كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافيـة
يا هلا بالعيون الزينة ، ختّمنا البارت كامل وجمعنا الجزئين خلاص ، طبعًا الجزئية الثانية أطول بكثير من الأولى ودللت اللي طلبوا ظهور شخصيات فقدوها ، عاد يا حظكم فيني أدلل كثير ترى :$$ جزء اليوم بينتهي على حقيقة جديدة من الماضي الممتد في روايتي للآن ، سر جديد بينكشف وبنتعمق فيه أكثر ، فجهّزوا أنفاسكم للقفلة :"""
وقبلًا عندي نقطة مهمة / إحدى الجميلات نوّهت على مسألة " الشحنات والسجود " وأنّ هالشيء خرافات - أنا كنت مؤمنة فيها للأسف -، كنت أقرا عنها وما بحثت من الجانب الديني البحت وانحصرت بالعلمي، المعلومة خاطئة ومتعلقة بالأوثـان وشرك ومن هالكلام ، فأعتذر لهالخطأ اللي كان من نفسي والشيطـان ، كل بني آدم خطاء، فإذا لمحتوا خطأ مني نبّهوني وبكون لكم أكثر من شاكرة ()
البعض منكم يتجاهل كلامي قبل البارت من الحماس جعلني فدا :$ فبتحمّل مسؤولية تصحيح هالخطأ مع تتابع الأحداث وبستخدم سلاح " ان الرواية روايتي " وبيتعدّل كل شيء في الأحداث القادمة وليس الجزء نفسه ، كثير منكم قراه وكثير رسخت هالمعلومة في بالهم فحقنا عليه نعدّلها.
والحين استلموا الجزء على بركة الله ،
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(59)
برودةُ السّحَر وما قُبيْل الفجر، زفيرُ السمـاءِ التي لازالت تحتفظُ بفستانِ السواد وترفضُ خلعهُ عنها، هاهيَ السيـارةُ تقف، قبل نصفِ ساعةٍ من الوصول! نصفِ ساعـةٍ تطُول، وكأنّ هذا القُرب يرفضُ رحمتها، يرفضُ تكليلهُ بعناقِ الشوق، ببكـاءِ الحنين، هذا القُرب الذي يُكبِّل كل مقدرةٍ لها على المُكابـرة، مرَّ الكثير! الكثيرُ يا أبي، ومهما تصاعدَ العتـابُ في قلبي فأنتَ كنتَ ولازلت تدغدغُ رغبتي في الارتمـاء بين أضلعك، فهل سأستطيعُ فعلها اليوم؟! هل سأستطيع!
تنتفضُ من أفكـارها، تـشدُّ عينيها إلى فواز الذي هتفَ يأمرها بالنزول بصوتٍ توتّر رغمًا عنه وهو يفكّر باللقـاء. سكَنت للحظـة، ومن ثمَّ بللت شفتين جفّفهما البرد، ولم تكُن تلك البرودةُ في الأجـواء، بل في صدرها، يُرجف قلبها، يوهن عظامها . . هو بردُ الحنين!
زفَرت بضعفٍ بدأ ينتابُ قوّتها الزائفة والتي تغلّفها بإرادتها في رؤيةِ عائلتها الصغيـرة، فتحَت البابَ لتنزل، ومن ثمَّ نزلَ من بعدها فوّاز . . وتحرّكت الخطوات!
الوقت يمضي ببطء! كيفَ يفعلها؟ كيف تمتدُّ نصفُ ساعةٍ لتصبح ساعات، وكيف سيكُون اللقـاء؟ كيفَ تجمّل تلك الأشواقَ بثباتٍ وهي التي تهتزُّ أضلعها الآن! رغبـةٌ واتتها بـالبُكـاء، مشتاقـةٌ حدَّ الموت، وهذا الشوقُ بدأ ينجـرف، بدأ يغلّف نفسهُ بكيفية اللقـاء، بروايـةٍ فصولها لم تنتصف! لازلنـا في أوجِ العقدة! لازال الاشتعـال باقٍ، فهل يكفي اشتياقي يا أبي حتى أرتمي إليك؟ حتى تكبلني إليك؟ حتى تسرّحَ التقصفـاتِ في أوجاعي وتهذّبها؟ أنـا ابنتكَ المبتورةُ من التفكيـر، أغضب، أتمرد، أعصِي! لكنَّ قلبي يبقى يُحب من يُحب! مشتـاقةٌ يا والدي، مشتـاقةٌ حدَّ البُكاء، حدَّ التكفّن في الحيـاة، مشتاقةٌ والمنى أن يقودني الشوقُ لما بينَ كتفيْك.
انتفضَت، وشُدّت قيودُ شرودها، فغرَت فمها وهي تنظر لفواز تحـاول استبعـابَ ما نطق! مرَّ الوقت! وهاهـم يظهرون! من بين جموعِ النّـاس!
،
نامَت بعدَ أن بكَت، بعد سيلِ قسوةٍ جديدةٍ منه، لم تعتد كلَّ ذلك الجفاءِ منه! وكان حريًا بها أن تضعف بهذهِ الدرجة! أن تنـام بعد موجـةٍ عاتيةٍ من الدموع، موجةٍ اصتدمَت بشاطئ أحـلامها وفضّلت الهربَ إليْه، فهـاهو لم يمرَّ الكثير على جفائِه لتشعر بأنّها كثيرةٌ عليها، كثيرة جدًا!
الدمُوعُ جفّت على وجنتيها، غرفتـها تغرقَ في إضـاءةٍ صاخبـةٍ وبرودةٍ صاخبـة، تضمُّ كفها اليُمنى تحت الوسادة، والأخرى ترتمي بجانبها على السرير، ترتعشُ ارتعاشـاتٍ طفيفةٍ إثـر البرودة.
دخـلَ في تلكَ الأثنـاءِ بعدَ أن فتحَ البـابَ بهدوء، لم يستطِع النوم، وقضى ليلـهُ في الصالة، يجلسُ على الأريكـةِ وأنظارهُ للفراغ، مشاعرهُ تتخبّط ما بينَ حنينٍ من الماضي وما بينِ خوفٍ في حاضره! من مستقبله.
وقفَ بجانب سريرها بصمت، بملامحَ أرهقها الأرقْ، عينانِ ترجوها لو أنّها رحمته! لو أنّها لم تتهوّر، لو أنّها لم تزرع في صدره تلك الخشيـةَ وذاكَ الذعر، ومن الطبيعي جدًا أن يجيء ردّهُ عليها بتلك القسوة التي توازي قسوةَ صفعتها له! . . أسكَنت في قلبهِ رعشة! لو أنهُ قد أصابـها شيء، لو أنّها قد مسّت بأذى، كان ليمُوت! كان الموتُ هذهِ المرة ليسرقه، فكلُّ التحمـل الماضي كان لأجلهم، وكيف سيبقى إن ذهبوا؟ قولي لي! كيف تبكين؟ كيفَ تُجرحِين مني؟ وهذا لا أراهُ في قاموسي عقاب، أنا لا أعاقبـك! هذهِ ردة فعلٍ فقط! فكيفِ إن عاقبتك؟
جلسَ على السريرِ بجانبها، ينظُر لوجههَا الذي ترسّبَ فوقهُ الملح، ماءُها غادر وتبخّر، وبقيَت تلك الملوحةُ تُرش في قلبه هو، وليسَ على وجنتيها.
لوهلـةٍ تمنّى لو أنّه يتركها بكنفِ أعمامهِ في الدمـامِ مع حُسـام، أن يبتعدوا! بعدَ أن رفضَ طيلةَ السنينِ أن يبتعدوا رغمَ الخطر، أن يبقوا معهُ حتى يحيا، ويقتصَّ لعائلته!
ضوّق عينيه، وابتلعَ ريقهُ وتلك الفكرة التي لا تناسبِ وحدته، كيفَ يُخيَّلُ لهُ أن يبقى لوحده؟ دونهم!! هم البقية الباقية، البقيّة الباقية يا الله!
ازدردَ ريقهُ بصعوبة، وارتفعَت كفه ليمسحَ على شعرها الأسـود، نظـر لوجهها مطولًا، وتنهّد أخيرًا ليقف، ومن ثمَّ سحبَ لحافها حتى يغطيها ويُسكن ارتعاشَ أناملها بردًا . . تحرّكَ ليُغادر، لكنّ كفها الباردة فاجأته حين امتدّت متسللةً لتُمسكَ بكفه، تمنعه من المُغادرة، وصوتها المبحوحُ والذي احتفظَ بنبرةِ البُكـاء واختلطَ بهِ النعاس ينبعثُ متسللًا إلى مسامعه : بدر!
تجمّدت يدهُ في كفّها، وتجمّدت ملامحهُ من الجهةِ الأخرى لتسكنَها القسوةَ من جديد. شعرَ بها تجلسُ من خلفهِ وتشدُّ يدهُ نحوها حتى يستديرَ إليها دونَ فائدة وهي تلفظُ برجـاءٍ منقطعِ الراحـة : بدر ، يا كل أختك اللي مجافيها! وتمسح على شعرها بالليالي! . . الله يخليك، ما أبي يدك حنونة علي بنومي وبس! أبيك تسامحني، وتمدها لي بحنانك بكل ساعة!
يدهُ لازالت متصلّبة، باردة، تجافيها من عناقِ أناملٍ كمـا جافاها بصوتِه ونظراته، ملامحهُ تعودُ فيها القسوة لمجـاريها، وتلكَ اليدُ التي اشتدّ تصلبها ، سحبـها أخيرًا بجفـاء! لتتحرّك خطواتهُ أمـام نظراتها التي أجفلت لثانيتين، قبل أن تنكسرَ ضعفَ انكساراتها وتعودُ الدموعُ لتخضّبها بضعف.
غـادة وصوتُها يعودُ للأنين، تحرّكت بسرعةٍ لتنزل عن سريرها وتلحقَ به بخطواتٍ سريعةٍ قبل أن يخرجَ من غرفتها، تُمسكُ بيدهِ اليُسرى بقبضتيها لتمنعَ خروجه، وبصوتٍ ينتحب تعودُ للرجـاء بعمق، بألم، بندمٍ وانكسـارٍ لهذا الجفـاء الذي لا يليقُ به! واللهِ لا يليق : الله يخليك بدر، الله يخليك
حـاولَ سحبَ يدهِ بقسوةٍ وحدة، لكنّها شدّت عليها بقوّة لتسحبها إلى شفتيها وتبدأ بنثرِ قُبلاتها عليها برجـاء، حينها انتفضَ وسحبها بغضبٍ وقوّةٍ أكبـر، وبصوتٍ حادٍ من بين أسنـانهِ وهو يستديرُ إليها بجسدهِ كلِّه : قايل لك ألف مرة بمعنى واضح من كلامي لا تحاوليــن! لا تحــاولين ، لأنّ جرحك مابعده برى وما راح يبرى بالرجاء والبوس في كفي! لا تظنين إنّ سواتك سهلة وغفرانها سهل! الا والله بخليك تاكلين أصابعك ندم على اللي سويتيه وتحسبين حساب خطواتك في المرات الجايـة.
رمى كلماته الغاضبـة تلك ومن ثمَّ تحرّك ليخرج، بينمـا سكَن رجاؤها، اعتذاراتها، محاولاتها، وبقيَت رعشـةُ البُكاءُ تلملمُ تلكَ الدموعَ في انحدارٍ صامت.
،
الهواءُ ينسحبُ فجـأة، المكانُ بحجمهِ الهائلُ يضيق، الناس يختفون، واحدًا واحدًا، فردًا فردًا، والأصواتُ يبتلعها الصمتُ عدا هذا الضجيجِ في صدرها، عيناها تتجمّدانِ برؤيـةِ الملامحِ الوسيمةِ لكل فتـاة، ملامح الأب التي هزمَت في وسامتها كلَّ الرجـال، ملامحه التي غطّاها الشحوب، النحول! . . ما بالها الدمُوع بدأت تتكتّل؟ ما بالُ غصةٍ كتلكَ تملأُ حنجرتي، وصدري يضيق بأنفاسه؟ ما بـال تلكَ الرعشـة التي قيّدت أطرافِي؟ يا الله! ماهذا الشوق؟ ماهذا الألـم؟ ماهذا الوجـع الذي ينخرُ الخاصـرة؟ . . . أقدامها ترتعش! من حيثُ لا تحتسبُ تراجعَت للخلفِ خطـوة، دونَ شعورٍ كانت أحداقها تخطو على ملامحه! كتفيه، صدره، على نحالـةِ جسده التي تصرخُ بوضوح، وقلبها يصرخُ من الجهةِ الأخرى! شوقها تضاعف، لكنَّ تراجعًا مجنونًا هزمـها، لذا خطَت أقدامها للخلـف، وكأنّها بذلك تهرب من مرآه، عقلها بدأ يعاتبـها على تهورها ومجيئها رغمًا عن فواز، عن هذا الحنين، عن الرغبـة في الارتمـاء في أحضانه، ولازالت الرغبة تتصاعد! لكنَّ الحاجـزَ ظهرَ من جديدٍ فجأة، معترضًا كل رغبـاتها، كلَّ ما أرادتهُ وما احتاجَت.
أمسكَ فواز كتفيها من الخلفِ وهو يعقدُ حاجبيه بتوجسٍ من تراجعها المفاجئ هذا، وبخفوت : وصلوا يا جيهان! ماهو أنتِ ودك تشوفينهم وأصريتي تجين معي؟
شتت عينيها بتوترٍ وأنفاسها تضطرب، هزّت رأسها بالإيجابِ في صورةٍ واهنـة، ليتحرّكَ هوَ ويدهُ تشدُّ يدها حتى لا تتراجع، ليس الآن بالتأكيد، ليسَ الآن وهو لن يسمحَ لها بهذا التراجـع الجـارح، كما أصرّت على المجيء، فرغمًا عنها سترحّب، ستبكي لمرآهم قسرًا وستنثُر الدمُوع! فهيهات أن تصرَّ على المجيء لتوجِع.
ومن بعيد، يُديرُ رأسهُ هنا وهنـاكَ بحثًا عنه، يُمسكُ كفَّ أرجوان بإحدى كفيه، والأخرى تُمسكُ بليـان الذي يسرقُ تهدّلُ أجفانها نَعَسًا صحوتها، تتمتم متذمرةً بصوتٍ باكٍ تُريد السرير، وهو يبتسم وعينيه تبحثان دونَ ردْ.
انتفضَت نظراتهُ إلى أرجوان التي تمسّكت بكفهِ بقوِةٍ وعينيها تكادُ تُقتلعانِ من محاجرها وهي ترى فواز الذي يقتربُ وهو يمسك بامرأة، امرأة! تكادُ تقسم أنها هي! نعم، هي! هي حيهان لا غير.
لفظَت دونَ تصديقٍ وكأنّها توقّعت ألا تلقاها إلى يومِ زواجها، هذا إن اعتبَرت اللقيا من جيهان نفسها! فتمرّدها يجعلها تتوقّع منها الجفـاء حتى النهايـة، وإيلامَ والدها حتى النهاية، وزرع العتـابِ واللومِ في صدرها إلى الأبد! : يبه . . جيهان!
عقدَ حاجبيه في بادئ الأمـر وقلبهُ انقبضْ، وفي لحظـةٍ سريعة وجّه أنظـارهُ في الاتجاهِ الذي أشارت إليه بسبابةٍ ترتعش ترقبًا واشتياقًا!
حينَ يطولُ الجفـافَ أرضًا لسنينٍ عجاف، حينَ يزرعُ نفسهُ دأبًا في الصدورِ في ومضـة - اشتياق -! ومضة!! كيفَ يعبّر بومضة؟ هي واللهِ نـارْ! نارُ اشتياقٍ أحرقَت أرضـهُ وجففتهُ من المحاصيلِ والمـاء، زرَعت الجفـافَ في صدرٍ أبويٍ امتلأ بالحُب عتيًا، امتلأ ببناتٍ ثلاث، زهراتٍ ثلاثٍ أثمرت وواحدةٌ منهنّ وتمرّدت! . . طـال الجفاف! لتجيء غيمةٌ حُبلى فجأة، والأرضُ التي تحترقُ بنارٍ يُصبح ترابها خصبًا، ويُنبَتُ منها الزرعُ بسرعة.
هل أعشَب هذا الصدر؟ بتلكَ الغيمةِ الصـادمة، تلكَ الغيمـةُ الحُبلى بدائِهِ ودوائـه .. كيفَ إن كانَ ما يراهُ حلمًا صوّرهُ اشتياقه؟ حنينهُ الأبويِّ لضم زهرتهِ الكُبرى بين كتفيْن انحنيـا بعد أن كانا مسندًا لها؟ كسرته تلك الـزهرة! كسرتهُ بجفـاءٍ وصدْ! .. هل هي أمامـهُ بعد اشتيـاق؟ بعدَ جفافٍ وظمأ؟ هل هيَ أمامـهُ ويراها أم أنه يرى طيفًا اشتاقَ لرائحتـه؟
دائـرةٌ تضيق، وخطواتٌ تريدُ التراجعَ بقوّة، عينانِ ترتعشُ نظرتهما، وثُقلٌ سكنَ ساقين ليستشعرهُ فوّاز بتباطئ خطواتها، شدّها رغمًا عنه، وعقدةٌ سكنت بين حاجبيْه بحنق، بغضبٍ من فكرةِ تبدّل هذا الشوقِ الذي جرفها للإنـدفاع! وهاهو يشعر بها تريد الهرب بعيدًا كي لا تقترب. ليسَ الآن! لا تكسريه بنفورٍ يا جيهان، لا تكسريهِ بعد رؤيـاهُ لكِ هُنا!
بينما الربكـةُ انخلقَت بينَ رئتيها ومسـارِ أنفاسها، اضطربَ صدرها، وخفَقت أهدابها وقلبها ينحدر انتظـامُ نبضاته، يتسارع، والملامحُ الوسيمةُ تتعلّق بعينيها في نظرةٍ جفول! وكأنّ عقلهُ لا يستوعبُ هذا الغيث، لا يستوعبُ مجيئها، واشتياقـهُ لأيـامٍ وأسابيع سيُختم بمرآها، يُنهي فصل مشاعرَ مستوجعة، قصّةً استنفدتْ كل قدرةٍ على المضي في الحيـاةِ بابتسـامة ، سيحتضنها بين أضلاعه، يقبّل مقدّمة رأسها، ويهمسُ لهـا بأن لا تُجافي والدها مرّةً أخرى! بأن قلبه لا يحتملُ بُعدَ أميرته، اختفـاء صوتها عن مسامعه، غياب " يبه " عن سماواتِ أسماعِه. سيقُول لها بأنّ أكبـر حُزنٍ كان في حياتِه هو هذا البُعد.
تتقلّص المسـافاتُ فجأة، لا ليسَ فجأة! بل أن الأفكـار مرّرت الوقتَ دونَ أن تشعر، ووجدَت نفسها أمامهُ فجأة، أمـام أرجوان، ليـان التي انعقدَ حاجبيها وهي تنظُر لها وكأنّها تحاول التعرف على من خلفِ العبـاءة، على هذهِ العينين الظاهرتين من بين النقـاب، تلك العينين التي يُخبرها عقلها بأنّها لا تجهلها!! . . اتّسعَت ابتسامتها بشدّةٍ فجأة، وانتفضَت كفها من كفِّ والدها وهي تكسر المسافةَ الفاصلة في خطوةٍ لتعانقَ فخذيْها وصوتها الطفولي يُغادرهُ النعاسُ ويسكُنه الحماس : جيجي ، جيجي
تضاعفَ ارتعاشُ شفاهها وتسارعت أنفاسها وهي تقطّب جبينها وعيناها تتمايلانِ بشوقٍ ملتـاع، تغرقـانِ في موجٍ مالـحٍ تغصُّ فيهِ سفينتيْها، زمّت فمها وهي تُحني ظهرها قليلًا، تتمنّى لو أنها خـارج المطار، ليس من حولها أحد، تُعانقُ ليـان عن كلِّ بُعدٍ وشوق، تعانقها عنها وعن والدها الذي ما إن رأتـه حتى التـاعَت حنجرتها وغصّت في وجَع! تراجعَت رغمًا عنها، وبقيَت أذناها تنتظرانِ صوته، تنتظرانِ كلمـةً منهُ لفواز، وليسَ لها!، تشعُر بنظراتهِ المتسلطـةِ عليها في شوقٍ عاجـز! عاجـزٍ حدَّ الوجَع.
ابتلَعت غصّتها وكفّها تعانقُ شعر ليـان وتعبثُ به، تعضُّ شفتها السفلى قبل أن تحررها وتهمسَ بخفوتٍ يائِس : اشتقت لك لياني!
قبّلت جبينها بعمقٍ وليان تضحكُ بسعـادةٍ لرؤيـاها، بينما تسللت نبرةٌ من بين شفتي والدها كانَت خافتـة، تائهةً بإرهافـهِ لسمعهِ نحوها بينما النبرةُ اتّجهت لفواز الذي رحّب بهِ وتحمد لهُ بالسلامـة : الله يسلمك يا فواز، منوّرة الرياض بأهلها
فواز يشعر بالتّوتر رغمًا عنه، تجاهلها لهُ الآن أوجعهُ هو! فكيفَ بيُوسف! ندمَ لأنّه وافقها على المجيء، فرحَ بحماسها، فكيفَ ينطفئ الآن بهذهِ الوقاحــة! ... لفظَ بهدوءٍ يحمل خلفهُ غضبًا ووعيدًا لها : شلونِك يا بنت العم؟
أرجوان تبتسمُ ابتسامةً باهتـة وهي تستمعُ لهمسِ جيهان لليـانْ بشوقٍ وتجاهلٌ قاسٍ للواقفِ بجانبها : الحمدلله عساك طيب.
فواز يوجّه نظراتهِ نحو ليـان التي كانت جيهان تقرص خديها، اتّسعَت ابتسامتهُ الغاضبـة لينحني نحوها ويحملها بين يديه بمشاكسةٍ يُحاول بها إطفـاء الاجتمـاعِ البـاردِ وأثرهُ الواضـح على عينيْ يُوسف، بالتأكيد كان يعتقدُ منها شيئًا آخر بما أنّها جاءت معهُ لاستقبالهم، وليس هذا التجاهل المُفاجئ! بالتأكيد سيفكّر بأنه أجبرها على المجيء معه وهي التي لم تكُن تريد، وهذا سيُضاعفُ من الأوجـاعِ أكثر.
صرخَت ليان حين شعرت بهِ يعضّها في خدها وهي تضربهُ على كتفيه : يا متوحش يا خايس نزلني نزلني
ضحكَ وهو ينحني ليُقبّل وجنتها التي احمرّت : آسف ليون بس اشتقت لك
ليان بعبوس : معفن
فواز يَستديرُ ناحيـة عمهِ محاولًا كسرَ التوتر وهو يضحك : تسمح لي أقص لسانها؟
ابتسمَ يُوسف ببهوت وهو ينظر إليه بعد أن كانت نظراته معلّقةً بجيهان التي كانت تنظر للأرضِ بشرود، تضمُّ عضدها الأيسر بكفّها اليُمنى، وشرخٌ تضاعفَ في قلبـهِ بعد كلِّ تلكَ المشاعـر التي قررَ إطفـاء حممها بعناقٍ أبوي، عنـاقٍ تبكي فيهِ على صدره! لكنَّ تجاهلها جـاءَ مُعاكسًا، جـاءً صادمًا بعد أن رأى أن الجفـاء لازال يقبعُ بينها وبينه، بكل وحشية! بكل وحشيةٍ تزرعُ في صدره المزيدَ من الجفاف! لم تكُن غيمةً حُبلى! كانَ رحمُ مشاعرَ فارغًا، فارغًا بشكلٍ ضاعفَ انحناءَ كتفـيه، ضاعفَ جفـافَ أرضه، يا الله! هل يعقل أن تكون غيمةً عقيم؟ لن تروي تربته الخصبة؟ ولن تزرع فيها خضرةً وعُشبًا؟ . . جزَّ العُشبُ الذي بدأت بوادره في صدره، وعـاد خاويًا على عروشه، كأنّما العنـاقُ يُقسم ألّن يُجهضَ حُزنـه.
بقيَت جيهان تنظُر للأرضِ ببؤس، تزيد من عناقِ عضدها، لا تدري لمَ تراجعَت، لمَ هذا البُعد الذي أسكن نفسه من جديدٍ رغم الإقتـراب، كانت تنتظره! حتى ترتوي بِه، رغمًا عن كل أحزانها، عتابها، جروحها، رغمًا عن كل شيء، كانت تنتظره! وهذا الجسدُ يريد الارتمـاءَ في صدره، هذهِ الرئـةُ افتقدَت رائحته لأيـامٍ طوال، لكن لمَ لا تستطيع؟ لمَ تيبّست أقدامها فجأة؟ لمَ نفرَت وظهرَت كلُّ الصورِ الماضيـةِ من جديد؟ . . الغصّة تتضخّم في حنحرتها، الملوحةُ تتكتّل في محاجرها، الحُمرةُ بدأت تسكُن وجنتيها، بوادرُ البـكاءِ تجيء، لمَ لا تتحرّك نحوه؟!!
تنفّست بألمٍ وهي تشعر بأن شهقةً تريد الانتفاضَ من صدرها، لكنّها كبحتها قسرًا، وبقيَت تنظر للأرضِ بصمتٍ شردَت نظراتها معـه، وبقيَت ترى بياضًا ينتشر حولها، غابَ كلُّ شيء، أصواتهم، وملامحهم، وغابت هي في عالمٍ آخر . . لم تستيقظْ منهُ إلا على شفاهٍ تعانقُ جبينها، وكفينِ تُمسكَانِ كتفيها! ورائحـةُ عودٍ لا تنساهُ تخترقُ أنفها، يترجمها عقلها بسرعة .. بأنّه المـاءُ الذي انتظرتهُ حتى ترتوي، المـاءُ الذي سقطَ عليها الآن ولم يستطع أن يبقى بعيدًا، بعيدًا أكثر.
فغَرت شفتيها وعينيها ترتفعانِ إلى عنقه، ابتعدَ قليلًا ومسحَ على رأسها وهو يبتسم ببهوت، ينظُر لعينيها البنيتين، الملتمعتين بدمعٍ لا يهوى النضوب كتمرّدهـا الذي يتضاعفُ نضوجه، وبصوتٍ هامسٍ يحمل كمًا هائلًا من حنانهِ وحبه الأبوي، من اشتياقٍ قاسٍ لصوتها : كيفك يا عيون أبوك؟
عيناها الناظـرةِ إليه بسكونٍ سرعـانَ ما ارتعشَت! سفينتيها توتّرت بثورانِ موجِها، اهتزّت أحداقها ودموعها سقطت كورقةِ خريفٍ حاربها الجفاف! وجـدت نفسها دونَ شعورٍ تتراجعُ للخلف، ترفعُ كفّها إلى فمها لتغطيه وتشهقَ ببكاءٍ متذبذب، تتركُ الردَّ على سؤالهِ عالقًا على أطرافِ بكائها، كيفَ يجتمعُ فصلان؟ تلكَ البرودةُ الشتوية في صدري! تلكَ الثلوجُ الصقيعية التي تُحيطُ قلبي، وذاكَ الجفاف الخريفي الذي يحتقنُ عيناي ليُسقط الملح رغمًا عني!، طـال الجفافُ جوارحي يا أبي، بؤسُ الخريفِ يمنعني من الإرتـواءِ بأضلعك، كيف أرتمي في أحضانك؟ علّمني من جديد؟ كيف أتدللُ على مسامعك وأنطق " يبه " بمكرِ ابنةٍ طفلة!
عقدَ يُوسف حاجبيه بصدمةٍ من بكائها الذي صبَّ ملوحته على قلبه، ليكسرَ تلك الخطوة التي ابتعدتها باقتـرابٍ وهو يهمس بصوتٍ أجش : جيجي! يا فرحتي الأولى . . ما يهون علي بكاك يا عين أبوك!
تراجعَت أكثر وهي تحاول كتمَ أنينها بكفّها، وحين وضعَ كفّه على رأسها من جديدٍ انتفضَت واستدارت دونَ شعور، وكأنّها تقولها لهُ بوحشيـةٍ صامتـة . . لا تقترب أكثر، لا تقترب!!
،
سوادٌ ليلي، وفترةٌ صباحيـة، أذانٌ يرتفعُ ويُدغدغُ أسماعـه، الصـلاةُ خيرٌ من النوم، الصـلاةُ خيرٌ من النوم . . يردّدُ مع المؤذنِ ورأسه يستكينُ على وسادته، ينتهي الترديدُ ويذكر الله قليلًا ومن ثمَّ يدعوه علّ تلكَ البدايـة تدوم، تدومُ لتغسلَ كلَّ ذنوبِه الماضـية، ليغسل كلَّ ماضٍ وكلَّ أذيـةٍ سابقـة . . يدعو الله أن يجيء ذلك النورُ على حياتِه في صورةِ طفلةٍ كبرَت وبقيَت طفلةً في صدره، اليـومَ قد ينتهي كلُّ شيء، كل الانتظـارِ الماضي، وهذهِ المرة لن يتردّد!
جلسَ حتى تتدلّى ساقيهِ باتّجاهِ الأرضِ التي نظرَ إليها بصمتٍ في الظلام، كادت سهى ترغمه البارحة على اتمـام كل شيءٍ بحجة أنه يجب عليه ألّا يؤجل عمل اليوم إلى الغد، لكنّه استطاعَ اقناعها بأن يكُون كلُّ شيءٍ اليوم، بأنْ يستعد قليلًا، ويمررَ الأكسجين إلى رئتيه قبل الإنقطـاع الذي سيحدث حين يُحادثُ عبدالله ، كيفَ ستمرُّ الأمـور؟ كيف؟ هل ينتهي كل شيءٍ بأن تُصبح له؟ بأن يمرر أنامله على وجنتيها من جديد؟ يقبل عينيها؟ يُداعب شعرها؟ . . لمَ أنتِ حُلم؟ وأجمل أحلامي! لمَ أنتِ غنـاء؟ وأعذبُ السمفونيات! هل بدأتِ تتحققين لي كحلمٍ اقتربَ في واقعي؟ هل بدأ صوتِك بالبزوغ على مسرحٍ فنّيٍ لن يستحلّه أحدٌ بجمالهِ سواك؟ تخلقينَ وراءكِ ربكةً مجازها أنّكِ شلالٌ يندفعُ بقوةٍ ويسقطَ فوقَ سطحي الراكد! تشتتينني يا نجلاء! بكلِّ عنفوانٍ تشتتيني.
بلل شفاههُ التي ابتسمت بربكـة، أفضـلُ حلٍ أن يتّصل بعبدالله في المساء، لن يُقابله، فهوَ يكاد يجزمُ بأنه سيقيّد عنقه بكفيه ويخنقه إن سمعَ مالم يقُلهُ في المرّة السابقة!
نهضَ ليتّجه للحمام حتى يستعدَّ للصـلاةِ ويذهب للمسجدِ باكرًا طاردًا كل أفكـاره اللذيذة!
يُتبــع ..
|