كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الحادي عشر
(11)
أنهت صلاتها في خشوع ثم جلست تستغفر بخفوت ريثما تنهي الأخرى استغفارها، وظل الصمت مخيماً لبضع دقائق قبل أن تقطعه هي بتساؤل باسم ـ"كيف حال العروس؟ افتقدت صلاتنا سوياً".
ابتسمت الأخرى وعدلت وضع حجابها وهي تجيبها ببشاشة ـ"أنا أيضاً افتقدت صلاتنا سوياً. أشعر وكأن دهراً مضى منذ آخر صلاة لنا معاً هنا".
لكزتها باستنكار وهي تضحك قائلة ـ"يا للعار..أتقولين هذا بدلاً من أن تتذمري لمرور الوقت سريعاً مع الحبيب؟"
ارتسم تعبير حالم في عينيها الصافيتين وهي تقول بشاعرية ـ"بالفعل مر سريعاً حتى أنني ظننت لوهلة أنه حلم جميل واستيقظت منه اليوم وأنا استعد للعودة إلى العمل".
عادت الأخرى تقول في خبث ـ"أعرف فتاة حمقاء كادت تترك عملها هرباً من الحبيب...ألا تعرفيها؟"
تورد وجهها خجلاً وهي تقول بحرج ـ"بلى أعرفها، وهي ترسل لك سلامها".
ثم ما لبث أن عاد التعبير الحالم يستوطن عينيها وهي تضيف ـ"كلما نظرت إلى (مازن) ورأيت الحب في عينيه أحمد الله لأنني أجبت الهاتف ذلك اليوم. ربما لو هاتفني من رقمه الخاص أو أي رقم آخر ما كنت أجبته. لكنه لحسن حظه وحظي استخدم هاتف دكتور (مصطفى)".
ابتسمت بسعادة لسعادة صديقتها وقالت تدعو من قلبها ـ"أسعد الله أيامكما. إنها تدابير ربك سبحانه. هو أعلم بالأفضل لكما".
ثم قفزت نظرة طفولية إلى عينيها وهي تسألها بفضول ـ"متى تلتقين بأسرته؟ إنك لم تتحدثي عنها".
ابتسمت باتساع وهي تجيبها ـ"(مازن) يستعد لاستخراج تأشيرة دخول أمريكا لنا.. نحن بانتظار صدور جوازي سفري أنا و (مودي)، ونأمل أن نقضي عطلة العام الجديد مع أسرتنا الجديدة. لا تتصوري كم أحببت والديه حينما رأيت صورهما ثم أجرينا اتصالاً مرئياً معهما... أتحرق شوقاً للقاء كل من تجري بعروقه دماء (مازن)".
ارتفع حاجبيها في حنان وهي تلمح تلك السعادة الحقيقية بعيني صديقتها لتشد على كفها قائلة بابتسامة واسعة ـ"ستلتقون جميعاً إن شاء الله. لا تتصوري سعادتي لحماسك هذا.. وأكاد أجزم أن (مازن) أيضاً سعيد برغبتك في معرفة أهله".
نهضت تهندم ملابسها وتستعد للخروج من المصلى قائلة بحنان ـ"من أجله أفعل كل شيء. يكفيني تفانيه من أجل إرضائي أنا وأخي..تكفيني نظرة الحب في عينيه. أعترف أنني قصرت معه قليلاً، لكنني منذ اليوم لن أتهاون في إسعاده. فهو يستحق".
نهضت (منار) بدورها وتبعتها في الخروج من المصلي وسارتا تكملان حوارهما متجهتين إلى حيث المكتب المشترك الذي يجمعهما ب(سلمى) و(راندا) الغائبة.
اقتربتا من المكتب وقد استغرقهما الحديث، لولا أن قطعه مرور ظل طويل إلى جوار (منار) التي رفعت عينيها سريعاً لتدقق النظر في ذلك الغريب الذي مر من جانبها في ثقة مثيراً عاصفة من ذرات عطره الفخم في الممر بطوله.
عقدت حاجبيها وهي تتابعه يختفي بنظرها في نهاية الممر، وعادت تنظر إلى حيث المكتب الذي غادره ذلك الغريب للتو، ولمعت عيناها بجذل وهي تقول بخبث ـ"ترى ماذا كان يفعل هذا الوسيم في مكتبنا؟"
انتبهت (علا) للهجتها فتساءلت ببراءة ـ"هل تعرفينه؟"
اتسعت ابتسامة (منار) الخبيثة وهي تجيبها بثقة ـ" إذا لم تخنني الذاكرة فهو شخص أتمنى أن تُكلل مساعيه بالنجاح".
عقدت (علا) حاجبيها في حيرة وهي تسألها ـ"ما هذه الألغاز؟ من هو ذلك الشخص؟"
غمزت بعينها في شقاوة وهي تحث الخطى إلى المكتب قائلة ـ" الآن تعرفين كل شيء".
كالحلم غادر في نعومة كما اقتحم مكتبها بنعومة قبل قليل.
رفعت كفها تطالعه بنظرات تائهة وهي تتذكر مصافحته الثانية لها قبل قليل، لتترك كفها غارقة في شذى عطره القوي.
لم تكن تتوقع جرأته في القدوم إلى مكتبها دون موعد سابق، ولا نظراته الصريحة التي تشي بإعجابه الحقيقي بها.
وبالتأكيد لم تتوقع أن يسوق أسباباً واهية لزيارتها، وهو العقلاني الذي يجيد رسم خطواته ودراستها قبل أن يخطوها.
عادت تسترجع دخوله المفاجئ مكتبها قبل نحو عشر دقائق بعدما قدمه عم (صبحي)، وابتسامته الواثقة وهو يدلف مقترباً ويمد كفه يصافحها برفق ويسألها عن أحوالها.
لثوان ألجمتها الدهشة قبل أن تجد صوتها فجأة لتتنحنح قائلة بحرج ـ"صباح الخير باشمهندس (أكرم).. أنا بخير والحمد لله. كيف حالك أنت؟"
لمعت عيناه الذهبيتان وهو يجيب بابتسامة هادئة ـ"بخير حال منذ دخلت مبنى صحيفتكم".
أربكتها شذرات الذهب في عينيه لجزء من الثانية قبل أن تتماسك وهي تدعوه للجلوس بمهنية قائلة ـ"تفضل بالجلوس. ماذا تشرب؟"
جلس على المقعد المواجه لمكتبها في ثبات وأشاح بكفه قائلاً بهدوء باسم ـ" لا داعي لذلك. فلن أعطلك عن عملك".
جلست هي الأخرى خلف مكتبها قائلة بحرج ـ"ولكن هذا لا يصح. إنها المرة الأولى التي تزورنا فيها، ولا أريد أن يتهمني شقيقي بقلة الذوق".
أسرع يقول في ثقة ـ"حاشا لله. أنت الذوق مجسماً يمشي علي قدمين يا أستاذة".
توردت وجنتاها بشكل خاطف أثار انتباهه، لتتنحنح موجهة حديثها إلى العم (صبحي) الذي يتابع الحوار وإن تظاهر بالعكس ـ"اثنين قهوة مضبوط من فضلك يا عم (صبحي)".
أومأ الرجل برأسه وخرج من المكتب في اللحظة التي رفع فيها (أكرم) أحد حاجبيه قائلاً بإعجاب ـ"كيف عرفت أنني أفضل قهوتي مضبوطة؟"
ابتسمت بارتباك قائلة ـ" أنت سبب إدمان شقيقي للقهوة، فلا ريب أنك تفضلها بنفس المذاق مثله".
ازدادت لمعة عينيه وبريق الإعجاب فيهما لتشعر فجأة بالخطر، فتابعت مسرعة ـ"هل أتيت ل(رأفت)؟"
هز رأسه نفياً وهو يجيبها بثبات ـ"بل أتيت لأجلك أنت".
أجفلت لعبارته الصريحة، حتى أنها أوشكت على التراجع في مقعدها لولا أن أخرج من طيات معطفه الأنيق كتاباً ميزته بسهولة وهو يردف موضحاً ـ"أتيت للحصول على توقيعك على نسخة كتابك".
ازدردت لعابها المتوتر وهي تقول في حيرة ـ"لكنني وقعت نسختك بالفعل يوم حفل التوقيع".
وضع الكتاب أمامها قائلاً ببساطة ـ"أحد أصدقائي أصر على الاحتفاظ بنسختي الممهورة بتوقيعك رهينة، وقال إنني استطيع الوصول إليك بسهولة بينما هو لا يستطيع ذلك. لذا اشتريت نسخة جديدة وأتيت لتوقيعها له حتى أستطيع استعادة نسختي الأسيرة".
ضحكت بنعومة على تعبيره وهي تسأله ـ"ولماذا لا تتركها له وتحتفظ بالجديدة؟"
هز رأسه قائلاً بحنين غريب ـ"لأنني لا أستطيع التخلي عن ذكرياتي مع تلك النسخة. لذا سأفعل أي شيء لاستعادتها".
ثم ما لبث أن أتبع بشكل مهني ـ"وأنصحك بالتفكير جدياً في الطبعة الثالثة..فقد عانيت حتى وصلت إلى هذه النسخة الأخيرة".
تناولت الكتاب لتوقع اسمها بأناقة على أولى صفحاته الداخلية وهي تحاول استعادة هدوءها نسبياً بعدما شعرت بسخافة فزعها من وجوده، وقالت بعزم ـ"بالفعل أبحث إصدار الطبعة الثالثة من الكتاب، لكنني أفكر في تغيير دار النشر. فلم يرقني التعامل معهم في الطبعتين الأولى والثانية. لم يخرج الكتاب في أي منهما على المستوى الذي أريده. وربما أنشر كتاباً جديداً أيضاً".
اتسعت ابتسامته الواثقة لتتحول إلى ابتسامة من نوع آخر أضاء عينيه وهو يقول في سرعة ـ"إذاَ أحجز نسختي من الآن. فلابد وأن الكتاب الجديد لن يقل جمالاً عن الأول".
تراجعت قليلاً في مقعدها أمام تلك النظرة الباسمة التي تذكرها بنظرات سابقة كانت تجيد بعثرتها، وتنحنحت لتستعيد قوة صوتها الهارب متسائلة ـ"أن تحرص على اقتناء الكتاب الجديد أمر منطقي، ولكن لماذا تصر على استعادة الكتاب القديم ما دمت قرأته من قبل؟"
تسللت أنامله تداعب حافة الكتاب بهدوء وهو يجيبها بثقة ـ"أنت لا تتخلصين من مجوهراتك بعد أن ترتدينها، وإنما تحتفظين بها في مكان أمين وتعودين إليها باستمرار. وهذا هو حالي مع كتاباتك. كلما شعرت بالحنين إلى حروفك أعدت قراءة كتابك، حتى أنني أصبحت أحفظ بعض مقتطفاته عن ظهر قلب".
خفق قلبها لكلماته القوية التي لم تتخيل أن تسمعها من رجل عملي مثله، في اللحظة التي عاد فيها العم (صبحي) بفنجاني القهوة ليضعهما باحتراف أمامهما.
حاولت التشاغل باحتساء قهوتها الساخنة وهي تختلس النظر إلى صديق شقيقها، ورنين كلماته الأخيرة يدوي بأعماقها في قوة.
هاجس قوي كان ينبئها بأن الكتاب ليس الغرض الأساسي من الزيارة، وإنما محاولة اختراق صريحة لدفاعاتها الرافضة لاقتراب أي رجل من حصونها.
وزاد ثقتها في هذا الهاجس كلماته الأخيرة التي أشعرتها بأنه يقارنها هي بتلك المجوهرات، لكنها نهرت عقلها وهي تحاول التمسك بثقتها التي تميزها، والتي بدت في تلك اللحظة أشبه بمنزل عتيق يواجه زلزالاً قوياً يهدد كيانه.
لا تدري كيف جاء ردها على عبارته الأخيرة. لا ريب أنها شكرت له ذوقه وحديثه المنمق. لكنها بالتأكيد لا تذكر كيف وافقت على دعوته للغداء يوماً ما كي يناقش معها بعض الأفكار التي يراها مناسبة لطرحها في مقالاتها الساخرة. ولا تذكر....
"ألم يكن هذا (أكرم منصور)؟"
باغتها السؤال بلهجة (منار) الشقية فأجفلت وهي تخرج قسراً من طوفان ذكرياتها مع ضيفها الغامض، قبل أن تجيبها بصوت حاولت أن يبدو طبيعياً ـ"بلى هو".
لمحت نظرة خطيبة شقيقها الخبيثة فأتبعت بتوتر ـ"جاء ليطلب توقيعي على نسخة من كتابي".
تقدمت (منار) لتجلس على المقعد الذي احتله (أكرم) قبل قليل ونظرت إلى بقايا القهوة في فنجانه لتقول بخبث بدا طبيعياً ـ"توقيعك؟ ألم توقعي نسخته من قبل؟"
تنحنحت (سلمى) وهي تتظاهر بمتابعة شيء ما على حاسبها الخاص قائلة ببساطة ـ"إنها نسخة لصديقه".
تبادلت (منار) نظرة شقية مع (علا) قبل أن تقول بلهجة خاصة ـ"أهاا صديقه. أيصادف أن يكون اسم صديقه (أكرم) هو الآخر؟"
تركت حاسبها لتستدير بحركة سريعة قائلة باستنكار ـ"بالطبع لا. فهو لم يطلب إهداءاً بإسم صديقه و..".
قاطعتها (منار) وهي تقترب بوجهها عبر المكتب قائلة بابتسامة خاصة ـ"لماذا أشعر أن موضوع الكتاب مجرد حجة لرؤيتك وتبادل أطراف الحديث؟ ليس من الطبيعي أن يترك مهندس ك(أكرم) عمله ليأتي وسط النهار هكذا للحصول على توقيعك على كتاب من أجل صديقه".
عقدت حاجبيها في تفكير وقد بدا حديث (منار) منطقياً بشكل أثار حنقها لأنها لم تلحظه من قبل. وكيف كانت ستلحظه وهو اقتحم يومها بشكل كادت أن تنساه منذ ذلك ال....
قطعت (منار) أفكارها ثانية وهي تضيف بحنان ـ"أتمنى أن يكون حدسي صحيحاً وأن..".
قاطعتها هي هذه المرة وهي تقول في سرعة ـ"أي حدس هذا؟ الرجل أتى بكل احترام وطلب شيئاً مني ثم انصرف بهدوء. لا داعي لإعطاء الأمر اكبر من حقه".
رفعت (منار) أحد حاجبيها متسائلة ـ"حقاً؟"
ثم أشارت إلى (علا) التي جلست خلف مكتبها تتابع حديثهما باسمة لتضيف بسخرية ـ"إليك من حاولت بشتى الطرق إغلاق الباب في وجه نصيبها الذي أراده الله لها، وفي النهاية هي اليوم زوجته وتحمد الله على فشلها في إبعاده عن طريقها. فلا داعي للعناد".
ارتبكت الحروف على شفتيها وهي تحاول عبثاً العثور على منطقها الجاهز دوماً، لتأتي (علا) وتجلس بنعومة على طرف المكتب أمامها قائلة بابتسامة رقيقة ـ"صدقيني يا عزيزتي لم تحارب فتاة نصيبها مثلما فعلت مع (مازن). وانظري إلينا الآن..لقد عدنا للتو من شهر العسل..أقصد أسبوعي العسل لأن حالة العمل لا تسمح بأجازة أطول من ذلك".
نقلت نظراتها بين وجهي الفتاتين الباسمين قبل أن تقول بقوة جاهدت لحشدها في صوتها ـ"هل اتفقتما سوياً ضدي؟ أعلم جيداً أنه لا فرار من النصيب ولم أعترض على ذلك. لكن الرجل لم يتحدث سوى بشكل عارض وبكل احترام عن كتابي. فلماذا تصران على أنه أتى لغرض آخر؟"
هزت (منار) كتفيها قائلة ببساطة ـ"ربما لأنني أعرف بالفعل أنه تحدث مع (رأفت) بشأنك ثلاث مرات".
بينما قالت (علا) بنفس الابتسامة ـ"صدقيني الأمر يبدأ دائماً بحديث عارض عن أي شيء سواك، وقبل أن تدركي ما يحدث تجدين نفسك زوجته".
وضعت كفيها على جانبي رأسها بحنق هاتفة ـ"توقفا عن ذلك. قلت لكما إننا لم نتحدث بشكل شخصي وكفى. هيا إلى عملكما وكفا عن الثرثرة وإلا رأيتما وجهي الآخر الذي لا يتسامح مع من يتهاون في عمله".
قالتها وهي تعود بوجهها إلى حاسبها لتتظاهر بالعمل عليه، لكن داخلها كان أبعد ما يكون عن التركيز فيما أمامها.
فقد نجح هذا الغامض بالفعل في شغل تفكيرها به وبأسباب زيارته الحقيقية،
تماماً كما نجح عطره في شغلها به.
***************************
|