الجحيـــم
( 77 )
** لا تلهيـكم الروايـــة عن الصـــلاة **
نزلتُ إلى السعودية بعدما تمَّ القبضَ على أفراد المنظمة و انتهى عملي بكندا
و لهزاع كل الشكر بصدور هويتي الحقيقة التي تحملُ اسمي " أصل الحكمي " بدلاً من " جلال الفاني "
و توجهتُ إلى العنوان المطلوب ضغطتُ على الجرس و انتظرتُ قليلاً حتى فُتِحَ الباب
فتحتُه الخادمة , فبادرتُ بالسؤال : غزال موجودة ؟
أجابت برسمية : يـــــــــس
ليجيء صوتُها الذي يقتربُ شيئًا فشيئًا : ادخــــل .. ادخل يا جلال
ابتعدت الخادمة عن الباب فدخلتُ و وجدتُ غزال الذي تمشي مقتربة مني
بعد القبض على العصابة أول ما فعلتُه هوَّ الاتصال بغزال و التحدث مع الضابط هاني
اتفقتُ مع الضابط هاني أن يأخذ عينة من شعر مي و يرسلها مع رجل إليَّ في جدة لآخذها و أجري عليها تحليل الأبوة
ولكن ريثما ينزلُ الرجل لجدة , نزلتُ من كندا إلى الإحساء بعد مكالمة هاتفية مع غزال كانت مكالمة رسمية سألتُها هل لازالت بالمنزل و أنا سآتي إليها و أجابت أنها في منزل خالتها
و قد قمتُ عدة مرات بإيصال غزال إلى منزلِ خالتها
أشارت إلى الصالة و هيَّ تقول : اتفضل يا جلال , خالتي فوق و زوجها في الشغل ما يرجع إلا آخر الليل و الحين تونا دخلنا المغرب بدري .
ضضمتُ كفاي إلى صدري و رفعتُ حاجبي و أنا أنظرُ إليها نظرةً ثاقبة : تقصدين أصل , أصــــــــل الحــــــكمي .
اتسعت عيناها و تجمدت عن الحركة , قطعتُ المسافة المتبقية بيننا حتى صرتُ أمامها تمامًا حتى أن صوت ابتلاعها لريقها وصلني
بهمس : ايه أصل الحكمي يا غزال , لأي درجة كنتِ أنانية ؟ عالعموم كبرنا على العتاب و الخصام جايك عشان كم سؤال و نرتب أمورنا .
مشيتُ من أمامها و جلستُ حيثُ أشارت لي بينما هيَّ لازالت تقفُ حيثُ كانت بذاتِ السكون و بعدها بفترة أدركت أنني أناديها فتحركت متوجهة إلي
جلست على كنبة تُقابلني و عينيها موضع يديها
بهدوء : شوفي يا غزال أنا وإنتِ حياتنا من البداية كانت مبنية على المصلحة إنتِ تبين أحد يهتم لفلوسك و بنتك و أنا أبغى الهوية و الشغل إلي فيه فلوس , حياة رسمية خالية من الحب و المودة
و أنا الحمدلله رجعت لي ذاكرتي و إنتِ كنتِ تعرفي حقيقتي و سكتِ عشان المصلحة هذا الشي بحاول أتنساه لأنك لازلتِ زوجتي و بحكم إنه مالك إلا خالتك و مو حلوة تسكني معها في بيت زوجها
فأنا جاي أخيرك تبقي معاي أو تكملي حياتك مع خالتك , أنا ما بطلقك بدون سبب قوي لكن إذا إنتِ كارهة عشرتي و تبي الطلاق لك ما تبين , لكن ابي أنبهك بشغلة أنا نفسي أجهلها
أنا قبلك كنت متزوج و لي بنات برجع لهم و لا أدري زوجتي و بناتي كلهم بقيد الحياة ولا فقدت منهم يعني بكون فاتح بيتين , الليل عندك لأنه ما يصير تبقي بالبيت وحدك في الليل و النهار عند بناتي و زوجتي الأولى
لك حرية القبول أو الرفض لكن فكري زين , الطلاق له أحكامه أنا و إنتِ كنا بعاد عن بعض كل البعد أقرب للنشوز و بهاذي الحالة ما فيها شي لو تطلقنا الطلاق يكون مكروه في حالة عدم الحاجة له
لكن بنفس الوقت ما حبيت أطلقك و إنتِ وحيدة تبين تكملي حياتك معاي و نبدأها من جديد بكوني أصل الحكمي مو جلال الفاني بنبدأ بإذن الله و بنحاول يكون بيننا مودة و رحمة , إذا تحسي إنك كارهتني و كارهة عشرتي
فكل واحد يشوف طريقه , قدامك شهر فكري فيه و ردي لي خبر و قت تقرري .
بقيت صامتة دون حركة عيناها متشبثة بيدها بعناقٍ طويل ما انسل عنها إلا بتغيري لمجرى النقاش بتساؤلي : إلا وين أنهار ؟
رفعت عينيها إليَّ أخيرًا , و ترقرقت بالدمع : توفت .
اتسعت عيني بدهشة و سرعان ما نطقت : الله يرحمها و يغفرلها و يصبرك , عشان كذا سكنتِ ببيت خالتك ؟
أومأت بالموافقة , و التزمنا بالصمت أبحرتُ بأفكاري و أبحرت بحزنها
أنهار الفتاة التي كنتُ أشعرُ اتجاهها بالحبِ و شيءٍ من الشهوة لكني أيقنتُ أنها الشهوة لا محالة
الخطأ العظيم الذي ارتكبتُه غزال أن جعلت أنهار ترتدي ما يظهرُ من جسدها أكثر مما يخفي و تحضنني بل و تناوم بعض الليالي معي بذاتِ السرير
و بينما علاقتي مع غزال رسمية جدًا , ما اقتربتُ منها طيلة تسعة عشرَ عامًا إلا مراتٍ قليلة جدًا
هيَّ لم تكن ترغبُ بي و كنتُ أشعرُ بهذا و بادلتُها ذات الشعور ما كانت أمامي إلا أنهار وفقط
هذا الخطأ الذي يُرتكبُ بأغلبِ المنازل الأخت تجلسُ بجوارِ أخاها و أباها بما يبرزُ مفاتنها
و تنسى أن عورتها أمام محارمها لها حدود , و إبراز المفاتن لا يكونُ إلا لزوجها
فإن كان هوَّ والدها و ذاك أخاها فهم في الآخر رجال يمتلكون غريزة و يفتتنون بالمرأة
هم أبناءُ آدم يستمعون لصوتِ الشيطانِ مناديًا هلموا للمعصية و صوتِ النفسِ الأمارة بالسوء
منهم من يخافُ الله و يكابدُ نفسه و منهم من لا يستطع فيقعُ بما لا يحمدُ عقباه مع محارمهِ
فتأتي الفتاة تبكي و تشكي و كانت هيَّ النار التي أشعلت رأس الفتيلة !
و انا كنتُ أظنُ أن أنهار ربيبتي كما أوهمتني غزال و هي ما كانت ربيبتي و يحرمُ عليها التقشعَ أمامي
لكن بما أن غزال أوهمتني بهذا كان عليها أن تستر الفتاة بما يغطي عورتها أمام محارمها و تُعطيني حقوقي ولا تكون ناشزًا
حدث ما حدث و قد توفت الفتاة رحمها الله , و قد يكون في موتها رحمة فماذا لو علمت قبل موتها أن غزال ليست أمها و أني لستُ بمحرمٍ لها
ما سيكون موقفها حينذاك ؟ أيُ وجعٍ قد يسكنها ؟ لربَّ ضارةٍ نافعة
نشبتُ أصابعي ببعض و وضعتها فوق قدماي و بتساؤل : غزال , أنا تذكرت شغلة إنه ماهر الله يرحمه و إنتِ ما كنتوا قادرين تجيبوا طفل فكيف جبتوا أنهار ؟
تلاشى الحزنُ عن عينيها و تنهدت تنهيدةً طويلة و كأنها ترى تلكَّ الأيام : من ملجأ أيتام أنهار ما هي بنتي .
إذا كانت أنهار من ملجأ , فمن هيَّ مي ؟ و لماذا سُجلت باسم ماهر ؟
اندفعتُ متسائلاً : فيه بنت غيرها كنتِ مسميتها أنهار ؟
ضيقت عينيها و ظهرت عُقدة بين حاجبيها سألت باستغراب : كيف عرفت ؟
كيف علمت ؟! هذا التساؤل يعني أنها حقيقة هيَّ لها ابنة غيرُ أنهار التي من الملجأ و هيَّ مي و لكن كيفَ لها أن تكون ابنتي كما قال جهاد ؟ و كيف وصلت لغزال ؟ و من غزال إلى العصابة ؟
كيف ؟!!
مسحتُ على وجهي : سالفة طويلة والله , جاوبيني على أسألتي بدون ما تسألي الله يرضى عليك .
أومأت رأسها بالموافقة و أجابت بثبات : قبل وفاة ماهر وصل صندوق مع الشحنة للمصنع حقه من مصنعك و هالصندوق في داخله بنت , بكيت عند ماهر و أصريت نربيها و هذا كان بعد وفاتك
أخذنا البنت و نسبها ماهر له , جاب لي مربية بما إني ما أعرف شي بخصوص الأطفال و بعدها بفترة توفى و كنت مرة تعبانة و طول الوقت أبكي فكانت المربية تهتم لأنهار
بعد ما خلصت العدة أصرت علي المربية إني أخرج و أغير جو وافقت على عرضها , تذكر اليوم إلي ركبت فيه في اليخت حقك و كنت أنتظر أحد ؟
أجبتُ و أنا أرى ذلكَّ اليوم و كأنهُ الأمس : ايه .
أكملت الحكايا المحيرة تفكُ ألغازها لغزًا لغزا : في ذاك اليوم المربية ركبتني لليخت و أخذت أنهار وشردت , تدهورت حالتي و عرضت علي الشغالة أكفل يتيمة فكرت بالموضوع كثير و بعدها رحت للملجأ
و أخذت بنت و سميتها أنهار و نسبتها لماهر يعني تبني مو كفالة و الله يسامحني على كل إلي سويته .
صناديق مصنع خشب ماهر , أنا , حمدااااااان
نطقتُ بصوتٍ خافت : حمدان ايه حمدان هو إلي يوصل الصناديق .
نظرت لي غزال متسائلة : وش قلت ؟
تجاهلتُها وأنا أقف و أتوجهُ للباب قائلاً : عندي أشغال مهمة على بال ما أنجزها فكري بالموضوع قدامك شهر .
و خرجتُ من المنزل , سأحجزُ مقعد للسفر إلى جدة بأسرعِ وقت .
***
رُنَّ الجرس و قد كنتُ أقف بجوار الباب أحملُ بيدي غانم الباكي و أدورُ بهِ كي يهدأ و حينما تقدمت الخادمة لفتح الباب
أشرتُ لها بأن تعود إلى عملها و فتحتُ الباب
اتسعت عيناي لما رأيت
بعد طولِ غياب إنهُ اللقاء , تشبثت عيناي بها بينما الكاسر أعطاني ظهرهُ غاضًا طرفهُ
ابتعدتُ عن الباب حتى تدخل و بخطواتٍ سريعة وضعتُ غانم على الكنبة و اقتربتُ منها و قد كانت في منتصف الصالة
سمعنا صوت كعب يضربُ على البلاط , و رأيتُ عطرة تقف خف هوازن التي تنظرُ لي و تعطيها ظهرها
اخترق صوتُ عطرة الصمت : هـــــــوازن !!
التفتت هوازن إليها و صارت تعطيني ظهرها اقتربت من عُطرة و كُسرت الخطوات ما بينهم احتضنوا بعضهم البعض
بكت هوازن بصدرِ عطرة التي كانت الأم قبل الأخت , و بكت عُطرة و هي تمسح على رأسِ هوازن
انهمرت دموعي الغزيرة تأثرًا بالموقف و أنا لازلتُ بذاتِ المكان دون حركة
بينما عُطرة أبعدت رأس هوازن عن صدرها و أخذت تمسحُ دموع هوازن و هيَّ وجهها محمر من كثرةِ الدموع , تكلمت بلا تصديق : هوازن صدق إنتِ قدامي , هوازن أنا أحلم يا أختي و لا إنتِ حقيقة ؟
مدت هوازن يدها إلى وجهِ عطرة و هيَّ ايضًا تمسحُ لها دموعها و تجيبُ عن تساؤلها : حقـ...يقة و الله .
عادت عطرة تحتضنُ هوازن إليها و كأنها ستدُسها في حجرها عن القانون و عن كلِ ظلمٍ و جور , و رددت عُطرة : محد بيآخذك مننا إنتِ هنا عندنا ما بخلي أحد يآخذك و ربك ما أخليهم .
قطعتُ المسافة ما بيننا و احتضنتُ ظهر هوازن و أنا أشاركهم البكاء : مستحيل أحد يآخذها مستحيل مستحيل
أرخت عطرة قبضتها عن هوازن التي سرعان ما التفتت إليَّ و احتضنتني و قالت مبتسمة بين دموعها : آخر العنقود الغالية وحشتيني
أبعدتني عنها و قرصت خدي و من ثمَّ مسحت دموعها بظهرِ كفها و هي تبستم بين احمرار عينيها و بشرتها السمراء : خلاص خليتوني أبكي و أنا فرحانة .
وضعت عُطرة ذراعها على رقبةِ هوازن و وقفت بجانبها , قبَّلتها في خدها و قالت بمرح : وحشتينا يالوسطانية شايفة غلاتك كيف
سمعنا صوت خطوات على الدرج , نظرنا فإذا بهم أطفالُ هوازن يتقافزون لحضنها و يضحكون
*
إلتفت للوراء بعد سماعي لأصواتِ الخطوات على الدرج فإذا بهم صغاري يركضون نحوي
تركتني عُطرة , فانخفضتُ بجسدي نحو الأرض
و فتحتُ ذراعي لهم و اتسعت لهم الخمسة بأكملهم ريناد فتاتي الكُبرى رائد و مؤيد و ريتاج ثم لجين الصغرى
أُقَبِلُهم بخدهم , أيديهم و رؤوسهم بكلِ حبٍ وشوق و بكيتُ لفرطِ شوقي لهم
يالله ما أقسى البعد عن الضنا , يالله لا تحرمني منهم
كم صاح الفؤادُ و بكا , وغص الحلق و شكا
مرارة الحناجرِ واختناقها , وجع الصدرِ و خيباتهِ
في كلِ يوم أقفزُ من فراشي أنظرُ يمني فشمالي أبحثُ عنكم لأجد أني لازلتُ بين القضبان
تلكَّ القضبان التي كم تمنيتُ لو أني أستيطعُ اذابتها كسرها التملص من بينها فقط لاحتضانهم و سأعودُ تحت وطأةِ القانون الظالم
لكنها كانت مجرد أمنيات لا محلَّ لها في الواقع
و لكن الله معي , الله ناصري
جعلني أرآهم أحتضنهم , أُقَبِلُهم , أشتمُ رائحتهم
الحمدلله أن الرحمن جلَّ جلاله مدَّ في عمري حتى أراكم
قال رائد الذي ابتعد عني : وين بابا ؟
وقفتُ من على الأرض و أنا أمسح دموعي قائلة : يالله نسيته برا
بينما تحركت عُطرة للأعلى و عُزوف أخذت الرضيع الذي لا ادري من أين قد جاء و صعدت بهِ للأعلى
فتحتُ الباب و أنا أنادي : الكاسر
التفت نحوي و رأى أبناءنا يقفون بجواري و منهم من يتقدمني
ركضوا باتجاههِ و تشبثوا بقدمه
بينما هوَّ مسح على شعورهم و هو يضحكُ بفرحٍ و سرور , وينخفضُ حتى يصير بطولهم
نظرتُ لمشاعر الأبوة و مشاعرهم اتجاههُ و ابتسمتُ بسعادة رفعتُ رأسي للسماء : يالله لـك الحمد و الشكر و كل الفضل .
***
بعدما خرجتُ من السجن أعطوني هاتفي المحمول و أول ما فعلتُه توجهتُ لمنزلي استححمت و حلقتُ شعر ذقني المبعثر ارتديتُ أفضلَ الأردية و من ثمَّ اتصلتُ على أخي معن فهوَّ الوحيد الذي زارني في السجن و هوَّ الوحيد الذي حضرَ بذاكرتي في هذا الوقت ، طالت الرنات حتى
أصابني اليأس لكنهُ في الآخر رد ، ابتسمتُ براحة و قبل أن أنطق ، انطلق صوتُه المتفاجىء : ركاض !! خرجت من السجن ؟ طلعت براءتك ؟ إنت ركاض ؟
اتسعت ابتسامتي و بسعادة : ايه أنا ركاض و ايه طلعت براءتي و خرجت ، بحجز مقعد و ببلغك بوقت نزولي أبيك تستقبلني بالمطار ما أبي أضيع لحظة بالسعودية و محد منكم قاعد جنبي .
قال باندفاع يظهرُ فيه السعادة و الابتهاج : الحمدلله الحمدلله يارب ، و هوازن و الكاسر نزلوا ؟
تلاشت الابتسامة عن وجهي : والله مدري لكن أعتقد ايه لأنه قضيتنا مرتبطة ببعض من فرحتي نسيت اتصل و أتأكد ، المهم لا تنسى أبيك تستقبلني و الحين بتصل على ناجي و أشوف إذا نزلوا
أو لا .
بنبرةٍ مضطربة متوترة : أنا ... أنا لسى ما نزلت للسعودية .
بتعجبٍ و تساؤل : وش تسوي في مصر للحين ؟! ، المهم عطني عنوانك و بجيك .
أعطاني العنوان فأخذتُ مفتاح سيارتي و توجهتُ مباشرةً نحو منزله .
***
الساعة السادسة مساءً , أمسكنا بأيدي بعضنا البعض , مدَّ يدي ناحيةَ الباب و طرقه ليجيءَ صوتُ عمتي : ادخل
نظرلي فابتسمتُ لي , فتح الباب و تقدمنا بخطواتنا للداخل كانت عمتي تجلسُ على السرير و بيدها خرزات المسبحة تنظرُ للأرض
و قبل أن يتكلم الكاسر ليُنبهها بوجودنا رفعت رأسها وسقطت عينيها علينا وقفت من على السرير ناطقةً بلا تصديق : الكاســـــر وليدي ؟؟ هــــــوازن بنيتي ؟؟
قال مبتسمًا بمحبة : الكاسر وليدك و هوازن بنتيك قدامك يمه .
تقدم نحوها و مشيتُ بمحاذاته انخفض الكاسر لأقدامها يُقبلها بينما أنا قبلتُ رأسها
بكت بصوتٍ عالٍ و شهقاتٍ متتالية : يالله يمك وحشتني يالغالي و حشتيني يالغالية كل يوم أدعي إلكم يالله أحمدالله إنه وهبني شوفتكم قبل لا أموت .
رفع الكاسر رأسهُ عن أقدامها و مسح دموعها و هوَّ يمسك بيدها و يُجلسها على السرير و يجلسُ بجوارها و أنا بجانبها الآخر
يمسحُ على يدها برفق و هو يقولُ بصوتٍ ناعم : طول الله في عمرك يمه و تشوفين أحفادك كبار و تزوجيهم و تشوفي أحفاد أحفادك يارب .
أبتسمت لهُ و من ثمَّ نظرت إلي و احتضنت يدي بين دفِىء يديها عمتي ساجدة التي كانت لنا الأمُ الثلاثة بعد أمي و بعد أختي عُطرة
وضع الكاسر رأسهُ على كتفها بينما لسانها يلهجُ بالدعاء لنا و الشكرُ للهِ عزوجل
لئن شكرتم لأزيدنكم .
***
بما أن الأوضاع استقرت و الحمدلله بعد خروجِ أختي هوازن من السجن ، قررتُ زيارة حميدة فقد طال غيابي عنها كثيرًا ، و أخافُ أن تسوء حالتها فلا احدَ يهتمُ لشأنها سوى أخاها الأصغرُ منها
عمرًا فقد تشعرُ بالوحدة و تعودُ كما كانت عليهِ و أسوأ ، لكن قبلَ خروجي طرقتَ باب حجرةِ أغيد عدةَ مرات و ما من مجيبُ سألتُ أحدَ الحراس فأجاب أن أغيدَ وجدَ عائلتُه منذُ فترةٍ طويلة و لذلك
لم أستطع الإطمئنان عليهِ كما أرادت حميدة ، وصلتُ إلى السجن بتمامِ الساعة السابعة و النصف مساءً , و أنا الآن في انتظارها بترقب و ما أن ظهرت بشعرها الذي يصلُ لمنتصفِ ظهرها و ابتسامتها المشرقة حتى ابتسمتَ بارتياح
و وقفتُ من الكرسي
تقدمت باتجاهي و هي تصرخ بفرح : و اخييييرًا جيتي .
فتحتُ ذراعي لها و احتضنتُها : آسفة يا حميدة و الله مشاكلنا ما تخلص بالقوة قدرت أجيكِ .
جاء صوتُ السجانة التي اقتربت منا : ممنوع التلامس .
ابتعدنا عن بعضنا البعض جلست هيَّ على كرسي و جلستُ مقابلةً لها ، بادرتُ بالحديث : ما يحتاج أسأل كيفك باينة السعادة في وجهك و الحمدلله ، كنت خايفة السجن يغير نفسيتك للأسوأ لكنك
ريحتيني الحمدلله .
شبكت أصابعها ببعض : مو كل إلي بالسجن سيئين في الصالح و فيه الطالح ، الحمدلله ربي أعطاني صحبات في السجن فيهم الخير و سبحان الله لما كنت برا السجن كانوا كل صحباتي
سيئات ، فعلاً وعسى ان تكرهوا شيئًا و هو خير لكم ، نفسيتي أفكاري كل شي فيني تغير للأفضل صلاتي صرت محافظة عليها و لو إني بعض الأحيان أنسى و أأخرها لكن صحباتي يذكروني
و إن شاء الله مع الوقت أصير محافظة أكثر و أكثر كل شي فيني تغير للأفضل .
ابتسمتُ لها بمحبة : الحمدلله ما تدري وش كثر كلامك اسعدني ، فعلاً ما ندري وين الخير لنا ، الله يكملك بعقلك و ينور دربك يا رب ، بقولك شغلة كنت بتطمن على أغيد اليوم و أطمنك عليه لكني
تفآجأت بإن أغيد حصل عيلته إلي فاقدها من طفولته و ما هو موجود بالبيت .
ابتسمت بصفاء : الحمدلله ربي ريح قلبه ، خلال هالمدة إلي قضيتها في السجن صارت بيني و بين نفسي حوارات كثيرة ، اكتشفت من خلالها إن تعلقي في أغيد كان بسبب بغضي للرجال و لما
حصلت أغيد منافي لكل الأفكار و الطباع إلي أبغضها في الرجال تعلقت فيه بشدة وحسيت إني أحبه و مقدر أتخلى عنه ، و أنا فعلاً أحبه و أعزه و أتمنى له كل الخير لكن مو الحُب إلي كنت
متصورته أغيد فعلا باين عليه صغير بالعمر ممكن أنا أكبر منه بثلاث أو أربع سنين و غير كذا أغيد جاه في الوقت إلي كنت أحاول فيه أتغير فكان سبب في تغيري و امتناني له هيأ لعقلي إني
أحبه حُب المرأة للرجل لكن فعلاً الحين بديت أحس إن حبي له حُب أخت لأخوها يعني بالمختصر أغيد جاه في حياتي في الوقت الغلط و صار مجرد هوس ، بُعدي عنه كل هالمدة خلاني أراجع نفسي
و أكتشف من يكون أغيد في حياتي .
***
وصلتُ إلى عنوانِ منزله الساعة السادسة و النصف مساءً , قرعتُ الجرس و انتظرت بجوار الباب الذي سرعان ما فُتِح و كأن معن كان من ورائه ينتظرُ مجيئي
كنتُ سأجري و أرتمي في حجرهِ في حضن أخي الأكبر و لكن توقفتُ حينما رأيتُه
تلكَ البنية الضخمة نحيلة إلى حدٍ لا يلائمها بتاتًا , ازاداد اسمرارًا عن ذي قبل
شعرُ رأسهِ كثيف و كأنهُ في السجن و لحيتهِ غيرُ منتظمة
رائحتهِ رائحة السجائر الكريهة و العجيب الحروق التي تنتشرُ بوجههِ
و ندبةٌ في فمه من فوقِ شفتيهِ إلى نهايتها طوليًا
لم يبقى بهِ شيء قد ضاع معن بين هذه التهلكة التي تملأهُ لتحجبهُ عن الوجود
تالله أين أنتَّ ؟ ويحكَّ اختفيت ؟ اضمحلت ملامحك ؟
ما بقيت سوى اللمعة التي تلفظُ الشوق لي قبل أن تلفظها شفتيك المشوهة
أأنا الذي كنتُ في الزانزانة أم أنتَّ يا معن ؟
مَن تلقى فينا العذاب و الضيم ؟
مَن يا معن ؟
رغمَّ كل التساؤلات كان لساني ثقيلاً لا يستطيعُ الحراك و اشباعِ فضولهِ و إزالةَ الوجع عن صدري
بقيَّ كل تساؤل يستترُ في عيني
و كان معن هوَّ من بادر بالرتق اعتناقًا , يُقَبِلُ رأسي و يحمدُ الله
و مع مشاعرهِ الجياشة و شوقهِ الفاضح بادلتُه العناق و كلماتُ الشوق و اللهفة
و حمدتُ الله سرًا و علانية على خروجي من الزنزانة سالمًا غانمًا .
***
حسناء أول امرأة اهتزت نفسي لها منذُ النظرةِ الأولى و بالرغمِ من كلِ الوعود و الثقة بذاتي لم أستطع كبحَ جماح نفسي شهوتي و غريزتي اقتربتُ منها و أخذتُ ما أخذت هيأتُ لها منزل و وكلتُ خادمة
تجيدُ التعامل مع ذوي الاختياجات الخاصة و غبتُ عنها ثمانيةَ أشهر أهلكتني بالتفكيرِ بها دون غيرها بل حتى ساجدة كنتُ أضاجعها و أتخيلُ أني مع حسناء لم أقوَّ و لم أصبر ، ذهبتُ إليها بكلِ شوقٍ
و لهفة و حينما دخلتُ للمنزل تفآجأتُ بها نائمة ترتدي فستانًا أصفرًا فاتح و قد أمتلأ جسدها عن ذي قبل ليس امتلاءً فقط بل يبدو أنها تحملُ طفلاً ، هنا تصلبت عيناي على بطنها اقتربتُ منها
و هززتُها بكتفها حتى فتحت عيناها و نظرت لي بنظرةِ خوفٍ لن أنساها و هيَّ تضعُ يدها ببطنها و تنزوي في طرف الكنبة حينها تأكدتُ أنها حامل ناديتُ على الخادمة بصوتٍ عالٍ حتى جاءت
و توقفت و هي تضم كفيها إلى صدرها : حسنا حامل ؟
نظرت الخادمة إلى حسناء ثمَّ إليَّ وحركت رأسها بالموافقة ، اقتربتُ من حسناء و أمسكتُها من ذراعها أسفل الإبط و رفعتُها عن الكنبة بقوة حتى صارت تقفُ أمامي ، غرستُ أظافري بلحمِ
ذراعها و بغضبٍ جامح و صوتٍ عالٍ : كيف تجرأتي ؟ أنا يكون لي وليد منك ؟! من بكما ؟! من صما ؟! من ناقصة ؟!
و من ثمَّ نظرتُ للخادمة و بذات الصوتِ المرعب : وليد و لا بنية ؟
أجابت الخادمة و هيَّ تفركُ أصابعها و تنظرُ للأرض : بنت .
و كأن النار كانت بحاجةٍ للحطب دفعتُها حتى صارت على الكنبة أمسكتُ بفكها و هي كانت تنتفضُ من تحتي : البنية ذي من تولدي بتندفن و تندفني إنتِ من حياتي ظانع بيتكفل بتوصيل المصاريف
و الاحتياجات لك و الخادمة تساعدك بالبيت .
تركتها و خرجتُ من المنزل ضاربًا الأبواب من ورائي بقوةٍ و غضب .
لم أتقبل فكرة أني أنا يكون لي ابنة من بكماء و إن كانت حسناء فهيَّ في الأخيرِ بكماء و غير ذلك كنتُ أدفن بناتي من ساجدة و لكن حتى الولد من البكماء كنتُ سأدفنُه لا محالة هل يجيء لي
ابنٌ ناقص ؟! ، خرجتُ من المنزل و حاولتُ محيها من تفكيري مثلما محيتُها من حياتي لكني لم أستطع طالت الأشهر و السنين و حينها بدأتُ بنسيان ملامحها لكني لم أنسى أنها الأجمل و أنها
الوحيدة التي سلبت من عبدالقوي قوتُه حتى جاء اليوم الذي رأيتُ بها مارسة و عادت ملامحُ تلكَ لذاكرتي عادَ الحبُ الميت للحياة لم أجد بمارسة نقصًا و وجدتُ بها حُبي الوحيد و بشعورِ التملك
كانت مارسة لي ، لأجدَ أنها ابنتي ! ، خرجت مني آهة و أنا أمسكُ بكتفي ، و قف ناجي الذي كان يجلسُ على الكرسي المجاور و بيده صحيفة ، اقترب مني و هوَّ يقول : انشدت .
حاولتُ أن لا أظهر ضعفي لكن لا أعتقد أني نجحت فالألمُ فوقَ مقدرتي على التحمل ، أجبتُ و أنا أعضُ على شفتي السفلية و أكابدُ الألم : ايه .
مد يدهُ على كتفي يدلكهُ : الله يهداك يا أبوي لا تفكر بأشياء تكدرك و تغمك ارتاح الله يخليك لنا و يطول بعمرك يالغالي .
حركتُ رأسي بالموافقة و نظرتُ للجهةِ الأخرى بشرود حتى بدأتُ أسمعُ أذآن العشاء من المسجدِ المجاور و أُرددُ من خلفه .
***
الساعة العاشرة ليلاً , أستلقي على السريرِ براحة و كفي فوقَ جبيني أنظرُ للسقف حتى فُتِحَ الباب و خرجت هوازن ملتفة بالمنشفة و بمنشفة صغيرة تجففُ شعرها المبتل و هو تقول مبتسمة : يالله من زمان عن
هالترويش المريح للأعصاب طلع حتى الترويش نعمة .
كانت متوجهة نحو حجرةِ التبديل لكني ناديتُها : تعالي أبيكِ و بعدين ألبسي .
التفتت إلي و حركت رأسها بالقبول ، جلست أمامي على السرير و بيننا مسافة بسيطة اقتربتُ منها حتى التصقت ركبتي بركبتها و مددتُ يدي نحو خدها تسقطُ قطرات الماء من شعرها المبتل
و تشقُ طريقها في ظهرِ كفي ، بأسفٍ و صوتٍ رقيق : هوازني قلبي و الخفوق , أنا آسف والله ما كان بيدي ، ما كنتِ أبيكِ تعانين كل هالمعاناة إنتِ أرق و أطهر من هالأماكن القذرة سامحينـ
وضعت يدها على شفتاي و هيَّ تميلُ برأسها للجانب و ينسدلُ شعرها المبتل تبدو كالطفلة في براءتها : اششش لا تقول هالكلام ما زعلت عليك حتى أرضى بس صدقني بزعل لو بقيت تعاتب نفسك ،
نبي نحتوي عيالنا و ننسيهم الفقد و ننسي نفسنا ، خلينا نقفل هالصفحات للأبد .
ابتسمتُ لها بحبٍ و امتنان ، كم أشكر الله أنكِ من نصيبي أنكِ ملكي و قدري ، وضعتُ يدي خلف رأسها و سحبتُ رأسها برفق إلى صدري مسحتُ على شعرها المبتل ، والحياة تعودُ لجسدي على
حرارةِ أنفاسها التي تلفحُ صدري فتزيدُ من ضرباتِ قلبي ، سرعة النبضات ، تعالي الأنفاس , برودةَ أطرافي و حرارةَ جسدي كل هذهِ الطقوس تعني أن صغيرتي و طفلتي بالقربِ مني في حجري
تُمارس قوةَ حضورها على المتيمِ بها .
****
تمددتُ على السرير بابتسامةٍ واسعة الحمدلله قد حُلت مصائبنا خرجت هوازن و زوجها من الزنزانة , ضحكت أسنانُ أطفالهم بعد بكاءٍ مديد
و صدقت ألسنتنا بعد أكاذيب لا تنتهي " بكرة بيرجعوا " و أخيرًا ها هم عادوا و عادت البهجة للمنزل
عُزوف التي و أخيرًا ابتسمت باحتضانها لغانم و التكفل بتربيتهِ
أبي الذي أعطانا ضوءَ الأمل بأنه لازال على قيدِ الحياة
حميدة التي عادت لفطرتها السوية و عادت للمولى عبدةً خاضعة لهُ سبحانهُ و تعالى
و براءتي التي ظهرت بعد طولِ الاتنظار
ما تبقى سوى أبنائي الذين بكلِ يوم يسألون عن معن فأجيبهم بأنه آتي و ما هوَّ بآتي
لقد تذكرت هاتفي المحمول الذي أغلقتُه بالأمس , أخذتُ الهاتف من تحتِ وسادتي و فتحتهُ
و انتظرتُ قليلاً حتى وصلت الرسائل , فتحتُ " الواتس أب " سريعًا
و توجهتُ نحو اسمه فتحتهُ لتصطدم عيناي بصورةٍ لوجههِ مشوهًا بالحروق
و أخرى بجسدهِ النحيل شعرهُ الأشعث لحيتُه المبعثرة الإعياءُ و التعب بعينيهِ
كبرتُ حجم الصورة و مشيتُ بأصابعي على جروحهِ و كأني أمسحها عن وجهه , على عينيهِ أزيلُ الأرقَ عنها , و أخيرًا فوق ندبتهُ أُقَبِلُها ولا أدري ما الذي يجري بي
سوى أن ضربات قلبي لا تستكين , معن ماذا يحصلُ لك ؟
أين ساديتك ؟ أين سطوتك ؟ أين سلطتك ؟ أين حضورك ؟ نزاقتك ؟ أين أنتَّ بين هذهِ الملامح ؟
فلتجيبَ يا معن أين أنتَّ من بينها ؟ ما لي لا أراك ؟
فلتجيبَّ يا معن أينَّ السادية عنك ؟ كيف أضاعت طريقها ؟
لا يليقُ بك هذا الوهنُ و الضعف و إن كنتُ أبغضُ تزاقتك و وحشيتك
لا يليقُ بك دورَ المازوخية و إن كنتُ أبغضُ ساديتك
معن لا أستطيعُ الغفران و المسامحة و لكني لا أستطيعُ الوقوف مكتوفةَ الأيدي !
انتفض جسدي بهلع حينما اخترق رنينُ الهاتف جدران الحجرةِ البكماءُ , الصماء
تحملُ اسم ركــــــــاض !
***
إنتهى الجحيم
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
كونوا بخير $
الجحيم الجاي يوم السبت .