أرجوان ريقها لتهمس بغصة، ودموعها تهدد بالنزول : الشيطان شاطر
ام ذياب بانفعال : إلا على المؤمن
أرجوان بجزع : خلاص يمه فديتك ... اللي فات مات ... والله مات
ام ذياب بقهر الأم وهي تضع يدها المُتحررة من عصاها على رأسها : مثل هذا ما يموت وإن مات صاحبه!
هي الأم التي ربت ورأت أن تربيتها لا تضاهيها أي تربية، فكيف تأتي ابنتها الكبرى لتكسر منطقها في تربيتها؟ ... أتكون أخطأت لأنها ابنتها الأولى ولم تكن سوى - تجربة - وتدريبٍ لأمٍ جديدة كمثلها؟ .. أتكون أخطات لأنها الأولى ولم تكن تدرك جيدًا كيف تربي الأطفال؟ أم تكون ربت على العيب لا على الحرام كما يربي معضم الناس في هذا القرن؟ ... لا لا هي تؤمن أنها كانت تقول ( حرام / خافي ربك / اتقي الله ... ) ولم تكن تقول ( عيب / كيف بتكون نظرة الناس؟ / الناس ما ترحم ... ) وحقيقةً أنه لا راحم سوى الله، فكيف يرتجون الرحمة من مخلوقاتٍ لم يحملوا منها إلا القليل أمام رحمة الخالق؟
همست بعد لحظاتٍ بتوجس : وجيهان تدري؟
صمتت، ولم يكن لديها سوى الصمت، لا تعلم ما تقول في حديثٍ يمسّ أمها بسوء.
وكان صمتها يعني - لا - ... وتلك فهمته - نعم - .... لتظن أنها تعلم، وتزداد المرارة داخلها.
,
لا تزال بعباءتها، تُدير رأسها تنظر للجناح نظرةً مُقيمة، وعلى وجهها تكشيرةٌ مُزدرءة، لم يعجبها المكان بتاتًا، هو ليس جناحًا لعروسين فالزوج بعيدٌ جدًا عن مُسمى - عريس -، لكنه كان فاخرًا ولم يعجبها أيضًا، هو مُقتدرٌ ماليًا ويستطيع أن يُسكنها في مكانٍ أفضل من هذا، فلم اختار مكانًا كهذا وهو الذي يمكنه حجز الغالي والأكثر رقيًّا من هذا.
جاءها صوته من خلفها بعد أن كان يُدخل الحقائب، فاستدارت تنظر إليه بتعالي : حاليًا بيتي يحتاج تصليحات من بعد الحريق اللي صار فيه، عشان كذا بنظل هنا كم يوم لين تتعدل الأمور
رفعت حاجبها المرسوم بدقة، كانت فاتنةً بمعنى الكلمة، لم يرى كجمالها، وجهها بيضاويٌّ صغير بملامح سمراء ناعمة، لكن ما فائدة الجمال إن كان خارجيًا فقط؟
هتفت بعد ثوانٍ بصوتها الرقيق والذي تلون بالإزداء في هذه اللحظة : تصلح بيتك من بعد الحريق؟؟؟ ... * مالت بفمها الصغير والممتلئ بقرفٍ لتُكمل * وتبي تسكني فيه بعدين؟! هذا بدل ما تبيعه وتشتري واحد أرقى منه!
لم يرق له كلامها، فتقدم قليلًا ليهمس : لعلمك ترا بيتي المحترق ذا أرقى بكثير من بيت الباش مهندس أبوك
ليتجاوزها بعد أن مسح بكفه على ملامحها ليُغيظها، لا يعلم لمَ أراد حقًا أن يغيظها، لكنه لربما أراد أن يرد لها عنادها وعصيانها له في تغطية وجهها.
كشرت بغيظٍ لتخلع حجابها ويظهر شعرها الأسود والذي كان مكومًا على شكل " كعكة "، لتحرره بعد أن دخل لإحدى الغرف، ويظهر الشلال الليلي والذي كان يصل لأسفل خصرها، بينما تميز بتموجاتٍ كثيفة أظهره ساحرًا.
خلعت عباءتها ليظهر ساقها الطويل والمُغطى ببنطالٍ جينز ضيق، ومن الأعلى بلوزةٌ منجاوية فضفاضةٌ بعض الشيء. كومت العباءة في يدها ثم تمشت تبحث في حُجرات هذا الجناح، ألا يوجد غرفةُ نومٍ أخرى؟؟؟
ابتلعت ريقها والخوف داهمها، قال لها والدها بأن تطمئن لأنه لن يقترب منها، وكيف تطمئن وهما سينامان في غرفةٍ واحدة؟ هو رجلٌ وهي أنثى تدرك مدى فتنتها.
رغمًا عنها شعرت بالخوف والإرتباك، لتبدأ بقضم أظافرها ووجهها غطاه الخوف .... يا رب، ماذا ستفعل، يستحيل أن تسمح له بالإقتراب منها.
جلست على إحدى أرائك الصالة السكرية والمزخرفة بالذهبي، لتمرر أناملها بين خصلات شعرها المموجة وتهمس لنفسها : أدخل عنده؟ وإذا قرب مني! * ابتلعت ريقها * ما عليه بجلس هنا، مو لازم أنام
بينما هو كان في الغرفة مُمددًا على السرير الواسع كفيه تحت رأسه وعينيه تنظران للأعلى بشرود، أما فعله صحيح؟ هل كان من الحكمة أن يكمل هذا الزواج؟ لكن لمَ يشعر الآن بأن ما قرره وفعله كان غبيًا دون دافععٍ عقليّ مقنع!
تنهد ثم مسح على وجهه بكفه اليًمنى، وتلك تبدو متمردةً لم تتربى جيدًا، لا بأس، هي ستبقى معه لسنة، إذن ليعمل معروفًا لوالدها وسيربيها بنفسه.
لاحظ أنها تأخرت ولم تجئ، لكنه تجاهلها ولم يهتم، ثم استلقى على جانبه الأيمن يُعطي الباب ظهره، بثوبه الذي لم يخلعه والذي لم يكن بذا حيلةٍ ليخلعه.
وتلك بقيت لساعةٍ تقريبًا، والنوم غطى عينيها، وأخيرًا قررت أن تدخل للحمام لتستحم وتبدل ملابسها، ستفعل أيّ شيءٍ حتى لا ينجذب إليها.
أخذت لها بيجاما فضفاضة بلونٍ رمادي، وهي تشجع نفسها الخائفة بالقوة، لن يقترب مني، أنا غزل، لن يجرؤ.
وببعض الإمدادات إلى روحها دخلت الغرفة تريد دخول الحمام بعد أن كانت لم تجد آخرًا حين بحثها في الحجرات، فلمحته مُتمددًا يُدير الباب ظهره، بثوبه وقد رمى شماغه جانبًا على السرير، ابتلعت ريقها فور رؤيتها لبنيته الرجولية وجسده الطويل، لن تخاف، لن تخاف .. هكذا كانت تشجع نفسها لتمشى على أطراف أصابعها بعد أن رمت حذاءها خارجًا قبل الولوج للغرفة، ثم اتجهت للحمام بنفس هدوءِ دخولها دون أن تهدأ أنفاسها الخائفة. وهو من الجهة الأخرى حين لمحها قبل الدخول للحمام ولم تنم له جفن وكيف ينام والأرق قد زاره بعد كل ماحدث؟، رفع حاجبه لحركتها المُضطربة في الظلام، ومع فتحها لباب الحمام انتبه لملابسها ليُكشر بضيق، الجينز ضيقٌ يرسم جسدها رسمًا .. يا الله، ألم يسقط حظه إلا مع هذه!!
تأفأف بضيقٍ ليستدير للجهة المُقابلة، وهي انتبهت لحركته لتُجفل، وحين استوعبت دخلت بسرعةٍ وذعر لتطبق الباب خلفها بقوة.
زفر سلطان مع صوت الباب : يا ليل الشقا ... متى يجيني النوم بس * رطب شفتيه ليردف بجزع * حتى سنة الرسول نستني أعمل فيها!
تعمدت الإطالة في الحمام، لتتأكد فقط أنه نام، بالرغم من كونها حقيقةً لا تعلم غإن كان نائمًا أم لا، لكنها شكت مع حركته وللحيطة فقط تأخرت. لتخرج بعد وقتٍ طويل وطويل، وعقارب الساعة قد عانقت الثانية عشرة إلا رُبعًا، وقد كانت مُبللةً من أعلاها لأسفلها، حتى ملابسها التصقت في جسدها تقريبًا، إذ أنها لم تجفف لا شعرها ولا جسدها، فهي قد نسيت أن تأخذ منشفتها من الحقيبة وبالرغم من أنها وجدت في الحمام عدة مناشف وأغلبها تبدو جديدةً لم تُستعمل، لكنها كما العادة تتقرف من إستخدام أغراضٍ تخص غيرها وإن كانت جديدة.
اقتربت من باب الغرفة تمشي بنفس الطريقة التي دخلت بها حين وصلها صوته الشديد والذي خالطه بعض الإرهاق لكنه بقي شامخًا : لحظـــة!!
تيبست في مكانها للحظاتٍ وقد ذعرت بشدة، وعينيها اتسعتا خوفًا، لمَ؟ لمَ أنتِ خائفةٌ إلى هذا الحد؟ لمَ تخافين منه؟؟؟
لكنها في قرارة نفسها كانت تعلم الإجابة جيدًا، ورغم ذلك استدارت وهي ترسم ثقةً زائفة، لترفع أنفها بشموخٍ تنظر إليه جالسًا على السرير ينظر ناحيتها ببرود.
غزل : خيـر!
سلطان بثقة : إن شاء الله خير
وقف ببطءٍ ليتجه نحوها فارتعشت، ارتعاشها لم يكن إثر الهواء الذي اصتطدم بجسدها المُبتل بينما كان حقيقةً لظله الذي وقف يتجه إليها، كانت ستهرب لكنها آثرت البقاء كي لا تظهر بمظهر الخائفة الضعيفة ويستغل هو ذلك، مقتنعةٌ هي أن البشر كلهم إستغلاليون، وبالتأكيد سيكون هو مثل كل البشر.
وصل إليها ولازلت تنظر إليه بشموخ، ليرفع كفه يضعها على رأسها المبلول، ثم بشيءٍ من الحدة التي بزقت رغمًا عنه أنزله وهو يشعر بالإستفزاز من نظرتها المُتعالية تلك.
ليهتف ببرودٍ وهو يتحاشى النظر لجسدها البادي مع إلتصاق ملابسها : ما تعرفين تجففين جسمك قبل لا تلبسين؟
عضت شفتها وهي تعانق جسدها لا شعوريًا بذراعيها، ليتنهد باستياء ثم أغمض عينيه يردد كلماتٍ دون صوتٍ لم تفهمها، ولم تدرك أنه دعاء ينم عن سنة رسول الله عليه أتم الصلوات.
بقيت صامتةً إلى أن انتهى، ثم أنزل يده ليهتف بهدوء : توضي وقومي نصلي لنا ركعتين
للحظاتٍ نظرت إلى ملامحه الهادئة وهي ترمش مرارًا ومرارًا إلى ان استوعبت .... يصليـــان!! ... هي، تصلــــي !!!!
,
في وقتٍ سابق - الثامنة مساءً
صدح هاتفها فجأةً في أنحاء غرفتها لتتناوله بإرهاقٍ من الكومدينة دون أن تنظر إليه وهي مُتمددةٌ على سريرها تُغطي عينيها بذراع يدها الأخرى. أزاحت ذراعها عن وجهها لتنظر لهوية المُتصل، لتتسع عينيها وتنتفض بصدمة : شاهين!! وش يبي؟
ابتلعت ريقها بينما كانت يدها التي تحمل الهاتف ترتعش، لا تدري لمَ تشعر بكل هذا الخوف، بالتأكيد هو مقهورٌ لما حدث حين اتصلت به، وتدرك قهر الرجال جيدًا!!
أسيل باضطراب : أرد!!!
لكن تفكيرها لم يطل حين انقطع الإتصال، لتزفر براحةٍ لكنه عاد للإتصال مرةً أخرى.
زمت شفتيها بخوف : ليه يتصل؟ أرد؟ .... بس .. بس يمكن يكون وافق عالطلاق!
عند هذه النقطة تحديدًا تشدقت وهي تسحب الأكسجين بنهم، أيعقل أن يكون قد وافق؟ وستتحرر منه؟
من شدة فرحها بما اختلج داخلها ردت لتهتف بهمس : نعم
شاهين بحدةٍ واستعجال : انزلي بسرعة أنتظرك في السيارة تحت
.
.
.
يتبع ؛
|