(6)
انتبهت فجأة على تحرك(مازن) في الفراش وسمعته يئن أنيناً مكتوماً ويحرك ذراعه الأيمن للحظات قبل أن يفتح عينيه فجأة ليجلس معتدلاً في الفراش ويسحب ذراعه الأيسر برفق بعيداً عن الصغير. رأته يدلك ذراعه الأيمن بألم عاقداً حاجبيه فسألته في قلق ـ"ماذا بك يا(مازن)؟ أتتألم؟"
التفت إليها بحركة سريعة ثم ما لبث أن رسم ابتسامة واسعة على شفتيه ليداري ألمه قائلاً ـ"أبداً. أنا بخير والحمد لله. ما الذي أيقظك الآن؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا أستطيع النوم ليلة السفر."
ثم أدركت أنه يخفي ألمه عنها فنهضت لتدور حول الفراش وتواجهه قائلة بإلحاح ـ"أيؤلمك ذراعك؟ أعتقد أن لدي دهان للآلام في المبرد.سأحضره لك كي تدلك موضع الألم."
قالتها وهي تتجه بالفعل نحو الباب لكنه أمسك ذراعها ليوقفها قائلاً ـ"لا داعي لذلك. إنها الشريحة المعدنية بداخل ذراعي، وأنا معتاد على ألمها. كما أن لدي دهاني أنا الآخر. لا تشغلي بالك بي."
لمست ذراعه الأيمن برفق وسألته بقلق ـ"هل يزول سريعاً؟ يمكنني .."
قاطعها بابتسامة عذبة وهو يقول بنعومة ـ"لقد زال الألم بالفعل حينما وضعت أناملك السحرية عليه."
تخضب وجهها خجلاً وأبعدت يدها عنه في سرعة وهي تقول بارتباك ـ"عد إلى نومك إذاً ما دمت بخير. الساعة ما زالت السادسة صباحاً."
جذبها من ذراعها ليجلسها أمامه وهو يسألها باهتمام ـ"وماذا عنك؟ ألن تنامين؟ أشعر أن النوم جافاك بسبب نومي معكم في نفس الغرفة.يمكنني النوم في الردهة بالخارج إذا أردت."
ازداد حرجها فقالت في سرعة وهي تحفظ توازنها ـ"لايصح ذلك. أنت في بيتك الآن. إنها عادة عندي أن يجافيني النوم ليلة السفر، ربما بسبب سعادتي لأني سأسافر. يبدو أنني لن أتخلص من هذه العادة الطفولية."
تأمل ملامحها الرقيقة ووجنتيها الورديتين للحظات قبل أن يهمس ـ"لا أريدك أن تتخلصي من أي عادات طفولية لديك، فهي سر جاذبيتك."
ثم ما لبث أن اعتدل على الفراش ليتابع قائلاً باهتمام ـ"أتدرين أنك رغم كل أقنعة الجدية التي كنت ترسمينها على وجهك كنت اشعر بأنك في أعماقك طفلة بريئة تحملت مسؤولية أكبر من سنها."
منحته ابتسامة جانبية وهي تقول بخبث ـ"يبدو أنك كنت تراقبني جيداً حتى تسبر أغواري بهذه المهارة."
ابتسم بنعومة وهو يداعب وجنتها قائلاً ـ"أعترف بهذه التهمة تماماً، والحمد لله أن مراقبتي أسفرت عن نتائج إيجابية، وجعلتني أظفر بأجمل عروس."
شعرت بدماء الخجل تلهب وجهها فنهضت قائلة في سرعة ـ"يبدو أنك لا تريد العودة للنوم. لذا سأذهب لإعداد الإفطار. ما هو إفطارك المفضل؟"
تراجع ليسند رأسه على ظهر الفراش وهو يجيبها قائلاًـ"لا داعي لأن تتعبي نفسك، فأنا لا أتناول الإفطار عادة."
أسرعت تقول معترضة ـ"إلا الإفطار، أرجوك.(مودي)أيضاً لا يحب تناول الإفطار ويأكله مجبراً، وإذا رآك لا تتناول الإفطار أنت الآخر سيصر على موقفه ولن تُجدي معه أي وسيلة."
تراجع قائلاً بمرح ـ"لا، إلا(مودي). سألتزم بكل أوامرك يا(ماما)."
عقدت حاجبيها ثانية وهي تحاول استساغة كلمة ’ماما‘ قبل أن ترددها بضيق قائلة ـ"ماما؟ لماذا قلت هذه الكلمة؟"
تجمدت الابتسامة على شفتيه وهو يقول بحرج ـ"هل ضايقتك؟ لم أقصد. لقد سمعت(حمزة) يخاطب زوجته في الهاتف هكذا فظننت أنها كلمة طبيعية بين الأزواج."
حاولت العودة إلى حالتها السابقة وهي تقول ـ"طبيعية بين الأزواج عندما يكون لديهم أطفالاً، وليس في أول أيام الزواج."
نهض متجهاً إليها وهو يقول بأسف حقيقي ـ"تقبلي اعتذاري إذاً."
قالها وهو يلتقط كفها الرقيق ليلثمه بحب هامساً وهو يغوص بعينيه في عينيها ـ"هل تقبلته؟ لن أسامح نفسي لو تسببت في مضايقتك يوماً."
منحته ابتسامة عذبة وهي تلمس كفه بأنامل كفها الأخرى هامسة ـ"وأنا لن أغضب منك يوماً."
تأمل عينيها لثوان كاد فيها يفقد تماسكه، قبل أن يلحظ ماترتديه فيلمع الخبث في عينيه وهو يداعب معصمها بسبابته هامساً ـ"ما هذا الذي ترتدينه يا عروسي؟ هل تشعرين بالبرد؟"
شعرت بتيار كهربي يصعقها من لمسته فازدردت لعاباً وهمياً وهي تحاول التماسك أمامه، لكنه زاد من ارتباكها وهو يقترب أكثر ويزيح ياقة المعطف قليلاً ليرى المنامة الوردية تحتها ويمط شفتيه قائلاً ـ"هل ترتدي العروس منامة كهذه في ليلة زفافها؟"
واتتها جرأة مفاجأة جعلتها ترفع عينيها إليه لتقول في سرعة ـ"وهل يترك العريس عروسه ليلة الزفاف لينام محتضناً أخيها؟"
وكعادتها كلما تسرعت وتفوهت بما تندم عليه، عضت شفتها السفلى بحرج وحاولت أن تخفض وجهها لولا أن لاحظت الاحمرار يكسو وجه زوجها وهو يتنحنح في حرج هو الآخر، قبل أن يعود لطبيعته المشاكسة قائلاً ـ"هذا ما سألته لنفسي حينما استيقظت. كيف نمت وأمامي كل هذه الفتنة؟ هل وضعت لي منوماً في كوب الحليب الذي قدمته لي أمس؟"
رفعت أحد حاجبيها باستنكار وهمت بالرد عليه، لكنها سبقها وهو يحرر شفتها السفلى من ضغط أسنانها هامساً ـ"ارحمي شفتيك حبيبتي وتقبلي مزاحي.أعتذر عما حدث وعلى استعداد لتعويضك الآن".
قالها وهو يراقص حاجبيه مضيفاً بخبث ـ"فأنا لم أر نقوش الحناء بعد. وقلبي يحدثني أن ما خفي كان أعظم وأحلى".
انتابتها ارتجافة قوية لفتت انتباهه فاستغلها وهو يضمها إليه قائلاً باهتمام ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ هل تشعرين بالبرد؟"
زادت ارتجافتها وهي تشعر بذراعيه يحيطانها بنعومة وأنفاسه الدافئة تداعب عنقها لتختلج عضلات معدتها بقوة لا تعهدها إلا حين اقترابه منها بهذا الشكل. حاولت الاسترخاء وإراحة رأسها على صدره لكن صوت خفقات قلبه القوية أربكها، وزاد هذا الارتباك قبلاته الخفيفة التي كلل بها شعرها وعنقها حتى أوشكت دقات قلبهاعلى التوقف بعدما نسيت شيئاً يسمى التنفس.
نعومة قدها تحت ذراعيه ورائحتها الرائعة التي تسللت إلى شغاف قلبه نقلاه إلى عالم آخر لا يوجد به سواهما، فقربها إليه أكثر ليتنسم عبيرهاعميقاً ويرسل قبلاته الملهوفة على شعرها وعنقها تمهيداً لمزيد من الخدر وهو يُمني نفسه ببلوغ النعيم قريباً. كان يضايقه شعوره بتجمدها بين ذراعيه، لكنه كان ماضياً في عزمه موقناً بأنها سرعان ما ستذوب بين ذراعيه كما ذابت أمس، لذا لم ينتبه لانتفاضتها العنيفة إلا حينما ابتعدت عنه في حرج وبصرها معلق بالفراش حيث ينام الصغيروهمست بخفوت ـ"آسفة. لقد تحرك (مودي) في الفراش وخشيت أن يرانا هكذا".
حدق فيها للحظات دون استيعاب قبل أن يتنحنح قائلاً بصوت متحشرج ـ"لا عليك. لم أنتبه".
ثم ما لبث أن عادت ابتسامته الجذابة تضيء وجهه وهو يتناول ذراعها ليتأبط ذراعه ويصحبها إلى خارج الغرفة قائلاً ـ"إذاً فلنخرج من الغرفة كيلا نوقظه. هيا لنُعد الإفطار."
تأبطت ذراعه بابتسامة واسعة وصحبته للخارج قائلة بلهجة مسرحية ـ"تفضل معي أولاً في جولة حول منزلي المتواضع."
واتجهت به إلى غرفة مجاورة لغرفتهما فتحت بابها ودعته لدخولها قائلة ـ" هذه الغرفة كانت لزوجة أبي أيام زواجهما. اشتراها أبي وقت أن تزوج(بهيرة). وبعد انفصالهما أغلقناها ولم أدخلها إلا لتنظيفها. والغرفة المقابلة كانت غرفتي فيما سبق والآن يستخدمها (مودي) في اللعب. أما الغرفة التي كنا بها فهي غرفة والداي التي تزوجا فيها، لذا أنام فيها مع(مودي) حتى أشعربوجودهما إلى جواري."
ثم تأملت ملامحه للحظات قبل أن تقول ضاحكة ـ"لاتخف، فقد توفى كلاهما في المستشفى."
هز رأسه لينفي انطباعها عن خوفه وأحاط خصرها بذراعه قبل أن يقول بغتة ـ"أنت لم تحدثيني عن والديك من قبل. حدثيني عنهما."
استدارت لتواجه الردهة وجذبته من كفه إلى مكتبة خشبية أنيقة تحتل جداراً بأكمله واصطفت على رفها الأوسط عدة صور في أُطر أنيقة ميز فيها صوراً لفاتنته في مراحل عمرية مختلفة وصوراً ل(مودي). لكن أكثر ما لفت انتباهه كانت صورة في المنتصف تماماً محاطة بإطار مميز وبها سيدة محجبة ورجل وقور في الأربعينات من عمريهما تتوسطهما فتاتين لا يتجاوز عمريهما الثالثة عشرة وقد اختلطت ملامحهما بين الطفولة وبدايات الأنوثة وإن لم يختلف جمال الفتاتين عما يراه على وجه زوجته الآن. كانت ملامح الفتاتين واحدة تقريباً، مما يؤكد أنهما توأمتان. نفس العيون الزرقاء الباسمة، ونفس الشعر الذهبي الحريري المحيط بوجهيهما، ونفس الابتسامة الطفولية على شفاهما، وكأنهما لا تدركان قسوة ما تخبئه لهما الأيام.
وقبل أن تتحدث (علا) عن الصور ابتدرها زوجها بسؤال تملؤه الدهشة ـ"ما هذا؟ ألك توأم"؟
أجابته بهدوء حزين قائلة ـ" نعم. توأمتي (عنان). هذه الصورة التقطت لنا في يوم مولدنا الثالث عشر، آخر يوم ميلاد احتفلنا به، وربما يكون آخر يوم شعرت فيه بالسعادة. بعدها انفرط العقد وتحملت المسئولية وحدي. ربما شعرت بالسعادة عند مولد(مودي) لكن نظرات الناس لنا نغصت سعادتي."
ثم التفتت إليه وأضافت بعينين دامعتين ـ"إذا كانت أصعب لحظات حياتك هي وفاة رفيقك وأنت شاب...فأنا عشتها ثلاث مرات، أولها وأنا في الثالثةعشرة...ولازالت حياتي كلها صعبة".
شد قبضته على خصرها لا إرادياً ليقربها منه أكثر ومد كفه الآخر ليربت على وجنتها في تعاطف، لكنه شعر بإرتجافتها التي إنتقلت إلى صوتها وهي تقول ــ"لقد سئمت التبرير المتواصل لحقيقة صلتي ب(مودي) وأنه أخي من أبي وليس إبني."
احتواها بحنان هامساً ـ"أدرك صعوبة الموقف، ولكنه يوضح شجاعتك وصمودك في تحمل تلك المسؤولية."
وتابع وهو يمسح دمعة تسللت على وجنتها قائلاً بتأثرـ"وأسف على كل ما مررت به من آلام، حتى لو لم تختاري إخباري بها الآن".
ثم حاول أن يدير دفة الحديث بعيداً وهو يداعب خصلات شعرها متسائلاً ـ"ولكن هذه البشرة الشقراء والشعر الذهبي الذي لم أر مثله حتى الآن...هل جذورك تركية أم سورية؟"
نجحت محاولته في تغيير الموضوع، وهزت زوجته رأسها نفياً وهي تجيب بابتسامة غامضة ـ"غيّر الحروف قليلاً...جذوري روسية".
تراجع في دهشة حقيقية وهو يكرر ـ"روسية؟ كيف؟"
ضحكت لملامح الدهشة التي ارتسمت على وجه زوجها وهي تقول ـ"ألم تقل إنني قنبلة مفاجآت؟ إليك المزيد منها."
حاول الرد ولكنه لم يجد كلمات مناسبة فتابعت تشرح له قائلةـ" جدي كان من إقليم أذربيجان، وحينما شدد قادة الإتحاد السوفيتي على المسلمين فر بدينه وأسرته إلى مصر. أتى برفقة زوجته وابنتيه وابن شقيقة زوجته. وفي مصر تزوجت الابنة الصغرى من ابن خالتها الأذربيجاني وأنجبا والدتي، بينما تزوجت الابنة الكبرى من أبن صديق والدها المصري وأنجبا أبي. والمصادفة أن جدي المصري كان بدوره متزوجاً من فرنسية، لذا جاءت ملامح والدي هو الآخر غربية، ثم ورثت أناو(مودي) تلك الملامح الشقراء، وإن كان شعر (مودي) أغمق قليلاً من شعري."
دقق النظر للحظات بملامحها وداعب خصلات شعرها الذهبي بنعومة قبل أن يقول بابتسامة ـ"ياللعجب. زوجتي روسية فرنسية وزوجة شقيقي أمريكية. لا عجب أن والدي يعمل في الأمم المتحدة".
ضحكت لدعابته حتى أضاء وجهها، فتأملها ملياً قبل أن يهمس ـ"ياإلهي...وجهك يضيء حينما تضحكين."
توردت وجنتاها قليلاً فتابع بنفس النبرة ـ"وخجل كهذا يزيدك جمالاً."
قالها وهو يقترب بوجهه منها، ولكنها فرت مع حيائها وهي تفلت منه قائلة ـ"هيا لأريك باقي الشقة. لدينا شرفة رائعة تطل على الحديقة.عادة نتناول إفطارنا بها حينما يكون الجو مشمساً وتكون صحة (مودي) جيدة."
قالتها وهي تلتقط وشاحاً موضوعاً على مقبض الشرفة ارتدته على شعرها في سرعة قبل أن تفتحها وتخرج إليها.
تبعها إلى الشرفة التي كانت أشعة الشمس قد بدأت لتوها في إضاءتها، ووقف إلى جوارها يراقبان الشارع الهادئ في هذا الوقت المبكر من الصباح وأصوات الطيور تحيطهما، وسمع (علا) تستنشق الهواء في عمق قائلة باستمتاع ـ"ياربي...ما أجمل نسيم الصباح."
قلدها في استنشاق النسيم المنعش للحظات قبل أن يلتفت إليها قائلاً ـ"وما أجملك في ضوء الشمس الوليدة. لا أدري أيكما أكثر جمالاً. أنت أم هي".
التفتت إليه وقد عقدت حاجبيها لحماية عينيها من أشعة الشمس التي بدأت في الارتفاع قائلة بدهشة ـ"(مازن)! هل تغازلني؟"
اقترب ليحيط خصرها بكفيه قائلاً بنعومة ـ"ولم لا؟ألسنا زوجين؟"
تأملت عينيه للحظات كادت فيها تهتف بأنها طالما انتظرت لحظة لقائهما التي تصارحه فيها بحبها الدفين له، ولكن حيائها منعها من النطق واكتفت بالتطلع إليه في صمت أربكه وجعله يسألها بقلق ـ"هل يضايقك ذلك؟"
تضرج وجهها وهي تخفضه أرضاً للحظات، وكأنما خجلت أن تعلن موافقتها على معاملته الرقيقة معها، قبل أن ترفعه إليه ثانية وهي تهمس في حرج ـ"نحن في الشرفة. قد يرانا أحد الجيران."
تنهد(مازن) في ارتياح وهو يقودها إلى داخل الشقة قائلاًـ"ياإلهي...لقد أوشك قلبي على التوقف".
ضحكت وهي تسبقه إلى الداخل وتستدير إليه قائلةـ"ليس إلى هذا الحد...كفى مبا".
قطعت كلمتها حينما وجدت نفسها فجأة وجهاً لوجه معه وقد التحمت أنفاسهما لأول مرة، فارتبكت وارتفعت دقات قلبها حتى صارت كقرع الطبول في أذنيها وهي لا تدري أمبعثها السعادة أم الخجل أم الخوف. فهاهي بين ذراعي زوجها في أول أيام زواجهما ويعجزها خجلها عن النطق أو حتى عن مبادلة زوجها مشاعره.
كانت تتمنى أن يقترب أكثر وأن تشعر بدفء قلبه، ولكن حيائها أسدل ستاراً من الحمرة القانية على وجهها، وربما عكس ما تعتمل بها نفسها من أحاسيس مضطربة حاولت إخفاؤها وهي تخفض وجهها أرضاً. ويبدو أن (مازن) أدرك ذلك، أوأنه كان يصادف هوى في نفسه. فقد أسرع يحيط خصرها بذراعه وكأنما يحافظ على توازنها، وبيده الأخرى رفع وجهها إليه وتاه للحظات في عينيها الزرقاوين و...