مرت ثلاثة أيام من السعي المحموم والترتيب المجهدوالشراء الذي لا ينتهي حتى شعرت (علا) وكأنها أُصيبت بالتبلد من كثرة ما طافت بالأسواق وشاهدت نوافذ العرض برفقة صديقة عمرها (منار).
أما (أنجيل)، أختها بالرضاعة، فتولت معها مهمة إعادة ترتيب المنزل والإعداد لاحتفالية ليلة الحناء.
يوم الأربعاء لم يكن اقل إرهاقاً للجميع، وهي تشعر طوال الوقت بأنها نسيت شيئاً ما ولم تنته من استكمال احتياجاتها.
ورغم هذا الإرهاق، بدت متألقة بشكل غير طبيعي في المساءوهي تجلس في الردهة بشقة عمو (عزيز) وتحيط بها ماما (تريز) و(أنجيل) و(منار)و(لميس) ابنة خالتها وفتاتين آخرين من بنات الجيران، بينما وقفت الصغيرة (ماري)ذات الخمسة عشر ربيعاً في المنتصف ترقص على أنغام موسيقى للرقص الشرقي وإيقاع التصفيق الرتيب.
كانت مفاجأة لها أن تُصر ماما (تريز) وعمو (عزيز) على إقامة ليلة الحناء في منزلهما، وهي التي تخيلت أنها ستقضيها في شقتها برفقة (أنجيل)و(منار) وربما (لميس) على أقصى تقدير. لكنها فوجئت ب(منار) و(أنجيل) تأتيانها بعد صلاة المغرب ومعهما فستان سهرة رائع أجبرتاها على ارتدائه ووضع لمسات خفيفة من الزينة قبل أن يصعدوا جميعاً إلى شقة عمو(عزيز) الذي ترك المنزل بأكمله مصطحباً(مودي) معه حتى يحتفلوا كما يحلو لهن.
وسرعان ما اكتمل حشد الفتيات في الردهة وبدأن الرقص والغناء في مرح يميز جلسات الفتيات في تلك المناسبات عادة.
ولاندماجها في هذا الجو المرح، لم تنتبه إلى مرور الوقت،ولا إلى رنين هاتفها الجوال إلا حينما ارتفع رنينه بين أغنيتين بنغمة (مازن)المميزة فانتفضت واقفة وهي تشهق بجزع ـ" يا الهي.. إنه (مازن). لقد نسيته تماماً."
قالتها وسط ضحك الفتيات وتغامزهن بينما التقطت هي الهاتف في سرعة وهي تهرع إلى غرفة الصالون المغلقة لتدلف إليها وترد بصوت مهتزـ"أهلاً (مازن)".
أتتها زفرة ارتياح من الجانب الآخر وهو يهتف بها بقلق حقيقي ـ"أخيراً أجبت الهاتف؟ أين أنت؟ إنها المرة الخامسة التي أطلبك فيهاهذا المساء".
أبعدت الهاتف عن أذنها لحظات لترى علامة مضيئة للمكالمات المفقودة فعادت تقول بحرج ـ" آسفة لم أسمع رنينه".
عقد حاجبيه وهو يقول متهكماً ـ"لا تقولي إنك تغطين في نومك ولا تشعرين بما يحدث حولك. ألم تسمعي جرس الباب أيضاً؟"
اتسعت عيناها هذه المرة وهي تسأله ـ"أي باب؟ هل أنت هنا؟"
ابتسم وهو يرتكز بكتفه إلى جوار باب شقتها قائلاً بلهجته اللعوب ـ" أجل ولا يفصل بيني وبينك سوى باب الشقة. (رأفت) أصر على أن أُحضرحقيبة ملابسي اليوم ولا أتركها في سيارتي، لذا أتيت قبل قليل وأوجعتني سبابتي التي تدق جرس بابك. افتحي الباب وأدخليها واتركيها بجانبه في الداخل لأنها نفس الحقيبة التي سأسافر بها".
لمعت عيناها فجأة وهي تنظر خارج الغرفة بحثاً عن (منار)لتفاجأ باختفائها في اللحظة التي سمعت فيها صوت (مازن) وهو يرحب بشخص ما ويسأله عن...لحظة..إنها (منار)...تلك الخائنة.
تجمدت على باب الغرفة في شرود وهي تنظر للهاتف في يدهاوعقلها شبه مشلول عن التفكير قبل أن تلحظ اختفاء (أنجيل) هي الأخرى لترتفع حولها فجأة موسيقى لأغنية شعبية شهيرة و...
صلاة النبي..سيدنا النبي
حصوة فعينك يااللي ما تصلي عالنبي
ادلع يا عريس يابو لاسة نايلو
ادلع يا عريس دا عروستك نايلو
اوعيلوا يا بت اوعيلوا
دا عريسنا أمه بتدعيلوا
اوعالها ياواد اوعالها
عروستنا امها داعيالها
الليلة الليلة الليلة الحنة
الليلة الليلة قوموا وغنولنا
زغرطوا يابنات
واسقوا الشربات
الليلة الليلة الليلة الحنة
التفتت في حدة نحو مشغل الأغاني لتجده واقفاً أمامها فاغراً فاه في ذهول حقيقي وهو يرى فتنتها كاملة للمرة الأولى.
ربما تخيلها من قبل، خاصة بعد عقد قرانهما، لكنه للحق لم يتخيلها بكل هذه الفتنة وكل هذه الرقة.
فقد كانت تقف نصف مختفية خلف باب غرفة الصالون، التي استقبله بها عمو (عزيز) في الزيارة السابقة، وعلى وجهها ملامح ذهول لا تختلف كثيراً عن ذهوله.
هي مذهولة لأنها رأته فجأة
وهو مذهول مما رآه
كانت ترتدي فستاناً وردياً هادئاً من الشيفون الناعم،ترفعه حمالة واحدة بدبوس كريستالي على الكتف الأيسر، وتزين خصره إكسسوارات فضية رقيقة، لينساب بعدها واسعاً بنعومة حتى ركبتيها. أما شعرها الذهبي الكثيف فكان مرفوعاً من الجانب الأيسر بمشط فضي ذو فصوص كريستالية لينساب من تحته بلولبات رائعة على ظهرها بينما نامت بعض خصلاته على كتفها الأيمن ليغطيه تماماً.
جف حلقه وعيناه تواصلان تجولهما على عروسه التي غزا اللون الأحمر وجهها بشكل ملفت وهي تعض شفتها السفلى وتحاول عبثاً الاختباء عن نظراته، لكنه أجفل حينما ارتفعت عدة زغاريد حوله مصحوبة بصوت ماما (تريز) وهي تقول بسعادة ـ"ألف مبروك يا بُني..تفضل بالدخول".
وكأن عروسه الصغيرة كانت تنتظر منه تلك الالتفاتة البسيطة حينما صافح أمها لتختفي خلف باب غرفة الصالون وتغلقه خلفها في سرعة وكأنهاتهرب من شبح مخيف.
لم يندهش من حركتها المباغتة، فابتسم ابتسامة جانبية في حين ارتسم الحرج على وجه ماما(تريز) وهي تعتذر له ـ"آسفة يا(مازن)..أنت تعرف خجلها".
قالتها ولم تمنحه الفرصة للرد عليها، إذ اتجهت نحوالغرفة وطرقت بابها بطرقات سريعة وهي تقول من بين أسنانها ـ"(علا)..افتحي الباب. أنت لست طفلة".
كانت تقف خلف الباب وكأنه تسده بظهرها ودقات قلبها كقرع الطبول في أذنيها حتى أنها وضعت أناملها المتجمدة على صدرها علها تهدئ قفزاته المجنونة وبداخلها حقد يتصاعد ضد (منار) و(أنجيل) اللتان وضعتاها في هذا الموقف.
كيف يراها هكذا بهذا الفستان المكشوف؟ وماذا سيقول عنها؟
بل وكيف تطالبها أمها بفتح الباب له الآن؟
لكنها تعرف لهجة أمها حينما تتحدث هكذا..معناها عقاب قادم في الطريق.
ابتسمت رغماً عنها وهي تتخيل ماما (تريز) تعاقبها ليلة زفافها، وهي التي تغدق على الجميع بحنانها.
لكن حينما تصاعدت الطرقات السريعة مرة أخرى أيقنت أنها ستواجه مشكلة مالم تستجب وتفتح الباب فوراً. لذا التقطت شهيقاً عميقاً تسلحت به وهي تعدل من وضع شالها الحريري على أكتافها وتفتح الباب ببطء شديد وعيناها تعانقان أرضية الشقة وترفضان الارتفاع.
تناهى إلى مسامعها صوت أمها تدعو (مازن) لدخول الغرفة بعد أن أضاءتها، وحينما رفعت رأسها في اعتراض لمحت نظرة زاجرة في عيني أمها جعلتها تبتلع لسانها وتكتفي بالفرار إلى داخل الغرفة في حياء.
لم يصدق أنها قد تفتح الباب ثانية، فهو يعرف مدى خجلها الفطري، لكنه لم يخطئ نبرة ماما (تريز) التي تميز كل الأمهات حينما يتوعدن أبنائهن. لذا اتسعت ابتسامته وهو يرى انفراجة الباب وعروسه الخجلى تختبئ خلفه ثم تفر إلى داخل الغرفة هرباً منه.
دفعته الرغبة في التسلية وفي رؤية المزيد من خجلها وارتباكها إلى دخول الغرفة، هكذا أنبأه عقله.
لكن الحقيقة التي حاول تجاهلها هي أنه كان يتمنى أن يملي ناظريه برؤيتها لمدة أطول، وأن يتمعن أكثر في جمالها ورقتها هذه الليلة.
لذا دلف إلى الغرفة وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة ليجدها جالسة على أحد المقاعد تفرك أصابعها في حرج وقد ركزت بصرها في نقوش السجادة أمامها وكأنها تحفظ الرسوم في عقلها.
شكلها الخجول المرتبك زاد من شعوره بالتسلية، واستغل انخفاض بصرها ليعيد تأملها ثانية بروية.. جمال عنقها الطويل الذي زينته بسلسلة صغيرة من الذهب الأبيض تحمل قلباً ماسياً، بياض ذراعيها المغطيان بشال حريري من نفس قماش الفستان لم يلحظه سوى الآن، ورشاقة قدها الذي التف عليه الفستان بنعومة أبرزت دقة خصرها، لتنتهي تنورة الفستان عند ركبتيها تماماً.
عض شفته السفلى غيظاً وهو يلعن غباؤه الذي جعله يتعهد لها بألا يطالبها بأي التزامات تجاهه. كيف يلتزم بمثل هذا العهد بعد ما رأى؟ إنه يعتقل أنامله بالكاد كيلا تنطلق لتلمس هذه الفاتنة. لكنه لم يطق صبراً أكثر من ذلك ليقترب منها ويتناول كفها الرقيق في راحته ويجذبها ليوقفها أمامه ويرفع وجهها له بأنامل كفه الآخر.
أفلتت إحدى دقات قلبه من عقالها وهو يتأمل وجهها من هذا القرب للمرة الأولى هذه الليلة.
يا إلهي أهناك مثل هذا الجمال الطبيعي؟ والأهم: أهذا الجمال لي وحدي؟
عاد حلقه للجفاف وهو يطوف بعينيه ملامحها الرقيقة التي زادتها لمسات الزينة البسيطة جمالاً وفتنة، لينطلق في رحلة ما بين أهدابها الطويلة المعقوفة دون الحاجة إلى ماسكرا، مروراً بعينيها اللتان زينهما كحل لامع رقيق وظلال جفن هادئة، نزولاً إلى وجنتيها اللتان توهجتا بحمرة طبيعية فاتنة، نهاية بشفتيها اللتان أطارتا صوابه بلمعتها الكرزية ليهتف بانبهار حقيقي ـ"ما شاء الله. أين كنت تخفين هذه الفتنة؟"
حاولت أن تخفض وجهها ليعيد رفعه بأنامله هامساًـ"دعيني أتأملك قليلاً، وألعن غبائي كثيراً".
ارتسم التساؤل في عينيها الزرقاوين ليوضح بابتسامة لعوب ـ"لأنني لن أستطع الوفاء بوعدي لك، ولن أحتمل الابتعاد عنك".
قالها وهو ينحني بوجهه قليلاً ليطبع قبلة رقيقة على جبهتها، أتبعها بأخرى على وجنتها، قبل أن تبتعد هي بوجهها الذي تجمعت به دماءجسدها كله قائلة بفزع ـ" (مازن).. لسنا وحدنا."
اتسعت ابتسامته وهو يلمح ذعرها، فشدد على كفها في قبضته ليقول مازحاً ـ"هل هربت دماءك كلها إلى وجهك؟ هذا التفسير الوحيد لبرودة كفيك واحتقان وجهك".
ابتسمت رغماً عنها وهي تهمس بخجل ـ" منذ التقيتك فسد مقياس حرارتي".
لمس وجنتها الملتهبة بسبابته هامساً بخبث ـ"اتركي لي مهمة إصلاحه. فأنا كفيل به".
شهقت بخفة وهي تبتعد بوجهها عنه وقد أحرجتها جملته، ليتابع هو بابتسامة غامضة ـ"ذكريني بأن أشكر (رأفت) حينما أراه. لولاه ما أتيت لأحظى برؤية هذا الجمال".
عادت روحها المتمردة وهي ترفع أحد حاجبيها في حنق قائلةـ" الأمر كذلك إذاً.. (رأفت) و (منار) اتفقا ضدي..ولن أعجب إذا كانت (أنجيل)وماما (تريز) ضالعتين في هذه المؤامرة".
ضحك ملء فمه وهو يقترب منها أكثر قائلاً ـ"دعك من لهجة الصحافة الآن..فهي أجمل مؤامرة تعرضت لها. وللحق فقد أخبرتني (منار) على السلم أن عمو (عزيز) ضالع معهم في هذه المؤامرة أيضاً".
حاولت التراجع ليصدمها المقعد الذي كانت تجلس عليه وتصبح محاصرة بين المقعد وصدر حبيبها الجريء الذي يصر على أن يصيبها بجلطة بحديثه وهمساته ولمساته.
أما هو فأحاطها بذراعيه وعاد يتأملها ثانية وقد لاحظ طول قامتها الغريب، لينتبه إلى الصندل الفضي الأنيق الذي تنتعله، والذي منحها أكثر من عشرة سنتيمترات إضافية جعلت وجهها في مستوى ذقنه، فانحنى يستنشق عبيرها بقوة قبل أن يبتسم هامساً ـ"كل ما فيك اليوم رائع يا عروسي. حتى رائحتك. أخشى أن أحسد نفسي عليك".
ثم ما لبث أن سألها في رقة ـ" أين الحناء؟"
عقدت حاجبيها الجميلين وهي تسأله بدورها ـ"أي حناء؟إنها ليلة الحناء بالاسم فقط لكننا لم نجهز حناء".
ولدهشتها فقد ارتسمت خيبة الأمل على وجهه وهو يقولـ" ظننت أن العروس تنقش الحناء من أجل عريسها".
ضحكت في توتر وهي تضع كفها على صدره لا إرادياً قائلةـ"(مازن) أنت تتذكر تقاليداً قديمة لم تعد متبعة. ربما كانت النساء يفعلن ذلك في الماضي، أما الآن..".
مط شفتيه قليلاً واشاح بكفه قائلاً ـ" لا عليك.. لاتشغلي بالك. لقد رأيتها في فيلم مؤخراً وراقتني وظننت أن الفتيات مازلن يفعلن ذلك ليلة الحناء".
ضايقها اختفاء لمعة عينيه لتقول في سرعة ـ"إذا كنت تحب الحناء أنقشها من أجلك. من أجلك افعل كل شيء للمرة الأولى".
قالتها وانتبهت لتسرعها لتعض شفتيها في خجل وهي تجذب كفيه عن خصرها وتفلت من حصاره هاربة، في اللحظة التي دقت فيها (أنجيل) الباب شبه المفتوح هاتفة بمرح ـ"هيا..أمامكما العمر كله لتتحدثان..الليلة للرقص فقط".
قالتها وهي تدفعهما أمامها إلى منتصف الردهة حيث التفت حولهما الفتيات في دائرة مغلقة يصفقن على أنغام نانسي عجرم
عيني عليك أناعيني عليك بحن ليك أنا بحن ليك
هيمانة يانا أمانة عليك ريحني ما تسبنيش كدا
مالي بدوب انامالي بدوب، وأنا يادوب كدا وأنا يادوب
حالاً ملاحظة فلحظة أدوب، والحب يعمل كل دا
جرالي دا اللي جرالي ليه؟ هو انت تطلع مين يابيه؟
شوقك وصلي حصلي ايه ودا باينه دا دا اللي اسمه ايه
الحب صياد القلوب، يا ماما دوب قلبي دوب
وبالأمارة مش عارفة أنام ولا انا عارفة كام ولا انا فاهمة ليه
واستجابا رغماً عنهما لضغوط الجميع ليرقصا سوياً للمرةالأولى على إيقاع الزغاريد والضحكات التي تنضح بالسعادة الحقيقية.
****************