كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
نافذة كبيرة تطل من الدور الثالث لتحمل صورة رائعة للعالم الخارجي..
سماء كانت زرقاء الا انها باتت تحمل في جعبتها غيوما محملة بحكايات مطر لم يسقط بعد.. حديقة تملأها أشجار حطت على منكبيها قطرات ندى في هذا الصباح الباكر .. أطفال يلعبون بمراجيح تراوحت ألوانها بين الأصفر والأحمر..
أما هو فمال بجسده ليتكأ بمنكبه الأيسر على اطار تلك النافذه لتحتل احدى كفيه جيب معطف شتوي أبيض بينما الاخرى فقد حملت بين براثنها كوباً تتصاعد منه الأبخره لتقربه من شفتين حملتا ابتسامة هادئه..
شعور غريب أن تتوافق مكنونات قلبه مع المنظر الذي تقع عليه عينيه والذي ينعكس على زجاج نظاراته!!
هي لم ترفض طلبه!!
ظاهريا لا يكاد يعني ذلك شيئاً..
لكنه يحمل بين طياته الكثير من المعاني في نفس الوقت ..
هي سمحت له بالاقتراب أكثر منها.. أعطته مكانا في حياتها.. بات وجوده يعني شيئا لها ..
لم تغلق فصول حكايتهما .. فهناك وعد بلقاء آخر لا يعلم له وقتاً..
الوقت ليس مهما أبداً ما دام الأمر في راحته الآن..
لا تهمه الاسباب التي أهدته نتيجة كهذه بما انه حصل على ما يبتغيه قلبه..
يشعر براحة نفسية عجيبة على الرغم من انه قضى ليلته في المستشفى ..فهو لم يكن مستعدا لخوض غمار أدغال نسائية تنتظره لتفتك به في المنزل..
المواجهة السابقة كانت سيئة بما يكفي!!.. اتهامات من قبلهم واعلان بفسخِ خطوبةٍ واستئصالِ قلبْ!!
أما هو فصَمْتٌ ثم صَمْتٌ.. لتدور الدائره ويعود الصَمْتُ ليحتل ساحة المعركه!!
أخرج كفه من مخبأها ليفتح مزلاج النافذة السفلي ويفتحها بمقدار عدة إنشات كحد أقصى ..
سحب نفساً عميقاً متظاهراً أن الهواء المنعش يدخل الى رئتيه .. أصدرهاتفه الجوال تنبيها يخبره بأن موعد عمله قد حان ..
رمى الكوب الفارغ ونزل الدرجات بسرعه .. في كل مرة يلامس حذاءه الأرض يترك مشاعره الشخصيه ومشاكل منزله تتسكع في الدور الثالث أما هو فيدخل مزاج العمل ما إن تطأ قدماه أرض الطابق الأول..
أرتدى لباسه الأبيض .. مسح نظاراته من الأثر الذي تركه البخار المتصاعد من كوب قهوته ثم جلس بانتظار مريضه الأول..
دخلت امرأة تحمل بين كفيها طفلة متجثرة بالزهري يتقدمها صبي في منتصف سنوات مراهقته كما يحكي شاربه الذي يحاول الظهور ..
بدأت الوالدة في التحدث ملخصة حالة طفلتها "ساره عبد الله" بانها تواجه مشكلة في فرد ذراعها بالكامل .. أما ضياء فأستمع اليها بانصات عظيم مظهراً لاهتمام كبير على الرغم من انه اطلع على ملف الطفله وعلى دراية تامة بالحاله..
نهض ضياء من مكتبه بعد ان طلب من الوالدة وضع الطفلة على سرير صغير يتواجد في الغرفه..
مسد مرفقها وحاول مد ذراعها أكثر وهو يتكلم:
"ساره ..
كيف حالك يا جميله؟!.. ما رأيك أن تساعديني هنا وتمدي ذراعك ؟.."
أنهى فحصه مختتما الأمر بالعديد من الجمل المهدئه .. التفت الى الوالدة ليتحدث الا ان صوت الصبي المبحوح باغته:
"ما رأيك دكتور ؟"
ابتسم له ضياء في تقدير:
"لا تقلق.. ذراعها ستكون بخير تماما ان شاء الله .. على ما يبدو أن ولادتها المتعسره تركت أثراً عليها.. لكن لا يوجد هناك أي شيء بذراعها حسب ما تظهره الأشعه المقطعيه"
توجه نحو جهاز الكمبيوتر المتواجد في الغرفة ليفتحه ثم بعد قليل تحتل الشاشة صوراً سوداء طبع عليها الجزء الداخلي من ذراع الطفله.. التفت باتجاه أمها:
"سيدتي انظري الى هذه .." التفت نحو الصبي مكملا:
"كما ترى من شكل العظام والأربطه أنه لا يوجد أي خلل هناك.."
تشعب الحديث واستمر في الشرح أكثر.. بعدما انتهى كل شيء غادر الصبي ليحجز موعدا عند عيادة العلاج الطبيعي .. أما الام فبقيت تلملم حاجيات طفلتها.. أغلق الملف كي يسلمه الممرضه لكن بصره توقف عند أسم الطفلة...
لحظات تأمل..
الممرضة تنتظر.. الأم وقفت في انتظار كلمة أخيرة من الدكتور .. اما الصغيره فتثائبت بعد ان ملّت الانتظار !!
أشار الى الممرضة بالابتعاد ثم التفت الى الوالده ليعلن:
"والدها هو عبد الله المكنى بأبو ضياء ؟"
سألت المرأة بتردد:
"أجل.. هل تعرفه؟!"
ارتفع طرف شفتيه في ابتسامة باهته ليقول وهو يعقد كفيه أمام صدره:
"إذن تلك الصغيرة هي أختٌ جديدة لي "
درات عياناها في الغرفه .. شهقة فرّت منها قبل أن تضع كفها على فمها وتنهار جالسة على المقعد الذي خلفها...
طوفان يجتاح خلاياه .. يستجدي دموع صباً كان حراً بذرفها سابقاً.. أما الآن فلا يمتلك هذا الحق.. فقد غدا رجلا والرجال لا يبكون!!
غدا ظالما والظالم لا يحق له الشعور بالراحه!!
هو الآن كاذبٌ ..منافقٌ .. لا يجدر به انعاش ضميره في مثل هذه اللحظات .. ما توقف نبضه يجدر به ان يبقى كذلك .. في خانة الأموات!!
لكن يبقى الألم شعورا يفوق الاحتمال!!
يا للسخريه..
أن أتلاقى مع هذه المرأة مرة أخرى.. ان يعيد الماضي نفسه ..
أختلف موقع اللقاء الا أن الادوار لم تختلف.. لا زلت انا الصبي الذي تم استغفاله ولازالت هي المراة التي سرقت زوج والدتي ..
شدد قبضته ليغرس أظافره في راحته.. وجودها هو ما احالني الى شخص أكره التعايش معه .. هي من سلبت مني حريتي ..
زم شفتيه يلقي بالقيد على كلمات ترغب بأن تفر منه.. هو أرقى من ان يتواجه معها في مواجهة يعلم بأنها ستشعره بالخزي أكثر فأكثر.. فتح شفتيه ليطلب منها المغادره الا ان صوتها المرتجف وصله قبل ذلك:
" آسفه"
سحبت نفسا مهترءاً لتكمل:
"جد آسفه.. لم أرغب بسرقة والدك من عائلته لكن لم يكن أمامي سبيل آخر للعيش"
زفر نفسا كان يتجول في صدره كدخان أسود.. غادره لتزداد كثافة الهواء فتكتم أنفاسه أكثر ..
قال بصوت مخنوق وهو يمد ذراعه نحو الباب :
"فقط.. غادري.. أرجوكِ"
نكست رأسها في خزي.. خرج صوتها من جوفها محملا بكثير مما أضطرت الى حبسه لسنوات طوال:
"اخي كان مستعدا لبيعي مقابل مال يشتري به مخدراته اللعينه"
عقد حاجبيه ليقول بنفاذ صبر:
"توقفي.. لا ارغب بسماع قصتك.. لم أطلب منك أي تبرير.. فقط غادري!!"
ددفنت وجهها بين كفيها .. تحدثت كم لم يسمعه .. هي تغرق في عالمها الخاص.. ذكريات مرة عانقت حياتها ولم تتركها حتى هذه اللحظه:
"من المستحيل ان أٌقبل بطريقته التي اختارها لي.. أن أبيع نفسي بالحلال كان أهون بكثير.. "
تحركت سقاه الطويلتان لتقطعا المكان في خطوات بسيطه .. توقف عند الباب كي يفتحه مجبرا اياها على الخروج.. رفع ذقنه والتمعت عيناه في غضب ليهمس بصوت مبحوح:
"غادري"
وقفت بهدوء.. مدت كفها نحو الباب لتدفعه مغلقة إياه.. قالت وهي ترص على أسنانها:
"كنت في الثامنة عشره.. مجرد فتاة مراهقة لم تجد امامها سبيلا آخر..
سئمت من تحمل غيري.. اخي .. زوجي والآن أنت!!"
مررت كفا حملت من السنين جفافها على وجه خط الدهر ملامحه لتشكل سيدة واجهت من المصائب احلكها..
القت نظرة خاطفة على الصغيرة النائمة " الشيء الجميل في حياتي هم صغاري"
علقت عينيها المرهقتين به وهي تزفر ذكريات حارقه لتنطق بلسان لطالما لسعته الايام:
"احيانا أفكر انه لو أنني هربت بدل الزواج من رجل كانت حياتي معه جحيماً.. لكن عندما أرى صغاري أتراجع عن هذه الفكره"
ما الذي تعنيه بالجحيم؟! .. هي التي بنت عائلتها على أنقاض عائلتي.. لو لم تكن موجودة لكان وضعنا مختلفا تماما!!
ما الذي تهذي به هذه المرأه؟! .. هذه الأفكار تخبطت بين أروقه عقله إلا انه لم ينطق بشيء.. لم يسأل شيئا .. يجدر فقط ان تخرج لينتهي وجودها المؤقت في حياته!!
ابتسمت ابتسامة انار معها وجهها فبدت اجمل بكثير:
"دعني أقول لك شيئا رأفةً بوالدة اعلم أنها تنتظرك في المنزل:
"احذر من والدك!!"
رص عينيه.. غزى وجوده صاراعان متضادان .. ان يسأل فيحصل على جواب تعنيه بكلامها!!
أو ان يصمت ثم يدعي ان لا شيء حدث ..
ما الذي يفترض بي ان أفعله يا جدي في مثل هذا الموقف؟.. ارتخت قبضته .. غزت الراحة ملامح وجهه..
ألم يقل جدي دوما في نهاية كل نقاش ادخل فيه معه:
"لا تأخذ الامور بظواهرها.. أدرس الوقائع .. عد بتفكيرك الى الأساسيات التي تقوم عليها الحقيقة التي امامك..
حتى وان قسوت عليك فهذا يعني ان هناك شيئا علمتني إياه الحياة قبل ان تحصل لك الفرصة لك لتعلمه ..
تلك الشدة التي ألجا اليها أحيانا لا تعني إلا انك تعني لي ما لا يمكن قياسه ولهذا أنقل خبرتي في الحياة إليك!!"
الحقيقة الثابته والتي لن تتغير أن زواج والدي باخرى أفسد حياة عائلتي..
أساس تلك الحقيقة هي تلك المراة .. والتي يظهر انها عانت من الظلم أيضاً.. لكن الى من سيتوجه غيضي؟!!
إنقبضت حويصلاته الهوائية ليتنهد ويزاح همٌ عن كاهله.. لا اعلم ما الذي يفترض بي فعله في هكذا موقف ..
لا يجدر بي ان أسأل ولا أن أبدي رأيا إن لم اكن أرغب بذلك..
دس كفه في جيبه ليستخرج ورقة ويسجل عليها رقم هاتفه الجوال.. مد ذراعه الى المراة التي غزت الصدمة ملامحها..
حتى وإن لم أكن متاكداً من الطريقة التي يفترض بي التعامل بها هنا لكن يمكنني على الاقل ان اتصرف كرجل نبيل يمد كفه لمساعدة إمرأة هاجمها الزمن بالكثير..
أليس كذلك يا جدي؟!..
أغرورقت عيناها بالدموع.. مدت كفها لتتناول الورقة منه وهي تتمتم بالشكر مرة تلو الآخرى.. تدعو له بين الفينة والآخرى..
غادرت ليستند هو الى اطار الباب ويراها تسير مبتعدة يرافقها شقيق له يرتدي ثيابا قديمة ويظهر كعبي قدميه في الطريقة التي يدوس فيها على قاعدة حذائه ..
على الأقل سينام الليل بهذا التصرف؟
مرت عدة ساعات ليغادر مكانه راكضا بعد ان تلقى مكلمة هاتفيه .. توقف امام المصعد في انتظاره ..
فتح المصعد ليدلف إليه على عجل ..
ألتقت درفتا الباب ليغلق المصعد مخبئا شخصين بين جنباته..
رجلين كانت حياتهما تسير في خطين متوازيين إلا ان خطي حياتهما تلاقيا للمرة الاولى عند هذه النقطه..
فتح الباب ليغادرا المكان ويعودا الخطين لإفتراقهما ويكملا رحلتهما كلٌ لوحده ..
سار ضياء في الاتجاه الأيمن نحو بوابة المستشفى بينما تحرك فارس ليعبر الرواق الأيسر ويتوغل في المستشفى أكثر ..
في مكان آخر على نفس المساحة كانت حلا تدهس الأرض بقدميها في حنق!!
أفترق الرجلان لكن لخطي حياتهما وعد بلقاء آخر!!
رمى حجراً نحو بحيرة
تراقص سطحها متبعاً قانون التوتر السطحي ..
لولا ذلك القانون لما اهتزت البحيره كلها..
ولما انهارت حياته امام عينيه
*************************
|