كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
رد: رماد ملون
وقف عاقدا ذراعيه امام صدره ..
ينساب من على منكبيه معطف استحمام كحلي بينما يعلو رأسه شعر مبلل ..
امال رأسه وهو ينقل بصره بتأمل في الغرفة الملابس التي يقف عند مقدمتها .. الجدار الذي يقع على يمينه كان لخزانة تعلقت بها مختلف أنواع الملابس التي يرتديها في حياته اليوميه .. أدراج احتضنت احذيه وساعات ونظارات شمسيه..
اما الجدار الذي عن شماله فحوى الجانب الآخر من حياته..
تعلقت فيه ملابس لمختلف الجنسيات .. ملابس كبار في السن .. كثير من القبعات متنوعة الشكل واللون .. شعر مستعار بمختلف الاشكال.. ادراجه حوت نظارات طبيه وعدسات ملونه وبعض مساحيق التجميل ..
تقدم نحو شماله ليتناول قطعتين من الملابس المتجعدتين.. ليباشر في ارتداءهما
بعد مراجعة مكثفة للقائمة التي ناولها اياه غسان.. تلك المراجعة التي تعمقت في تفاصيل حياتهم وحياة عائلاتهم ..
من ستة عشر اسما حصر نطاق البحث في أربعة أسماء ..
الاول والده سجين سياسي وامه أنهكها المرض بعد سجن والده ..
الثاني تنحدر أصول عائلته من الدولة الشرقيه..
الثالث تعمل والدته لتعيل العائله لذا ربما يكون قام بها من اجل المال ..
أما الرابع خسر زوجته في احد النزاعات التي جمعت بين الدولتين..
تناول زوجا من الجوارب وحذائين ليجلس في المقعد الذي يتوسط الغرفة ويرتديهما ..
منذ بداية الاسبوع وهو يتنقل بين المواقع التي يعمل فيها كل واحد منهم في انتظار رؤية ما يريب..
أي شيء قد يساعده على التقدم .. لينقص عدد من يشتبه بتورطهم ..
صيدلاني .. اخصائي علاج تنفسي.. أخصائي أشعه.. دكتور اطفال ..
تحرك من مكانه ليقف أمام المرآة..
أتخذ كثيرا من الهويات هذا الاسبوع.. سائح اجنبي .. شاب اعمى .. وآخرها كان كشاب ذو شعر معقوص خلف عنقه بقبعة سواء ونظرات شمسيه..
رص بكفيه على طرف الطاولة حتى ابيضت اطراف اصابعه.. اليوم هو الرابع ولا يبدو ان هناك أي تقدم يذكر !!
على الرغم من ذلك سيبقى يقوم بذلك كل يوم حتى يحصل على طرف خيط آخر!!
بعد عدة ساعات أغلق باب المصعد ليحوي جسدي شخصين ويعلن عن تشكل العقدة الأولى في خطي حياتهما..
احدهما كان يرتدي زياً طبياً قضى وقته في الاعتناء بهندامه اما الآخر فلرجل طاعن في السن ..
شعر أبيض.. كثير من التجاعيد حول عينيه وعلى اطراف شفتيه .. نظارات سميكه وملابس مجعده ..
فتح الباب ليخرج الشاب مسرعا نحو بوابة المستشفى اما الآخر فتوكأ على عصاته بتعب ليخرج ببطء قاصدا محطة الممرضات ليجلس على مقعد انتظار مجاور لها بأنفاس متقطعة..
بدأ فارس يتمتم الى نفسه كما يفعل العجائز .. يتذمر من حاضر اجبر على عيشه ويرثي ماضياً انقضى بصوت منهك.. ليلفت بعد ذلك الى اقرب شخص له ويبدأ في التذمر من عقوق أبنه!
كل ذلك وعيناه لم تتوقفا عن التجول .. متى ما أراد مراقبة زاوية مختلفة التفت الى شخص آخر ليشتكي له او ليدعي انه يمسح دمعة ترقرقت في عينيه..
قبل دقائق وخارج أسوار المستشفى..
توقفت سيارة ذهبية جديده الطراز في أحد المواقف بتهور أرعب إطارات السيارة ليجبرها على التشبث بالأرض..
فتح باب السيارة لتطل قدم التحفت بحذاء أبيض لامع ذو كعب عالٍ.. ترجلت الفتاة بتعالي وهي تعدل من وضع حجابها ذو القماش الفاخر حول وجهها.. رفعت بصرها من خلف عدستي نظراة شمسية باهظة الثمن نحو المستشفى بغضب..
ضياء ..
اما أن تصل الى حل اليوم أو أن تغتال تلك الفتاة القصيره!!
لا يمكن أن تسمح لزيجة كهذه بالاستمرار.. فتاة مثلها لا يمكن أن تنجح حياتها مع أخيها ..
سيفترقان بالتأكيد بعد أن يؤذي كل منهم الآخر .. لا تهتم بالقصيرة أبداً حتى لو ابتلعتها الجحيم..
لكن لا يمكن أن تسمح لأحد بأن يؤذي عائلتها أبداً..
إن فعل شخص ما ذلك فسيدفع الثمن باهضاً.. وهذا ما حدث تماما مع أحد ذوي رحمها..
التوى فمها بابتسامة من تذكر واجبا عليه أداءه.. أخرجت هاتفها الجوال من الحقيبة ( clutch -الكلوتش ) الصغيرة السوداء التي تستقر بين أناملها ..
أخرجت الهاتف الجوال لتلامس شاشته بأظافرها الطويلة مصدرة طقطقة.. رفع الهاتف على أذنها لتقول بعد لحظات وبكل جرأه:
"قاربت نقودي على الانتهاء.. قم بتحويل مبلغ من المال"
صمتت لحظات قبل أن تقول بسخريه :
"وكأنني سأتهم بضائقتك المالية.. قم فقط بتحويل المبلغ قبل أن أقوم بفضح كذبتك.. "
ما إن انهت كلامها حتى أغلقت الهاتف في وجهه لترميه في حقيبتها وتسير بكل برود باتجاه بوابة المستشفى ..
"ساحرة من دون قلب"
هذا هو اللقب الذي تطلقه عليها صديقتها..
محقة في ذلك بكل تأكيد.. فهي الفتاة التي تقوم بابتزاز والدها على أية حال!!
قادتها الخطى نحو محطة الممرضات بعد أن مرت بمكتب أخيها ولم تجده.. سألت بكل وقاحه:
"هيّ.. أين أجد دكتور ضياء منصور"
رفعت احدى الممرضات حاجبيها استنكارا لفعلها لتقول بحده:
"غير متواجد حالياً"
نفخت حلا في وجه الممرضة بضيق وهي تقول:
"سأنتظره حتى يعود"
بالأمس تجنب العودة الى المنزل .. هل سيعتقد بأنه سيبقى هاربا الى الأبد؟!.. سألحق به حتى وان اعتلى احدى حلقات زحل..
توجهت الى غرفة انتظار النساء.. هناك جلست بجوارها فتاتان تتحدثان بحماس.. فكلتاهما هنا للقيام بتحاليل ما قبل الزواج..
زمت شفتيها الرقيقتين لترسما ابتسامة غريبة الشكل .. يا لهذا الحماس الغبي !!
يوما ما سيقوم زوجيهما بخيانة ثقتهما .. أوليس هذا ما فعله والدها الذي لن يتوانى عن التعبير عن حبه لوالدتها حتى امامهم!!
لكن ..
وعلى الرغم من انها تعلم بأن الفتاتان تبنيان بيوتاً من عنكبوت إلا انها تحسدهما!!
لو انها فقط بيقت مثلهما ..
ليتها لم تعرف كذبة والد حطم حياتها .. أنّى لها أن تثق برجل بعد فعلته تلك؟!
تتمنى أن تثق برجل ما هو زوج لها .. لكنها ومنذ لك اليوم تفر من كل خطوبة توضع نصب عينيها..
ليس الآن!!..
ليس الشخص المناسب!!..
والدته مرعبه!!
كل هذه الذراع تفوهت بها.. مع ذلك بقيت في كل مناسبه تعلن امام عائلتها انها ستبذل جهدها في سبيل الاقتران بشاب جيد ولطيف ذو عائلة محترمه ..
أغمضت عينيها بفقدان حيله..
قريبا ستنتهي هذه الذراع بظهور شخص لا يمكن لعائلتها نكران مميزاته.. عندها ماذا ستفعل؟!
وكما أخفت كذبة والدتها كي تحميهم من الأذى .. عائلتها هي عالما الكامل .. غيرهم من البشر هم مجرد أجساد تتسكع فوق سابع أرض..
لذا ما الضير من التضحية بنفسها في زيجة فاشلة من اجل الحفاظ على عالمها كي يبقى كاملا وسعيداً؟!
فتحت عينيها بحده لتنظر الى الفتاتين اللتين تعالت ضحكاتهما بضيق.. سعادتهما التي تتجلى في ضحكتهما تسمم أعصابها.. وقفت لتنظر اليهما بتعالي قبل أن تقول:
"انظرا الى نفسيكما قبل أن تضحكا"
غادرت المكان بذقن مرفوع بينما تعلقت فيها عيني أحدى الفتاتين بصدمه، أما الأخرى فقد اخفضت بصرها لتبحث في ملابسها بشك!
أن تنتظر في الخارج حيث الكثير من الناس أفضل من فتاتين حمقاوتين.. صفعت بكفيها على طاولة محطة الممرضات لتصرخ:
"ألم يعد دكتور ضياء بعد؟!"
على بعد عدة خطوات منها قال هز رجل خمسيني رأسه مستنكراً.. التفت الى العجوز الذي يجلس بجواره قائلا بأسى :
"الأخلاق في تدهور .. "
ازدرد فارس ريقه في ضيق.. ككبير في السن يجدر به التذمر من تصرفات تلك الوقحة!!
لكن يبدو انها اعلان متنقل أما هو فيحاول جاهدا العمل متخفيا.. التفت باتجاهه العجوز المجاور له ليقول بصوت عال:
"في زماننا لو تصرف شخص هكذا لكان عقابه قاسياً.. لكن أباءهم في غفلة عنهم"
التفتت حلا بغيض على اثر كلام ذلك العجوز.. تقدمت نحوهم وهي ترص كفيها.. صحيح أن والدها يستحق اكثر من هذه الكلمات لكن..
لايمكن أن تسامح من يشكك في تربية والدتها..
اما فارس فكان يقابل العجوز ويوليها ظهره.. حدق بعيني من أمامه والذي ينتظر منه ردا.. سحب نفسا قبل أن يقول بصوت مهترئ:
"قبل عدة أيام أساء حفيدي للتصرف.. "
رفع عصاه قليلا عن الأرض ليعلن :
"بهذه العصاة ضربته حتـ..."
توقفت الكلمات وضاعت على اثر حادث مدوي..
ارتطمت ساق حلا – التي تحاول الوصول الى العجوز - بالعصا لتتعثر في مشيتها..
ترنحت في مشيتها قبل أن يصطدم وجهها بأحد الأعمدة ..
عم سكون المكان.. ذرات الهواء توقفت عن المرور بجوارها!
اما هو فكان متأكداً من ردة فعلها .. هي بركان خامد سيثور في وجهه.. إعصار واثق من انه سيعصف في أي لحظه!!
ربما يجدر به الفرار قبل أن تنفجر هذه المصيبة المتنقلة في وجهه فتلفت أنظار الجميع اليه!!
نهض من مكانه وحاول السير بأسرع ما يمكن أن يسمح له تنكره به الا أن ذلك لم يكن كافيا.. ارتفع صوتها ليخترق أذنيه كخنجر:
"هيّ.. ماذا تعتقد انك فاعل؟"
لم يتوقف بل اكمل السير في محاولة فاشلة للهرب.. ارتفع صوت كعبها الذي يطرق الأرض بحنق تدريجا قبل أن يظهر جسدها أمامه ويعلن جبينها المحمر عن آثار حادث كان هو المسئول الأول فيه..
هز رأسه وهو يقول بأسى:
"اعذريني يا ابنتي.. انه التقدم في العمر!"
توقفت للحظة لتتعلق عينيها بعينيه..
كان لعينيه لون أزرق مميز حتى من خلف عدستيه السميكتين.. فقد كان يعكس ألوان البحر في حدقتيه ..
صاحت بغضب:
"وهل تسمي هذا اعتذاراً؟..."
كانت ستمضي في حديثها الا أنها توقفت بعد أن أحست بسائل لزج يبلل شفتها العليا.. رفعت طرف أصبعها لتستوثق من هويته..
كان كما توقعته.. دماً يخبر انها أصيبت برعاف إثر ضربتها..
رفعت يدها لتضعها تحت أنفها بقلق.. كانت تصاب به وهي صغيره.. بسبب هذا العجوز عادت لتعيش احدى تلك التجارب السيئة.. رفعت عينيها اللتان سلختا جلده بقوة نظراتها:
"كل هذا بسببك"
صرخت بها وهي تتقدم باتجاهه .. لم تتوقف الا بعد أن غرست كعب حذائها الرفيع في مقدمة حذاءه لتوجه حنقها نحو أصبعه الابهام .. فتح فمه يكاد يصيح فيها بألم الا انه مقيد بالتنكر الذي اختاره هو..
لقد جنى على نفسه هذا اليوم .. كل هذا حدث في لحظات سريعة.. لذا عندما حاول سحب قدمه بعيدا عن وطأة كعبها كانت هي ابتعدت عنه بأمتار في خطوات سريعة نحو أٌقرب دورة مياه!
ابتعدت بعد أن أرتبط خطي سير حياتهما بعقدة حمراء!!
سقطت عصاه لتتصدر فرقعة تعلن عن انتهاء مسرحية كان لها الكثير من الشهود.. انحنى ظهره بألم ليحدق في حذاءه الذي لا زال يحمل أثر كعب حذائها..
يتمنى خنقها بكفيه لكن عليه أن يعترف انه يستحق ذلك!
فقد كان السبب بحدوث رعاف لفتاه وقحه!!
تهافت حوله اكثر من شخص لمساعدته على الجلوس لكنه رفض في رغبة منه للمغادرة .. سيقومون بفحص قدمٍ لا تحتوي أيا من التجاعيد التي تزين الأجزاء المكشوفة من جسده.. لا يمكن ان يكشف تنكره !!
تناول عصاه التي سلمها لها صبي له وهم بالنهوض ليغادر باتجاه البوابة الخارجية ..
في الطريق وكشخص يهتم بالتنكر لفت انتباهه شاب اعمى يسير من بعيد باتجاه المصاعد.. مسحه بنظرة سريعه ليدرس شكله في حال احتاج يوما للتنكر كشخص أعمى ..
اكمل سيره الا انه في لحظة توقف كل شيء حوله ليصور عقله ككاميرا فوريه مظهر الشاب وهو يمد ذراعا متخبطه ليبحث عن زر النداء ثم يضغط عليه..
مزيف!!
متنكر فقط ليس بأعمى حقيقي!!
حاول الاسراع في خطواته بتجاهل تام لهوية العجوز التي يتقمصها الا أن ألم أصبعه باغته ليقيد حركته كثيراً..
فتح باب المصعد وفارس يجر قدمه جراً..
يجدر به اللحاق به.. يجب أن يعرف وجهته..
لا يمكن لشخص أن يدعي العمى من دون السبب !!
لا يمكن لأعمى أن يرتدي ساعة على معصمه!!
بالتأكيد له مقصد من القدوم هنا.. تعلق طرف الخيط الذي سيكون له دليلا في المستقبل بقدمي الرجل الذي دلف داخل المصعد .. أغلقت أبوابه أمام عيني فارس لكنه لم يملك سبيلا للوصل اليه..
لقد فقده ..
فقد امام عينيه ما كان يبحث عنه خلال الأيام الماضية ..
ضغط زر النداء ليرمي ذراعيه بجوار جسده ويرص كفيه في ضيق.. لا يمكن أن يفقد الدليل الوحيد الذي يملك .. رفع عينيه ليراقب تلك الأرقام التي تنعكس على اللوحة الرقمية التي تعلو المعد..
إن عرف في أي دور سيتوقف سيضيق ذلك نطاق البحث كثيراً..
سار المصعد مباشرة من الدور الأرضي حتى الدور الثالث ..توقف هناك للحظات ثم عاد مباشرة الى الدور الأرضي..
فتحت درفتا المصعد لتنعكس صورة وجهه المبتسم في المرآة التي أمامه..
هو الدور الثالث إذن !!
أطلقت الحياة زفرة حاره..
لفظت فيها هموما وآمالا..
وبحار أحلام لم تجف!!
********************************
|