كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الـ 13
طرق باب المكتب بلامبالاة بعدما تجاوزه بالفعل وهو يقول بصوت محايد ـ"صباح الخير".
تهللت أساريرها وهي تسمع اقرب الأصوات إلى قلبها، فرفعت وجهها إليه في سرعة وهي تهتف بحب حقيقي ـ"صباح الخير والجمال على أجمل توأم في العالم".
ابتسم بشحوب وهو يتلفت حوله قائلاً بتهكم ـ"ألا تخشين التغزل بي على الملأ في مكان عملنا؟"
ضحكت برقة وهي تقترب منه لتقبل وجنتيه قائلة ـ"بل واقبّل وجهك أيضاً. أنت الوحيد الذي أستطيع تقبيله أمام العالم كله دون حياء..أنت نصفي الثاني..توأمي".
قالتها وهي تحتضنه بالفعل بشوق يومين لم تره فيهما وتهمس في أذنه بشقاوة ـ"لكنني لم أكن لأجرؤ على احتضانك في وجود أي من زميلات العمل..لحسن حظك لم يأتين بعد".
ربت على ظهرها بحنان ومازحها قائلاً ـ"أيتها المخادعة...هيا اعترفي بحدود شجاعتك.. ولعلمك فقد أتيت لهذا العناق خصيصاً لعلمي أنك ستكونين وحدك بالمكتب اليوم".
ابتعدت عنه عاقدة حاجبيها وقد تجمدت ابتسامتها وهي تسأله متوجسة ـ" ماذا حدث؟ لماذا سأكون وحدي؟"
جلس على المقعد المقابل لمكتبها وأجلسها أمامه موضحاً ـ"لا شيء... لقد تعرضت (علا) لحادث أمس وربما تتأخر (منار) في الحضور اليوم..أو ربما لا تأتي. لست واثقاً بعد".
شهقت باستنكار هاتفة ـ"حادث؟ كيف و..".
قاطعها مهدئاً ـ"رويدك يا توأمي.. سأخبرك بكل شيء".
هدأت قليلاً في اللحظة التي ارتفع فيها صوت طرق جديد على باب غرفتها يعلن وصول عم (صبحي) حاملاً قهوتها الصباحية وهو يقول باحترام ـ"صباح الخير يا دكتور (رأفت).. سأحضر قهوتك حالاً".
قالها وهو يضع قهوة (سلمى) على المكتب وينصرف سريعاً.
رفعت قهوتها لترتشف القليل منها قبل أن تقدم الفنجان إلى شقيقها قائلة ـ"أحد مساوئك أنت وصديقك (أكرم).. أصبحت أشربها كثيراً بسببكما. إليك قهوتي وسأنتظر الجديدة. فيبدو أنك لم تنم جيداً".
تناول الفنجان من يدها بابتسامة شاحبة وارتشف بعضاً منه بدوره قبل أن يقول بلهجة عابرة ـ"بذكر صديقي.. هل هاتفته قريباً؟"
أومأت برأسها مجيبة ـ"نعم هاتفته أمس. كان قلقاً من مرض والدته، بل ورفض اقتراحي لزيارتها معك. يصر على أن تزورنا والدته في منزلنا أولاً و..".
قاطعها بلهجة بدت حادة ـ"متى كان ذلك؟"
عقدت حاجبيها في دهشة من حدة سؤاله، لكنها أجابته ببساطة ـ"اعتقد وقت المغرب. هل أخطأت باتصالي به؟ ظننت أن الذوق يقتضي أن..".
قاطعها ثانية بزفرة قوية أفرج عنها ليحاول استعادة هدوءه قبل أن يجيبها ـ"كلا يا حبيبتي لم تخطئي. هل أخبرك ما سبب مرض والدته المفاجئ؟"
هزت كتفيها قائلة في حيرة ـ"ربما أهملت علاج قلبها..لا أدري حقاً. لكن حسبما فهمت فهو لم يكن معها حينما مرضت لأنه تمنى لو استطاع الوصول مبكراً..هكذا قال لي".
طالع وجهها بعينين حائرتين قبل أن يدفن وجهه بين كفيه ويلتحف بالصمت.
أثارها صمته فمدت يدها تزيح كفيه عن وجهه قائلة بقلق ـ"ما الذي تخفيه عني يا (رأفت)؟ هل أصابها مكروه؟ هل..؟".
بترت عبارتها وهي لا تريد إكمال السؤال وكأن المرأة ستموت بالفعل إن هي سألته، لكنه ربت على كفها مجيباً بهدوء ـ"إنها بخير.. لا داعي لهذا القلق."
تنهدت بارتياح وهي تغمغم ـ"الحمد لله".
ثم ما لبثت أن عاد الشك يعبث بأعصابها فسألته ثانية ـ"اخبرني ماذا حدث يا (رأفت)، ولماذا تبدو مهموماً هكذا؟ هل (أكرم) بخير؟"
ضغط فكيه في قوة حتى كادت تجزم أنها سمعت صرير احتكاك أسنانه ببعضها وهو يقول من بينها بحقد غريب ـ"ولماذا لا يكون بخير؟"
عقدت حاجبيها من لهجته الغريبة، في حين واصل هو حديثه الغاضب قائلاً ـ"والدة (أكرم) لم تعاني من القلب من قبل، وما أصابها كان نتيجة انفعال شديد..أو إن شئت الدقة نتيجة مشادة قوية مع ابنها..صديقي العزيز".
شحب وجهها وهي تستمع إليه، وهُيئ إليها أنها تسمع الجملة القادمة بأذنيها.
لكنه لم يقلها
لم يقل سبب المشادة
هي قرأته في عينيه، في اختلاجه عضلات فكه وصرير أسنانه
لذا قالته بخفوت محرج ـ"أنا سبب المشادة..أليس كذلك؟"
حاول الإنكار عبثاً، وأدركت هي محاولته الفاشلة لتتبع بصوت مختنق ـ"لم ترد لابنها المهندس الشاب أن يتزوج ضيفة أمن الدولة، أو ربما هي لا تعلم بأمر أمن الدولة، لكنها بالتأكيد تعلم أنني عانس تجاوزت الثلاثين ولم أعد صالحة للاستخدام الآدمي".
تناول كفيها بين كفيه وضغطهما بقوة هاتفاً بحزم ـ"انظري إلي ولا تتحدثي عن نفسك بهذه الطريقة. أنت لست عانساً ولا يوجد ما يسمى صالحة للاستخدام. أنت أميرتي التي عجزت الأمهات عن إنجاب مثيلتها. أنت بين خيرة فتيات مصر و..".
قاطعته وهي تجذب كفيها من قبضتيه مغمغمة باختناق ـ"أنت تقول هذا لأنني أختك الوحيدة. لكن المجتمع لا يوافقك الرأي".
شدد قبضته على كفيها وقرب وجهه من وجهها وهو يهمس بصدق ـ"بل أقول هذا لأنه الحقيقة، وليذهب هذا المجتمع إلى الجحيم طالما لا يقدر جوهرة نادرة مثلك. جوهرة مازالت محتفظة بنقائها وبهائها رغم بشاعة محيطها. مخطئة أنت إن قللت من قيمة نفسك يوماً لأي سبب... تعلمين ذلك وتدركينه جيداً، وتدركين أنك تستحقين الأفضل دائماً. وربما لم يكن صديقي هو الأفضل لك. لذا أرجوك سامحيني. سامحيني لأنني وضعتك في هذا الموقف السخيف حينما وافقت على تقاربكما".
فرت دمعة متهورة من إحدى عينيها وهي تتمسك بكفيه تستمد منهما قوة وهمية قائلة بصوت مبحوح من غصة الدموع ـ"لا ذنب لك فيما حدث. هي تجربة كان مقدراً لي خوضها إن عاجلاً أو آجلاً، وسأجتازها كالعادة.. لا تخف يا توأمي. فأنت أدرى الناس بصلابتي."
ثم ما لبثت أن قالت بابتسامة مرتبكة وهي تتصنع الثقة ـ"لقد قلتها لأمنا العزيزة من قبل.. أنا لست علبة تونة تخشى فسادها.. وعلى من يظنني كذلك الابتعاد عن مجالي وإلا سمع مالا يرضيه".
حاول مبادلتها الابتسامة، لكنها خرجت على هيئة تشنج لا معنى له وهو يقول معتذراً ـ"سأعود غداً إلى غرفتي القديمة لأشاكسك من جديد.. وليعينك الله على تحمل منقولاتي الكثيرة التي ستحتل غرفتك ولا ريب".
سألته باستنكار ـ"هل ستترك شقتك في القاهرة؟"
تنهد بضيق قائلاً ـ"نعم سأتركها. لن استطيع السكنى بها بعد ما حدث. على أي حال كنت سأتركها عند زواجي، فلن يضير أن أتركها قبله بشهر".
ربتت على كفه بهدوء هامسة ـ"لكن سيضيرك فقدان صديق عمرك. أرجوك لا تبالغ في رد الفعل. لا داعي لأن تخسر رفيق دراستك. لقد أمضيتما نصف حياتكما في هذه الصداقة، فلا داعي لخسارتها الآن. ابتعد إن أردت لبعض الوقت لكن لا تخسره. فأنا أكثر من يفهم عمق صداقتكما. أرجوك لا تحملني ذنب انتهاء تلك الصداقة."
حاول الاعتراض، لكنها لم تمنحه الفرصة وهي تقول بابتسامة استعادت صفائها نسبياً ـ"الأمر لم يتعد مشروع خطبة لم يخرج إلى النور، لذا لا داعي للمبالغة.. سنتجاوز الأمر سريعاً..صدقني".
كم أراد أن يصدقها، ويصدق تلك القوة التي بثها فيها قبل قليل.
لكن ما قالته حين وصول القهوة جعله يدرك أنها لن تتجاوز الأمر بسهولة
فقد غمغمت بمرارة وهي تزيح القهوة بعيداً ـ"لا داعي لها... فقد برئت من الهوى ومن الجنون".
حينها أدرك أنها كاذبة
وأنها لم تبرأ بعد.
|