المعانقة الخامسة عشر
أمتزج اللون الأبيض بالأسود بإرتعاش دموعي في عينيّ
ماسحا صورة الورقة من أمامي , هادما زيف قوتي
أطاحت كفي القلم من بين أصابعها
كنتُ في فوهة جحيم عندما أطلقت حنجرتي المبحوحة من البكاء موافقةِ من سجنها
كنتُ انتحَبَ تحت خماري المغطي وجهي , اهتز فتسقط غصاتِ تلو الأخرى
فاليت هناك من ينقذني مما أنا فيه , ومن تخبطي
ياليت هناك من يشدني إلى أحضانه , وينسيني كل شيء
لم يكن إلا هو من كان يقف بجانبي بعد موافقتي وتوقيع عقدي به
فلقد بت الآن في أسره
بعد أن خطت أناملي موافقةِ الكتابية عليه
أيقنت أن لا خلاص منه , ولا عودت إلا إليه
كيف لي أن أذعن لهُ ! كيف له أن يخدعني بهذه السهولة !
وأن أعود إليه وكأن لا مهرب إلا إليه , وكأنه ملجأي الوحيد !
لم أنزع خمار وجهي عنه
لم أتحرك فلقد تجمدت حواسي في حبسا أحكم أطباقهُ عليّ , وتغلف هوائه بالأختناق
واعادة ذاكرتي ذكراها التعيسة
كل شيء تهدم الآن , إشتياقي لهُ , حبي لهُ , قد بات الآن رماد تذروه الرياح
وبقي معي وعدي بالأنتقام منه , كرهي له , وأبي الذي افجعني موته أمامي
سأنتقم منه, سأجعله يذهب إلى الجحيم
فها أنا الآن اقترب منه بسمومي , لأذيقه ماذقته , لأجعله يتجرع الندم أكثر
حتى لو كان في ما ماضى نادما , متعذبا
ولكني لا استطيع الغفران له
لأنه خدعني , لأنه أخفى كل الحقيقة
وهو الآن يجبرني على الأقتراب منه
وكأن غمائم من السواد أحيكت حولي , وأنا كالصم البكم لا أحرك ساكنا ولا أستكين
تجبرني أجفاني على إغلاق عيناي , والخروج من عالم الأحياء والشرود من أسر ذياب ومن معه .
فأنا لم أكف عن الندم , ولا عن الارتعاش
أنني خائفة من كل شيء , و غير مقتنعة بقرارتي
لم أنبس بحرف واحد , إنما تحركتُ وكأنني أود الهروب
وكأنني أود لو أن أحد ما يصرخ علي الآن من بعد فعلتي وموافقتي عليه
جررتُ خطواتي الغائصة في ثقلها إلى سيارته بعد توديعي الأخير لحياتي الماضية
في محاولة لردع موجة بكائي الخائنة لنفسي
جلستُ بثقل ندمي على مقعد سيارته , واصابعي متشبثة على أطراف شفتي المنتحبة
تباً لي , لِمَ أبكي الآن ! لِمَ أنا ضعيفة هكذا !
تـَرفه , أرجوكِ لا تجعليه يشعر بضعفكِ الآن
لا تريه أوجاع صدرك , ولا حتى مشاعركِ المتضاربة بداخلك
مشاعركِ المرتعشة أمامه , واحتياجك الشديد لشخص يقف بجانبك
ذياااب , ضلعي الأعوج بحاجة إلى أضلع يستند إليها لكي يعيد توازنه إليه ..
ولكن ليس أنت !
فأنا لا أستطيع التشبث بك كما في الماضي, فأنت لست ذياب القديم ولا أنا طفلتك المدللة
عندما صعد إلى جانبي كنتُ غارقة في دموعي أحدق بالنافذة , مختنقة بندمي
ولا أريد رؤيته ولا التحدث معه
لم أنطق ولم ينطق هو
أبحر الصمت بيننا ليغرقنا في أمواجه المتلاطمة
وصلنا إلى المنزل فترجلتُ غير آبهة به
هاربة من رؤيته والضعف أمامه , وانهزامي أمام من عكر صفو حياتي
البرود أجتاح جسدي المرتعش , وأنا أدخل إلى ذلك المنزل الذي عانق روحي
عانق ذكريات الماضي , احتضنني في الطفولة , أشربني من ماء الحلو
ابتلعتُ رائحته القديمة
حدقت بي عيون الماضي لتعيد ذكرياتي إليّ , همساتي , ضحكاتي المتصاعدة
مرتع طفولتي البريئة , خطواتي الصاخبة المنطلقة لحضن ذياب
شريط ذكريات الماضي البعيد , ماضيّ الذي لن يعود
بيتي القديم , لقد عدتُ إلى مكان يحوي ذكرياتٍ سعيدة وسيئة
عدتُ إلى ضحكاتي ودموعي
هنا كنتُ سعيدة , هنا كنتُ أبكي محطمة بعد إكتشافي للحقيقة
هنا سيكون بؤسي القادم
ضاق بي الكون على وسعه , وأنا أقف في منتصف غرفة المعيشة
أشعر بأن جوفه يريد استفراغي من أحشائه بعد رحيلي عنه
يريد قذفي بعيدا , ونفي إنتمائي إليه
فلقد عدتُ إليه مقيدة
بعد أن بصمةُ حياتي مع قاتل أبي
اعادني لون منزلي القديم , وضجيج صوت ذياب إلى واقعي ومرضه
ذياب الواقف عند الباب بثوبه الأبيض ليكسر سواد شعره حدة لونه
ابتسم بوجهه البشوش المحب ليقرب المسافة البعيدة , ويلتهم رخام المنزل الأبيض بخطواته
قال وهو يردد اسمي لمرة أخرى بعينين كبيرتان لامعتان , ساكبا فرحته في مجرى دمي : " ترفه , صغيرتي , أنتِ الآن في منزلكِ , منزل طفولتكِ , لقد عدتِ إليه أخيرا "
تجولت عيناي عليه وعلى منزلي القديم لتشهق أنفاسي , ويزيد ضيق صدري أضعافا علي
لأرتعش لكلماته , لرؤية وجهه بهذا القرب , لشوقي لذلك الوجه
ولكن الآن قد تشوه ذلك الوجه الذي كنتُ أحبه , ولم تبقى له أية محبة
ارتفعت أناملي إلى وشاح رأسي لتنزعه من مكانه وترميه على الأرض
إني أختنق , وأموت من الأختناق
ويتصببُ العرق مني حد البلل
رفعت أصابعي المرتعشة إلى وجنتيّ لازيل أثر دموعي
هززت رأسي وأنا ابتلع ريقي الذي امتصهُ ألمي
أقتربت مني خطواته حتى طوقتني رائحة أنفاسه القريبة مني
إبتسم بحزن لرؤية هم وجهي وأوجعه
تراجعت خطواتي إلى الوراء , وأنا أحاول الأبتعاد عنه بوجه رسم الكرهه والألم له
غرستُ أناملي في بطن يدي , وأنا أصرخ عليه : " لا تقترب مني يا قاتل "
وكأن كلماتي صبت نارها الحامية عليه
خطف لون وجهه وطوت تعابيره الأحزان
نظر إلي بعينين متسعتين دامعتين , وبشفاه صلبة تقوست بمرارة إلى الأسفل
زادت من وجع قلبي في صدري
حاول الاقتراب مني وهو يمد ذراعيه نحوي في محاولة لاحتضاني
زجرته من الاقتراب مني , معنفةً إياه , راميةً بكلماتي القاسية على وجهه : " لا تظن أنني قد غفرت لك , لا !! أنني لم أغفر لك ولن أغفر لك أبداً , أنني أريد الأنتقام منك , أنني أكرهك أتعرف ذلك , أكرهك "
تجمعت دموعي الخائنة في عيناي , وأنا أرتجف من شدة الألم والحزن
حدقتُ بوجهه الذي زاد شحوبه , وكأن كلماتي له مرض ليس له شفاء
وكأني أزيل أماله الزائفة بقبولي له على أنه غفران وحب له
أكملتُ وأنا أصد نظراته التي تكاد تحطمني وتوجعني أكثر
نظراته الحزينة, الألم المرتسم على تعابيره المتوجعة جعلتني أقذف عليه سمومي لعلي أمحو بها وجع سنيني الماضية التي خلفت ندوبها في ذاكرتي : " أنت قاتل أبي وأنا لن أنسى ذلك أبدا .... أبدا "
اعدتها بإرهاق شديد وكأني أحارب معها أنفاسي من الهروب مني
نظرت إليه وأنا أشهق , في محاولة لردع موجة بكائي الهاربة مني
تقوست شفتاي , وأنفجر صدري بعويله ليقذفه إلى خارج فمي
أنطرحت شهقاتي تبكي , وتنتحب معها عبراتي
لا .... لا أريد البكاءالآن !
صبت أحزاني صيحاتها في صدري فسقطتُ أبكي , وكأني لم أبكي دهرا
أبكي بصوت حاد متوجع , أمسح وجهي وعيناي لعلي أكف عن بكائي الأليم
لعلي أصمت عن نحيبي الصاخب
عانقني جسده وشد ذراعيه حولي مطوقاً جسدي بحرارته , داعساً وجهي في صدره , شادا عليّ
هامسا بكلمات الأسف , متوسلا إليّ أن أكف عن بكائي الموجع له
وأنهُ نادم , ولا يعرف مايفعل , يهمس لي في أذني : " صغيرتي لكِ الحق في كرهي , اكرهني وأفعلي ما تشائين بي , اضربني , اقتلني , انتقمي مني ولكن حاولي العيش براحة ونسيان الماضي , عيشي حياتك مدللة وأنا تحت أمرك وسأفعل لكِ ماتأمرين به "
انزلقت أصابعي المغروسة في صدره لتتشبث في ثوبه
وأنا أحاول إبعاده عني والخلاص من طوقه المقيد لجسدي وروحي
ضمني إليه بقوة لعلهُ يخفف من حدة بكائي
ضربت رأسي بصدره الضخم , وأنا أبكي بحرقة لتخبطي العقيم , وحزني الشديد
خبطُ رأسي على صدره لمرة أخرى , وكأنني أمسد أوجاع قلبي عليه
أبحث عن رائحة الراحة فيه , هدأت نفسي وأنا متعلقة به وكأنه صدر الأمان والحنان
أرتعش بسكون روحي بين أنفاس حبه لي, أتنفس تحت بئر حنان جسده وعناقه الحار لي
رص بذراعيه حولي بشدة , وهو يتنفس رائحة عنقي ويقول لي من بين أنفاس مخنوقة : " أقسم أنني أحبكِ يا صغيرتي , حب ليس له مثيل , بل اعشقكِ وكأنكِ هوائي, ولا أقوى على رؤيتكِ هكذا, وأنا أسف , أسف جدا على كل مافعلته لكِ , ولا أعلم مايجب علي فعله لتعويضكِ "
بكاء صوته الناطق بكلمات الأسف والحب لي
أذاب قلبي بين أضلعي , وجعلني أترنح بين أمواج مشاعري العاتية
أعرف أن ذياب كان جزءاً جميلا من الماضي
بل هو الأجمل , هو كان حياة نعيم
وكنتُ أحبه حتى الخدر
ولكن الآن... أنا متعبة جدا , ولا أقوى على التفكير في شيء , ولا أستطيع الغفران له أبدا
نفخت من لهيب أنفاسي المتضاربة تحت وطأة خدر جسدي المريض
تشبثت أصابعي به أكثر وأنا أحاول أبعاده عني بكل قوة
إبعاد سطوة جاذبيتهُ عني , وجنون عقلي بالغفران له والعودة إلى سابق عهدنا , ونسيان ماضينا القبيح
شعرتُ بأن جسدي يغلي نارا , يتقلب على جمر المرض
يكاد يسقط إلى هاوية ليس لها قاع
صرخت به وأنا ابكي راجية إياه بإبتعاد عني , إراحتي من نِزاعي العازف على أشجان صدري
تراجع عني وارخى ذراعيه عني حتى تركت أصابعه أطراف عباءتي
مسحتُ دموعي .. وأنا أدفع بجسده الملتحف بالبياض عني وأمشي مترنحة المشية
أمشي حافية القدمين متذوقة برودة الأرضية
وأنا أكادُ أتقيأ ما في معدتي , وأسقط على الأرض من دوار رأسي القاضم لخلاياي
أشعر أن جسدي ينتزع قوتي , وانفاسي تختنق
والمرض يمزج ألوان الكون ببعضها ويعدم رؤيتي
شرب مني المرض حد الابتلاع
وأنا أحاول البحث عن منفذ أرتمي إليه , حضن أسقط عليه
وينقذني من بؤرة السواد التي تكاد تلتهمني
نفذت قواي , تهالكت عظامي , تخدر جسدي حتى فقد حواسه , أسدلت أجفاني ستائرها لتغرقني في الظلام .
***
جسدها الضئيل المتغطي بالسواد , مشيتها الغارقة في أحزانها
أيقظت صيحات الندم والحسرة في صدري على ماضيّ
واطاحت جمر دموعي من عيناي على حزنها وألمها الشديد
هي تكرهُني الآن !
هي باتت لا تطيق رؤيتي , فلقد بتُ كريهه بالنسبة إليها بعد أن كنتُ حياتها القديمة
كنتُ أقرب إليها من أنفاسها , كنتُ عالما بكل صغيرة وكبيرة عنها
وها أنا الآن كالغريب , كعابر سبيل
كالذي أضاع حياته الثمينة
يا ترفه ياليت حياتي تكون ثمناً لكِ لأعطيكِ إياها
ياليتني قادرا على محي ذكرياتنا الدميمة
أمام ناظري كانت تمشي تنتحب بصوتها الشجي
تبكي ضامة أناملها الصغيرة على شفتيها
والرجفة تعبر جسدها لترعشه وترعده
تشهق شهقات متتالية تنتزع معها الاوردة من قلبي
تتعلق أناملها النحيلة بأطراف الدرج , وتصعد سلالمه البيضاء مترنحة , باكية
تلهث أنفاسي معها متدهورة لحالها
وتقترب خطواتي منها وأنا مشقوق الصدر منزوع القلب أحدق بها وكأني منكوب
لم تصعد إلا درجة واحدة حتى تهاوى جسدها النحيل وأُغشي عليه
بقلب هوى عن مكانه , تسابقت خطوات قدماي
أسرعت نحوها لا إرادية ملتقطاً جسدها بذراعيّ محتضناً برودة أطرافها
سقطت بسوادها الذي بقي طيفه معلقا في الهواء على ذراعيّ
أغمضت عينيها الصغيرتين أجفانها , وبقيت دموعها معلقة بأهدابها
وتلون وجهها الأبيض بالحمرة والأرهاق , وتبعثرت خصلات شعرها الأسود لتتموج حوله
وتقوست شفتيها المتكنزتين لترسما مرارة الحزن
تشبثتُ بها وكأني خائفا من ضياعها مني , خائفا من إختفائها من بين يديّ
أضغط على أسناني من شدة الحزن عليها
أحتضنتها بكل قوتي مستنشقا عبير عطرها
مريحا أنفاسي الثائرة في صدري , حتى أسكرتُ من خوفي عليها
لمست أصابعي المتجمدة وجنتيها المشعتين والذابلتين وأنا أحاول إيقاظها
والإطمئنان عليها
ارتعبت من شحوب وجهها
فصرخت عليها لعلها تفيق من سباتها الذي يشابه سبات الأموات
رصت عينيها وهي تخرج أنفاسها المريضه , وتمتمت بعباراتٍ غير مفهومة
كانت تتصببُ عرقا , كانت ترتعش بين يديّ من حمى المرض
كنتُ خائفا مرتعبا من حال صغيرتي
قدتها بذراعان تمسكان جسدها بإحكام إلى أريكة قريبة منا
أجلستها عليها .. وأنا أمسك بأناملها واسند رأسها على صدري
تلمست كفي جبينها الحار
إنها تشتعل بحرارة الحمى
اقترب وجهي من وجه صغيرتي المتلون بالحمرة
كانت أنفاسها كلهيب الجمر وليس لها رائحة, كانت تخرجها وتبتلعها لقمة واحدة
مسدت أصابعي شعرها , وحط خدي على خدها وأنا أهمس في أذنها : " صغيرتي "
لم أسمع منها إلا تنهيدة مهزومة
شددتُ على ذراعيها بلطف وأنا أحاول النهوض بها , وقلت بخوفا تجلى في صوتي وحبس صدري حزني عليها : " هيا يا صغيرتي استيقظي لكي نذهب إلى المشفى "
فتحت عينيها وهي عابسة , اتسعت عينيها المرضتين بحمرة التعب وهي تحدق إلى عينيّ
هي لحظات دموع , هي لحظات وجع نقشت تفاصيلها على ذلك الوجه الصغير المريض
بكت عيناها .. وهي تضع أناملها على صدري في محاولة لإبعادي عنها
حاولتُ ملاطفتها , ومداعبتها لعلها تكفّ عن بكائها
لعلها تكفّ عن قتل نفسها بسبب شخص حقير مثلي
أنا حقير لأنني جعلتها هكذا
تباً لي يا ترفه , فأنا شخص لا يستحق أن تضحي بشهقاتكِ ودموعكِ من أجله
لأنني شخص قد دمر طفل وشوهه ذكرياته ليحولها إلى نيران تشتعل ليل نهار بلا إنطفاء
أسف يا صغيرتي
أسف لأنني أفقدكِ والدك
فأنا إنسان أعلم ماهو فقد الأب وكم هو قاسي
فأنا شخص ولدتُ بلا أب
فأبي قد مات قبل أن أولد
تربيتُ يتيما بين أسقف بيت كبير حملني أنا وأمي فقط
عشت حياة خالية , حياة تخلو من سند , من روح تسمى أب
وكنتُ أحن إليه واتمنى وجودهُ
لم تقبل رجائي , لم تقبل كلمات الاعتذار والحب
وكأنها تلعن روحي برفضها , وتسقيني سموم الموت
حاولت ُبإلحاحا شديد أن أحملها بين ذراعيّ
فأنا لن أرضخ لرفضها
لن أجعلها تقاسي شقاء المرض
حملتها بين ذراعيّ متفاديا ضرباتها
غير منصة لصرخاتها الرافضة لي
طار كفها وضربت وجهي وهي تقول بصوتٍ باكي ووجهه ينتحب بوجع : " أنزلني , إيها القاتل , الكاذب , الجبان , أتركني فأنا لا أريدك "
زادت من ضرب وجهي وهي تزيد من شتائمها عليّ
وترميني بعلقم الحقيقة
تزرع أشواكها الحادة في صدري
تنتزع شهقات روحي مني
فرت من بين يديّ هاربة من براثني
ووقفت أمامي بوجه توشح بالمرض, وأرهق من إلتقاط أنفاسه
صاحت عليّ بكرهه أظهره وجهها البائس , صاحت عليّ وهي تشد على أحرفها المهتزتِ : " لن أذهب معك , سوف أموت لوحدي هنا , وأنت هو قاتلي يا قاتل "
كانت تقف على أرض مهتزة , كانت ترتعش وتأن
وتضرب بقدميها الأرضية الرخامية
كانت تهز رأسها وكأنها تعدم شهقات بكائها قبل أن تخرج
كلماتها المقذوفة وكأنها حمم بركانية تخترق فؤادي
وكأنها صفعات لا ترتد عن صفعي
ابتعدت عني وهي تظهر تكشيرة وجع
وترمي يديها على جرة من الرخام
ضربتها بقوة وهي تطرحها على الأرض لتتكسر وتصدر صوتٍ مزعجا
وتقول لي بوجه فاحم يوشك على الإنهيار : " لا تتدخل فيني , فلقد أخذتُ منك ما يكفي من الأوجاع , أبتعد عني ولا تقترب مني "
سحبت خطواتها الثقيلة لتهرول إلى الأعلى
صعدت السلالم الطويلة وجسدها يشد رحاله إلى الأعلى
شددتُ على قبضتي
وأنا أزحم تيارات الهواء إلى صدري , وألعن الشيطان
إني أكاد أفقد رشدي وأصل إلى حافة الجنون
سأجن من عدم قدرتي على السيطرة عليها
سأموت من الألم الذي سببتهُ لها
هو شق ينزف من صدري
هو مرض ليس له علاج , فمرضي هو هي !
فمتى شفيت هي سأشفى أنا
يجب عليّ أن أجعلها على الأقل مطمئنة
يجب عليّ شفاء خدوشها السطحية لأصل إلى الأعمق
رصصتُ عيناي بحاجبان التصقا ببعضهما
هي الآن مريضة ومتعبة , كيف لي أن أتركها هكذا لوحدها
سأحاول معها لمرة أخرى لعلها ترضخ لي , لعلى قلبها يحن لي
صعدت متجها إلى غرفتها , كانت مشرعة الأبواب
وكانت هي جالسة على الأرضية وعباءتها مرمية تحتها وجسدها يرتدي بنطال أسود اللون وقميص أصفر عاري الذراعين بينما رأسها منطرح على فراش سريرها
أنينها وأنفاسها الصاخبة , جعلتني أكرهه نفسي أكثر
وجعلت وجهي يعبس لوعة وحسرة
ويتمنى فراش التراب , وانعدام الأنفاس
تقدمت خطواتي إلى داخل غرفتها التي لم تتغير
غرفتها التي جمعتني بطفولتها , جمعت رائحتها وأنفاسها
الغرفة التي احتضنت تلك الطفلة البريئة التي باتت الآن محطمة بسببي
الطفلة التي نزعتُ أنا عنها رداء البراءة والطفولة وسحقتُ ضحكاتها تحت ركام الحقيقة
غرفتها التي نمت أنا فيها لأياما طويلة بعد اختفائها عني
حتى كرهتُ نفسي واحتقرتها
وتمنيت لو أنها اقتصت مني قبل أن تسرق مني , قبل أن يأخذها ذلك الحقير ويعذبها
توقفتُ وهي تحتي , توقفتُ أحدق بها وأنين خافت يصدر من صدري
انه الندم المتفشي في جسدي وروحي , والذي لن أتخلص منه أبدا
لانني أشفق واعشق هذه الطفلة التي تربت بين يديّ
ربيتها لأقع أنا في شرك فعلتي المتسرعة وابغض حياتي بسببها
وها أنا الآن أعيدها إليّ بطريقة لم اتخيلها أبدا , وهل هي صائبة أم لا .. فأنا لا أعرف حقا ما الذي افعله غير هذا
ولكن سأحاول معها حتى تعود كسابق عهدها وبعد ذلك ساطلق سراحها
تجمد دمي في عروقي , واقشعر جسدي لفكرت ترك ترفه أو ذهابها عني
فأنا أشعر وكأنها ملك لي ولا استطيع التخلي عنها أبدا
فكيف يحصل هذا إذا تزوجت هي غيري !
أبعدت تُـرَّهَات عقلي وجنون افكاري عني
ما بي !
هو تعلق أب بإبنته لا غير
فأنا لا أريد أن يصيبها مكروه , ولا اريد فقدانها ابدا
أريدها فقط سعيدة ومحمية من كل سوء
انخفض جسدي إلى أن قارب انخفاضها
تلمست أصابعي طرف كتفها وأنا أقول : " ترفه لا تفعلي هذا بنفسك , أرجوكِ هيا إنهضي "
رفعت رأسها ببطء عن أغطية السرير , والتفت نحوي محدقة بي بغضب امتزج بالأرهاق
رصت على ملامح وجهها , نفثت من غبار غضبها على وجهي وقالت بصوت غاضب مرتعش : " ألا تفهم , ألا تفقه ما أقوله , هل أنت أصمخ , ابتعد عني ولا تقترب , أخرج " علا صوتها المريض وهي تصرخ بكل قوتها : " أخررررررج "
استمرت تصرخ عليّ آمرةً إياي بالخروج والأختفاء
وعدم الأقتراب منها
تصيح عليّ بصوت مجهد وتبكي أنفاسها ألما
لم أبرح مكاني , لم انصت لعباراتها التي تأمرني بالخروج من غرفتها
إنما تقدمت منها واحتجزتُها بين ذراعيّ لعلي أجعلها تهدأ وتستكين , وتكفّ عن مقاومة مرضها
يا تـَرفه ! إني أشعر بكِ !
أشعر بمدى حقارة ما فعلته لكِ
أشعر بمشاعركِ نحوي , وبكرهكِ لي
أعلم أن جراحكِ لم تشفى إلى الآن , ولم تنسي ماحدث
ولكن أتظنين أن ذياب
ذياب الذي يحبكِ ويعشق ظلكِ ويريد بذل الغالي والنفيس من أجلكِ يتراجع بهذه السهولة
لا و أبدا
فأنا لن أكف عن الربت على جروحكِ إلى أن تلتئم خدوشها
تلتئم ويتوقف نزيفها
ويرتوي قلبكِ من ماء الحياة
وتستعيدين حيويتك من جديد حتى لو أن الماضي مريض , وقاسي ولا ينسى
ولكن ! لكن , ماذا ! فأنا لا أعرف أجابته الطويلة التي سطرت على منهج حياتي
لا أعلم ما سيكون عليه المستقبل فالله وحده يعلم بذلك
ولكني سأحاول من أجلكِ
سأفعل المستحيل من أجل أن تريحي أجنحتكِ بين كتفاي
امسكتها برقة لكي لا اؤذيها وطرحتها في حضني
طرحتها وأنا أُقاوم رفضها
قبلتها على جبينها مرارا وتكرارا
ومسحت على شعرها وضممتها إلى صدري قائلا : " حسنا لا تذهبي ولكن دعيني اعتني بكِ كما في الصغر "
كانت في مرضها لا تنام في غرفتها إنما تنام في حجري , وتندس بين يداي لعلي اخفف من ألم مرضها وكأني أمانها وأمنها
كانت طفلة صغيرة بايكة تخاف من الظلمة والوحدة
فهي مدللة منذُ أن جئتُ بها إليّ
وفي كل ليلة كانت تشق الظلام بأنينها المرتعب وبصراخها
صراخها الذي تسللت إليه كوابيس موت والدها
كانت تلتجأ إلي , تحتمي بي من شرور الدنيا
تختبئ في فراشي وتنام فيه لعلها تنعم بنوم هانئ بعيدا عن صخب أحلامها المزعجة
هي طفلة مسكينة ووحيدة تظنني مسكن لها
شخص طيب , محب وصالح
أخذها لأنها يتيمة رأفة بها ليجعلها ابنته
ولكن لم يكن ذلك صحيحا !
فأنا كنت أبتلع الشقاء
واتكأ على عصا العجز
واصارع حرب الندم
واذبح كما تذبح الشاه في كل ليلة
فأنا كاذب , منافق , يصطنع إبتسامته
يختلي بنفسه ليلا ليتجرع مرارة مافعله
ليبكي ندما ولتراوده أسرار الموت , وأشباح الماضي .
تلاشت مقاومتها لي , وانصاعت لعناقي
تدثرت بحضني , وتعلقت بي كالطفل
تنفستُ بعمق وأنا أحتضنها أكثر وأحتضن حرارتها
هدأت مستكينة , نائمة بين ذراعيّ وقد خفت أنفاسها من لهاثها
مدت أصابعي لمساتها إلى شعرها , وأنا اطيل النظر إليها
وأحاول النهوض بها ووضعها في السرير ومتابعة درجة حرارتها ومرضها , وإقتناء الدواء لها
ولكن لم أستطع فتواجدها بين ذراعيّ
وتعلقها بي بهذا الشكل
جعلني لا أود مفارقتها , لا أود زحزحتها من احضاني
فقط أريد إبقائها لأطول مدة ممكنة هنا بين ذراعيّ , وقريبا من قلبي
لتعانق روحي روحها, لأرتشف من ريق بعدها عني في الماضي
ولكن أن يتحول ذلك المزيج من المشاعر إلى مشاعر عميقة
مشاعر لم أشعر بها من قبل نحوها
مشاعر تحمل معها سياط من نار
مشاعر ترضخني على التهور
مشاعر تتسلل إلى قلبي وترجفه
وتريني إمرأة وليس طفلة
لديها ما لدى الأنثى الناضجه
الرائحة والنعومه والاغراء تلك الاشياء التي تثير أي رجل طبيعي
إنها مشاعر تقلب في لمح البصر حقيقة حبي لترفه لتحوله إلى حب أخر
حب اشعر به وكأنه يحاول سلب قدرتي على التحمل
يسلبني تعقلي ويجعلني مجنونا شغفا إليها
متلهفا إلى عناق أعمق ومزيج مسكر من الأحاسيس
ابعدتها عن حجري , ابعدتها خوفا من نفسي عليها
ووضعتها على سريرها بسرعة
وخرجتُ من غرفتها كالمصروع الهارب من أفكار الشيطان
حاولتُ استرجاع رشدي , الإبقاء على أخر ذرة من التعقل فيني
تبا لي !
ما الذي كنتُ أنوي فعله معها , أو التفكير به
أحل الجنون على عقلي !
أنسيت أنها الطفلة التي ربِيتها أنا منذُ أن كانت في السابعة من عمرها
ولكنها الآن ليست طفلة
إنما هي أنثى كاملة
أنثى تحرك مشاعري وتفقدني الأتزان
تبا !!! تبا لجنون عقلي
تبا لوصولي إلى هذه الدرجة
إنها ترفه يا ذياب , تذكر ذلك !
ترفه صغيرتك , لا تؤذيها أكثر فلقد أخذت مايكفي منك
أخذت الكثير ولا تريد المزيد
تنفست بعمق وكأنني ازيح سطوة مشاعري الثائرة عني
وامحيها لكي لا أبقي على أثر لها
أغطيها برمال الحقيقة
أرميها لكي لا يعقبها ندم أعض أصابعي عليه
حثثتُ خطاي متوجها نحو الخارج , لأحضر دواءً خافضا للحرارة لها
واتخلص من أفكاري السلبية التي قد تسفر عن كوارث مدمرة تؤذي ترفه وتؤذيني .
****
ذلك الجسد الذي يمشي بلا روح , والشفاه المبتسمة بلا داعي
والمرح الكاذب الملون بأهازيج السعادة
كم بتُ أتقن ارتدائه في هذه الأيام
فأنا قد بتُ لا أعي ما أفعله , وما لا افعله
حتى ان أخطائي قد زادت , والآلامي قد باتت لا تطاق
وهو لا يرتد عن قتل روحي بنظراته , وتصرفاته المتناقضة
كريهه هو تواجده الآن في المستشفى
مؤلم الأذلال الذي اصبحت أقاسيه معه
فهو لا يكفّ عن تبجحه معي وافعاله السيئة
ذهاب ترفه عني جعلني اتخبط في وحشتي وهمومي
كانت هي الأقرب وما زالت
فليس هناك من هو قريبُاً لحد نبش أحشاء صدري وتقليب قلبي بين كفيه إلا هي فلقد بت وحيدة من بعدها
فأنا أخفي تعاستي التي غرسها عامر في صدري بعيدا عن الأنظار خشية اكتشافهم لي
وكم هو مؤلم ذلك
اصطناع أني سعيدة , أني على ما يرام
الكذب الذي تقاسيه روحي مع نفسي
إيماءات وجهي التي تكاد تختنق من الهموم
ففي داخلي تتفجر براكين من الأوجاع
أنا تلك المرحة , مبتسمة الوجه اصبحتُ الآن انتحل ملامح السعادة , وتقاسيم الأتزان
اني أرتجف , أرتجف بشدة عند رؤيته
عند سماع اسمه قبل صوته
خائفة من استغلاله لي
خائفة من مصيدته التي تحبسني في سجنه
خائفة من تماديه معي أكثر فأنا قد بتُ لا أطيق قيوده التي ربطها حولي
كنتُ أمشي في ممرات المستشفى أحمل معي أوراقي , وهمومي الحائمة حولي
قادتني قدميّ بعقلي التائه إلى الأستقبال
وقفت مستندة على حائط طاولة من الخشب
انبشُ أوراقي بأنفاس ضيقة , وعقل غير واعي لمّا حوله
تجمدت اصابعي الممسكة بأوراقي , وألتبس جسدي القشعريرة
عند رؤيته يقف أمامي بمسافة قصيرة يتناقش مع مقيم شاب
كان جامدا وقاسيا كما كان
هو حقير , ولا استطيع فهمه أبدا
فهو يصرخ دائما ويكون صامتا ساكنا ليناً نادرا
كيف يكون هذا الانسان القاسي , أهو يملك أحساسا أم أنه مجرد حجر متحرك
أأستغلال الناس واللعب بهم لا يشعره بالذنب , أإذلاله لغيره متعة
أسرقت غيره حسنة عنده
قاومة تدهور مشاعري
وانهيار شجاعتي , فلقد بت أمثل الشجاعة ببراعة فائقة أمامه حتى أستحالت شجاعتي إلى جمود
جمود طغى على أحاسيسي ومشاعري
قد يكون كره عميق أو بغض أعمق
رفع رأسه كعادته ونظر إلي بنظراته المبهمة التي بت أكرهها واحقد عليها منه
هناك عملية جراحية نقوم بها معا بعد بضعة ساعات
مرّت الساعات بسرعة خاطفة وكأنها تقربني من لسعة مستغلي الكريهه
دخلتُ إلى غرفة العمليات ولكن كان هناك خطب فالرجل كان ينعش تحت وطئ أجهزة الصدمات الكهربائية
ولكنها لم تسعفه لحالته التي تدهورت فجأة , ووافته المنية قبل أن نبدأ بالعملية الجراحية لقلبه
صرحت حنجرة عامر بوقت وفاته ودونهُ المدونون , كنتُ أقف بجانبه , أعمل على بعض الاجراءات عندما قال بصوته الغليظ والبارد موجها أحرفه إليّ : " أخرجي وأخبري أهل المريض عن وفاته "
ابتلعتُ ريقي ولم يرتد طرفي إليه
لاهتزاز جسدي لنبرة صوته الخانقة , لكرهي سماع صوته , لبغضي لهُ
نفذتُ أوامره مع صعوبة الأمر
فأخبار أهل المريض عن وفاته لهو صعب عليهم , وعليّ فردات أفعالهم غير متوقعة
فأنا أتمنى أن يمر الأمر بسهولة وتقبل , ولا أن يتم بقذف الشتائم والصراخ
خرجت من غرفة العمليات لأواجه رجلا في العقد الرابع من العمر , وإمراة مسنة تبدو في سن الرجل المتوفي
وقفتُ في محاولة لرسم تعابير مبتسمة
أو لتغير تعابيري المتوترة والعابسة إلى الهادئة
لكي لا أفقد توازني وقوتي التي جمعتها لحد الآن
بأنفاس مبعثرة , بصوت لحنته بالهدوء , قلت : " عظم الله أجركم في فقيدكم "
أكملت ونظري يهتز من جراء أبصارهم الشاخصة وشحوب الأوجه المذهولة من الخبر : " لقد مات قبل العملية ولم نستطع إسعافه من سكتته القلبية حاولنا انعاشه ولكنه كان بلا أمل يرجى "
لم أعي إلا بصياح المرأة المسنة وانهيارها أرضا ضاربة بذراعيها الرخام البارد بنحيب ملأ الأرجاء
وبنطلاق الشتائم والخطوات نحوي من الرجل الشاب
لكمةٍ خدرتني , واذهلتني اصابة كتفي منه وطرحت بخطواتي المتعثرة إلى الخلف
وهو يصرخ عليّ بأبغض الشتائم
ويتهمني بقتل والده بصوتٍ صائح , غاضب , غير واعي : " كاذبة !!! فوجهكِ العابس يقول خلاف ذلك لأنكِ أنتِ من قتلتي والدي , فوالدي لم يكن يعاني من خطب ما , فلقد كان في اتم الصحة عندما أدخل لديكم, سحقا لكم من قتله "
زاغ قلبي , وألجمتني صدمتُ التهجم عليّ , وتعلقت الأبصار بنا
تجمد جسدي مكانه , وشل لساني فلم استطع الدفاع عن نفسي
وهو لم يتوانى عن التقدم نحوي متقدما كل من حوله بإصرار عنيف
وهو يضيف بفحيح حار و بغضب طوى وجهه الأسمر : " أنتم الأطباء مجرد حثاله مخادعين تقتلون مرضاكم لتقول بعدها أنه مات لوحده , تختبئون وراء زيكم الأبيض وتدعون الطهاره وأنتم أنجاس "
جمعت أذرعيّ حول صدري في محاولة لصد أي هجمة مباغثة قد تنطلق نحوي منه
صحت عليه , وصحت بالنجدة من الذين حولي لعل أحدا منهم يسمعني فيسعفني من تهجم هذا الرجل عليّ : " أهْدأ و و توقف "
هذا ما خرج مني , وأنا اخذ انفاسي المتنازعة وأرتجف بعنف من هول الموقف
للحظات فقط وتجمع الرجال ممسكين بالرجل الثائر من أذرعه مقيدين حركته
وقف أمامي جسد وكأنه يحمني من تهجم أخر منه , وقال : " استعدوا الأمن حالا "
ارتعشت شفتاي , واختنقت عبراتي في صدري
مخيف هو مايحدث الآن
وهو أن أضرب وأن يلمسني هذا الرجل بكل عنفا وأمام هذا الحشد من الناس
كأنني الجانية , وكأنني المجرمة
قيدوا رجال الأمن الرجل وهو يصيح متوعدا إياي بالأنتقام
وانني سوف أندم على ذلك أشد ندم
نظرتُ إليه نظرة أخيرة مفزوعة مختنقة
ما الذي فعلته أنا لكي يقوم بالأنتقام مني لموت أبيه
هذا قضاء وقدر
حاولت طمأنت نفسي أنه في حالة غضب , وأن الجميع هكذا ففي غضبهم ينسون من هم ويرمون العبارات بلا رقيب وبعد ذلك يتراجعون عنها ويتقبلون الأمر مع مرور الوقت
اصطكت اسناني , وتيبست ركبتاي من الخوف
مالي خائفة هكذا
يا إلهي أهو وقت انهياري الآن
فمالي أحبس انهيار مشاعري بداخلي
فأنا لم أبكي منذ أمد طويل ومنذ رحيل ترفه عني
لم أرق دموعي المخنوقة , والتي تكادُ تمزق صدري من الهموم
رفعت نظراتي الدامعة أمامي وعلى وطئ صوت طاعني
وكأنه الطاعون نفسه , وكأنه المرض المتفشي في جسدي
هو من كان امامي
بقصره الذي يضاهي طولي
بجسده الأضخم عن جسدي, بجماله الأخاذ
بنظراته المتعالية , بلوعة معدتي, بكرهي وبغضي له ..
انتابتني القشعريرة عند رؤيته يقف أمامي وهو يسأل ببرود انغم صوته : " هل أنتِ بخير ! "
اشتد غضبي عليه بفعل كلماته التي باتت تنفلت أعصابي لها
أأنا بخير يا عامر !!
لستُ بخير فأنت والجميع تتهجمون عليّ وتحاولون سحقي لسبب مجهول
فالعالم كله يقف ضدي لهدمي
لم أعطيه خيار التفكير أأنا بخير أم لا
جررتُ خطوات التي تكاد تبتلعها الأرض إلى الأمام
اقضم الأرض من تحتي بحذائي
أحاول نبشها وسحقها تحت أقدام بؤسي , وقلة حيلتي , وعظم موقفي
مررت بجانبه وكأنني لا أراه وما يقيني به إلا أنه أزداد غيظا مني
سحقا لك !
فاليتك تشعر بما أشعر
ياليت يديّ تقدر على الأنتقام منك حالاً , والخلاص من جحيم تواجدك في حياتي
وكأنه يلاحقني بعفاريته , و لكنتهُ الباردة تقتلني
وقف أمامي ليعيد سؤاله , وطنينهُ في أذنيّ : " هل أنتِ بخير , هل أذاكِ الرجل ! "
لم أكن لأحتمل تواجده أمامي , ولا خرير صوته
فلقد تمزقت أعصابي من الشد عليها
وأكل صدري الغضب حتى ابتلعه لقمة واحدة
بإنعقاد حاجباي , بفوران مشاعري , بإهتزاز صدري الحاوي لقلبي المرتجف قلت بصوت هامس يكسوه الارتجاف : " ما الذي تريده مني , حتى لو ضربني ومت مادخلك أنت بي "
تغيرت تعابير وجهه للهجةِ المزدرية له
اصطك فكيه من قلة أدبي معه
اشتعل وجهه الذي لاح عليه الاسمرار أحمرارا
وكأنني ايقظت طفلتي الساكنة في غياهب صدري
وانتزعت ضعفي الغبي , بحالة غضب اجتاحت كل ذرة مني
انستني كل شيء , اتسعت عيناي , وانا افتح شفتاي بقهر و جنون
وأهمس بصوت قارب إلى الصراخ : " هيا!!! أرمي بي إلى الخارج ,وأفعل بي ماتريده , هيا !! أطردني ولطخ سمعتي فلست الوحيدة من فعلت هذا الفعل , ولكن أنا قد ضقت ذراعا منك , ولن أفعل لك شيئا بعد الآن , لن أقوم بخيانة أهلي من أجل حثالة مثلك , أني أكرهك "
ضرب بأسنانه بقوة وهو يقاطع نوبة انفجاري الصاخبة , والمهتزتِ بحشرجة بكاء تكاد تخنق حلقي , قائلا بصوت غاصبا مندهش يتقلب على جمر القهر : " أصمتي "
قاطعتهُ وأنا أرفع كفي أمام وجهه الشاحب الذي امتص الذهول ألوانه
وابتلع موجة من الهواء البارد لعلها تساعدني على الصراخ عليه أكثر واخراج مكنونات قلبي على وجهه وكرهي وحقدي عليه : " لن أصمت , إني أكرهك فأنت أبغض المخلوقات إلي , كريهه قاسي , متحجر القلب , لا تملك قلبا , فأنا أكره رؤيتك , اكره تواجدك في حياتي , أكره تواجد طبيبا مثلك , غير نزيه , لا يخاف الله في الناس "
وكأن كل قوتي أمتصتها الأتربة كالأمطار
حتى أنفاسي اختنقت واختفت
اهتززت بإهتزاز دموع عيناي
حاولتُ تثبيت قدماي على الأرض حتى لا اقع
وانطلقتُ مهرولة بعيدا عنه
ابعد انفاسه عني , ابعد كل كريها عني
وأنا أشد على شفتاي ناهرة نفسي عن الضعف والبكاء
تبا لي ان كنت سأبكي لمرة ثانية عليه كما في مرتِ الأخيرة
فأنا لا أحبه
بل اصبحتُ أبغضه وأكرهه
ولا اطيق رؤيته لانه قد هدم الأحترام والسمعة الطيبة التي كانت بيننا
قد هدم جبال صورته لدي , فلقد تشوهت صورته وتخللتها خيوط سوداء
لا يعيدها الماضي ولا يرممها المستقبل
مر المساء يتلوه ساعات الصباح الباكر لتتوقف الساعة عند موعد إنتهاء عملي
مرت لحظاتي السابقة وكأنها فراغ كأيامي البائسة التي مضت أو أشد وطءاً منها
وقد التحفت كل ذرة مني بالجمود حتى التصق بوجهي قبل روحي
لم اضحك , لم ابتسم فلست بحاجة لمثل هذا التمثيل بعد الآن
فهو قد ازيح تماما من صدري
الكذب الذي ألتحفت به نفسي قد بات الآن سرابا ولفظه عقلي مظهرا حقيقتي المختبئة وراء روحي
سحب خطواتي الثقيلة بعد عملي اليومي الذي بات صعب على جسدي الذي اصبح لا يحتمل ما يضاف إلى ظهره من أطنان الهموم
أمشي في ليل قارب صباحه على الإنبلاق
تضرب قدماي أسفلت الشارع الغارق بوحل الأمطار التي باتت لا تتوقف أبدا
يمتلئ المكان برائحة غبار الأمطار متغطيا بظلام الليل
ويلتحف الهواء بالبرودة
ارتفعت ذراعي ليضغط إبهامي على زر فتح السيارة
صعد جسدي إلى داخل السيارة حاميا نفسه من وحشة الليل وصقيع البرودة
رويت اصابعي المتجمدة من حرارة هواء رئتاي
لتنخفض اصابعي المرتعشة إلى صدري ضاغطة عليه
ما بالي أرتعش هكذا , ويضيق صدري عليّ
مابال قلبي يتألم ويحتدُ ألمه
مال قلبي يرق عليه الآن نادما على جنون نوبة صراخي عليه
لِمَ لا أكسر حاجز تحكمه بي اكثر , وأكسره هو إلى أن يختفي
أم أن استغلاله لي , وقلة حيلتي , وحبي المبتذل له الذي قد تغطى بالأوبئة قد أكل ذلك واضعفني وسلبني قوتي
تحركت أصابعي واستقرت على مقود سيارتي
وأنا اضغط على زر التشغيل
شهقتُ أبعد الاختناق عن صدري
ولكن دموعي المتجمدةِ , دموعي التي ملّت من حبسها
استفاقت تحت وطءِ ألمي وبؤسي
وانطلقت من حبسها الحار وسالت على وجنتيّ بحرقة
أرتطم رأسي بالمقود لأبكي بحرقة مخرجة كل نقطة ألم من صدري
انتحب بصوتٍ حاد
أجر معي سيول همومي
انادي بأسم أمي وابي وترفه
أتمنى لو أن احدا ما الآن يقف بجانبي
يوقفني إلى هذا الحد
يزجرني يعنفي على فعلتي
يزجر قلبي على تعنيفه لي الآن على جرحي لهُ , واعترافي بكرهي لهُ
ولكن هل عليّ أن أصمت عن عامر الذي يستغلني بأبشع الطرق
أما آن الآوان لي للوقوف في وجهه
الصراخ عليه وتوقيف رغباته من التسكع حولي وقضمي
نعم ... فأنا لستُ ضعيفة فما فعلته هو الصحيح
صحيح فأنا قد بت لا اطيق ما يفعله بي , وعليّ أن أحطمهُ إن أستمر بذلك بأخبار من هم أكبر مني مثل عمي سيف
نعم فهو من سيمحي عامر من الوجود إن علم بذلك
سأدمره مثلما يحاول تدميري
هو الجاني وأنا الضحية
وهو من نبش رماد الجمر بيديه
هو من رماني بمطرقته وحاول تحطيمي
تحركت سيارتي في الطرقات تقودني عبر مسلك مسكني
وأنا أكفكف دموعي عن النزول أكثر , وأزجر نفسي عن ضعفها
غبية أنا لو أن البكاء ذو فائدة لي
يجب عليّ أن أتماسك لردعه عن جرائمه
الأنتقام منه هو هدفي الآن
جعله في الحضيض مثلما يحاول فعله بي
وأنا في لجة غرقي بأنغام صخب مشاعري المتعثرة
انطلق صوت تخبط سيارتي على الشارع حتى كادت الأرض تجرفني إلى جوفها
أشرئب قلبي الرعب
وتوقف عقلي عن التفكير , وبسرعة قصوى ادرت دفة المقود إلى يمين الشارع لأتوقف وقد شرب مني الجزع حتى الثمل
تمايلت سيارتي على جانبها الأيسر , وهي تقف بصعوبة بالغة بعد عراكا كاد يودي بحياتي بين أرصفة الشارع الخالية
يا إلهي !
ما الذي يحصل لي اليوم ! مابها سيارتي !
عصرت عيناي دموعها حتى الجفاف
وضغطت أصابعي على المقود حتى احمرت أطرافها من الفزع
وامتدت بإرتعاش إلى المقبض لتقبضه وتعتصره فاتحة إياهُ
خرجتُ من سيارتي أدثر جسدي بمعطفي المحتضن لجسدي فوق عباءتي
وارتعش تحت لفحة الخوف , شحب وجهي لرؤية العجله الخلفية للسيارة عاطبة
مشيت بخطواتٍ تجر بعضها , وجسد انخفض إلى الأسفل ليلمس الشرخ الغريب والمرعب لعجلة سيارتي
وكأنها قطعت بالسكين
طردتُ أفكار عقلي المرعبة عني
فكيف يحدث هذا فما حصل اني قد دستُ على شيئاً حاد لم ألحظه في سيري
رحل نظري وأنا أخطو نحو باب سيارتي المفتوح إلى جهة المستشفى الذي يبعد عني بمسافة قصيرة وإلى مكان إقامتي
السكن لا يبعد بمسافة طويلة عن المستشفى , ولكن في هذا الوقت من الليل أنا لا افضل الذهاب سيرا على الأقدام فالذهاب بالسيارة هو أكثر أماننا
أدخلتُ رأسي إلى داخل السيارة لتحمل ذراعي حقيبتي وحاجياتي
امتطت حقيبتي كتفي , وأنا اقفل السيارة بالمفتاح
ادخلتُ مفتاحي بحقيبتي , واصابعي اسرعت إلى الاختباء في جيوب معطفي
سقطت قطرة باردة على وجهي
زادت من برودة وارتعاش جسدي المتعب
تساقط البياض أمام عيناي , قطن ابيض يسقط من الأعلى
ارتفع بصري إلى الأعلى يحدق إلى السماء الداكنة , وتحت ضوء المصابيح اخذ البياض يتساقط بغزارة
نبتت إبتسامة تموجت بالارتعاش على شفتاي المنفرجتان
أنه الثلج , الثلج يتساقط
فمنذُ أعوام طويلة لم يتساقط
وها هو الآن يتساقط أمامي ببرودته
يتساقط ليعيد ذكرياته معه
يعيدها بخيطه الرفيع , يقلبها بين جنبات الذاكره
مشيتُ في طريقي الملون بالمصابيح بحذر شديد
فالبلاد ليست أمنة والطرقات المظلمة أشدُ خطرا
فيارب أحميني من مصائب الدنيا , وجنبني قبح النفوس
فالبلاد تعوث فسادا من العصابات والقتله , فانتشارهم أصبح هائلا في السنوات الاخيرة الماضية
بالرغم من ذلك فأمن الدولة يقوم بواجبه في القبض عليهم , واتخاذ الأجراءات اللازمة بفرض العقوبات وتطبيق الأحكام , وإغلاق أماكن الشبهات والفساد
ولكن قد يكون صعبا عليهم معرفة كل الأماكن وخاصة في الوقت الراهن للمشاكل الحاصلة في العاصمة
فالأمن قد عزز قواته هناك بسبب الاطلاق الناري الشنيع وقتل الأبرياء
فبالرغم من ذلك فأنهم يقومون بما في وسعهم من أجل حماية المواطنين والأبرياء
افكاري تدور على محاور كثيره
تدور وتدور على خط واحد , لا مفر منه
خطط كثيره , ومرح قد بدأ يعود إلى جنبات روحي
حتى أنني نسيت مراقبة طريقي بسببه
عاد وعيّ لطريقي الرمادي الملطخ بالبياض الذي بدأ ينشر سطوته أمامي
ظهر أمامي رجلان يمشيان بخطوات ثقيلة أثقلت أنفاسي معها
وينظران إلي بنظراتٍ تثقب الآذان
يا إلهي ..
فالحق معهما أية فتاة عاقلة قد تمشي في هذا الليل في طرقات خالية مظلمة
ولكن ما الذي عليّ فعله , لم يكن لدي إلا هذا الخيار , وليس هناك غيره !
وضعتُ أصابع كفاي على وجهي لعلي أخفي خوفي وخجلي عن الأنظار, وأنا أتمتم في داخلي , أحميني واحفظني ياإلهي فأنني قد أتكلتُ عليك
أسرعتُ بخطواتي لرعبي الذي بدأ يزحف إلى قلبي ممن يمشون في الطريق أمامي
ولأصوات أنغام الأقدام من خلفي
اسرعتُ وكأنني أود الهرولة والبكاء من هلع قلبي لمّا يحصل لي
أهناك أقدام متوحشة كهذه لأشعر بها وكأنها تود الدوس عليّ
أهناك ارعب من ليل تغطى بالظلام والصقيع
أهناك أرواح تطلق موجات حسية تلامسني وكأنني وجبتها الدسمة
لمَ أنا خائفة هكذا , وكأنني على وشك الموت !
تبدل البكاء إلى الضحك في حنجرتي الجافة..
أيجدر بي الضحك الآن
البكاء حتى الضحك فنوبات البكاء تتحول إلى قهقهاات لدي
أخذتُ جرعة كبيرة من الهواء وأنا اخف من هرولت قدماي , تبا لي !
فأنا لستُ خائفة
إنني قادرة على حماية نفسي , ولا يستطيع أحدا ما أذيتي أبدا فأنا قوية
همس دماغي " قويةً على نفسك "
عندما ارتطمت نبضاتي بصدري , واهتز قلبي النابض بعنف
عندما تلمس يدا خبيثة جسد عفيف
جسد يبغض تلك اللمسات
يحقد عليها ويزدريها , يتجرعها كالسموم
لمساتٌ مسرعة ألتهمت وجهي بأصابع خشنة تقطعت بفعل البرد وتعفنت تحت غبار القذارة
لالالالالالا
صرخ داخلي , وشهق قلبي من الهول
اختناق الهواء , حرارة النيران اندلعت متفجرة في جسدي
يغشى عيناي الضباب , والخوف تحول إلى حقيقة
حقيقة لم أتخيلها
لم استوعبها ... حاولت إبعاد وساخة من مد يديه علي
حاولتُ الافلات ممن يحاول الأمساك بي في هذا الليل, وإعدام حياتي
لم أستطع لعظم مصيبتي
كانت ترهات أفكاري في الماضي قد أُزيلت من عقلي
حديث لسان
فكيف لإمرأة تملك عظام رقيقة , وقوة جسد قليلة أن تصد لطمات ضخام الجثة من المتجبرين قوين الأجساد
كيف لها أن تتحمل لكمة واحدة منهم
سحبني بقهقهاته المتناهية إلى مسامعي
وكأنه قد حصل على فريسته المشبعة لجوعه
لم يكن حولي إلا الظلام والضباب والجليد
أدخلني إلى فوهة حوت العتمة , ورائحة الخمر
وطرح وجهي على أرض تغطت بثوب الثلج
تقيأتُ أنفاسي , وطرحتُ شهقاتي خارجا وأنا أتكأ على مرفقاي من الهلع , وأرتعش رافعة رأسي إلى السفاح الذي امسك بفريسته
اتسعت عيناي وزاد هلع جسدي عند رؤية وجه المجرم
انه نفسه ذلك الرجل !
الرجل الذي تهجم عليّ بعد موت أبيه في المشفى
هو من وعدني بالانتقام مني , هو من هدد بقتلي !
وها هو الآن ينفذ وعده
كان يترنحُ كالسكارى , كانت عيناه حمراوتين
كان يغط بعفن أنفاسه ,وقذارة نفسه
ويضحك بأنفاس عفنة , ويقول لخطوات أصابعي المغروزةِ في الماء والاتربةِ المتراجعةِ إلى الخلف : " لن تستطيعي الهرب مني , فأنا أعرف كل شيء عنكِ , ولقد تبعتكِ إلى هنا لكي انفذ انتقامي منكِ , سأسجي جسدكِ القذر على هذا الوحل سألطخ يديّ بدمائكِ , سأجعلكِ تندمين على الماضي والحاضر , سأفعل مالا يخطر ببالكِ وسأقتلكِ بعدها "
صاح عقلي , وتوقف قلبي عن النبض
انتشلتني أخر قوتي عن الأرض
رفعت جسدي خائر القوى عنها
رفعته لأسقط ثانية على أرضا موحلة تنزلق قدميّ عليها
تجرعت عيناي دموعها وقذفتها لتبلل وجنتي , وأنا أقف مصارعة رهبةِ ورعبي منه
صرخت عليه , وأنا ادفع بجسدي بعيدا عن نجاسته : " لن تمسني لأنني سأجعلك تندم , لن تقدر عليّ فالله معي , لن تستطيع فعل أي شيء بي "
ضحك بوحشيةِ صوته البغيض والكريهه
وتقدم نحوي
حاولتُ ركله بقدماي , إبعاده عني , إظهار انياب قوتي , إيقاف تهجمه الهجمي
كف تضرب , وقدم متهالكة تركل بلا جدوى
هو أقوى مني , وما أنا إلا ضعيفة ولا أملك قوة بعد يومي الشاق
حفرتُ أظافري في ذراعه التي تود المساس بما لا يحق لها مسه
بكل قوةٍ بشدتِ جسدي الضعيف غرزت أنيابي في ذراعه المقتربتِ مني
ولم أسمع منه إلا صراخه وشتائمه المقذوفة نحوي
ويده الأخرى التي تحول مجرى سيرها إلى رأسي لتطرح حجابه عنه وتمزق خصلاته المختبئة وراءه
ارتخت عضلات فكاي , ويده تسقط على وجهي بلكماتٍ شديدة القوة
هو أشد من الألم
هو شعور لم أختبره من قبل
هو يشبه سكرات الموت
هو الموت لا محال
انهارت قواي , وانهار جسدي أرضاً
وتشبثت أصابع انفاسي في رئتاي , وأنا أحاول انتزاع الكربون بقوة منها
ارحمني يا إلهي
أنقذني يا أقدام حياتي
وأطفئي شريط كابوسي المرعب هذا
أجعليه كالبخار
مجرد كذبة , وليست حقيقة
ولكن الأنفاس , والنزعات , والضربات , كلها حقيقة ألتمسها
أشعر بها كالخناجر تطعن جسدي وروحي
الضباب يخنق رؤية عيناي , والدموع تحرق وجهي
والأيديّ العابثة تحاول انتزاع ملابسي مني
شهقتُ بهرولة أنفاسي
شهقتُ منتزعة عيناي من محجريهما
إلا هذا , إلا حصول هذا الكابوس
وئدتني الحياة
وأنا أحاول انتزاع أيادي الرذيلة عني
وكأن عاصفة لطمت صدر الهواء لتحوّله إلى زوبعة متعاركة حولي
ابعدتهُ عني , وخلصتني سكرات موتي
نهاية المعانقة الخامسة عشر