كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية ، وعسى الممتحنين مبيضين الوجه بس :$$
للحين أنا مبيّضة الوجه بس خربتها بامتحان اليوم :( نقول الحمدلله وبس ()
يلا نخليكم مع البارت عساه يكون مُمتع لكم :$ طبعًا جمعته مع الجزء السابق مثل ما قلت وخليته بارت واحد، وكذا نقلل من احتماليـة وصول عدد البارتات لفوق المئة.
استلموه الحين. وهمسـة لكل قارئ ولكل يد تكتب كلام حلو، عسى ربي يسعدكم ويرزقكم الراحـة من حيث لا تحتسبون، الله يسلم وجوهكم الطيبة ()
بسم الله نبدأ.
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبـادات
(58)
ابتسمَ وهو يرى وجه أرجوان المُنتفخِ لنومها في هذا الوقتِ على غيرِ العـادة، كان يجلسُ على إحدى أرائك الصالة وهي تقف مستندةً على إطار بابِ غرفتها وتفركُ عينها اليُمنى بكفها، وبرقة : غريبة نايمة بهالوقت !
أرجوان ببحّة النوم، لفظَت : مليت ومالقيت لي إلا أنـام، شلون دخلت؟
يوسف بابتسامةٍ وهو يفتحُ ذراعيه لتقتربَ منه : هالمرة ما نسيت المفتاح الثاني
ابتسمَت بكسلٍ لتقتربَ منه حتى جلسَت بجانبهِ ووضعت رأسها على صدرهِ ليضمّها إليه بحنان، أغمضَت عينيها بدلالٍ ودائمًا ما يكُون الأبُ هو العشيقُ الأول ولا يسبقهُ رجُل.
بدأ يمسحُ على شعرها المتناثرِ بفوضويةٍ على كتفيها وهو يهمسُ بهدوء : كيفها ليان؟
أرجوان باسترخاءٍ وحركةُ صدره المنتظمةِ صعودًا وهبوطًا تبعثُ في نفسها الأمـان والحياة : صارت حالتها كويسة، بس تتدلّع
يوسف بحب : يحق لها
أرجوان تضمُّ شفتيها لتمدّهما للأمـامِ بدلال : يعني لأنها آخر العنقود؟ مسكينة البنت الوسطى دايم حقها مسلوب من البِكر وآخر العنقود
ضحكَ وهو يمسحُ على ظهرها ويلفظَ بحنان : هالبنت الوسطى غطّت على خواتها بعقلها فما يحتاج نثبت لها بأي طريقة غلاوتها
أرجوان : أووووه أجل جيهان عقلها ماش ولابد! طيب طيب بيوصلها ويجيك العقل بعدين
ابتسمَ ابتسامةً باهتةً لتصمتَ هي في المقابلِ حينما تحشرجَ تنفسهُ وشعرت باضطرابِ صدره، عقدَت حاجبيها وهي تفتح عينيها وتضوّقهما بضيق، زفَرت بألمٍ وابتعدَت عنهُ قليلًا شاتمةً نفسها في داخلها، ابتلعَت الضعفَ الذي ناورَها في هذهِ اللحظة لتهمسَ بتهكّمٍ وابتسامةٍ ضيّقة : أوافقك تراها غبية
يُوسف يُشتت عينيه ليزفرَ ويلفظَ بضيق : الله يسعدها ويوفقها بحياتها.
أرجوان : محد يسعد بحياته وهو عاق! هذا اللي ما يخليني أرتاح لما أفكر فيها.
يوسف بحدة : أرجوان!
أرجوان بقهر : وأنا الصادقة صح أحبها وهي أختي الكبيرة بس مو معناته ما أعترف إنها سيئة! وصدّقني بتشوف كل اللي تسويه من عيالها * وقفَت بعنفٍ لتُردف * من ولدت وأنا متعودة على مقولة " عيالك بيعاملوك بنفس طريقة معاملتك لأمك وأبوك "! الحياة دين يا يبه الحياه دين.
عضّ شفتهُ والضيقُ والألمُ يرتسمُ في وجههِ بألوانٍ لا تُمحى ولن يمحيها الزمن، بألوانٍ سوداءَ معتمةً أسكنَت تقطيبةَ وجعٍ على جبينه لتتأوّه أخيرًا وهي تعودُ لتجلس بجانبهِ وتضعَ رأسها على كتفهِ ودمعةٌ خائنةٌ سقطَت من عينها اليُسرى، دمعةٌ تسقُط لتكسرَ كل موجةِ راحةٍ قد تباغتها وتَسكُنها، كيفَ أسكُن وألمكَ يحتاجُ دمعًا فقط حتى يكتمل؟ كيفَ أرتاح وأنتَ راحتي التي جُرحَت ومزّقها الزمنُ و - ابنة - ليتها تدركُ ماهيَ فاعلة! ليتها تدرك كم تقسو عليك وكم تدفعني للحقدِ على أفعالها. قلتها مرةً وسأُعيد، لن أسامحكِ يا جيهان وأنتِ حُزن والدي والتجعيدةَ بين حاجبيْه.
قبّلت كتفهُ باعتذارٍ وهي تهتفُ ببحّةٍ تتكثّفُ في حنجرتها لتختلطَ مع كل كلمةٍ تعبرها : آسفة ، ما قصدت أزعّلك بكلامي، آسفة يبه
تنهّد يوسف وهو يُغمضُ عينيه لفترةٍ طالت قبل أن يُديرَ رأسهُ إليها ويهتفَ بصوتٍ خافتٍ رخوي : إذا باقي لكم شيء ما جهزتوه خلّصوه بسرعة .. رحلتنا الساعة 10 بالليل
،
اتّسعت عيناهُ وملامحهُ تتجمّدُ كالصخر، حدقتاه تتحرّكان من جديدٍ بادئتين بأول حرفٍ في تلكَ الرسالـةِ حتى آخرها ، " مساء الخير، ما أظن نسيت العادة اللي كنّا وأتمنى - لازلنا - بنسويها كل ثلاث شهور وهي عشـاء مفتوح في بيت فهد وباسمه، مرّت خمس شهور على آخر مرّة سوينا فيها هالعادة! وأنت شكلك نسيت الموضوع بكبره، واضح وش كثر الصدمات تخلّيك توقف حياتك! "
جفّت حنجرتهُ ودونَ شعورٍ رفعَ كفّه الأخرى ليضعها على مقدمةِ عنقهِ وكأن الكلماتِ والأحرف ستزهقُ روحه وتنتشل الحيـاة منه، ماذا يُريد بالضبط؟ ماذا يريد من الإهتمـام بهذا الموضوع المتعلق بوالده؟! هل يقصد استفزازه فقط؟ بكل وضاعةٍ وبالسلاحِ الأقسى!! بأبيه الذي قتلهُ بنفسه؟ ممَ هو؟ يُريد أن يفهم فقط كيفَ يفعلُ كلّ ذلك ويُناقض نفسه وكل شيء! يناقضُ الزمنَ والقسوةَ التي صبّها فيما فعلَ وفي كلماته أمامه كثيرًا!
وقفَ بعنفٍ ليتراجعَ الكرسي للخلفِ بقوةٍ مُحدثًا جلبةً وفوضى لا تجيءُ نصف الفوضى في صدره، تحرّكت قدماهُ ليتّجه لغرفتهِ وهو يتنفس بتحشرج، دخلَ ليُغلقَ البابَ من خلفهِ ومن ثمّ رفعَ الهاتفَ إلى وجههِ وهو لا يفكّر سوى بأمرٍ واحد . . بالإتصــالِ به!
رنينُ الهاتفِ يبزغ، قلبهُ انكمشَ للحظةٍ وصدرهُ ضاقَ ككلِّ مرةٍ يعُود فيه الزمنُ ليُكرر نفسهُ في ذكريات، في إطارٍ كان يجمعُ صورةً مـا لهُما، الشبهُ بينهما، السنواتُ بينهما، المواقف الكثيرةُ وسِنّهُ الذي كبُرَ معه، عاشَ برفقتهِ أكثر ممّا عاشَ مع والده، فكَان طبيعيًا قبل أن يعلمَ الحقيقة أن يردَّ بـ " أبوي سلمان " كلّما سأله أحدٌ من تحب أكثر! كان طبيعيًا جدًا، طبيعيًا جدًا قبل أن يراهُ بعينِ الشر.
انقطعَ الرنينُ بعد رنّتين، وجـاءَ صوتُ سلمان يحملُ في طيّاته ذهولًا لكنّه في ذاتِ الوقتِ يهتفَ بثبات : السلام عليكم.
سلطان باندفاعٍ وحقد : أنت وش تبي بالضبط؟!!
أطبقَ الصمتُ على سلمان من الجهةِ الأخرى لبعضِ الوقت، قبل أن يتنهّد ويلفظَ بهدوءٍ لا يتناسبُ مع هذا الوقتِ أبدًا : رد السلام أول.
سلطان بغضب : وعليكم!
سلمان بسخرية : هذي الرد للكفار ، قول وعليكم السلام ورحمة الله ، تعرفها والا أعلمك حبيبي؟
زمَّ سلطان شفتيه والدمُ يتصاعدُ في ملامحهِ من الغيظِ والقهر، شدَّ على قبضتهِ بجانبِ فخذهِ ليلفظَ بخفوتٍ حادٍ وهو يتمنى أن يبصقَ الشتائمَ على وجهه : الله لا يسلم كل صورة جمعتنا قبل!
صمتَ سلمان واستكنَ نَفَسُه، في حين غابَت النبرات عن صوتِ سلطان وهو يعقدُ حاجبيه بألمٍ ويلفظَ بخفوت : وش تبي بالضبط؟!
سلمان يُبلل شفتيه قبل أن يهتفَ بثبـات : ما أبي شيء غير إنّي أبلغك إن العشاء بُكره، وفي بيت فهد اللي هو بيتك، عارف إنّك خلصت تصليحات من زمـان.
سلطان بغيظٍ وأطرافهُ انتفضَت بالبساطةِ التي يهتفُ بها بعد ما فعله وبعد أن كان السبب في " خراب " هذا البيت : على كيف أبوك هو؟!!
سلمان يبتسمُ ببرود : طحت من عيني صراحة ما كنت أتوقع ولا واحد بالمية إنّك ضعيف لهالدرجة! حياتك توقف عند أي عقبة!
شتت سلطان عينيه ونارٌ تستعرُ في صدره، نارُ غضبٍ وقهرٍ تختلطُ ببرودةِ ألمٍ صقيعية تخترقُ عظامَه. تحرّكت قدماهُ بوهنٍ حتى وصلَ إلى سريرهِ وجلَس، مسحَ على وجههِ بكفّه المُحرَرة لينطقَ بخفوتٍ واهتزاز : ضعيف! أيه ضعيف ، لأن كل حياتِي زائفة وهذا بحد ذاته كافي!
سلمان : كل حياتك؟ والـ 12 سنة اللي كنت فيها بكنف أبُوك؟
سلطان بضياع : احتسبت حياتِي من وراها! عمري 15 سنة بس!
أطبقَ الصمتُ من جهةِ سلمان الذي كان يجلسُ على كرسيِّ مكتبهِ الجلدي أمامَ حاسوبهِ الذي انطفأ نورُه، ونظرةٌ في عينيه انطفأت! زمَّ شفتيه وأغمضَ عينيهِ ليتراجعَ بظهرهِ للخلفِ بعنفٍ اصتدمَ بظهرِ الكرسيِّ ودفعهُ للتراجعِ عبرَ إطاراته، ملامحهُ تجمّدت لثوانِ، وملامحُ سلطان من الجهةِ الأخرى أظلمت وهو يعضُّ شفتهُ السُفلى وضعفهُ مُزري! يكرهُ هذا الضعف، لكنّه يستحلهُ رغمًا عنه! يكرهُ هذا الاستسلامَ في صوتِه. لو أنّه يملك حلَقةً واحدةً تكفي ليأخذ سلمان جزاءهُ فيرتاح! لو أن تلكَ القضية لم تندثِر بـ " راضِي "! لو أنّه كان فقط أقلَّ غموضًا وأقلَّ براعة! لكان الآن ارتـاح على الأرجح! لكان ارتاح مهما كان قبلًا قريبًا منهُ حدَّ أنه يناديهِ بـ " يُبه "! شُوّهت تلك الكلمة بأقذعِ الأفعـال، بكلِّ دمٍ بارد، انتحَل الأبوّةَ وهو اليتيمُ إليها، علّق قلبَ طفلٍ بهِ وكبرَ الطفلُ دونَ قلبهِ الذي مهما أقنعَ نفسه لن يستطيعَ أن يُكمل حياتهُ كما يجب! حياتهُ انحصرَت بِخمسةَ عشرَ عامًا فقط، كل السنينِ السابقة لم تكُن حياةً بقدرِ ماهي فقط تأشيرةٌ إليها.
فتحَ سلمان عينيهِ وانخفضَ صدرهُ بتنهيدةٍ صامتـة، تقدّم جسدهُ للأمـامِ من جديدٍ ليُبسطَ ذراعهُ فوقَ سطحِ المكتبِ قبلَ أن ترتسمَ ابتسامةُ سخريةٍ لاذعة على شفتيهِ وهو يهتفُ بتهكم : أجل اعتبر نفسك مالك حيـاة، مو عشان حياتك زايفة على قولتك بس لأنّك وقفت عند هذاك الزيف وما قدرت تبني لنفسك حقيقة بعد ما تشطب الـ 27 سنة اللي فاتت وتبدأ عُمرك من جديد.
أردفَ بسخريةٍ بعد صمتِ سلطان : مُثير للشفقة.
،
: وش صار؟ ليش الصراخ!!
رمَشت سريعًا ودونَ استيعاب وهي تنظُر لأمجد الذي وقفَ عند البابِ عاقدًا حاجبيه ونظراتهُ يُمررها من أعلاها لأسفلها ليتأكّد إذا ما كان هنـاك شيئًا، بينما ازدردَت هي ريقها بتوترٍ وشدّت شفتيها اللتين ارتعشتـا لتهمسَ بإحراجٍ وهي تشتت حدقتيها للأسفلِ متجاهلةً الألمَ في قدميها : الكوب طاح وانخرشت ، ما فيه شيء.
اشتدّت تعقيدةُ حاجبيه وتصلبَ وجههُ بينما نظراته تبدّلت لازدراءٍ وكُرهٍ لم ترهُ في حين كانت نظراتها بعيدةً عنه، ارتفعَت زاويـةَ شفتهِ العُليا في صورةِ نفورٍ منها وهو يهتف بصوتٍ لاذع : دلع بنات في النهايـة * استدارَ عنها ناويًا الخروج والابتعاد * هه، كالعادة ماورى راسك إلا المصايب.
زمّت شفتيها بألمٍ لحديثهِ والتمعَت عيناها بشعورٍ قاسٍ من النُبذِ تجاهها، لم تكُن يومًا تتألّم من حديثهِ ونظراته كما الآنَ وبعدما علِمَت السبب وراء هذا الكُره، بعدما علمَت كم أنّها دخيلةٌ بدرجةٍ تكفي لبعثِ كلِّ أنواعِ الكره والإزدراءِ في النفُوس. سمعَت صوتهُ يرتفعُ قليلًا مطمْئنًا لناصِر الذي كان هو بالتأكيد من فزعَ لصرختها وطلب منهُ الاطمئنانَ عليها، فهو بالتأكيد لن يهتم! لن يهتم لنكرةٍ مثلها.
تحرّك ينوِي المـغادرة، إلا أنه في النهايـةِ تراجعَ إليها وأدارَ رأسه نحوها دونَ أن يُديرَ جسدهُ بالكامل إليها، نظَر لهيئتها الضعيفة وهي تنظر للأسفلِ تضمُّ كفيها ببعضهما، ترتعشُ بصورةٍ غيرِ ملحوظةٍ لم يرَها، قبل أن يلفظَ بصوتٍ غليظٍ وجامد : مبروك على الزواج.
رفعَت رأسها إليهِ بسرعةٍ متفاجئـةً مما انطلقَ من شفتيه تجاهها، عيناها اتّسعتا قليلًا وشفتيها انفرجتا بذهولٍ مما جعلهُ يبتسمُ بسخريةٍ ويتحرّك مبتعدًا هذهِ المرّة تاركًا لها تتوهُ في تناقضهِ وتقلّباتِ لسانهِ التي نقشتهُ في صـورةٍ لا تفقهها.
،
فتحَ البابَ بكفّينِ تحتضنهما البرودة، دخَل شقّتهُ الخاويـة على عروشها ليزفُر بعمقِ ما تشاركهُ مع وحدتِه، أصبحَ صديقًا للجمادات، كلّما تباعدَت فطرتهُ في الحيـاةِ مع الناس وجدَ الجماداتِ تقتربُ لتصبحَ صديقته، تحتضنُ المرآة صورتهُ كلَّ يومٍ حتى يُحادثَ نفسهُ بالصبـر، فكلّ ذلك سينتهي، وإن لم يكُن بحيـاةٍ أفضل فسيكُون بممات.
أغلقَ البابَ من خلفهِ والتصلّب يشقُّ ملامحه، عينـاهُ تنطفآن بكلِّ الذكرياتِ التي سردها اليوم على فيصل، ليست كل الذكريات! فهو لم ينحلَّ بعد من حذرهِ ليُخبره عن كل شيء، اقتصَر في سردِ تلكَ الليلةِ فقط، وقليلٌ مما تبعها وجعلهُ غائبًا، ولم يُخبره عن ما تبقّى ولا عمن تبقّى.
رمَى نفسهُ بإهمـالٍ على أريكةِ الصالـة الكريمية، زفَر وهو يسندُ رأسهُ للخلفِ وصورة أدهم جاءته ممن دثّرهُم بعيدًا عن حديثِه، ممتنٌ له! كيف أنّه ساعدهُ كثيرًا في محنته، كيفَ أنّه غيّب الكثير من الصعوبـاتِ التي واجهته .. وسأبقى ما حييتُ أحتضنُ كلَّ ما فعلتهُ لي. بلل شفتيه بلسانهِ ومن ثمَّ أخرجَ هاتفهُ من جيبهِ ليتّجه لرقمهِ حتّى يتّصل به، وضعَ الهاتفَ على أذنه ليتابعَ الرنينَ بأسماعِه حتى حلّ محله صوت أدهم الباسم : حيّ الله صاحب الصوت الغائب.
ماجد يبتسم : الله يحييك.
أدهم : كيفك يا رجّـال؟ زين إنّك فكّرت تتصل ، تغلّيت وقلت بشوف إذا بيفكر فيني أو لا.
ماجد يميلُ برأسهِ قليلًا ممرغًا لهُ في الأريكةِ وصداعٌ يحشُر نفسهُ في رأسهِ قسرًا : اترك الكذب عنك دايم أتّصل عليك أنا.
أدهم : يا كذّاب! أظن لو ما أفكر فيك ما سمعت صوتك.
ضحكَ ماجد ضحكةً مبتورة وهو يُغمض عينيه : طيب ليه محسسني إني زوجتك؟
أدهم : افا عليك! الأولى والثانية والثالثة والرابعة بعد.
ماجد يشهقُ ويفتح عينيه : حرام عليك تبيني أموت؟
أدهم يرفعُ إحدى حاجبيه بغرور : والله ولك الشرف بعد ... * أردف بجديةٍ هذهِ المرّة * أقول ما عليك من هالحكِي ، كيفك أنت؟ بالفترة الأخيرة صرت متغيّر ... * بشك * صاير شيء؟
صمتَ ماجد لبعضِ الوقتِ قبل أن يتنهّد ويحرّك كفه اليُسرى باتّجاهِ مقدّمةِ عنقهِ حتى يريحها على بشرتِه وكأنّ حنجرتهُ تنتفضُ بردًا بغصةٍ وكفهُ ستدفئها، بلل شفاههُ في حينِ عقدَ أدهم حاجبيه بقلقٍ لصمته، وقبل أن يلفظَ بشيءٍ سبقهُ ماجد ببعضِ الهدوء : حصّلت أحد بيساعدني ويطلّعني من هاللي أنا محتجز فيه!
فغَر أدهم فمهُ دونَ استيعابٍ في بادئ الأمـر، قطّب جبينه للحظةٍ مرّت بسرعةٍ حتى وجدَ حاجبيه يرتفعانِ وصوتُه يتسلل من بين شفتيه مصدومًا : كييييف؟؟!
ماجد بهدوء : اللي سمعته ، واحد اسمه فيصل سلمته مصيري بعد الله وقال إنه يقدر يساعدني.
أدهم بانفعال : متأكد؟ متأكد بيساعدك!!
ماجد يُغمضُ عينيه بأمل : نقول يارب.
أدهم : واثق فيه؟
ماجد يصمتُ لبعضِ الوقت، وما كان ليحتاج أدهم سوى لثانيتين من الصمتِ حتى يصرخَ في وجهه : أنت مجنووون؟!
ماجد يتنهّد وينظر للأرضِ بفراغ : لا تحاتي ما جبت اسمك.
عضَّ أدهم شفتهُ بغضبٍ بعد ما قاله ليرتفعَ صوته صارخًا في أذنهِ بشتيمةٍ جعلته يجفل لثانيتين قبل أن يعضّ شفتهُ بغيظ : أدهم احترم نفسك!
أدهم بغضب : اللي يكون معاك ينسى الاحترام بكبره ... ما جبت اسمي؟ هذا تفكيرك فيني؟!! طيب ، خلّ هالفيصل ينفعك ولا طلع كذّاب بعدها فكر باسمي أو لا.
أغلقَ الهاتفَ بغضبٍ ليخلّف وراءه اجفالـةَ ذهولٍ على ملامحِ ماجد لانفعالهِ الذي يراهُ غيرَ مُبرّر، حاولَ الاتصال بهِ من جديدٍ لكن أدهم تجاهلهُ مما أثـارَ فيه الحنقَ ليلفظَ بقهرٍ وهو يرمي هاتفهُ بجانبه : بالطقــاق يا حرمه.
،
عبَرت البـرودةُ صدرهُ بعد الكلماتِ التي قالها، تجمّدت ملامحه وتصلّبت نظراته المتوجّهةِ للأرضِ بصمتٍ أطبقَ على حُنجرته، في حينِ وقفت " مثير للشفقة " نصبَ عينيه لتمرَّ لحظاتٌ بصمتهِ وصمتِ سلمـان من الجهةِ الأخرى وهو يُدرك جيدًا كيف ستكُون كلماتِه عليه.
ارتفعَ صدرُ سلطـان ببطءٍ في نفَسٍ متذبذب، وأغمضَ عينيه للحظـةٍ وهو يدرك قبلًا أنّ تلك الكلمة تشرحهُ حرفيًا فهوَ مهما أنكَر يبقى يمُوجُ في ضعفهِ حينمـا يستذكره، مهما حاولَ التجاهل تبقى الذكريـاتُ تمنعه، الكُره لا يكفي، الحقدُ لا يكفي، يحتـاجُ النسيان أو التبلد! يحتاجُ ما يجعلهُ يمرُّ على هذهِ الجراح ليثنر الملحَ ولا يشعر بحرقةٍ تعانقه وتنتشل كلَّ آهةٍ من صدرِه قسرًا.
بلّل شفتيهِ وأغمضَ عينـيهِ للحظـتين، كلُّ لحظةٍ ترقُص فوقَ أضلاعهِ على لحنٍ خاصٍ من الاندلاع، من النـار الداخليةِ التي تجرِي في عروقهِ بعنفٍ يتركُ لها الإصتدامَ بأقربِ ما تنولُهُ فتعزفُ لحنًا تفرّدت بهِ هيَ وصنعَت منه أغنيةً حزينة، وحُزنهُ تجاوزَ صوتَ النايِ بمراحِل، كم ظُلمَ النايُ بتعظيمِ حُزنهِ حتى آمنَ أنّ صوتهُ لا يجلبُ فرحةً عابـرة، في جسدي " موسيقار " ابتكرَ آلةً لم تُسمى ولن يُدوّنَ التاريخُ لها اسمًا، آلةً موسيقية خُلقت من ألـم، صوتُها أنينٌ وآه، تجلبُ الدموعَ ولا تزرع بسمةً مهما تاهَت في ألحانِها.
انتشَل صوتُ البـابِ هذا الصمت، فتحَ عينيه واستنشقَ الأكسجين بشهيقٍ عنيفٍ بعضَ الشيءِ بينما بقيَ سلمان من الجهةِ الأخرى يُشاركه الصمت طيلةَ ما مضى من لحظـات، يقرأ كلّ اختلاجاتِه من الحشرجةِ التي أنَّ بها صدرهُ وعرقَلت أنفاسـه. رفعَ سلطان أنظـارهُ إلى البابِ وبلل شفتيه وصوتُ غزل يأتيهِ متذمرًا : ليه سحبت على الأكـل؟ لا يكون ما عجبك وكنت تجاملني!
أنزلَ سلطان الهاتفَ إلى حجرهِ ليتنحنحَ قبل أن يعتلي بصوتهِ الجامدِ قليلًا حتى يصلها : روحي غزل ، شوي وبلحقك.
صمتت غزل من الجهةِ الأخرى وهي تقرأ الجفـافَ في صوتِه، لتتوترَ رغمًا عنها لكنّها في النهايـةِ هتفت بخفوتٍ وانصياع : طيب.
تابعَ سلطـان صوتَ خطواتها وهي تبتعدُ عن غرفتـه، حينها زفَر راسمًا عقدةً بينَ حاجبيه متجاهلًا كل الكلماتِ التي سردها سلمان على أذنيه وأيُّ استفزازٍ قد يُحاولـه، رفعَ هاتفهُ إلى أذنهِ من جديدٍ ليلفظَ بحدة : اسمع ، أنا موافق على العشـاء ، مو عشانك بس عشـان أبوي بس! وعلى قولتك ماني موقّف حياتِي عليك! إذا مو كل حياتِي فالجزء الباقي لأبوي.
لم يجبهُ سلمـان مباشرة وكلماتٌ تتصارعُ في حنجرتهِ بعيدًا عما يتحدّث بهِ سلطـان، لم يتركها حبيسةً داخلَ فمهِ بل أطلقَ لجامها ليسأله بقنوط : كيفك مع غزل؟!
سلطان يعقدُ حاجبيه مستنكرًا من الجهـةِ الأخرى، لكن سرعـان ما انفكّت تعقيدةُ حاجبيه ليرفعَ أحدهما باستفزازٍ ويلفظ بنبرةٍ مشدودة : شدخلك؟!
سلمـان بهدوء : مو شيء كثر ماني قاعد أتطمن عليها ، ترى مالها شغل فينا! لا تحاسبها على شيء.
سلطـان بغيظ : للمرة الثانية مالك دخل بحياتِي.
سلمـان دونَ اهتمـامٍ لما قال، لفظ : من طفولتها ماذاقت فرَح تام ، لا تذوّقها بالحُزن الحين.
صمتَ سلطان متفاجئًا من حديثِ سلمـان الذي يتوافقُ كثيرًا مع ما أدركهُ منذ فترةٍ تجاهها، انعقدَت الكلماتُ العنيفةُ في فمهِ وسكنَه الاستنكار لإدراكِ سلمـان لها والذي بقي هو لبعضِ الوقتِ حتى يُدركه، لفظَ بصوتٍ مستنكرٍ وهو يقطّب ملامحه : على أي أسـاس استنتجت إنها ما ذاقت الفرح؟!!
سلمان يبتسم : من كانت طفلة وأنا وفهد عارفين كل صغيرة وكبيرة عنها، تقدر تقول كنا مثل الأبوين لها خصوصًا إنها قريبة من عمرك ... ما تذكرها؟!!
ذهلَ سلطان بهذهِ المعلومةِ التي لم تمرَّ يومًا على لسانِها أو ليقُل لم تمرَّ على ذاكرتهما، لا يذكرها أبدًا! ولرُبّما هي أيضًا لا تذكر شيئًا متعلقًا بهِ حتى والدهُ وسلمـان، ماهذا التشابُك الصادم؟ والذي لم يتوقّعه ولو واحدًا بالمائة. انتشلهُ سلمان من ذهولهِ بصوتهِ الشـارد حينما أكمل بخفوت : وصلت طفولتها المؤلمة للضرب! أبوها مجنون رسمي، أو نقول سادِي! لدرجة إنه مرّة من المرات اعترف بكل وقاحة إنّ فيه أثار بجسمها من ضربه لها!
أجفَل سلطان وهو يستذكِر اللحظـة التي عاد فيها من مقرِّ الشرطـة تاركًا لنفسهِ هُنـاك بعد مقابلته لسلمـان، كيف أنّ يدهُ ارتفعَت في لحظةِ غضبٍ ودونَ شعورٍ ناويةً صفعها بعدَ شتيمتها لهُ وتقليلها من تربيته، كيفَ أنّ الذُعرَ أصابها لتصرخَ بخشيةٍ من كفّه أن تسقطَ على وجهها ... انقبضَ قلبهُ والتوَى حلقهُ بـألم، كـان يُدركُ أنّها لم تعِش حيـاةً سويّة، كان يُدركُ أنّ العالم لم ينصفها وسقطَت في براثِنِ صيّادٍ انتشلَ حقّها في الحيـاة كأيّ بشر، هي كالغزالِ البرّيِّ الذي وقعَ في مصيدةِ البؤس، فقدَت حرّيتها في الضحك، أسرَها الحُزنُ ونقشَ رماديّتهُ على بياضِ صفحتها.
سلمـانُ يردفُ بابتسامةٍ حمَلت بعضًا من السخرية : وإذا كنت طبعًا تنازلت عن قرارك بزواجك الصوري ذا أكيد ملاحظ هالآثار.
انتفضَت أطرافهُ بغيظٍ من وقاحتهِ في التدخل بشؤونِه، لذا هتفَ بنبرةٍ مشدودةٍ كالوتَر : للمرة الثالثة مالك شغل فيني.
سلمان بضحكةٍ مستفزّةٍ ووقاحة : لا تخالف فطرتك وتشكك العالم برجولتك عاد! جيب لنا ولد بسرعة عشان نناديك بو فهد.
سلطان ووجههُ اشتعلَ بغيظهِ وتحديدًا لأنّه يذكُر اسم والدهِ بسلاسةٍ وكأن الذنبَ ينسلخُ عنه، لفظَ بوقاحةٍ مماثلةٍ له : والله عاد غيرنا ما تزوّج أبد وهو اللي مشككنا برجولته!
سلمان : ههههههههههههههههه صاير وقح وقليل أدب يا ولد!
سلطان بابتسامةٍ مُغتصبَة : ومنكم نستفيد.
سلمان يبتسم ببرود : الوعد بكره.
تشنّجَ فكّه وتركَ لعقلهِ حرّية السفرِ لصورٍ من المستقبل القريب، أن يراه أمـامه، بهيئتهِ الواثقة وابتسامتهِ المتعجرفة بعد كلِّ ما خلّفهُ وراءه، وهل سيستطيعُ السيطرةَ على أعصابِه؟ كيفَ لهُ أن يسمحَ لهُ بالولوجِ لمكانٍ قتلَ فيهِ وأحرقه بعد سنين؟ كيف عساه يصبُر على رؤيتهِ ويتصنّع عكسَ الحقدِ أمـامَ العالمِ أجمع!! ... ازدردَ ريقهُ وقاومَ اختناقًا خلّفته كلماتٌ ملأت فمهُ ومنعَت الأكسجين من الولوجِ إليه، لفظَ بصوتٍ متخاذلٍ حاولَ اسكانَ الوهَن فيه : أنـا موافق ، بس بشرط!
رفعَ سلمـان إحدى حاجبيه، لكنّه لفظَ بهدوءٍ مستجيب : وأيش هو؟!
سلطان : العشاء يكُون في بيتك! ماني متحمّل أشوفك بنفس المكـان اللي حرقته.
سلمان بسخرية : يعني بيفرق؟ في النهاية بتشوف وجهي غصب عن عيُونك بعَد ، ولا تنسى إحنا تعودنا نخلي هالعشـاء بالبيت اللي كان عايش فيه فهد يعني ما يصير!
سلطان : هذا آخر اللي عندي.
تنهّد سلمان باستسلام : طيب ، لك اللي تبيه، طبعًا لأنك مثير للشفقة وحزنت عليك.
تجاهلَ سلطان كلامه بالرغم من كونِه استفزّه، لينطقَ بصوتٍ مغتاظٍ ونبرةِ كُره : إذا ما عندك شيء ثاني فـ مع السلامة.
ليُغلقَ دونَ مبالاةٍ لردّهِ ويسكُنَ للحظاتٍ ناظرًا للأرضِ والهاتفُ يقبعُ في كفِّهِ المعانقةِ لـه، في كلِّ مرةٍ يُقابلُ فيها سلمان أو يسمع صوته تشتعلُ نارٌ في صدرهِ وخليطٌ من الوجعِ والحقد، الأسى والتمنّي بأن يكون كل هذا كابوسًا امتدَّ لأشهرٍ غابَ فيها عن النهوض، لكن كل شيءٍ حقيقي! كل شيءٍ يزرعُ الأسى والحزن، كل شيءٍ كان زائفًا والآن ظهرت الحقيقة التي تمنى لو أنّه مات على نقيضها ولم يكتشفها.
زفَر بألمٍ لينهضَ ويتّجهَ للبـابِ حتى يلتحقَ بغزل التي أسكَنت فيه حُزنًا على حالها، رغبةً في ضمّها إلى صدره ومسحِ كلِّ وجعٍ شاركها طفولتها حتى الآن. لا تزالُ طفلة! وكأنّها نسيَت نفسها قبل سنين، في مكانٍ مـا، في لحظةٍ مـا، كبُرَ جسدها ونسيَت روحها المعتادةَ على النمو قبل سنينَ لتبقى طفلةً تتمنى الكثيرَ مما لم تحصل عليه في كنفِ والدٍ كمـا وصفهُ سلمان - سادي -.
،
يلتفّون حولَ طاولـةِ الطعامِ ووجهها متجعّدٌ دونَ رغبةٍ بما أمامها، وعدمُ رغبتها تلكَ ظهرت مليًا في تقطيعها لكلِّ حبةِ أرزٍ إلى أنصافٍ صغيرة، بينما عينا سيف تراقبها وإحدى حاجبيه ترتفعانِ باستنكارٍ لمـا تفعل، ليلفظَ أخيرًا بهدوء : ديما ، ليه ما تآكلين؟
رفعَت ديما نظراتها إليه لتكشّر : مالي نفس بشيء!
سيف بهدوء : لازم تآكلين.
نظرَت ديما لام سيف قبل أن تُعيدَ توجيهَ نظراتها إليه وتلفظَ بنبرةٍ باردةٍ بعض الشيء : خاطري بورق عنب، ومخلل خيار!
ابتسمَ لها ليُشير لعينيه ويهتف بنبرةٍ " رايقة " : أبشري.
رفعَت إحدى حاجبيها لمزاجهِ الجيدِ بعد الصبـاح، إن شبِّه بشيءٍ فهو كالطقس! يتبدّل في لحظةٍ ما دونَ مؤشراتٍ في كلِّ مرة، وإن جاءت لشرحِ مناخهِ المُعتاد فهو غالبًا ما يكون جافًا كصحراويته! قليلًا ما تستشعر الأمطـار منه.
لوَت فمها لتنظر لأرز من جديدٍ وتُكمل تقطيع حبّاتها، حانت نظرةٌ من ام سيف إليها وقتذاك لتعقدَ حاجبيها قليلًا وتلفظَ باستنكار : ديما! ليه اللعب بالرز إذا ما ودك لا تجلسين طيب!
نظَرت إليها ديما بضيقٍ بعد ما قالته، ضوّقت عينيها ولوَت فمها لتهتفَ بنبرةٍ هجومية : شكلي ضايقتك؟ آسفة خالتي إن شاء الله آخر مرة.
وقفَت بقليلٍ من الفظاظة ليرتفعَ حاجبي سيف بصدمةٍ مماثلة لانعقادةِ حاجبي امه، تحرّكت ديما مبتعدةً عنهما لتستديرَ ام سيف بذهولٍ إليه وتلفظَ مبررة : ما قصدت شيء!
سيف يبتسم بتوترٍ غاضِب : معليش يمه امسحيها بوجهي ، نفسيتها خايسة بهالفترة.
صمتت وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، في حينِ حثّها سيف على متابعةِ طعامها ونهضَ بحجّة الشَّبَع، اتّجهَ للمغاسِل في بادئ الأمر حتى يغسلَ يدهُ وملامحه تحتدُّ بغضبٍ لأسلوبِها الفظِ معها، اتّجه ليصعد بعدما غسَل يدهُ وهو يعضُّ شفتهُ السُفلى بغيظ، قدماهُ تكسرانِ المسافةَ بخطواتٍ متباعدة، وصَل أخيرًا إلى الجناحِ ودخَل وهو يُحاول أن يسكنَ حنقهُ منها ويُهدِّئ من حدةِ غضبه.
وجدها تجلسُ أمام التلفاز تُفرّغ غيظها بجهازِ التحكّم في كبساتٍ متتاليةٍ عنيفةٍ عليه، رفعَ حاجبيه بحدةٍ وزمَّ شفتيه وهو يقتربُ منها لافظًا بعنف : مافيه شيء سلم منك؟ أول شيء الرز وبعدين الريموت؟!! طبعًا وما ننسى أمي.
عقدَت ديما حاجبيها بمزاجٍ متعكّر، لم تنظر إليه وقلّبت القنوات متجاهلةً له، حينها شدَّ على أسنانه بغيظٍ ليقترب منها أكثر حتى وقف بجانبها وانتشلَ جهازَ التحكّمِ منها، رماهُ على الطاولةِ بشدةٍ وهتفَ بنبرةٍ حادة : ليه رديتي على امي بهذيك الطريقة؟
رفعَت أنظارها الباردةَ إليهِ لتبتسمَ ابتسامةً جامدةً صقيعية وتلفظَ بهدوءٍ لا يتماثل مع حدّةِ مزاجه : أي طريقة؟
سيف بحدة : ديما وبعدين معاك!! يعني ما ترتاحين إلا وتسوين عشر مشاكل في اليوم.
زفَرت بحدةٍ وقلّة صبر لتنهضَ بعنفٍ وهي تتأفأف، تحرّكت أقدامها حتى تبتعد عنهُ دونَ أن ترد، لكنّ ردّة فعلها تلك استفزّته ليُمسكَ بعضدها قبل أن تبتعدَ ويجذبها إليه بقوّة، وبحدةِ صوتهِ لفظ : إذا أكلّمك ما تلفين عني . . والنهاية معك أنتِ؟ مصرّة ما تمشّين ولا يوم بسلام!!
زفَرت بنفادِ صبرٍ ليشدَّ على عضدها بقوّةٍ آلمتها وهو يحاول كتم غيظه، تركَها أخيرًا ليتراجعَ قليلًا ويلفظَ بغضب : انقلعي من وجهي ، ومرة ثانية تحترمين نفسك مع أمي ... ما توصل قلّة أدبك معاها سامعة؟؟!
،
دخَل للمطبخِ ليجدها متجهّمةَ الملامح، تحتضنُ لقمةً في فمها وتنظُر لطبقها ببؤسٍ وقهر، عضَّ شفتهُ وهو يتمنى لو أنّها ممن يتذوّق المرَّ حلوًا إن كـان من صُنع يدِه، لكن على ما يبدو فهي قد اكتشفَت فظاعةَ ما صنعَت.
تنحنحَ وهو يخطو إلى الطـاولةِ مُبتسمًا، حينها أدارَت وجهها إليهِ وهي تضعُ الملعقةَ على صحنها وتبتلعُ اللقمةَ المحشورةَ في فمها قسرًا، لتلفظَ أخيرًا بعتابٍ مقهور : تضحك عليْ هاه؟ هذا ، هذا ، هذا وش؟!! يييييع
ضحكَ رغمًا عنهُ لتعبيرِ ملامحها الطفولية، وبأسلوبٍ تربويٍ رفعَ اصبعهُ وكأنّه يُحادثُ طفلة : لا تقولين يع، ما يجوز هذي نعمة غيرك محروم منها.
غزل بامتعاضٍ تنفخُ فمها وشعرها المُبلل يطوفُ من حولها : ما أخذت راحتي في الحمام كله من الحمـاس عشان أذوق اللي طبخته، حتى شعري ما نشفته! ارجع غرفتك لك الحق تهرب والله.
سلطان يضحَك وهو يقفُ بجانبِ مقعدها مسندًا كفه على الطـاولة : ما هربت ، بس كان عندي اتّصـال مُهم
غزل بتذمرٍ ترفعُ نظراتها إلى وجهه : لا تكذب.
سلطان يبتسم : والله ما أكذب.
صمتَ واختفَت ابتسامتهُ وهو يتأمّل وجهها المُصفّى من أي " مكياج "، بحثَ في ملامحها عن أثرٍ ما ولم يجِد، لتنحدِر نظراتهُ إلى عنقها الظاهرِ من فستانها المُشجر " الكت " والذي يصلُ إلى نصفِ ساقيها، لم يجدْ ما يُثبِتُ ما قالهُ سلمان في عنقها بعد وجهها، لذا انحدرَت نظراتهُ أكثَر إلى كتفيها، عضديها، زنديها، ذراعيها، وكانت انحداراتهِ المتفحّصة تلك كافيةً لتبعثَ ارتعاشاتٍ عديدةً متناوبـة إلى جسدها وتحشرجَ أنفاسها وهي ترى نظراتهُ تلكَ بوضوحٍ بشكلٍ لم ترهُ من قبل، بشكلٍ لم تلمحهُ في عينيه ولا تدرك ماهيّتهُ بالضبط، ضمّت جسدها بذراعيها بذعرٍ من انحداراتِ حدقتيه على جسدها ليتنَبهَ هوَ لتوتّرها واضطرابها بعدَ جرأةِ نظراته، لكن توتّرها ذاكَ لم يكُن حاجزًا كافيًا حتى يتوقّف، يُريدُ رؤيـةَ الدليلِ على حياتِها الماضيـة، الدليلَ على هذا الفراغِ الذي يسكن عينيها وهذا الخواءِ في صدرها، يريد أن يحزن عليها أكثر! ليُدرك كم أنّ حزنهُ على نفسهِ لا شيءَ أمـامَ مُصابِ غيره، يُريد أن يمسحَ كلَّ جرحٍ وآخرَ بكفيْهِ ولمسةٍ حنونةٍ منه، لا يهمُّ ما وضعهما، لا تهم كيفية علاقتهما، هو أقرَّ بأنه سيغيرها دينيًا، سيغيّر أخلاقها، ومن المُجحف في حقها ألا يلتفت لجِراحها.
مدَّ يدهُ إليها ليُمسكَ كتفيها، انتفضَت وتجمّد جسدها وعينيها اتّسعتا ناظرةً لوجههِ بذعرٍ وترقّب، بينما كان لتصلّب ساقها رأيًا بعيدًا كل البعدِ عن الهربِ الآن أمـام نظراتهِ وتلك اللمسة، ما الذي يُريدهُ بالضبط؟!!
رفعها سلطان بهدوءٍ ليجعلها تقف، انصاعَ جسدها لهُ بعد أن أصبحَ في وزنِ الرّيشة بينما عينيها المتسعتينِ بذعرٍ لم تفارق ملامحهُ ونظراتهِ إليها، شفتيها فاغرتين تناجيانِ القليلَ من الهواءِ الذي انسحبَ في شكلٍ عكسيٍ إثرَ خوفها. بينما شدَّ سلطان على كتفيها ليُديرها قليلًا حتى واجهتهُ بظهرها الذي يضطربُ بتنفسها، مدَّ يدهُ ليُمسكَ بمقدّمةِ فستانها حتى يفتح سحّابه، حينها تيقّظت ساقيها وانطلقَ صوتها في صرخةٍ مذعورة لتحاول الهربَ إلا أنّ ذراعهُ التفّت على بطنها ممانعةً لها من الهرب، مثبّتةً لها على جسدهِ وظهرها الذي ابتعدَ بمقاومتها اقتربَ من صدرِه، دفئه يصلها جيدًا لينشر رعشاتٍ عنيفةً في كاملِ جسدها وهي تقاومُ ذراعهُ القويّةَ حتى تهربَ من براثنه، لكنها لم تكُن شيئًا أمـام قوّته! لم تكُن شيئًا وكان كلُّ مافيها ضعيفًا بذعرها عدا صوتها الذي كـان يخرجُ صارخًا : ابعد عني ، سلطـــان وش تسوي ابـعــد ... اتركنــــي.
شهقَت بقوّةٍ حينَ شعَرت بهِ يسحبهُ كاشفًا ظهرها لترتعشَ ساقيها بقوّةٍ وذعرٍ وينتهي دعمهما لجسدها، ولولا ذراعُ سلطان لكانت سقطت على ركبتيْهـا بضعفها ذاك . . .
،
تعلو شفتيها ابتسامةُ صفـاء، تستمعُ لأحادِيثِ عُلا المُتخَمةِ بإطراءها لشاهين، ومن ثمَّ التذمّر منهِ في حين، كثيرًا ما تبقى معها تستمعُ لأحاديثِها التي لابد من أن تتضمّنه، من الواضِح جيّدًا مثاليتهُ في عينيها، وإن لم يكُن مثاليًا هي ستراهُ كذلك بما أنه ابنها الوحيد الباقِي، يُدللها، كما يُدللها هي، يرسمُ ذاتهُ مثاليًا في أعينِ من يُحب! تمامًا كما تراه، مثاليًا حدَّ أن مثلها لا تنفعُ له.
لفظَت علا بتجهّمٍ أيقظها من شرودها العابـِر : يبيله كف أو اثنين يخليه يعتدل ؛ لا هو ما يستحق الكفوف! أنا أعرفه ما يسوي شيء يستفزني إلا لأنه يفكر فيني * لوَت فمها بحنق * آخرتها سفرتكم لشهر العسل اللي ألغاها، شسوي بهالولد أنا!!!
اتّسعت ابتسامةُ أسيل ووأدتْ ضحكةً رقيقةً كادت تظهرُ على شفتيها الملوّنتين بملوّنِ شفاهٍ قرمزي، عيناها المزيّنتين برسمةِ قطّةٍ أضافت جاذبيةً إليها انتهاءً بشعرها الخفيفِ والمتطايرِ حول وجهها القمحي. حكّت شفتيها ببعضهما البعض والتمعَت عيناها بصفـاءٍ لتلفظَ بنبرةٍ رقيقة : وهو الصادق والله أجل تبينا نسافر ونخليك؟
ضمّت عُلا فمها للأمـامِ بدلالٍ لتلفظ : ما زعلتي؟ خفت يسبب هالشيء توتر بيني وبينك من البداية عشانه قدّمني عليك
اتّسعت عينا أسيل بذهولٍ وانفرجَت شفاهها قبل أن تهتفَ متفاجئـةً من تفكيرها : هااااو! من جدك تفكرين إني ممكن أكون بهالأنانية؟
عُلا بخجل : مو عن كذا بس مافيه عروس الا وتتمنى سفرة بشهر عسلها
أسيل تعقدُ حاجبيها : طيب أنا بكون مختلفة عن الناس وبمشي بنمط مختلف وبقضّي شهر عسلي عندك .. لا أكون ضايقتك بس وما تبيني؟!!
عُلا بشهقة : افا عليك وش هالكلام؟ إذا ما وسعك البيت توسعك عيوني.
أسيل وأجفانها تتوتّر بحرج : تسلملي عيونك
ابتسمت علا بمحبةٍ لها وهي الأنثى التي تواجدَت في حيـاةِ ابنيها معًا، قبلًا متعب، والآن شاهين، لذا كان حريًا بها أن تكُون قريبةً إليها بهذا الشكلِ وتشغُرَ مكانًا خاصًا في قلبها. همَست : الله يسلم روحك.
مضَت الدقائقُ سريعـَة، تحرّكت كلٌّ منهما باتّجاه غرفتها حتى تصلّيا العصر، سجودُها يطولُ بدعواتِها المستوجِعة، المجروحةُ بسهمٍ حادٍ نُثِرَ السمُّ على حَدِّهِ وانتشرَ في دمها ليسحبَ الحيـاةَ منها . . اللهم يا حيُّ يا قيوم، يا سميع دعائي ورجائي، يا من ألجأ إليهِ في سرّائي وضرّائي، أصلِح لي قلبي كلّه! انزعهُ مني! * تُرتِّلُ بوجع * اجعل ذكراهُ عابرة، هو يستحقُّ الكثير، فانزع حبَّ الراحِل من قلبي واغفر له وارحمه، واغفر لِي هذا الحُب الذي أخشى أن يطولني عندكَ بذَنب، اللهم يا حيُّ يا قيّوم، وفّق شاهين لكل ما يتمناه، ووفّقني لإسعاده.
استغفَرت كثيرًا وصلّت على نبيِّ البَشر، أنهَت صلاتها بالسّلامُ ومسحَت على وجهها بكفّها من أثـآرَ السمُومِ والآفآتِ فيه، آثـارَ حُبٌّ مؤذي، ولا ضررَ ولا ضرار، كلُّ ماهو مضرٌّ محرّم، ولا أريدكَ في يومٍ أن تصيرَ ذنبًا يتعلّق بنحري ويلتفُّ حينها حبل شاهين حولي بضيقي.
نهضَت لتحملَ سجّادتها وتطويها، وفي خلالِ لحظاتٍ كانت تحمِل هاتفها من على التسريحةِ وتتّجه لرسائِل الواتسِ بعد التنبيهاتِ العديدةِ التي وصلت إليها وواحدةٌ منها جاءتها من " شاهين ".
فتَحت محادثتهُ لتعقدَ حاجبيها تلقائيًا وهي تقرأ رسالته : ( ترى متضايق وواجبك تبعدين هالضيقة عني )
توتّرت نظراتها للحظة، لمَ قد يشعُر بالضيق؟ لوهلةٍ خشيَت أن تكُون هي السبب بما أنّه طلبَ منها أن تُزيحَ ضيقه، سحبَت شفتها السُفلى لداخلِ فمها عن طريقِ أسنانها العلوية، وبدأت أناملها النقر على أحرف الهاتفِ لتكتب له : ( ليه متضايق؟ )
انتظرَت قليلًا ولم تمرّ نصفُ دقيقةً حتى ردَّ عليها وكلماتهُ تنقشُ التسلية بعيدًا عن الضيق الفعلي : ( مشتاق لك )
عقَدت حاجبيها في بادئ الأمـرِ دونَ استيعاب، لكن سُرعان ما احتلّتها ابتسامةٌ واسعة والتمعَت عيناها براحـةٍ بعد القلقِ الذي داهمها، بالتأكيـدِ تكفي أذيتها السابقـةُ له، والآن هي غيرَ مستعدةٍ للمـزيدِ من سلبيتها لتنثرها على حياتِه.
بللت شفاهها وتراجعت لسريرها حتى تجلس، بدأت بالكتابة إليهِ من جديد والابتسامةُ هذهِ المرة تعلوها : ( خلصت شغلك؟ )
رد عليها بعد لحظاتٍ قليلة : ( لا )
أسيل : ( أجل وش هالإستهتار قاعد تكلمني الحين؟ )
شاهين : ( أول شيء حاليًا أنا جالس وما عندي شيء، تقدرين تقولين بريك .. ثانيًا، ليه تضيعين موضوعنا الأساسي؟ )
أسيل تتّسع ابتسامتها أكثر : ( ترى دعيت لك بصلاتي )
انتظَرت لوقتٍ طـالَ أكثر وكأنّه استلذَّ بما أرسلته إليه وما دغدغَ قلبه، ردَّ بعد ثوانٍ طويلة : ( يا بخت اسمي اللي انضم لدُعاك! )
تصاعدَت الحُمرة إلى وجنتيها، ربّما لو علمَ ما تضمّنتهُ دعواتها لكَان لهُ مزاجٌ آخرَ وردٌ آخر بعيدًا عن " يا بخت! ".
شتت تفكيرها السلبي عن عقلِها، ونظرَت لرسالته الأخرى التي جاءتها قبل أن ترد عليه : ( مودي حاليًا مود غزل )
عضّت طرفَ شفتها وكتمَت ابتسامتها : ( بيّاع كلام كالعـادة، بس أطربنا )
شاهين : ( بتجاهل حكيك ، بس ماعليه اقري كويّس وخلي حُمرة خدودك تزيد طيب؟ )
ما إن قرأت رسالتهُ حتى تضاعفَ احمرارُ وجنتها فعلًا وقبل أن تقرأ غزله، زمّت شفتيها بخجلٍ وضوّقت عيناها قليلًا بعد أن وصلت إليها أول شطرٍ من غزلِه : ( تبينها بالشعر والأدب؟ أنتِ الوزن والقافية اللي تزيّن كل قصيدة، لا! أنتِ القصيدة. )
سعُلت قليلًا وارتفعَت كفّها الأخرى لوجنتها المُحمرّة، بقيَت حدقتيها متجمدةً على الهاتفِ وقلبها يضطرِب وكلماتهُ تتدافعُ واحدةً تلوَ الأخرى لتُكثّفَ ذنبها في حقِه، لتكثّف احتقارها لذاتها، بقيَ يُرتّل كلماتٍ عليها وعيناها تقرآن ببريقٍ يخفت، بخجلٍ يتباطئُ أمـامَ خذلانها لهُ حتّى تقوّست شفتاها أخيرًا والتمع الدمعُ من مقلتيها.
( تبينها بالتاريخ؟ أنتِ الحضـارة الباقيـة في كل حدود موطني )
( تبينها بالجغرافيا؟ أنتِ التضاريس اللي انطبعَت في قلبي والمُناخ الدائِم بدفئه )
( تبينها بالرياضيات؟ أنت العدد اللي يشغر كل شيء بالحياة )
( وإذا بغيتيها بالنحو، أنت الضمة اللي تروي ارتعاشاتي، والكسرة في غيابِك! أنتِ الجمع للجمال والحيـاة )
( أنتِ بلاغتي، وكنايتي عن الحياة )
يتبــع ..
|