الجحيـــم
(86)
** لا تلهيـكم الروايـــة عن الصـــلاة **
أن نفعل من الخطايا و الذنوب مالا يعدُ و يُحصى و ننسى بكلِ برود ما اقترفناهُ من قذراة يجعلنا في يومٍ ما نرتطمُ بقاع الأرض
هذا ما حدث تمامًا حينما ذهبتُ لمقابلةِ الزائر فوجدتُ مزنة و فتاةً مراهقة ترتدي العباءة و الوشاح يغطي شعرها بإحكام بينما وجهها ناصع البياض يظهر دون أي مساحيق تجميل
قالت مزنة بابتسامة واسعة : بنتك مي
أن نرتطم بقاعها ثم نظنُ أننا لم نسمع بشكلٍ جيد , أو أننا سمعنا ما لم يُقال , أننا نتوهم
أو أننا نتمنا ما لم نسمع , نتمنا لو أن ما سمعنا باطل
إلا أن شيئًا مما تمنينا بطلناهُ يُثبتُ أنهُ حاضرًا , بصوتهِ الذي يخرج مبحوحًا مهتزًا
ممتلئًا بالكثير من المشاعر المتناقضة و المتفاوتة ما بين الحنين و البغض
صوتًا يُعيدُ الصور و يُثبتُ أنهُ حقٌ لا باطل
صوتٌ نطق فقال : أنا مي من شكران
شكران ؟ من كانت شكران في حياتي سابقًا
راقصة ***** أأخذُ منها ما أريدُ من شهوةٍ و نزوة و أُغدقها بالمال
هذهِ رؤيتي لأمثال شكران و غاب عني حينها أني أنا لا أختلفُ كثيرًا عن هذهِ البيئة
فأنا منهم أغدقُ المال لأنال الشهوة بدمٍ بارد و روحٍ جامدة
أعتنقُ الاسلام اسمًا و لا أتقيدُ بشيءٍ منه
و خطيئتي السابقة أرادت أن تُثبت ذاتها في حاضري أن تحكي لي عن ابنة جاءت بالحرام
عن ابنة حرصتُ يومًا أن تموت قبل أن تولد فوسوستُ لشكران بما يدورُ في ذهني بأنها قد تكون ممن رميتُ بها عليه
نعم رميتُ بمن أخذتُها بعقدِ زيجةٍ باطل في أحضانِ رجلٍ غيري و نظرتُ لها كالديوثي بلا أدنى احساس
بكت حينها و ترجتني أن أتركها أن لا أجعلهُ يقتربُ منها لكني لم أرحم ضعفها و بعتُها بأرخصِ الأثمان
لكني اليوم أدركتُ أنها فتاتي و مني من هذهِ الملامح الجلية ففيها مزنة و فيها أنا و فيها وطني و في لونِ بشرتها مصر و شكران
نعم هذهِ الماضي الحاضر , هذهِ عقابي و جحيمي
مي جحيمي الذي عليَّ أن أحتويهِ و أضمهُ لي و إن كان جحيمي
عليَّ أن أحرصَ عليهِ و إن كان يُذكرني بقذراتي
عليَّ أن أدخلهُ لقلبي و إن كان يحرقني بلا رحمة
مي من أتيتُ بها بالحـ
حتى الحروف تعجز عن النطق , من أتيت بها في غفلتك و تعودُ إليكَ في يقظتك
لتكون حسرتك التي لا تنتهي لتكون الأمنية التي ما توجت بما يرضيهِ جلَ جلاله
لم أشعرُ إلا بضرباتها و هي تنتثرُ في صدري بكلِ قوة بصوتها الذي يتعالى
بشهيقها بضعفها و هوانها بروحها الممزقة
تحكي لي أن لا ذنب لها
سوى أني جلبتُها للدنيا في غفلةٍ مني
تحكي لي كم أنها مظلومة و كم ظلمتها
تحكي لي أنها نزوتي لكن الحياةَ لم تكن نزوة
كم بكت , كم تمنت أنها لم تلد
كم قذفوها و كم تحملت
: أنا بكــــــرهـ........ك بكـ.....رهـ...ك إنتا مش انسـ...ان , يالتني ما اتولـ....دت يارب خـ...دني لعندك واللهي تعبت تعبت أوي , أنا بكـ..ره كل حـ...اجة فينـ..ي
لما أبص لنفسي في المرآية أحـ...س إنـ..ي غلـ..طة في الحيـ...اة محدش بيحبـ...ها و محدش بيتمناها أحس إنـ...ي رخيصة أوي و أنا معملتش حـ...اجة بكره نفسـ...ي بكـ...رها
ايـ...ـه زنبي دايمًا بسـ..أل نفسي السؤال ده , أنا ايه إلي عملتو علشان يصير فيني كده , أنا ليه حظي وحش كده , أنا ليه و ليه , و بعدين بكل بساطة أجاوب نفسي بنفسي
لأنو بابا انسان وسخ .. لأنو بابا ماكنش عاوزني .. لأنو بابا معملش في حسابو إني هجي للحياة .. لأنو بابا ما فكرش بحاجة إلا شهتو و نفسو
ما فكرش بربو و لا دينو و لا حتى ضربية وساختو , لأنو أنا مكتـ..وب و مقـ...در ليا أكون بنت واحد مش مسؤول , مكــتـ...وب ليا أبتلي البلاء ده و لو نجحت في صبري عليه فربي بيحبني
الله بيحني علشان كده امتحني فيك و أنا لو نجحت في الامتحـ...ان ده هكون نجحت في رضى ربنا , ربـ...ك إلي و لا يوم فكرت في رضاه هتوئف في يوم ئداومو و هيسألـ..ك و هيحاسبك
بإيـ..ـه هتجاوبو ساعتـ...ها ؟!
و حملت ذاتها و راحت راحت للبعيد
و آخر ما رأيت نظرةَ الخذلان بعيني أختي مزنة
التي ظنت أن مي ابنة حلال
أختي التي رمتني بنظرة كانت كنصل السيف
الذي قضى على ما تبقى مني بعد وقعِ كلماتِ مي علي
ما تبقى لي أحد , فقد خذلتهم
و ها هم يرحلون دون الرجوع
ما تبقى لي أحد
راحوا و بقيتُ وحيدًا بلا قريبٍ و لا أنيسٍ و لا جليس
راحوا حتى دون الوداع
فحتى الوداع لا يرضى أن ينحني لي
حتى الوداع يرى أني لا أستحقه
و ها هي نار الجحيم تحفني بلا رحمة .
***
ما استطعتُ استيعاب دناءةَ اخي هزاع , حتى آتني الخبر الذي دمرَ وحطم ما تبقى بي من قوةٍ و ثبات
حسناء صديقتي التي أفتقدتُها سنينًا و ما وجدتُها إلا بعدما سرقنا العمر
مُصابة في المشفى , حادثُ سير
فورَ بلوغ الخبر لي , طلبتُ من زوجي الذي يقودُ السيارة للمنزل أن يتجه بنا إلى المشفى المقصود
و توجهنا إلى المشفى دخلتُ كالمجنونة لا أدري في أي سبيلٍ أذهب فقط أتحرك و لولا الله ثم زوجي
لطرقتُ الأبواب بابًا بابًا باحثةً عنها
تحدث إلى الاستقبال و علم منهم رقمَ الحُجرة و توجهنا مسرعين إليها و قد مضى على الحادث ساعتين ونصف
و فورَ وصولنا كان الطبيبُ يخرج من حجرتها
تقدمنا نحوهُ بخطواتٍ سريعة و بادرتُ بالسؤال بخوفٍ و هلع : شخبارها حسنا ؟
فقال بدبلوماسية و رسمية : الحمدلله بخير , لكن للأسف فقدت حركتها , جاها شلل سفلي , أبغى أحد يتفضل معاي أشرح له التفاصيل .
شلل سفلي , فقدت الحركة , يالله يا حسناء فقدتِ نعمةً أخرى
كيف لكِ أن تصبري , و كيف لي أن أشدَ من إزركِ و أنا التي أشعرُ بالضعفِ و الهوان
يالله يا حسناء كأن كل جميل بكِ يُقابلهُ نعمة مفقودة
أخلاقٌ و جمال , و نعمٌ شحيحة عليكِ
توجهتُ للحجرة بينما راح زوجي مع الطبيب
دخلتُ لأجدها تستلقي على السرير و عيناها للسقف
ابتسمت حينما رأتني و رفعت جزءها العلوي الشيء الوحيد الذي يتحركُ بها
حاولتُ ردَ الابتسامة لكن الحزن قتلها قبل مولدها
قبلتُها في رأسها و جلستُ على الكرسي المجاور بعدما سحبتهُ و وضعتُه جوارها تمامًا
حاولتُ التحدث معاها بما أعرفه من لغةِ الإشارة
لأتفآجأ أنها أكثرُ صبرًا مني و أنا التي لم يُصبها مكروه
تقول الحمدلله فقد وهبها اللهُ الحياة رغم أنها كانت قاب قوسين أو أدنى إلى الموت
تسألني عن صغيرتها مارسة و التي لا علم لي بحالها
فمن أبلغني بالحادث كانت خادمةَ و مساعدةَ حسناء على الحديث و المنزل و كل شؤونها
و قد علمتُ منها أن حسناء رمت بذاتها لتُنقذ مارسة فعيبٌ على مارسة عدم الحضور
عيبٌ عليها و إن كانت تبغضُ والدتها فعلى الأقل هي ممتنة لها و عليها الحضور
أخرجتُ هاتفي من الحقيبة لأتصل عليها لكنها اتصلت قبل اتصالي
فرفعتهُ بسرعة حتى تدخل السعادة قلب حسناء و هي ترى اسم فتاتها يُضيء الشاشة هي لا تجيدُ القراءة بما أنها في الأصلِ لا تتحدث
ولكني حاولتُ إيصال المعنى لها بالإشارة بأن فتاتها المتصلة
فابتسمت بسرور و تعلقت عيناها بي , رددتُ على الهاتف
*
هيَ ضحت بحياتها لأجلي , بينما أنا أقطعُ الشارع بذهنٍ غائب
هيَ رمت بذاتها بالجحيم , بينما أنا ركلتُها من حجرتي
هيَ قالت ابنتي , بينما أنا لم أقل أمي
هيَ جاء الإسعاف لاصطحابها إلى المشفى بينما أنا استلقيتُ على سريري
هيَ ذهبت إلى مصيرٍ مجهول حياةً أو موت
بينما أنا أستلقي بكلِ جمود بلا مشاعر و لا إنسانية كأنها ليست بأمي ليست بجنتي
هيَ حسناء البكماء التي ما استطاعت تحذيري فألقت بذاتها للجحيم
هيَ من استنقصتُها كانت الأكثر شجاعة و تضحية لأجلي
هيَ وحدها من اختارت و أرادت هذهِ النهاية
فلمَ لحقتني و أنا الحظُ السيء في الحياة
ماذا أرادت من غرابِ الشؤم ؟!
تستحقُ ما حدث فما وقعت بهِ نتيجة فضولها
نعم أنا لا ذنبَ لي , و هيَ التي أرادت أن تُضحي بذاتها لأجلِ شؤمِ الحياة ولها ما أرادت
سأتحدثُ إلى مزنة فقط لأتأكد من كونها حسناء الحمقاء فقط لهذا لا شيءٍ آخر
اتصلتُ عليها و انتظرتُ قليلاً من الوقت حتى ردت بصوتٍ باكي جعل جسمي يقشعرو أطرافي تتصلب و سمعي يذعن و عيناي تتوسع و الحروفُ تتحجر
فقالت مزنة : نعم يا مارسة , إذا بنسألي عن وميمتك فحسنا محتاجتك يا مارسة لا تقسي عليها فقيدة سمع و حركة
حركة لقد فقدت حركتها فوق فقدانها لسمعها و الكلم
ما تبقت لها سوى نعمة واحدة البصر وحسب
تابعت مزنة : جاها شلل سفلي جاها الشلل الغالية , ارحميها يا المارسة ولا تزيديها وجع هاذي وميمتك جنتك و نارك , رمت بنفسها لجلك كان ممكن تكوني بمكانها لكن هذاك بخير
و بدل ما تكوني جنبها إنتِ بعيدة يمكن لو شخص غريب ضحى بنفسه لجلك بتوقفي بجنبه لكن لأنها وميمتك ما حنيتي !
أغلقتُ الهاتف لا تُتابعي يا مزنة فهذا مبدئي ولن أتراجع من تخلى عني طفلة لا يستحقُ مني سوى القسوة و الفراق
لا تنتظري أيتُها الحمقاء شيئًا مني فهذا ما أردتِ و لكِ ما تستحقي .
*
تفآجأتُ من حجم الجمودِ الذي بداخل مارسة هذهِ والدتها و لا تشعر
و لم أستطع حقيقةً أن أُعطي الحقيقة لحسناء الصماء التي ما سمعت الحوار الذي دار
لذلك لم أستطع إلا أن أقول لها كذبًا بأن مارسة تحمدُ الله على سلامتها
سامحيني يا حسناء على كذبي
لكن لا أستطيعُ قول الحقيقة المره
و يالله كيف لي أن أصف مقدار سعادتها
فقط لأجل جملة بسيطة كأنها امتلكت الأرض بما فيها من كنوز .
***
و مضت الأيام السبعة التي كان يخافها بدقائقها و ثوانيها , يعدُها عدًا و كلما مضت دقيقة اقترب الأجلُ دقيقة
و مضت أربعة خطوط و الخامسة تُغلق الحزمة و خطين بالجوار
و صوتُ السجان مناديًا : ربيع و جهاد العدل
قمتُ واقفًا بثبات فأنا أعلمُ أن هذا يومي و لا مفر فلمَا الخوفُ و الذعر ؟
بينما جهاد لم يحرك ساكنًا , هززتُه من كتفه برفق مناديًا : جهاد يلا ئوم وائف .
و كأن لمسة يدي كانت التنبيه الذي جعلهُ يستيقظ من الغيابِ للوجود الذي سيجرهُ للغيابِ قسرًا
لم يتحرك قط إلا أن جسدهُ يهتزُ اهتزازًا واضحًا للعيان , ينتفضُ هلعًا من حتفه
هلعًا من الحبل الذي سيطير بروحهِ للبعيد
انخفضتُ بجسدي للأرض وبصوتٍ حنون : جهاد , احنا عارفين انو ده الي هيحصل , ليه الخوف ؟ , احنا فوزنا و هنموت فايزين ادحك مالوش داعي الحزن ده .
مددتُ يدي إلى كتفه لأمدهُ بالقوة و الثبات
في حين تقدم السجان للأمام و هو يقول بقلةِ صبر : يلا ما تئوم و تخلصنا مش فاضي لك .
وضعتُ يدي على ذراعهِ أحاول رفعهُ عن الأرض لكنهُ تشبث بها و كأنه صار من جذورها لا يُنتزعُ بسهولة
فتقدم السجان بسرعةٍ هوجاء و راح يسحبُ جهاد من يده إلا أن جهاد لم يتحرك قدر أنملة , فأخذ يركلهُ بقدمه
و قفتُ ما بين السجان و جهاد و دفعتُ السجان للوراء و أنا أصرخُ عليه : ملكش حق تمد ايدك عليه
ضحك بسخرية و أشار بعينهِ للسجان الذي يقفُ على الباب فتقدم هوَ الآخر و أخذ كلاً منهما يضربون بنا متجردين من معاني الإنسانية
بكل قسوة و كأننا كالحيوانات لا نشعر أنا رجلٌ في أوآخر عمري و جهاد وحدهُ لا يستطيعُ مجابهتهم و خاصةً بحالهِ هذهِ
ركلوا ما ركلوا و ضربوا ما ضربوا لكموا حتى شُوهت الوجوه و قذفونا بأقدامهم حتى عجزت الأقدام
و لفظت أفواههم من بذيء الكلماتِ ما لفظت , هذهِ بيئة السجن
البيئة التي يُعاملُ بها المجرم كالحيوان
هو معاقبٌ بالبقاءِ بالزانزانة إلى حينٍ إشعارٍ آخر , و ليس بالضرب و الإهانة
لكن و لأنهم من الأمن يظنون أن لهم أن يعثون في البشر كما أرادوا
فليس لهم رقيب و المجرم مجرم و إن كان مظلومًا
سُحبنا من ثيابنا على الأرض بين الأزقة رآنا من رآنا ولم تتحرك مشاعرُ أحدهم للنجدة
فكلهم بلا استثناء مجرمين يدعون الصلاح
هم هكذا بنو البشر ما أن يملكوا الأحقية بشيء حتى تقسوا قلوبهم و تتحجر
و انتهى بنا المطاف أمام حبلِ المشنقة بكا جهاد لفرطِ خوفه بكاءً شديدًا ولم يرحم أحدهم ضعفهُ و وهنهُ
بل زجروه و نعتوه بأسوءِ الألفاظِ و أقذرها , ضربوه حتى اختفت معالمُ وجهه
عذبوه قبل الممات و سيعذبوه على الحبل حتى تغيبَ روحه
ما وقفنا فوقهُ و سيسحبُ من أسفلنا , الحلقة التي أُدخلنا بها رؤوسنا
و أصواتهم البذيئة آخر ما نسمع
السجانان اللذان تنحا جانبًا , وقاسيا القلب من يقوما بالإعدام يقفنا من خلفنا
الروح التي تشتاقُ للحياة
الجسد الذي يشتاقُ للروح
الدمعة التي خرجت من محجري رغمَ ثباتي
و رؤيتي لجهاد و هو ينتفضُ و يبكي يتمنى لو يتغير أجله في آخرِ لحظة
و كأني أقرأُ في عينيهِ الندم قبل أن تنطقَ شفتيه : يالتني ما سمعتك , ياليتك مت ئبل ما تكلميني يالتني أنا إلي مت ئبل ما أروح برجولي للموت .
و كانت كلماتهُ السيف الحاد الذي شقَ قلبي فهدم كل ثبات
ليتنا لم نفعل
ليتنا لم نكن يومًا سببًا في قتلِ أرواحٍ بريئة بالمخدرات
سببًا في كراهية الابن لوالدته
سببًا في بيع الأخ لأخته مقابل المال الذي سيدفعهُ لما سيعجلُ من أجله
ليتنا محينا فكرة الثأر , ليتنا عشنا بصفاء
ليتنا لم نفعل حتى لا نقف ها هنا
ليتنا و ياليتنـ
و سُحب من أسفلهم ما كان يرفعهم
فأرتفعت أجسادهم و انتكست رؤسهم
و سافرت أرواحهم لباريها
يوم يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا .
***
و كان لي ما أردت بعدما قال الرحمن كن فكان , بعدما تحدثتُ مع القاضي بعدها بمدة اتصل عليَّ يُبلغني بأن الدعوة سترفع غدًا في الظهيرة
أي اليوم و بهذا الوقت , و ها أنا ذا أخطو خطواتي في أزقةِ المحكمة حتى وصلتُ إلى المكان و وقفتُ بالخارج حتى يتم استدعائي
داعيًا الله مرتجيه بأن تُخفف العقوبة على صغيرتي و يتمُ نقلها للسعودية حتى يتسنى لنا زيارتها في كلِ وقت
اللهم بقوتك وعزتك وجبروتك اللهم يا حي يا قيوم
فكّ قيد ابنتي اللهم يا مجيب الدعاء خفف عنها يا أرحم الراحمين
اللهم استجب لي يا نعم المولى ونعم النصير ,وعجل عليها بالفرج ,بجودك وكرمك,وارتفاعك في علو سمائك يا أرحم الراحمين, إنك على ماتشاء قدير
و لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين
*
ما أثار عجبي رفع الدعوة تارةً أخرى بعد صدور الحكم ! , و قد علمتُ أن أصل وراء ما حدث و قد جاء اليوم بما وعد
اليوم سأعرف من يكونوا عائلتي , اليوم سأراهم و أوبخهم اليوم سأقفُ أمامهم و أعاتبهم و أُلقي كل اللوم عليهم لأنها الحقيقة فكل اللومِ عليهم
هم من تركوني لمن لا رحمةَ لهم , لأُنسان لا إنسانية بهم ربوني أسوأ تربية
جعلوا مني قذراة و نجاسة , حان اللقاءُ و الحساب
حان اليومُ المنتظر , وبدأت مراسم الدعوة مع القاضي و المحامي إلى الشاهد
إلى اسم أصل الحكمي الاسم الذي تم نداؤه بالمرة السابقة لكنهٌ خذلني ولم يحضر
لكن اليوم خرج الضابط مناديًا : أصل الحـ
و قبل أن يُكملها كان أصل يخطو خطواته الثابتة بوقار و يقفُ على الجانب المخصص له
و وقف الجميع للقسم , فأقسم أنهُ سيقول الصدق ولديه دليل
و بدأ حديثهُ و هو ينظرُ لي نظرةً عميقة و أنا متمسكة بالقضبان بشدة
نظرة لم أعرف معناها نظرة خالطتها لمعة و كأنها دمعة تريدُ التمرد و الخروج
نظرة جعلتني أتمنى أمنية استنكرتُها بشدة جعلتني أتمنى لو أقف أمامه و أقولُ لا تبكي و أن أمنع نزولها
لكنها نزلت نزلت , و اخترقت دواخلي اخترقت مي أم أنهار لا أدري
اخترقتني بكلِ قوة حتى ارتجفت شفتاي بدايةَ بكاء لسببٍ ما لا أعرفه
لأن شخصًا في يومٍ ما كان عدوي أدمعت عيناه اشتاقت عيناي للبكاء لأجله !
بدأ حديثهُ ببحة لآمستني من الوريدِ إلى الوريد , عيناه لازالت تنظرُ لي و كأن لا أحد سوانا ها هنا : مي يوسف مصطفى العدل , مثل ماوضح المحامي تربت في أسرة ما هي أسرتها
و إلي يأكد كلامي الورق إلي معاك يا حضرة القاضي , مي بنت سعودية أخذتها العصابة و ربتها حتى يجي اليوم إلي توقف فيه مع العصابة ضد عيلتها
قال قال عائلتها عائلتها !
بلى قال عائلتها , قال عائلتها !
*
: مي بنتي و مالها ذنب بكل إلي صار , مـ...ي ......
حاولتُ التقاط أنفاسي و استجماع حروفي لكني بكيتُ أمام الحضور دمعةَ رجلٍ لا تُذرف إلا لشدة
بكيتُ و أنا أرى صغيرتي تتمسك بالقضبان تتقدم بجسدها للأمام و تعودُ للخلف وهي تبكي بكاءً مريرًا , تضربُ جبينها بالقضبان حتى صار شديد الإحمرار
بكيتُ و أنا أُطأطأُ رأسي للأسفل و أجفاني تُعانقُ عيني لتحبس الدمع شفتاي تنتفضُ بشدة
و الحروف تأبى الخروج في يومٍ جمعني بابنتي على أرضِ المحكمة هيَ من وراءِ القضبان و أنا أقفُ شاهدًا
على ذنبٍ لا هوَ ذنبي و لا ذنبها
: مـي بنتـ....ي بنتـ....ي و مثل ما قدامك بالورق أنا فقـ...دت الذاكـ...رة من قبـ...ل لا تـ...ولد للحيـ..اة و مارجعت لي إلا بعد كل هالسنيـ...ن و هذانـ...ي اليوم جيت ... جيت أخرجـ...ها من مصيبتها .
أنهيتُ حروفي و راحت عيناي تُسافر حيثُ صغيرتي من وراءِ القضبان
آهٌ يا صغيرتي لو بيدي إذابة القضبان و أخذكِ معي للبعيد إلى حياةٍ تليقُ بكِ
آهٌ يا صغيرتي و عشراتُ الآهاتِ لو تعلمي ما يشعرُ قلبي اتجاهك
لو تعلمي من تكوني أنتِ في قلبِ والدك
لو تعلمي مدى قهري عليكِ
لو تعلمي أنهُ لو بيدي محوَ كل المآسي لمحيتُها
لو بيدي محوَ الماضي و جعل البداية من اليوم الذي ستكوني بهِ خارج القضبان لبدأنا منه
لكن ليس بيدي سوى النظر لكِ عن بعد و أنتِ تنزفي ألمًا
انتقل القاضي إلى المحامي الذي طلب ما أريده : يا حضرة القاضي لو أن بالإمكان نقل الجانية مي العدل إلى السعودية حتى تكون قريبة من عائلتها بعد أن سرقت السنين منهم القرب , و ذلك لأنها وكما
كان لها اليد في أذية مصر قد آذت السعودية وللسعودية كل الحق في أسرها كما لنا من الحق , و كما نريدُ تخفيف العقوبة عنها لسبب الذي ذكره الشاهد فقد ربتها المنظمة على العداوة بقصدٍ و عمد
و الفتاة مي لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها أي لازالت في عمرٍ صغير و كما تتفقُ البنود أن المراهق ما دون التاسعة عشر يُخفف عنهُ العقاب لصغرِ عمره , و أنا أعلم أن مي قد تجاوزت الثامنة عشر
ولكن لم تتجاوزها سوى بسنةٍ واحدة وما هي عليهِ من تربية المنظمة لم يجعلها تراجع أفكارها لصغر عمرها فنريدُ منكم تخفيف العقوبة لسنة واحدة وفقًا للمادة الثالثة و الثمانون بعد المائتين في تخفيف العقوبات .
صمت القاضي هنيهةً من الزمن و من لفظ حكمه و عيناي تقرأ الحرف قبل خروجه " حكمت المحكمة على الجانية مي يوسف العدل بالسجن سنة واحدة وفقًا للمادة الثالثة و الثمانون بعد المائتين و نقلها إلى المملكة العربية
السعودية لإكمال عقوبتها , رُفعت الجلسة .
الحمدلله الحمدلله الحمدلله
سجدتُ للهِ شكرًا في ذاتِ مكاني على أرضِ المحكمة سجدتُ لهُ سبحانه و تعالى من قال كن فكان
الحمدلله الحمدلله الحمدلله
و ما أن رفعتُ من سجودي حتى رأيتُها أمامي تمامًا بالأغلال الحديدية على يمنيها سجانة و على يسارها أخرى
بدموعها بإحمرار وجهها بإرهاقها
فتحتُ ذراعي لها , حتى صارت في أعماقِ أعماقِ قلبي
أحتضنتُها بشدة و هي تردد :بـ...ابـ...ا ,, .بـ...ابـ........ا
قبلتُها في رأسها و استنشقتُ عبير شعرها و دموعي تُخالط خصلاتها
صغيرتي الحمدلله الذي مدَ في عمري حتى أراكِ يا صغيرتي
صغيرتي سأحاولُ أن أكون لك الأب و الأم و كل السنين الماضية
سأبدأُ بكِ طفلة فمراهقة فناضجة
سنبدأ من الصفر حتى نصل لما يريدُ كلانا
حاوطتُ بيدي خديها و دموعها تشقُ الطريق بيدي و بحنانٍ أبوي : بنبدأ من جديد , بننسى كل شي بنبدأ من أول جديد
عادت برأسها لصدري و طوقت بيديها خصري و هيَ تشدني إليها و تغمرُ رأسها بصدري أكثر فأكثر
و تبني لها في قلبِ والدها قصرًا يُجاور قصور أخواتها و أخيها .
***
بعدما عاد ناجي من عملهِ الساعة الثانية ظهرًا لتناولِ طعام الغداء كالعادة , جلسنا مقابلين لبعض أمام مائدةِ الطعام في صالةِ جناحنا الخاص
مدَ يدهُ واحتضن يدي بين يديه بحنانٍ و رفق : كيفك الحين ؟
ابتسمتُ لهُ براحة : الحمدلله و اتخذت قراري
ركزَ عينيه علي و أذعن السمع و شدَ من احتضانه ليدي و بتوجس : وش هو قرار قارورتي , معزوفتي و مهجة روحي وبهجتها ؟
اتسعت ابتسامتي و أنا أتقدمُ بجسدي للأمام : بننسبه لخالي عبدالقوي رضا ربي أهم من كل شي و إن شاء الله ربي بيرزقنا بالذرية الصالحة
طبعَ قُبلةً عميقة براحةِ يدي , و نظر لي نظرة جعلتني أطمئن و استعد لمستقبلٍ مشرق : بإذنه تعالى ربي بيرزقنا بالذرية الصالحة و تلاقي عيالنا يجرون حولنا و تطفشين منهم لدرجة تقولي
يالله كيف في يوم كنت غبية و أبغاهم .
ضحكتُ على تعبيره و معالم وجههِ و هو يتحدث و شاركني الضحك
و كأننا بهذا اليوم ولدنا من جديد أو السعادة ولدت في حياتنا اليوم
رغمَ أن لا شيء قد تحقق ولكن حسن الظن بالله كان يكفينا عن كلِ مُجاب
و حينما توقفنا عن الضحك تناولتُ كأس العصير و رشفتُ منهُ و وقعت عيني عليه و هو ينظرُ إليَ بنظرةٍ لعوب نظرة خبيثة أفهمها جيدًا
رفعَ حاجبهُ و لوى شفتيه و عينيهِ تلمعُ بخبث قبل أن ينطق : أنا أقول يعني برأيي بما إننا مستعجلين بسالفة الأطفال لو نشد حيلنا شوي يعني من سبعة لتسعة مرات في اليـ
*
و قبل أن أُكمل جملتي غصت بالعصير و أخذت تسعلُ بشدة وقفتُ خلفها بسرعة وضربتها بظهرها حتى هدأت و أخذت تجمعُ أنفاسها
فضحكتُ على حالها و خجلها و فزعها مما قلت بصخب
وقفت من على الكرسي و مشت تتجاهلني نحو حجرةِ النوم و هي تتحلطمُ قائلة : ما يشبع وسخ يارب مايشبع
مشيتُ حتى أصبحتُ و راءها تمامًا و احتضنتُ خصرها بين يدي و أنا أغمرُ رأسي برقبتها الشامخة الطويلة و اشتمُ رائحتها المحببة لقلبي
و من ثم أستديرُ بها اتجاهي و أغيبُ معها بقُبلة عميقة شاركتني عمقها و إحساسها بكلِ عطاء
وضعتُ يدي أسفل فخذيها و أنا أرفعها عن الأرض و أمشي بها لحجرةِ النوم : لابوك لابو الغدا .
***
ها نحنُ مجتمعين على مائدةِ الطعام بتمامِ الساعة الثانية و النصف ظهرًا , و كالعادة أجلسُ بالمنتصف ما بين والدتي و والدي
و على الطرفِ المقابل تجلسُ ميساء مقابلةً لي و على الطرفِ الأيمن ياسر و الأيسر ديما و بجانبها أختي التي تعاديني
قد اكتسبتُ كامل الأسرة أمي و أبي ميساء و ديما و حتى ياسر سواها هيَ
طلبتُ من أمي الليمون لبعدهِ عني
و قبل أن تمدَ أمي يدها لليمون كانت أختي لمياء قد أعطتها إياه !
و هذا فعلاً أثار عجبَ الجميع على المائدة فلمياء إن كان الأمر يتعلقُ بي لا تتدخل مطلقًا و لا تقدمُ أي مساعدة و حتى إن أمرتها أمي بذلك ترفض لأن الأمر يتعلقُ بي
أكملنا طعام الغداء على خير , و قامت أمي و ميساء برفعِ الأطباق عن المائدة بينما راحت ديما إلى حجرتها للعبِ بالدمى كعادتها
و أبي يُتابعُ الأخبار بالصالة , أما أخي ياسر فكان يستعدُ للنادي فبعد صلاةِ العصر مباشرة يبدأُ دوامه
أما أنا فقد قمتُ من على المائدة لأُشارك أبي الجلوسَ في الصالة و متابعة الأخبار
و لكن قبل وصولي للصالة استوقفتني لمياء بصوتها و لأولِ مرة بصوتٍ هادىءٍ لا هجومي : أغيد
استدرتُ بجسدي إليها و ابتسمتُ لها بالرغم من كل ما تفعل فهيَ تبقى في عمرٍ صغير
فطأطأت رأسها و احمر وجهها بخجل و نشبت أصابعها ببعض : أنا .. يعني .. أنا آسفة يا أغيد , و شكرًا لإنك ساعدت ياسر .
نعم فلمياء كانت الأقرب لياسر و كان كلاهما لا يتقبلاني مهما فعلت
اقتربتُ منها و وضعتُ يدي على كتفها احتضنها لي و قد كانت أمي تقفُ على باب المطبخ تبكي و تبتسم بآنٍ واحد .
***
قبل صلاةِ العصر بساعة , خرجتُ من المنزل ترجلتُ سيارة السائق الذي قادني حيثُ يكونُ
باتر أحلامي و طفولتي قبل يدي , قد حان يومُ الحسابِ و العتاب
هذا من بتر يدي بدمٍ جامد , بقلبٍ قاسٍ , بضميرٍ ميت , و روحٍ تعبدُ المال
ها أنا أقفُ في انتظاره و ما أن سمعتُ ضربَ الخطوات على الأرض حتى رفعتُ عيني إلى أصحابها سجانان و بالمنتصف
من ظننتُه في يومٍ ما أبي وما هوَ أبي بل هوَ ذاته سارقُ سعادتي حمدان الوغد
اتسعت عيناهُ فورَ رؤيتهِ لي لكن سرعان ما طأطأ رأسهُ أرضًا و ما أن تركاه السجانين و صار أمامي
حتى أمرتهُ بصوتٍ جهوري : ارفع راسك
قليلاً من الوقت و رفع رأسهُ
فبصقتُ في وجهه
***
إنتهى الجحيم
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
كونوا بخير $