***
أسندت رأسها الى إطار النافذة تراقب تساقط الثلج ندفة بعد الأخرى.. تضم كفيها اليها برجاء صامت..أن ينتهي هذا كله.. هذا العذاب وتعود الى حضن أمها سعيدة مطمئنة.. هانئة دون مشاكل دون فراس.. دون سيف!!
ابتلعت ريقها وأشاحت بصرها عن الغابة التي كانت تنظر لها دون توقف.. تنتظر رجوعه كماوعد.. ولكنه لم يفعل.. تنهدت وغرقت في كوب من حليب الشوكولاتة السخن اعدته لها العجوز الفرنسية حين احترق الصمت بفعل صوت محرك قوي.. انتفضت واوقعت كوب الحليب وهي تقفز للنافذة لتراقب الجيب التي توقفت مثيرة عاصفة من الثلج والتراب امام بوابة الكوخ العتيقة.. لاتعرف ماهية الشعور الذي اجتاحها لتقفز على ساق واحدة نحو الباب تفتحه على مصراعيه بانتظاره ان يترجل ويقترب نحوها..
وقفت شاهقة للهواء تتطاير خصلاتها الغجرية حولها بجنون وهي تلتهم وجوه الافراد الذين ترجلوا من الجيب بحثاً عن وجهه عن ملامحه التي تطمئنها..!!
ولم تجده؟؟
اتسعت عينيها بخيبة.. ونقلت بصرها بين الرجلين اللذين تقدما نحوها بسرعة واحدهما يقول بحزم:
-تعالي معنا سيدتي يجب ان نتحرك الأن.
تراجعت بخوف وهتفت:
-انا لن آتي معكم الى أي مكان؟؟ اين سيف؟؟
خرج اسمه من بين شفتيها ناعماً.. نادياً.. وكأنها تناديه منذ نعومة أظافرها.. ليفاجئها هي نفسها وتتضرج وجنتيها بحمرة الخجل..
-هو من أرسلنا سيدتي فلاتأخرينا لازالت الطريق طويلة..
-لن أذهب معكم الى أي مكان..
هتفت بعناد.. لتسمع رنين هاتف بعدها وترى الرجل الذي يكلمها يلتقط هاتفه بحدة ويتبادل مع محدثه بضع كلمات قبل ان يناولها الهاتف قائلاً بحنق:
-لـكِ..
نظرت للهاتف بوجل وقلبها يخفق بجنون وهي تعرف من ينتظرها على الطرف الاخر.. قبل ان تسحبه اليها وتضع سماعته على اذنها .. تسلل صوته الاجش اليها عبر ندفات الثلج..عبر الهواء البارد.. عبر أشعة الشمس الباردة..
-اذهبــي معهم ياسلمى..
قالها بخفوت.. يراقب من بعيد عمته التي تجلس الى جوار باب غرفة ابنها وقد تمكن منها النوم فاسندت رأسها لذراعها وغابت في عمقه..
-اذهبي معهم ولاتخافـــي..
-سيــف..!!
همست مرتجفة ليغلق عينيه متمتعاً باسمه الذي غادر شفتيها متلوناً بلونها الاسمر.. ودفئ عينيها السوداوتين.. ربااااه.. ستقتله يوماً من فرط شوقه.. ابتلع ريقه وهمس باسمها يناجيها:
-سلمـــى ..؟؟
-ألن تأتي؟؟
همست بخوف وهي تنظر للرجلين.. ليبتسم بأسى:
-اذهبي معهما ياسلمى الان.. لاتخافي وثقي بي فقط.
-الى أين سيأخذونني؟؟
هتفت مذعورة.. ليتنهد ويهمس مطمئناً:
-ستعودين الى عائلتك..
قالها بصعوبة.. وكانه يتنازل عن جزء من روحه.. جزء من جسده..
-سيأخذونك الى عمك سالم..
-سأعود الى المنزل؟؟
تسائلت بذهول امتزج بشيئ غريب وصل اليه ولم يصدقه.. فبين اندهاشها... وعدم تصديقها.. كان هناك شيئ من الخيبة.. تسلل الى صوتها ووصله بصعوبة بسبب الاتصال الرديء!!
ومع ذلك كله وصله بالكاامل..
وصل الى عمق قلبه وهزه من الوريد الى الوريد.. بعثر دقاته واراقت دمائه..
-سلمى؟؟؟
همس بذهول لتنتبه الى زلت لسانها التي التقطها ببراعة.. وشهقت تغلق الهاتف ناظرة الى مرافقيها هاتفة بوجل:
-هيا بنا..
سارعت بالركض وهي تلتقط شالها الازرق لتحيط عنقها متجاهلة الم قدمها ولحقت بالرجال الى الجيب التي انطلقت تسابق الريح نحو وجهتها..
....
بعد ثلاث ساعات ...
التقط فراس حقيبته وحقيبة سلمى من مؤخرة السيارة التي توقفت به وبأبيه امام مطار شارل ديجول وتوجها معاً الى صالة الانتظار حيث تلفت ابيه حوله بقلق..
لقد قال له سيف ان سلمى في الطريق وانها ستكون في المطار في الوقت المحدد لاقلاع الطائرة والتي ستتحرك بعد نصف ساعة فقط من الان..
كان يحمل جواز سفرها بيده مع التذكرة الى الاردن حيث سيمضون الليلة ومن ثم يتوجهون الى عدن في التي تليها لعدم توفر رحلة مباشرة في هذا الوقت..
-هل تراها؟؟
هتف فراس بقلق.. ليتجهم وجه سالم وقلبه يحترق قلقاً عليها.. رباااه كيف وثق بابن الشيب.. كيف وثق به ان يعيد له ابنة أخيه ؟؟ تآكله القلق.. وعادت عيناه تبحثان في الوجوه بلاتوقف وه يهتف بابنه:
-اذهب واودع الحقائب.. سأنتظر سلمى هنا..
اومأ الفتى وسارع بالذهاب بينما عينا والده تلتقطان وجه اي امرأة بشعر اسود.. حين..
-عماااااه..
التفت للشرق وهو يشهق بارتياح لرؤيته الشعر الغجري الاسود يتطاير في غيمة تركض نحوه قبل ان يختفي الجسد الضئيل بين ذراعيه وهو يحمد الله دون توقف وسلمى تشهق بالبكاء بعنف.. تحيط عمها بذراعيها بقوة وجسدها كله ينتفض..
-ااه بنيتي حمدالله على سلامتك.. حمدالله على سلامتك..
-عمي.. ااناا..ااا.. انا ارييييد اميي..
شهقت باكية.. ليضمها اليه بقوة وهو يهمس تأثراً:
-سنعود اليها بنيتي لاتخافي.. لاتخافي ياسلمى.
ثم احاط بوجهها ينظر لكل تفاصيله هامساً:
-هل انت بخير ياصغيرتي؟؟ هل تعرضوا لك بمكروه؟؟
بكت بدموع صامتة وهي تهز رأسها نافية.. لم يؤذها .. جسدياً على الاقل.. وهذا كل ماعليهم معرفته.. رأت عمها ينظر لباقي جسدها قبل ان يتوقف عند قدمها المضمدة.. وحملت عيناه قلقه لتهمس:
-انها اصابة خفيفة.. لاتقلق عمي.
-دعينا نذهب اذاً.. يجب ان ننهي اجرائاتنا..
اومأت قبل ان يحيط كتفيها بذراعه ويمضي بها الى الداخل.. وهناك وجدا فراس بانتظارهما.. حالما رأى سلمى اقترب وسألها بقلق:
-هل أنت بخير ياسلمى؟؟
نظرت اليه بحقد.. لم تظن انها قد تكره احداً في حياتها كماتشعر انها تكره فراس الان.. رأت يده تمتد ليلامس كتفها فتراجعت باشمئزاز صارخة:
-لاتلمسني..
احتقن وجهه وشعرت بذراع عمها تحيطها بقوة.. قبل ان يقول بصرامة:
-هيا بنا لاوقت لهذا الهراء الان..
اشاحت بوجهها عن خيبتها الكبيرة والتي تمثلت بابن عمها الذي تقدمهما بزفرة حانقة غاضبة.. وكأنما يلومها على شعورها بالنفور منه.. والسبب كله يتمثل به..
انتهت اجرائاتهما بسهولة ويسر لموقع عمها الديبلوماسي..وجنسية زوجها الفرنسية.. قبعت بعدها بالانتظار مع عمها تذود به وجلس الى الجهة الاخرى منه فراس يضع على أذنيه سماعات جهاز تسجيل وتغرق ساقه في لحن ما يسمعه بكل حواسه..
-الى أين سنذهب ياعمي؟؟ لماذا نهرب؟؟
تنهد عمها وحار فيما سيقوله لها.. هل يخبرها ان أخيها قحطان هو السبب في هروبهم كالجبناء..الا انها لم تمهله فرصة اختلاق كذبة ما وهمست متسائلة:
-هل مافعله قحطان بعبدالعزيز هو السبب؟؟
-وكيف عرفتي؟؟
تسائل بدهشة لتخفي وجهها مشيحة هامسة:
-سمعت سيف الشيـــب يتحدث بالامر..
-سلمى..
ناداها برقة لتنظر اليه.. كانت عيناه تذكرانها بجدها.. فيه الكثير من حنانه ورقته.. ولذا ابتلعت ريقها وهي تنتظر سؤاله الحتمي:
-مالذي أراده سيف الشيب منكي؟؟ لماذا اختطفك؟؟
ابتلعت ريقها بصعوبة.. ودافعت عن الغريب بكل مااوتيت من شجاعة:
-هو.. هو لم يختطفني..
عقد عمها حاجبيه.. باستغراب حقيقي وهي تقع في فخ ماقالت..ومايجب عليا تفسيره..
-لقد خرجت في نزهة.. ولكنني ظللت الطريق.. ولكنه وجدني وكان الوقت غير مناسب للقيادة وسط الغابة.. فبقينا عند عجوز فرنسية .. لقد ساعدني حين أصبت قدمي.. وحالماعرف مافعله قحطان طلب مني الاختباء حيث انا لأن عائلته تبحث عن أحد افراد عائلتنا للانتقام فقط..
تكلمت بسرعة.. تؤلف قصة ما عن فارس شجاع..
خطف قلبها.. دون أن تعرف.. حتى اليوم!!
ابتلعت ريقها المتحجر واشاحت عينيها عن وجه عمها المتشكك.. كانت تضغط على اصابعها بقوة.. تعض شفتيها بقلق.. عينيها تتلفتان حولها بترقب..
عما تبحثين؟؟ فكرت بحرج.. عنه؟؟ أتظنينه سيأتي؟؟
حبست دموعها بصعوبة وهي تنهض حين سمعت النداء الاول لطائرتها.. واستجابت لذراع عمها وهي تتلفت حولها بلهفة.. دون فائدة..
كانا باتجاه البوابة الخارجية الى حافلات النقل الى الطائرة.. عبر فراس اولاً..
حاولت السيطرة على ارتجاف قلبها واصابعها.. حاولت السيطرة على دموعها التي انسابت كخيط رفيع.. لو تجاوزت الباب الان.. فلاشيئ .. لاشيئ ابداً سيعيدها الى هنا..!!
شهقت بالدموع ورأت عمها يتجاوز البوابة بعد فحص خاطف لجوازه وتذكرته.. ورأته يشير لها انه سينتظرها في الجهة الاخرى..
كان دورها..
نظرت للمرأة الواقفة قبالتها بابتسامة وهي تطلب تذكرتها.. ناولتها اياها بارتجافة.. وهي تحاول التخلص من فيض دموعها.. قبل ان تنتفض بقوة وتدير رأسها بحدة وهي تسمع الصوت الجهور صارخاً اسمها:
-سلمىىىىىىىىىىىىىىى..
....
لم يعد يستطيع المقاومة أكثر..
لم يعد يقدر على السيطرة على رجفة قلبه وهو يتخيل انه لن يرها بعد الان.. غادر المستشفى متجاهلاً اوامر ابيه الصارمة وانطلق بسيارته الى المطار.. فقط لمحة واحدة قبل ان تغادر فقط نظرة واحدة لعينيها قبل ان ترحل الى الابد.. نظرة واحدة قبل ان يُحكم على حبه بالدمار..
قطع المسافة بسرعة جنونية كعادته متجاهلاً صفارات الاعتراض من السيارات الاخرى.. ومتأكداً من سيل المخالفات التي ارتكبها..
كان عليه ان يصل للمطار في الوقت المحدد.. والا فانه سيندم طول عمره..
وفعل.. كان يسمع النداء للرحلة التي يفترض ان تغادر بها.. تجاوز صالات الانتظار متجهاً الى البوابة بسرعة كبيرة .. تجاهل صراخ كل من يتجازهم بحدة تاركاً لهم تخيل سبب ركضه المجنون وايزاعه لتأخره عن رحلة هامة.. عيناه تحومان حوله بجنون بحثاً عنها.. عن سلمى؟؟!!
رأى الرؤوس تصطف امام البوابة.. اين هي؟؟
فكر بجنون؟؟ هل من المعقول انها قد رحلت؟؟ اتسعت عينيه بجزع ..
تلفت حوله بجنون.. اقترب من الصف..
اين هو الشعر الغجري الاسود.. اين هي غجريته السمراء؟؟!!
-سلمىىىىىىىىىىىىىىىىىى
صرخ بجنون حين لمحها..
كشاردة عن الغجر.. تكاد تتجاوز البوابة.. التفتت اليه بلهفة.. قرأها في عينيها الباكيتين.. ولمح شفتيها تشكلان اسمه بذهول..
لم يعرف كيف تجاوز الصفوف وانقض على كفها يجذبها اليه بجنون..
خارج عن المألوف.. من سطور جنون مطبق..
قربها منه ليشعر بدفئها يحرره من صقيعه الذي استحكمه.. عينيها تتألقان بدموع ماسية بللت وجنتيها بسخاء وهي تهمس اسمه مجدداً.. بخفوت بالكاد وصل الى مسامعه..
-سيــف..؟؟!!
اقترب يحوط وجنتها بكفه هاتفاً بلوعة:
-لم اقدر الا أتي.. لم اقدر الا اراك قبل ان ترحلي..
بكت بمرارة ونظرت في عينيه تتلهف لشيئ ما.. شيئ غريب.. شيئ محال.. شيئ لايعقل..
-سلمى أنا أحبـــك..
همسها بكل مافي قلبه من مشاعر.. مشاعر عاتية انتفضت بداخله لتقربه منها يلامس خصلات شعرها ويسمع تنهيدات بكائها الخافت..