الجحيـــم
(80)
** لا تلهيـكم الروايـــة عن الصـــلاة **
الساعة الرابعة و النصف عصرًا , أجلسُ في الصالة مع هوازن نتبادلُ أطراف الحديث حتى وقفت هوازن و هيَّ تقول : بروح لعزوف الحين و بكلمها .
أومأتُ برأسي بالموافقة و القبول
قُرع الجرس فتوجهت إحدى الخادمات نحو الباب و توقفت هوازن في مكانها دون حراك بفضولٍ و تساؤل من الطارق
طال وقوفُ الخادمة عند الباب و من ثمَّ توجهت إلينا و هيَّ تقول : ما يعرف مين , رجال عجوز
نظرتُ إلى هوازن أُبادلها الحيرة قمتُ من على الكنبة متوجهة نحوَ الباب أرفعُ الطيلسان و أغطي بهِ , و أغطي وجهي بالخمار
فنحنُ في الدور السفلي نضطر للجلوسِ بحجابنا خوفًا من دخول من لا يحلون لنا من أبناءِ خالنا عبدالقوي
مشيتُ نحو الباب و هوازن من خلفي وقفتُ أمام الباب و استقرت عيناي على الرجلِ العجوز و نطقت شفتاي بلا إدراك : يبــــــــــــــــــــــــــــه
لكنهُ لم يكن صوتي فقط بل كان صوتُ هوازن يتجانسُ مع صوتي بذاتِ الكلمة التي ماتت منذُ سنين
الكلمة التي دُفنت في الضريح و صارت نسيًا منسيًا , الكلمة التي ثقُلَ نطقها على اللسان رغمَّ اللوعةِ و الشوقِ لها
الكلمة التي خرجت من اللسان خفيفة حينما ترجمت المقلتين وجودهُ بعد تسعةَ عشر عامًا قاربت العشرين
هذه الكلمة التي انتهت و سكن الصمتُ المكان , ماتت كل اللغاتِ و الأحرف ما تبقى سوىَّ لغةِ العين
التي تلفظُ سنين اليُتم و الحرمان الشجن ِو الشجى
في ليلة اندكت فيها الافراح و تهمشت صارت الدنيا ظلامًا دجيًا , عتمة حالكة ليل نهار
حتى الشمسُ في حضورها كسوفٌ دونكَ يا ضوءَ الحياة , بريقُ النجمِ باهتًا يخجلُ الإنعكاس ليهب القمر نورًا في غيابِ شمسِ الحياة
ليلة أخذتك كحلمٍ طال إنتظاره , أمنية نتوقُ لها لكنها صعبةُ المنال , سرقتكَ من حياتنا عنوة لتكون معجزة لا حلَ لها سوى الدعاء
ليلة حملت أمي في التابوتِ نحو الضريح فكانت جسدًا غادرتهُ الروح
ليلة نثرت التربة على وجهِ أختي الطهور فكانت طيرًا في الجنة
أي ليلة هذهِ التي غيرت حياتنا من جذورها
من أطفالٍ في رغدِ العيش و نعيمهِ إلى يتمياتٍ في شظف العيش و تقشفه
أبتي يا معجزةً تحققت غِبُّ العطبِ في سنينٍ عجاف
لا تفصلنا سوىَّ خطوة إن خطوناها شُيدَّ بناءُ اللقاء
لكن ما بالها الأقدام تهدجت كهدجِ الظليمِ و المسنِ عن الحركة
و العينين تعانقت عناقَ الأسيرِ للحرية
أي قوة قد تدفعُ الأقدام خطوة للأمام و تُجبرُ العين على الإلتحام الجبينُ بالجبين
و العقلُ لقلبهِ و القلبُ لصدرهِ فالحياةُ ما كانت حياةً كما تظهر للعيان
قد كانت موتًا في الحياة , أنتَّ نبيذُ الحلال الذي مهما سقت أفواهنا منهُ ما بلغت البطون
باتت القلوب أعوامًا على الطوى , بعدما اُنتُزع قلبك من صدرونا فوقعنا في عرضِ الحتوف على نصلِ الفيصل ِ
اسقنا يا أبتي كأسًا من بئرِ المنهلِ , فلقد تلوثت أفواهنا من نقيعِ الحنظلِ
داوي جراحًا لم يداويها الدواء ولا نباتُ الحرملِ
*
طال حديثُ العين عن الكلمة التي دُفنت لتعودَ للحياة
عن اللية البائسة التي سرقت الجميل و وهبت كل قبيح
عن القدم التي تصلبت و ارتعدت منتفضة كمريضٍ عاجز
عن الموتِ في الحياة عن العلقم و الزقوم
و عن خطوة تفصلنا عن الأمآن و الظمأ و الإمتلاء
من سيخطوها يا ابنتي لم أعتقد أنها صعبة لهذا الحد
أنها أصعبُ من كلِ المصائب التي واجهتني
خطوة تخاف أن تكون في بلدِ السراب تخافُ أن تكون اختلاق الأسير حكاية الحرية , توهم الظمآن للماء
لكني و بالرغمِ من خوفي رفعت أقدامي للأعلى لتهبطَ أرضًا و تقطعَ عَقدين قاربا على الإنتهاء
مددتُ يدي لأتلمسها أستشعرُ حياةَ النفسِ الموؤودة التي توأدتها البحار في ريعانِ الشباب
ولكن قبل أن تلامسَ يدي الحياة سكنت الحياةُ حجري تحتضني إليها
حاوطتها بقبضتي و أحتضنتُها لي بقوة بشوقٍ بدفء و دفأها هذا حكى لي أنها من احتضنتُها في مهدها أنها البِكْرُ بين بناتي
أنها الكُبرى و صغيرتي " عُطرة " و لشدةِ احتضاني لها تراخى خمارها و انسدل طيلسانها و تناثر شعرها برائحتهِ التي سكنت رئتي بانتشاء
مرغتُ رأسي بين خصلاتِ شعرها أُقَبلُ رأسها , أمسكُ بعظام الخصر و أبعدها عني قدر أُنملة أمسحُ دموعها أُقبِلُ جبينها
أحفظُ تفاصيلها التي تغيرت كثيرًا عما سبق لكنها لازالت شبيهةُ زبيدة و النسخة المطابقة لها في الجمالِ و البهاء
أضمُ نسخًا منها بجانبِ النسخ الكثيرة التي التقطتُها لأخيها هزيم
عادت تغمرُ رأسها بصدري و تملأهُ بالذكرياتِ قبل دموعِ الملحِ الأجاج
عادت لتحيي ماضي دُفن منذُ زمنٍ بعيد
لم أكن لأبتعد لولا اليد التي طوقت ذراعي بشدة و أنغرزت أظافرُ يدها في جسدي اللكيك اخترقت دمائي قبل العضلات
كانت الحياةً الأخرى في عودةِ الحياة بحضورِ هزيم , سقطَ خمارها كاشفًا عن اسمرار بشرتها
سمارها بلونِ الصحراءِ القاحلة يحكي لي عن اسم ابنتي الوسطى " هوازن " هيَّ الوحيدة السمراء بين أخواتها
لازالت كما هيَّ سمراء البشرة , صغيرةَ الملامح و جعداء الشعر
و لطيفة الحضور تتعلقُ كالطفلة بذارعي لا تريدُ سوى الاقتراب عكسَ عُطرة التي تريدُ الامتلاء و مهما ملأتها تطلبُ المزيد
عُطرة بحضورها الباذخ و هوازن بحضورها اللطيف , سحبتها برفق و اتسع صدري لكليهما إحداهما بجانبي الأيمن و الأخرى بجانبي الأيسر يجهشن بالبكاء
و صوت عويلهن و انتحابهن يتعالى و ينخفض و ينكتم بين عضلاتِ صدري
ابتعدت هوازن عني قليلاً و مدت يدها تلتمسُ شعيرات ذقني الأبيض و تسأل بما تخافهُ و لم تستوعب حضورهُ بعد, رغمَّ أنها تمكثُ في قلبه : يبــــــــ....ـه
طبعتُ قُبلةً في رأسها و همستُ بحنو : هوازن أبوك .
وضعت يدها على صدري و أسندت رأسها إليه و هي تهتفُ بسعادة : يبه
مسحتُ على شعرها و عيناي تنظرُ لمن تضع رأسها بالجانبِ الآخر و تبتسمُ بسعادة و تارة تغرقُ رأسها في صدري و تستنشقُ رائحتي لتدس الكثير منها في أنفها
و تعطيهُ لصدرها وقت الشوق و اللهفة لكنكِ لن تشتاقي يا عُطرة سأكون بالجوارِ دائمًا و أبدًا
عقدتُ حاجبي و نطقتُ بما حضرَ في ذهني : لي بنت ثالثة , وينها ؟
رفعت هوازن رأسها و نظرت لي مبتسمة بسعادة و إشراق : بناديها الحين
قبلت جبيني و رأسي و كلتا يداي و من ثم عادت بالاستناد على صدري و بعدها ابتعدت عني و هي تجري نحو المصعد تسبق الزمن تخافُ أن يسبقها فيأخذني للبعيد
و لكني لن أبتعد مهما حدث أنا هنا بينكن صغيراتي فكيف لي أن أبتعد و أتركُ من ورائي جناتِ النعيم
نظرتُ لعُطرة التي تتشبثُ بثوبي بكلِ قوة و تقولُ و رأسها غارقٌ في صدري : يبه وحشتني وحشتني كثير يبه .
مسحتُ على شعرها بحنان و صوتٌ خرج من داوخلي و أعماقِ أعماقي صوتًا هامسًا لكنهُ يخترقُ حصون الروح قبل جدران الجسد : حياتي دونكم يا بنيتي ما هي بحياة , لا تظنيني ابتعدت راضي
عوائق و حواجز كثير ابعدتني أميال و خذت مني ما خذت ما كنت راضي و لو كان بيدي كنت عندكم من سنين .
رفعت يدي نحو ثغرها و قبلتني قُبلة طويلة عميقة يسيلُ مخاطها و تنهمرُ دموعها بين شعيرات يدي : يكفي إنك هنـــــــــــا و بتكون هنـــــــا الدهـــــــــر كله
مدت " هُنا " و " الدهر " لتتسع لها الحياةُ بأكملها كأنها تزيدُ العمر عمرًا تخاف أن ما مضى أقل ما هوَ آت
لن يكون كذلك صغيرتي فإن كان أقلُ عددًا سيكونُ أكثرُ قربًا مما مضى
سأعيشُ معكن طفولتكن , المراهقة و النضج سنعيشها كاملةً حتى و إن كانت في ظرفِ يوم
نحنُ من سنمدُ العمر عمرًا مليءٌ بالدفء
سنعطيهِ درسًا أن الفراق ما هوَ إلا لقاء , و أن السنين مهما طالت لن تغير ما في النفوس
كان العُمر شحيحًا قاسيًا أعطانا تباريح الوصب و لكن سنرضى بالقدر خيرهِ و شره و نعطيهِ عروش الأملِ و التفاؤل .
*
كنتُ أسابق الدقائق و الثواني و أجزاء الثانية الواحدة أخافُ أن يسبقني الزمن فيسرقهُ مني
فقد سرقَ الكثير و الكثير طمعًا و لن نسمح لهُ بما هوَ أكثر
سأكون بجوارهِ ليلَ نهار , سأنام في صدرهِ و أستيقظُ صباحي على صوتهِ الحنون
سأحكي له كم كانت الحياة دونهُ قاسية و سأطلبُ منهُ أن يمحي من ذاكرتي ما عشتهُ من يُتمٍ و حرمان
سأقولُ لهُ كم دعوتُ الله أن يعودَ إلينا و أحكي لهُ مقدار سعادتي باستجابةِ الدعاء
فما أجمل أن يناجي العبدُ ربهُ و يتضرعُ إليهِ راجيًا داعيًا فيتحققُ ما دعاه
ما أجملَ رؤيةَ دعاءك حقيقةً ملموسة تراها و تستشعرها
اقتحمتُ الحجرة متناسية أدآب الإستئذان و كأن هوازن تخرجُ طفلة تحتاجُ للتعليمِ من جديد
و بصوتٍ عالي ناديتُها : عـــــــــــــــزوف وينك ؟ وينك ؟
توجهتُ مباشرة اتجاه حجرةِ نومها ولا زلتُ أناديها بذاتِ الصوتِ المرتفع لتخرجَ هي من الحجرة قبل أن أدخلها و تُشيرُ إلى فمها : اشششششششش غانم نايم
مددتُ يدي نحو يدها و التقفتُ أسحبها ورائي بعجلة : تعالي بسرعة
سحبت يدها من بين يدي بقوة و احتضنتها لصدرها بعدما شبكت أصابع يديها ببعض
تذكرتُ أنها منزعجة مني و كنتُ أنوي الاعتذار و التوضيح
وقفتُ خلفها و حاولتُ دفعها للأمام : مو وقت الزعل الحين في شي مهم لازم تشوفيه
استدارت نحو متسائلة بتوجسٍ و ذعر : وش فيه ؟
ابتسمتُ لها بفرحٍ و سرور : خير خير لا تخافي , بس وقفي كلام و امشي .
جذبتُ يديها أجرها بسرعة نحو الباب بخطواتٍ سريعةٍ هوجاء و هي تهتف : هوازن بشوية اشبك بسم الله
لم أبالي بما تقول وسحبتها نحو المصعد حتى دخلنا و أغلقَ بابه ليُفتحَ و تطيحُ عيني على أبي يقفُ بذاتِ المكان و عُطرة بصدره
و يبدو أن عزوف لم ترى ما رأيت فعادت لتسأل : ليش ما خذتني لهنا وش فيه ؟
أمسكتُ برأسها و أدرتُه حتى صار للأمام و رفعتُه للأعلى قليلاً و توقفَ رأسها عن الحركة , وتصلد جسدها كالحجارةِ الصلبة
نطقت بصوتٍ تائهٍ ضائعٍ بلا هدى و لا ملجأ , صوتٍ لا أدري إن كان مستفسرًا أم غير مستوعب : أبـــــــــــوي ؟!
فقد كانت بالعاشرة من عمرها عندما غاب أبي و مضى ما يُقارب العشرين عامًا أي عقدين إلا أشهر معدودة
قد تكون نسيت أبي فنحنُ لا نملك له حتى صورةٍ واحدة
نظرت لي بتيهٍ وضياع , فأومأتُ برأسي
لتخرج منها شهقة اخترقت الجدران الصماء قبل المسامع
فوقعت كل الانظارِ عليها
ابتسم أبي بمحبة و تقدم نحونا و عُطرة لازالت بحجرهِ تجرُ أقدامها جرًا حيثُ يمشي
قطعتُ الخطوات المتبقية و تشبثتُ بذراعهِ كالطفلة
أما عُزوف فتراخت أقدامها و التصقت ركبتها بالأرض و نصفها العلوي قائم و رأسها مرتفعٌ للأعلى تنظرُ إلينا
سرعان ما احتقن وجهها بالحُمرة و بكت بكاءً أمات الجماداتِ الميتة فكيف بالحي ؟!
بكاءً اهتزت له النوافذ و انتفضت لهُ الأبواب و تصدعت لهُ الجدران
بكاءً يحملُ سنين الوجع و ينثرها بالجمادات يُخرجُ كل ما هوَ سلبي يعيشُ بداخلها لتعودَ طفلةً بلا شقاءٍ لأحضانهِ
تراخت أيدينا من حولِ أبي الذي سحب نفسهُ من بيننا وجلسَ أرضًا مقابلاً لها و سحبها لصدرهِ يحتضنها بشدة لتبكي بين أضلاعهِ تشكيهِ طفولتها مراهقتها و نضجها
تشكيهِ حاجتها للحنان تشكيه الليلة الكئيبة التي غيرت من حياتنا تُذيب قفصهُ الصدري لتنضم روحًا ثالثة إليه
أهدانا روحه فتقسمناهُ بيننا و أهديناهُ ثلاثًا روح عطرة فأنا و من ثمَّ عزوف
*
بكيتُ بشدة مودعةً كل المآسي فها هوَ أبي سندي و قوتي يقفُ أمامي , بضعُ خطوات و نتصلُ بالعناق
بكيتُ لأخرجَ فارغة كيومِ ولدتني أمي , و لم أجد إلا يدًا دافئة تمسحُ على شعري بحنان و تضمني لفؤادٍ انتصل من صدري قسرًا و إكراهًا
حرارةُ أنفاسي انتحابي و استعباري كانت كفيلة بصهرِ عظام قفصهُ الصدري و احتضاني روحًا تنضمُ لأخواتها في صدرٍ يتسعُ لنا جميعنا كـ اتساع الأرضِ بمشارقها و مغاربها
لتُغلق عظامهِ من بعدنا و تكظم علينا دهرًا بأكمله و ما أحن زنزانةَ صدره , ما أعطف ضربات قلبه
في زانزانته حرية أبدية و زوالٌ سرمديٌ للشقاء و مسغبةِ الحنان و الأناة
حوطتُ بيدي خصره وغبتُ في صدرهِ غيابًا في الوجود بعدما كنتُ الوجود في الغياب
هوازن تشبثت بذراعهِ , و عُطرة وضعت رأسها على فخذه الممتدة
إحدى يديه تمسحُ على ظهري و الأخرى على شعر عُطرة و عينيهِ تنتقلُ بيننا الثلاثة بينما نحنُ الثلاثة لا نرى في الوجودِ سواه
فهوَّ الوجود و الوجودُ بحضورهِ غياب .
*
شقَ صوتُ بكاءِ عُزوف نواحي المنزل تُفرغُ ندبها و أنينها الموجع و ترثي ما لا أعرف
نظرتُ إلى عُشبة التي وقفت مذعورة : يالله سترك شفيها البنية
هرولتُ ناحيةَ المصعد رغمَّ عجزي و و هن جسدي و نزلتُ للأسفل و انقفعت أقدامي و تيبست حينما رأيتُ ذلك الذي راح دون الوادع الذي غطتهُ أمواج البحرِ
راح و دعونا الله أن يعود و حينما طالت السنين و لم يعد , تلاشى الأمل و عجَّ اليأس و البؤس أرواحنا و أهلكها
فدعونا الله لهُ بالرحمة و الوقايةَ من عذابِ و فتنةِ قبر و السكن في فسيحِ جناته
فهل للميتِ أن يحيا ؟ و هل لشهادةِ الموت أن تولد ؟
كم أسأنا الظنَ بك يا أيها البحر استمعنا لأقوالهم " البحر غدار" يأخذُ ولا يعطي
لكنهُ كان المأوى و النوى طيلة السنين
هفت أقدامي وخرَّ وجهي على برودةِ الأرضية كبرتُ الله خفضًا و سجد قلبي للخالق شكرًا و حمدًا
" سبحان ربي الأعلى , سبحان ربي الأعلى , سبحان ربي الأعلى
اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين "
و أكملتُ دعائي شاكرةً الرحمن خاضعةً لهُ سبحانهُ وتعالى و كبرتُ الله رفعًا دونَ حجابٍ و طهارة فهو خضوعُ لا صلاة
و في رفعي من السجود طوقت عينيَّ حقيقتك لا طيفك , طيفك الذي كنتُ أعانقهُ فيضمحلُ راحلاً للغياب
إنك حقيقة حتى لو لم أتلمسك فطيفكُ كان شابًا كما أخذهُ البحر و خيالي كان يحاولُ رسمك كبيرًا في العمر لكنهُ ما أجادَ الرسم يا أخي
قد أجاد نقشك في ريعِ الشباب و حفظك في الفؤاد لكنه أخفق في رسمك فبكى خوفًا من أن ينسى المحفوظ مع تقدمِ العمر
كم أحمدلله أنكَ عُدت للفؤادِ قبل التلاشي كم أشكر الله أنكَ حقيقةً ملموسةً أمامي يا أخي
أخي يا جزءًا مني بكل أجزائي كُن دائمًا بالقربِ و لا تبتعد
تقدمتُ إليه خطوةً فخطوة رويدًا رويدًا ببطءٍ و تمهل أحفظهُ من كلِ الزوايا و الجوانب
و أحمدُ الله بالثانية مئات المرات أني أرآه قبل الممات
حتى توقفتُ أمام قدمهِ الممتدة بالأرض , كانت عينيه على عُطرة المستلقية على فخذه يخلخلُ أصابعهُ بين خصلاتِ شعرها
و يبدو أنهُ رأى حذائي فرفع عينيهِ حتى صارت بعيني , طال الصمتُ كثيرًا فدكَّ الهلعُ ربوع قلبي و دُقت نواقيسُ التهلكة
هل نسيتني يا أخي ؟ , هل صرتُ من صفحاتِ الماضي المطوية ؟
يشقُ عليَّ فهم لغةِ العين في موقفٍ كهذا في الوضعِ الذي أنا فيه
خرج صوتي واهنًا ضعيفًا مبحوحًا مترجيًا : أخـ...وي
و على صوتي انزاحت الفتيات عن أبيهن قليلاً , فابتسم ابتسامةً حتى عقلي توقف عن ترجمتها وفهمها
وقف من على الأرض فصار أمامي واضعًا راحتيه على عظامِ كتفي هامسًا بحنو : ساجدة يا حياةَ أخوك .
ابتسمتُ و بكيتُ بذاتِ الوقت فأخذ يمسحُ دموعي بيديه : هالدموع غالية يا ساجدة , بلاه البكا هذاني قدامك يالغالية .
تناولتُ يده التي تمسحُ دموعي و طبعتُ في باطنها قُبلةً شوق و في ظاهرها قُبلةَ احترام
*
مسحتُ دموعي التي سقطت تأثرًا بالموقف
من يصدق أن شيخَ القبيلة أصل الحكمي يعودُ بعد سنين طويلة
يعودُ ليُعوضَ فتياتهُ سنين اليتم
و يعوض أختهُ جورَ عبدالقوي و سطوته
ما بقيَّ إلا أنتِ يا عُشبة بلا سندٍ و لا ولد
عدتُ أدراجي للأعلى و لكن حيثُ جناح عُزوف و الطفلُ الرضيعُ غانم الذي بقيَّ وحيدًا في الأعلى .
***
الساعة الخامسة عصرًا , في حجرةِ التحقيق
الحجرة التي كنتُ أخافُ الجلوس فيها في بداياتِ فعلتي الشنيعة بأصل و لكن بعدما طالت السنين قُتل جُل الذعر
لم أعتقد ولا لوهةٍ واحدة أن يكون الغائب تسعة عشرَ عامًا بقيدِ الحياةِ دون ذاكرته
أن يعودَ لأكون أنا بهذهِ الحُجرة و هوَ حرٌ طليقٌ بالخارج
بعدما أصبح اسمي منتشرٌ في كلِ الشركات و أقطابِ المملكة
سيكون هذا الخبر القشة التي قصمت ظهر البعير
القشة التي أهملتها ونسيتها وطويتها مع السنين و كأنها لم تكن
بدأتُ بحادثٍ يسير لم يستغرق سوى دقائقٍ في إعداده
لكنهُ تركَ أثرًا كبيرًا فاشتهرتُ و امتلكتُ أكبر الشركات و قصرًا ذا مساحةٍ شاسعة
عبدالقوي الاسم الذي يتردد على ألسنةِ التجار
سيكونُ ذلك الحادث البسيط سببًا في وصمِ سمعتي و دهسها
سيكونُ عبدالقوي الذي ما كان يعني للمجتمعِ شيئًا و صار جزءًا لا يتجزأ من المجتمع مجرمًا في الزنزانة
و حينما يخرجُ من الزنزانة سيثلبهُ ويعيبهُ من هم أقلُ منهُ بخريجَ السجون
عند هذهِ الفكرة بدأ الوجع يغزو ذراعي الأيسر , مسدتُ ذراعي بكفِ يدي الأخرى
أُكابر الألم و أنظرُ للضابط بثباتٍ يُعارض عليل يدي
بدأ حديثه برسمية قائلاً : في شكوى مقدمة ضدك من أصل الحكمي بمحاولتك لقتله قبل سنين و هذا بتعطيلك لسيارته و غرق سيارته بالبحر و هالشي سبب فقدانه لذاكرته بسنين
و هو كان ممكن يسامحك بس محاولتك الثانية لقتله بعد معرفتك بحياته خلته يتخذ موقف عدواني منك و يبلغ عليك , المحاولة الثانية و إلي كانت بإرسال هزاع لاتمام عملية قتل أصل
و إلي فشلت فشل ذريع بخذلان و خيانة هزاع لك و انفجار القنبلة بواحد غير أصل و هالخبر انتشر بالجرايد و أكيد تعرفه .
تمسكتُ بوضع الهجوم و الثوران , فهذا الوضع الذي يلتجىءُ إليه المرء حينما يوضعُ موضع الضعيف : وشفت السيارة كان فيها جثة غير أصل يعني هما كان لهم يد في قتل الجثة إلي بالداخل , لومه قبل تلومني
بالآخر و مهما سويت أصل مازال حي يرزق أما ذيك الجثة تعذبت وبعدها ماتت و ما لها أي ذنب في إلي بيننا , يعني تحاسبون إلي ما قتل و تخرجون القاتل يسرح يمرح في الشوارع .
مدَّ يده على الطاولة و تراجع بظهره مستندًا على الكرسي و بابتسامةٍ فيها شيء من السخرية : كل المعلومات عندنا وحسابنا معاه غير عن حسابك , المهم الحين هو إنت مب هو , سؤالي لك
تعترف إنك حاولت قتله مرتين و تخفف عقوبتك أو ما تعترف و نعرف احنا بنفسنا مع العلم إن مع أصل أدلة قوية وعدم اعترافك بينرفع عليه دعوة و بتتقدم أدلة أصل للقاضي
وقتها بيكون حسابك عسير .
و بالرغمِ من أني أدرك و أتذكر رؤية هزاع لي حينما عطلتُ سيارة أصل و هذا الدليلُ الأولُ ضدي
و الثاني كان بإرسالي لهزاع لمحاولة قتل أصل المحاولة التي فشلت بخيانةِ هزاع لي
لكن في كلا المرتين هزاع هوَ دليلُ أصل الوحيد و هذا قد لا يفهمهُ القاضي
إضافة لما فعله أصل بالجثة التي في السيارة و التي انفجرت فيها القنبلة بدلاً من انفجارها بأصل
هذا سيكون ضدهُ و الشاهد الوحيد هزاع أيضًا سيظنُ بهِ القاضي ظن سوء
و هنا ستكون حريتي و يكونُ أسرهُ و عقابه , بثقةٍ و ثبات و صوتٍ جهوري : ما حاولت قتل أصل , و أصل يكون أبو بنات أختي فكيف أقتله و أمنعهم من أبوهم و أخليهم يتيمات
كل هالكلام افتراء علي , هزاع و أصل يفترون علي و متفقين مع بعضهم ضدي .
قال وهوَ يكتفُ يديه ناحيةَ صدره و يمددُ أقدامه بطولها أرضًا : الحين كفتك صارت ضعيفة بالبداية قلت بأسلوب هجومي إنه مهما كان إلي بينك و بين أصل فالآخر إنت ما وصلت لشناعة فعلته
و الحين تنفي إنك سويت فعلة شنيعة بأصل لكنها فشلت في المحاولتين .
ازدردتُ ماءَ فمي , تنفستُ الصعداء لسماعِ ما أزعجني و أتعبني و من ثمَ قلتُ مبررًا : أنا بس أقول لو فعلاً كان بيني و بين أصل شي فأصل بالأول و الآخر بيكون غلطان أكثر مني , و إذا مضطرين
ترفعوا دعوة ارفعوها أنا جاهز و بطلب لي محامي .
زفرَ أنفاسهُ و أخذ ملفهُ الأسود من فوقِ الطاولة , مُصلبًا طوله متجهًا للخارج و دخل ضابطين اثنين , قيدوني بالأغلال و أخذوني للخارج حيثُ السجان الذي توجه بي
نحو القضبانِ الحديدية و الحجرة الصغيرة التي بها ثلاثُ جدارنٍ فارغة لا أحدَ بها سواي
حبس انفرادي ماذا يقصد هذا المحقق ؟ هل يعتقد أني سأذهب إلى المحكمة لتصديقِ أقواله و أكون في داخلِ القضبان و أصلٌ في الخارج
قطعًا لا , بل أنا من سأكون بالخارج و هوَ داخلها .
يُتبع ...