8 ـ
منزل العاشقــين
سبق أن تنبأ ماركو لهارييت بشهرة عالمية , وها هي ذي تكتشف صحة
كلامه . فخبر اقتحامها (( حاجز مانيللي )) سرعان ما انتشر في روما , وتهافت
الناس على خدمتها .
منتديات ليلاس
قال لها ماركو ذات مساء : (( جئتك الآن شفيعاً . إثنان من زملائي في
العمل يريدان أن يستشيراك لكنك تتجنبينهما . وقد وعدتهما بأن أستعمل
نفوذي , فهما يعتقدان أن لي نفوذاً لديك )) .
قال جملته الأخيرة تلك ساخراً , فقات هارييت : (( تلك فطنة مني ,
فلأنهما زميلاك , بدا لي أن الأفضل ألا ألبيهما . إفرض أن نصيحتي
كانت خـاطئة ؟ )) .
منتديات ليلاس
فقال بمكر : (( وهل ذلك ممكن ؟ )) .
ـ أخبرهما عن القلادة .
كلما قل الكلام عن تلك القلادة الأثرية كلما كان أفضل . وقال لها
مداعباً : (( هل لي أن أبلغ زميلي أن نفوذي معك كان ناجحاً ؟ )) .
ـ أراهن على أنك سبق وأبلغتهما ذلك .
فضحك ولم ينكر .
منتديات ليلاس
لكن هارييت لم تحاول التقرب منه أكثر , إذ كانت تعلم أن لا جدوى
من ذلك . فبعد تلك الجلسة معاً في الحديقة عاد ماركو إلى قوقعته أكثر من
ذي قبل , وبات حذراً مما قد يحدث بينهما .
من حسن الحظ أنها لم تقع في حبه . وقد اقترب الوقت الذي سيفترقان
فيه ويذهب كل منهما في سبيله . هو ليجد عروساً مناسبة في مكان آخر ,
وهي إلى شقة خاصة بها في المدينة .
ذلك أنها قررت البقاء هنا . وبمساعدة ماركو ستستخلص تراثها
الإيطالي , وستكون دوماً شاكرة له ذلك . ولكن بما أن مزيداً من الناس
أخذوا يستعينون بخبرتها ومهارتها , أدركت أنها تضع الآن الأساس لحياة
جديدة هنا , هو ليس جزءاً منها .
منتديات ليلاس
وهكذا , عندما طلب منها أن ترافقه في رحلة لزيارة زبون له يعيش في
(( كورزينا )) التي تقع على بعد مئتي ميل شمال روما تحججت بأنها مشغولة .
فقال بنفاذ صبر : (( يمكنك طبعاً أن تستغني عن يومين لأجلي )) .
ـ أنا كثيرة الانشغـال .
ـ بماذا ؟
ـ ماذا قلت ؟
ـ لا يمكن أن يكون عملك بهذه الأهمية .
ـ أنا التي أقرر ذلك . أعطني هــذا .
منتديات ليلاس
وكان قد انتزع الدفتر الذي دونت عليه ملاحظــات عن عملها الحالي .
وقرأ : (( متحف الفاتيكان )) .
ـ طلب مني السنيور كاريللي أن أتفحص بعض المراجع لأجله .
هذه إذن حقيقة ساحقة حيث أن كاريلي هو أحد الزميلين اللذين
توسط لهما كارلو عند خطيبته . لكن هذا لم يؤثر فيه , فقال : (( ليس لديه
مانع من الانتظار )) .
هي تعلم أن هذا صحيح , فقد كانت تبحث عن عذر ولم تكن متأكدة
لماذا تقوم بذلك , لكنها أرادت أن تبتعد عنه , وربما من الأفضل أن تبقي
الأمر كذلك . فقال بحزم : (( أنا لن اطلب منه أن ينتظر . لقد وضعت
برنامجي وأريد أن أبقيه كما هو )) .
منتديات ليلاس
فقال متوتراً : (( حسناً . لن أسألك مرة أخرى . أرجو أن تخبري أمـي
بأنني جئت وأنني ســأسفر بقية الأسبوع )) .
وعندما خرج بدا كل شيء لها غاية في الغباء . لماذا عاندته بهذا الشكل ؟
لماذا رفضت أن تمضي يومين في صحبته ؟
إنها خائفة مما قد يحصل بينهما , هذا كل ما في الأمر . وخروجه قد
أراحها لأن تغيير رأيها لم يعد بالمستطاع . وهذا لا يعني أنها كانت ستغير
رأيها .
في اليوم التالي تأخرت لوشيا في النوم , فتناولت هارييت فطورها
وحدها . وكانت قد أنهت قهوتها لتوها عندما دخل ماركو . خفق قلبها
سروراً بشكل لا يمكن تجاهله , لكنها أخفت ذلك .
هتفت تقول : (( ظننتك قد رحلت باكراً )) .
منتديات ليلاس
في الواقع لقد شرع في رحلته عند الفجر , وسار حوالي عشرين ميلاً , ثم
أوقف السيارة ونزل منها ووقف متأملاً مناظر الريف . بقي واقفاً حوالي
نصف ساعة قبل أن يصعد إلى السيارة ويعود إلى المنزل .
قال بهدوء : (( لقد عدت لأنني أريد أن تكوني صادقة معي . أريد أن
أعرف السبب الحقيقي لرفضك الحضور إلى (( كورزيتا )) .
ـ سبق وأخبرتك . . .
ـ نعم , أخبرتني , لكنه غير صحيح . وكلانا يعلم ذلك . أريد السبب
الآخر . . . السبب الذي لا تستطيعين أن تخبريني به .
منتديات ليلاس
تملكها الحذر والسرور معاً . أتراه حقاً تكهن بأنها تراجعت لأنها خافت
من أن تزداد مشاعرها قوة نحو رجل غير قادر على مبادلتها ذلك ؟ أم أنه
يبادلها شعورها هذا , وهذه هي طريقته في الإفصاح عن ذلك ؟
ـ ماركو . . .
فقال بلهفة : (( هارييت , أنا أعلم . هــل ظننت حقــاً أنني لن أتكــهن
بالحقيقة ؟ )) .
فهتفت دون جرأة على الأمل : (( هل تكهنت حقاً ؟ )) .
ـ عندما اجتهدت في التفكير , اتضح الأمر لي . خصوصاً بعد مــا حدث
ليلة الحفلة . . . هارييت , قد لا أكون حساساً للغاية , ولكن أظنني أعلم
هذا . دوماً كنا صادقين مع بعضنا البعض , فلماذا لا تخبريني . . . ؟ لا , هذا
غباء , أليس كذلك ؟ كيف يمكنك أن تتكلمي بجرأة عن أمر حساس كهذا ؟
ـ ماركو , أتريد أن تقول . . . ؟
ـ ســأسهل الأمر عليك .
منتديات ليلاس
وتنفس بعمق وصعوبة , بينما انتظرت هي و قلبها يخفق بلهفة . وأخيراً
قال : (( أن لا تريدين أن تكوني معي وحدك . . . لأنك تخافين مما قد أفعله )) .
ـ مـا . . . ماذا ؟
ـ هذا هو الأمر أليس كذلك ؟ ولكن بإمكانك أن تثقي بي أقسـم لك .
خرجت من انبهارها السعيد إلى صقيع الحقيقة : (( فهمت . . . )) .
استطــاعت أن تقـــــول هـــذا آملة ألا يكشف وجـــهـها عــن خيبة أملــها
القاسية . وتابع هو يقول : (( إنها رحلة عمل , زبوني رجل مهم . والمصرف
يجب أن يلبي طلباته وجُل ما يطلبه حالياً هو أن يجتمع بك )) .
ـ هذا ابتزاز !
ـ نعم , أظنه كذلك ولهذا السبب عليك أن تثقي بي . بعد أن أقنعتك
تقريباً بهذه الرحلة , آخـر ما قد فعله هو أن أضعك في موقف محرج .
منتديات ليلاس
ونظر إليها بثبات : (( أرجو أنك قد فهمتني )) .
أرادت أن تضحك , ربما بشكل هستيري : (( هذا ما أظنه . أنت تعد بأن
تكون مهذباً للغاية , دون طرق على الباب في منتصف الليل . . . )) .
ـ أشك في أن غرفتينا ستكونان حتى في الطابق نفسه , لأن مضيفنا رجل
رجعي للغاية . لن يحدث شيء يا هارييت , وأعطيك كلمة شرف .
تمنت لو تضربه بشيء وتصرخ في وجهه أنها لا تريد كلمة الشرف هذه
منه , ولا تريده أن يكون مهذباً للغاية . تريده أن يعانقها كما فعل تلك
الليلة , يا له من معتوه !
لكنها بدلاً من ذلك قالت بهدوء : (( حسناً , لا بأس بذلك )) .
ـ رجوت هذا . فالأمـر هام حقاً . إنه زبون عظيم الـشـــأن . . .
فقالت بوجه مشرق : (( علينا إذن أن نجعله سعيداً . العمل يأتي أولاً
رغم كل شيء )) .
فابتسم لها : (( هذا هو مبدؤك )) .
منتديات ليلاس
ـ أتظنني سأكون مفخرة لك ؟
وضع يديه على كتفها مبتسماً في عينيها بطريقة جعلتها تحبس أنفاسها .
لو فقط . . . وقال بحرارة : (( أنت الآن مفخرة لي , وأنا مزهو بك وأريد أن
أتباهى بك . هيا أحضــري بعض ملابسك بسرعة ريثما اذهب لأرى إن كانت
أمي مستيقظة )) .
حزمت هارييت حاجياتها وسمعت تمتمة صــادرة من غرفة لوشيا ,
فدخلت إليها لتودعها : (( آسفة لرحيلي الفجـائي . . . ))
ـ اذهبي واستمتعي بوقتك حبيبتي .
منتديات ليلاس
كان النهار جميلاً , وكان طريقهما يخترق قرى رائعة . وشيئاً فشيئاً
أخذت نفسيتها تتحسن لمجرد وجودها معه . كان يقود بسرعة ولكن بسهولة
وثقة كعادته في كل شيء يقوم به .
ـ أخبرني عن هذا الرجل .
ـ إلفينو لوكي من أغنى أغنياء إيطاليا . لقد ابتدأ من لا شيء وأصبح
حيث هو الآن بجهده وذكائه . وهو مستشاري منذ سنوات .
منتديات ليلاس
ـ لا أستطيع أن أتصورك مع مستشار . لا أظنك تتيح له الفرصة لأن
يقول كلمة .
فقال جاداً : (( كل شخص بحاجة إلى من يستشيره . ليس فقط في البداية
ولكن على الدوام , ليمنحك حساً برؤية الأمور بأبعادها الصحيحة . تعلمت
الكثير منه عندما كنت مجرد مبتدئ , وما زال لديه أشياء أتعلمها )) .
ـ إنه إذن دماغ مالي كبير ؟
ـ بل الأكبر . إنه يؤمن بالتركيز ولا يرفع عينيه عن متابعة أعماله
المنتشرة في العالم .
ـ أتعني أنه لم يهتم في حياته بشيء عدا المعاملات المالية ؟
ـ لقد تزوج وكانت له أسرة , لكنه ترمل منذ عشر سنوات .
ـ أراهن على أنه تزوج امرأة ثرية .
ـ لا , بل سكرتيرته .
ـ آه , نعم . لا شيء أفضـل من ضمان عمالة رخيصة .
فضحك : (( قد ترينه على شيء من الصلابة والتزمت , لكنك ستحبينه
عندما تعرفيه جيداً )) .
ـ ولكن لماذا يريد التعرف إلي ؟ هل يريد أن يختبرني إن كنت مناسبة ؟
وإذا سقطت في الاختبار هل سيطردني ؟
ـ لا تكوني سخيفة . أظنه فقط يشعر بالوحدة .
ـ بالوحدة ؟ مع كل ذلك المال ؟
ـ أرجوك يا هارييت لا تقولي مثل هذا الكلام أمامه . أنا أعلم أن هذه
مزحة , لكنه لن يفهم ذلك .
منتديات ليلاس
ـ ها قد ميزت النكتة . الأفضل ألا تدعه يعلم ذلك وإلا فلن تبقى
تلميذاً له حتى يبيض شعرك .
لم يجب من باب اللباقة .
وعندما توقف لتناول الغداء , اتصل ماركو بإلفينو لوكي ليعتذر إليه
عن تأخرهما . واستطاعت هارييت أن تسمع صوت الرجل : ( أنت تتأخر ؟ لا
بد إنها المرة الأولى ! لا شيء يغير عادات ماركو كالـﭭـاني سوى شيء غير
عادي )) .
فقال ماركو : (( وهذا ما حدث )) .
منتديات ليلاس
ـ حسناً , أنا متلهف لرؤيتها . لدي أنا أيضاً مفاجأة صغيرة .
وصلا إلى (( كورزيتا )) عند العصر . وهي مدينة صغيرة قديمة مبنية على
ضفاف بحيرة . عند وصولهما إلى الفيلا , انفتحت أمامهما بوابة حديدية
ضخمة للغاية , وسرعان ما لاح لهما البيت . وهناك على الدرجات كان
بانتظارهما رجل طويل أبيض الشعر ذو وجه مميز . وبجانبه شابة صغيرة
السن أشبه بدمية رقيقة ذات شعر كثيف أشقر تلبس ثوباً قصيراً واسعاً . أما
عيناها فكانتا واسعتين بريئتين .
وتمتم ماركو : (( يا إلهي , يا له . . . )) .
وتقدم لوكي ليحييهما بذراعين ممدودتين . وبعد أن قبل هارييت على
خديها , أظهر مفاجأته : (( أقدم إليكما جينيتا , زوجتي . لقد تزوجنا بشكل
مفاجئ وأنتما أول من يعرف بذلك )) . منتديات ليلاس
سيطر ماركو على أعصابه وحيا السيدة لوكي باحترام بالغ , لكن
هارييت استطاعت أن تقرأ أفكراه . كان إلفيتو أكبر من عروسه بثلاثين سنة
على الأقل , وكان سروره بها واضحاً من خلال المجوهرات التي أثقلها بها .
كانت بانتظارهما صدمة أخرى . مع أن ماركو قد وصف لوكي بأنه
رجعي قديم الطراز . لكن جينيتا الآن هي التي أعطت الأوامر , وفكرتها عن منتديات ليلاس
كيفية استضافة شخصين مخطوبين كانت عصرية . فقد منحتهما غرفتين
متصلتين بباب . قالت وهي تبتعد : (( سنكون بانتظاركما في الطابق الأسفــل
بعد أن ترتاحـا )) .
بعد أن توارت , دق ماركو على باب هارييت قبل أن يدخل : (( أرجو أن منتديات ليلاس
تعلمي أن لا فكرة لي عن هذا , لم أقصد قط أن أخلف بوعدي لك )) .
ـ أعرف هذا . أنت غير مسؤول عن وضعهم لنا معاً .
ـ مهما كان نوع تفكير لوكي عن ذلك ؟
ـ إنه يحبها . هذا واضح .
ـ ولكن أن يفاجئني بذلك ! هذه الزيارة ستكون محنة .
في البداية , ظنت هارييت الشيء نفسه , ولكن لم يمض وقت ويل
حتى ابتدأت تحب جينيتا التي بدت مولعة حقاً بزوجها المسن إذا لم تكن
مسلوبة العقل به كما هو بها . كما أن لديها عادة هي إلقاء ملاحظـات ساذجة
تستحيل , بعد التأمل , لتصبح ذكية فطنة . عدة مرات أثناء العشاء وجدت
هارييت نفسها تضحك . منتديات ليلاس
بعد الطعام أصرت جينيتا على أن تريها الفيلا , مزهوة ببراءة بهذا الترف
وحظها الجيد في العثور على زوج يمكنه إغداق الهدايا عليها . ومع هذا كان
ثمة سحابة تشوب سعادتها . منتديات ليلاس
ـ أنا مسرورة حقاً بحضورك . لقد جعلت فيني يعدني بإحضارك إلى
هنا . كثير من الزوجات لم يشأن التعرف إلي .
فقال هارييت بحرارة : (( لست أفهم السبب . أظنك مسلية للغاية ,
لكنني لست زوجة ماركو , كما تعلمين )) . منتديات ليلاس
ـ لكنكما ستتزوجان قريباً . إنه مجنون بك , الجميع يمكنه أن يرى
ذلك .
أطلقت هارييت ضحكة صغيرة بدت لها شاذة : (( ليس من عادة ماركو
أن يكون (( مجنوناً )) , وإذا كان كذلك فهو يفضل الموت على الاعتراف
بذلك )) . منتديات ليلاس
ـ إنه يبدو كذلك فقط عندما ينظر إليك على غفلة منك . وهو ينظر بهذا
الشكل طوال الوقت . لا يمكنه أن يمنع نفسه .
فقالت هارييت وقد احمر وجهها : (( كلام فارغ )) .
منتديات ليلاس
ـ هذا صحيح . وأنت أيضاً تفعلين ذلك .
ـ أنا . . .
ـ نعم , أنت تفعلين ذلك , أنتما تحبان بعضكما البعض كالمجانين .
كان من حسن الحظ أن ابتعدت بسرعة , وهي تنادي خلفها : (( هيا بنا
نبحث عن الرجال )) .
لأن هارييت ما كانت لتعلم بما تجيب .
كان الرجلان جالسين على الشرفة المطلة على البحيرة , وهما مستغرقان في
الحديث . لاحظت هارييت أن ماركو لم يكن مسروراً , رغم أنه كان يخفي
ذلك بمظهر دمث مؤدب . نهض الرجلان احتراماً للمرأتين ثم أخذ الجميع
يتمشون على الشرفة , يتــأملون ضوء القمر المنعكس على مياه البحيرة .
لم يكن لإلفينو المرح أي صلة على الإطلاق بذلك الدماغ الحاد العملي
الذي وصفه ماركو . كان غارقاً في السعادة , راغباً في أن يشاركه الجميع
سعادته . منتديات ليلاس
أعلن قائلاً : (( هــــذا بـيـت الـحـب حقـاً , ما دام يحـــوي أربـعة من العشاق .
سأشرب نخب عرسكما القادم , ونخب كل المباهج التي ستجدانها في
بعضكما البعض )) . منتديات ليلاس
وقالت جينيتا , وهي تضحك , هامسة : (( عزيزي ))
ـ إنهما عاشقان مثلنا . والآن تعال يا ماركو , إشرب معي نخب المرأة
التي تحب . منتديات ليلاس
لم تستطع هارييت أن تنظر إلى ماركو , وهي تحاول أن تتكهن كيف
سيواجه هذا العرض المرح . لكنه قال بهدوء : (( معك حق يا صديقي .
فلنشرب )) .
منتديات ليلاس
ورفع كأس العصير باتجاه هارييت فبادلته بالمثل .
فهزء إلفينو بخشونة : (( هذا لا يكفي . عانقها هيا عانقها ودع عناقك
يعبر عن عمق مشاعرك )) .
و ليوضح قوله شد ذراعه حول كتفي جينيتا وعانقها . فما كان من
ماركو إلا أن جذب هارييت ناحيته ليعانقها . رفعت يديها للحظة تبعده
عنها , فهي لم تشأ أن يعانقها بهذا الشكل إذ كانت تعلم أنه مرغم على ذلك
تهذيباً منه , وهو الذي أفهمها أنه سيتجنبها طوال الوقت .
وضع ذراعه حول عنقها بهدوء , لكن ذلك كان أكثر إثارة لأعصابها .
أمسك بيدها المرفوعة . وتمتم في أذنها : (( بادليني العناق . واجعلي المشهد يبدو
طبيعياً )) .
وفكرت بغضب أنه يريد أن يكون المشهد طبيعياً لأجل مضيفه هذا .
شدد من احتضانها وجالت يداه على كتفيها , فغمرتاها بسحر غامض جعلها
تغرق فيه . كان بإمكانها ملامسة وجهه والالتصاق به بشدة , واضعة قلبها
وروحها في ما تفعل , معتمدة على أنه لن يعلم أبداً بذلك , بل يعتقد أنها لا
تفعل كل هذا إلا مراعاة لزبونه . منتديات ليلاس
بدا ماركو مقتنعاً بدوره , مستغرقاً حالماً في عناقه , لكنها فكرت أنه
يمكن أن يخدع أي شخص , ما عداها . فتحت عينيها لترى وجهه يحوم حول
وجهها , وعينيه مسمرتين في عينيها بنوع من الذهول . وكانت أنفاسه
ترتجف .
قال إلفينو مبتهجاً : (( هكذا هو الحب . والآن حان وقت النوم أيها
العشاق )) . منتديات ليلاس
ثم حمل جينيتا وسار مجتازاً الشرفة وهو يحث ماركو ليفعل مثله .
لم يتردد ماركو لحظة واحدة , وسرعان ما وجدت هارييت نفسها محمولة
بين ذراعيه , فتعلقت به شاعرة بالدوار مشتتة الذهن وهي تفكر في الوقوف
على قدميها , وإن كانت في الحقيقة لا تريد ذلك . منتديات ليلاس
وصل إلفينو إلى قمة السلم أولاً , ثم وقف ينتظرهما .
قال مبتهجاً : (( هذه هي الطريقة المثلى للعيش , آه , أنا أعلم أن هذا ليس
ما اعتدت قوله . لكنني أكثر حكمة الآن . وهكذا أنت , يا بني . . . أليس
كذلك ؟ )) .
فتمتم ماركو بلباقة : (( أنت دوماً رجل حكيم , يا لوكي )) .
ـ تصبحان على خير .
وتلاشى صوته في الممر . لكنه سرعان ما التفت إلى الخلف ولمعت عيناه
هزلاً عندما أدارت هارييت مقبض الباب ثم أدخلها ماركو .
وفي الداخل , أنزلها على الأرض وأغلق الباب . فقالت بصوت مرتجف
هو مزيج من الضحك والإستثارة : (( الأفضل أن تقفله , لأنني لا أستبعد أن
يطل علينا ليرى إن كنا نتصرف كما يتوقع منا )) .
ـ هارييت , أرجوك . دعيني أعتذر لأجل . . . كل شيء . . . لم أكــن
أنوي قط أن أخجلك بهذا الشكل . . .
ـ أنا لست خجلى , وقد أحببه , وأنت ؟
منتديات ليلاس
ـ لم أعد أعـرف شيئاً . كنت أحترمه . لم يكن هناك من يفوقه ذكاء . أمــا
الآن . . . لا أدري ماذا حدث له .
فقالت بجفاء : (( لا , لا أظنك تدري )).
ـ لطالما كان بالغ التعقل والإتزان .
ـ حسناً , ربما يظن الآن أن للتعقل والإتزان قيمة أكثر مما يستحقان .
ماركو , إنه سعيد . ألا تدرك ذلك ؟
لكنه قال بلهجة لاذعة : (( سعيد ؟ )) .
ثم أخذ يذرع الغرفة : (( وماذا يحدث إذا خانته ؟ )) .
ـ ربما لن تفعل هذا أبداً . نعم . أنا واثقة من أنها تزوجته لأجل ثرائه ,
لكنني أظنها طيبة القلب . وهي تعامله بلطف .
ـ إنها تقوده من أنفه , جاعلة إياه عبداً لها . . .
ـ لا , بل هو يجعل من نفسه عبداً لها لأنه يحبها .
ـ هذه طريقة لتفسير الأمر ليس إلا . منتديات ليلاس
ـ أنت لا تفكر في الحب كثيراً , أليس كذلك يا ماركو ؟
فقال بعد لحظة : (( أنت لا تنصفينني . أظن للحب مكانه , لكنني لا
أحب ذلك النوع من الافتتان الذي يجعل الرجل يتصرف بحماقة )) .
ـ أو المرأة ؟
ـ آه , لا . دوماً المرأة أقوى من الرجل .
ـ هذا تحيز مثير للاشمئزاز . المرأة تــذل نفسها أمام الرجل الذي
تحب . . .
ـ أنت لم تضطري إلى ذلك قط . وهذا أحد الأسباب التي تعجبني فيك .
أنت دائمة الاتزان . حتى إن ذلك المشهد الأحمق الذي اضطررنا إلى تمثيله
هناك لم يزعجك . منتديات ليلاس
فقات بصوت خافت : (( إخرس , إخرس , إخرس )) .
إذا اضطرت إلى سماع المزيد فستجن حـتــماً .
ـ المعذرة إذا أســأت الكلام . . .
ـ وكفى اعتذاراً!
وتنفست بعمق ثم تمالكت نفسها : (( قد خرجنا عن الموضوع . لا عيب
في أن يتصرف المرء بحماقة أمام من يحب , إذا كان حبهم حقيقياً فهم لن
يهتموا لهذا . . . )) . منتديات ليلاس
فقال بعنـف : (( فليـســـاعدهم الله إذن . وليســاعـد لوكي لتصرفه
كالحمقى )) .
ـ لكنه أحمق سعيد .
توقف ماركو عن السير ورمقها بنظرة غريبة : (( هذا مجرد كلام عاطفي ,
يا هارييت . وهذا الكلام لا يعني شيئاً . فما من أحمق سعيد حقاً , لأنه
عاجلاً أو آجلاً , سيرى حماقته وسيشعر بالخزي منها . ثم يتمنى لو أنه لم
يعرف تلك الحبيبة قط )) .
فقالت بحرارة : (( أنت مخطئ بالنسبة إلى إلفينو , هو لن يأسف أبداً على
معرفته بجينيتا , لأنه , حتى ولو خسر سعادته , فستبقى تلك السعادة معه .
ولو بقي حكيماً , كما تريده , فسينتهي من دون شيء على الإطلاق )) .
بدت الكآبة على وجهه : (( من الأفضل له ألا يحصل على شيء من أن
يصاب بالمرارة )) .
منتديات ليلاس
فتنهدت : (( أيهما برأيك أفضل : الرجل الذي يثق بمن يحب , حتى لو
جعلته ثقته هذه يبدو سخيفاً بعض الشيء . أم الرجل الذي لا يثق بأي
امرأة ؟ وهو الأحمق الحقيقي هنا ؟ )) .
أطلق ضحكة قصيرة خشنة : (( أنت تعنينني , أليس كذلك ؟ كفي عن
محاولة تحليل نفسيتي يا هارييت , فأنت لا تعلمين عني ما يكفي )) .
فقالت ضارعة : (( أخبرني إذن )) . منتديات ليلاس
ـ هذا ليس مهماً . أنا كما أنا . ولا أستطيع أن أتغير الآن .
ـ هذا هو الجزء المحزن من الأمر . ليس لديك ما تعطيه سوى هذا , لا
أكثر .
شحب وجهه قليلاً : (( أنا أعطي كل ما أستطيعه )) .
ـ أعلم هذا , لكنه ليس كثيراً .
سكت لحظة طويلة , مشيحاً بوجهه إلى النافذة . وعندما عاد يواجهها
قال : (( ظنك بي سيء لأنني لم أوافق لوكي على حماقته بلهفة . حسناً , فكري
في هذا . لقد استدعاني إلى هنا لكي أساعده على تسليم نصف ثروته لصائدة
الثروات تلك )) .
ـ إنها زوجته وهي تجعله سعيداً .
منتديات ليلاس
ـ أولاده الأربعة سيخسرون نصف ميراثهم , وهم لا يعلمون بعد
ذلك . المحامون قادمون غداً . الأمر سري و يُفترض بنا التستر على هذا
العار . بالإضافة إلى أنني بإخبارك بهذا الأمر , أفشيت سر المهنة .
ـ يمكنك أن تثق بي .
ـ لم اشك في ذلك لحظة .
منتديات ليلاس
كان من حسن الحظ أنه سار عائداً إلى النافذة , وإلا لرأى نظرة الألم التي
لاحت على وجهها . خطيبها يثق بها بالنسبة إلى أسرار مهنته . وهذا مديح
بالغ من رجل له مثل مبادئه , إلا أن ما تتوق إليه هو نوع آخر من الثقة .
وقالت بحزن : (( الوقت متأخر وأنا متعبة )) .
ـ إذن فلن أتأخر أكثر من ذلك .
وفتح الباب المشترك بين غرفتهما : (( لا تنسي أن تقفلي خلفي )) .
قال ذلك محاولاً إظهار المرح . فأجابت باللهجة نفسها : (( وهل أنا
بحاجة إلى ذلك ؟ )) .
منتديات ليلاس
ـ لا أستبعد أن يرسل لوكي جيشاً إلى هنا ليتأكد مما نفعله . تصبحين
على خير يا هارييت .
خلعت ثيابها واستلقت في الظلام , وقد استيقظت كل ذرة في كيانها ,
متشوقة للبقاء بجانبه . إلحاح إلفينو على الحب بأي ثمن قد تركها مشتعلة
المشاعر مستعدة لما قد يحدث .
ثم تذكرت ما قالته جينيتا : (( أنتما تحبان بعضكما البعض بشكل
جنوني )) .
منتديات ليلاس
كان غريباً أن تلاحظ جينيتا التجاذب الذي تشعر هي به نحوه , وهو
نحوها . لعله لا يحبها لكنه منجذب إليها . ولو كان لديه الخيار الآن لبقي إلى
جانبها . لكنه قطع لها وعداً وهو رجل يفي بوعده . وسيقاوم ما يعتبره
ضعفــاً .
إنها تسمعه يذرع الغرفة الأخرى خلف هذا الباب ذهاباً وإياباً . هـل
يخلف بوعده ؟
توقفت خطواته , ثم عادت تستأنف السير . هل يجازف ويبــدو ضعيفاً ؟
ســاد الصمت . لقد توقفت الخطوات بجانب الباب .
منتديات ليلاس
أمسكت أنفاسها وأبقت عينيها مسمرتين على مقبض الباب الذي تحرك
ببطء شديد. وعندما انفتح الباب قليلاً صدر أزيز خفيف ثم توقف .
انتظرت أن يتحرك الباب مرة أخرى . كانت عاجزة عن التنفس وتشعر
تقريباً بذبذبات حيرة معذبة في أمر الرجل الذي في الغرفة الأخرى . ولكن
بدلاً من يفتح الباب , عاد المقبض إلى مكانه بنعومة , ثم ساد السكون .
* * *
نهاية الفصل (( الثامن )) . . .