كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
الارشيف
الحقيقة الرابعة عشر
وقف (باسل) أمام صوان ملابسه في غرفة نومه بلندن يفتش في محتوياته بحثاً عن ملابس تدريب نظيفة دون جدوى مما أثار أعصابه، فهبط للطابق السفلي وإتجه من فوره إلى غرفة المكتب ووقف على بابها واضعاً كفيه في خاصرته قائلاً والشرر يتطاير من عينيه ـ" أين ملابس تدريبي النظيفة؟"
لم يبد على (سارة) أنها سمعته أو شعرت بوجوده من الأساس حيث استغرقها عملها على الكمبيوتر فلم تعد تشعر بما يحدث حولها، فإزداد غضبه وعلا صوته وهو يهتف في عصبيةـ" (سارة) أنا أكلمك... أين ملابسي النظيفة؟"
إنتفضت (سارة) في فزع وهي ترفع عينيها إليه قائلة ـ"ما ذا بك يا (باسل)؟ لقد أفزعتني."
أعاد (باسل) سؤاله من بين أسنانه التي يجزها غيظاً فعقدت (سارة) حاجبيها للحظات تستوعب سؤاله قبل أن تجيبه في هدوء قائلة ـ" في الصوان بغرفتنا."
أشاح بيده قائلاً في عصبية ـ" لا يوجد شيء بالصوان، لا قمصان نظيفة ولا ملابس تدريب ولا حتى جوارب أو ملابس داخلية."
سألته في حيرة حقيقية ـ" أين ذهبوا إذاً؟"
إستشاط غضباً من هدوءها فهتف بها في ثورة ـ" أتسألينني؟ كل ملابسي متسخة وفي إنتظار تعطفك لغسلها. أتدرين منذ متى؟ منذ أسبوعين...جميع ملابسي متراكمة منذ أسبوعين دون تنظيف ودون سبب واضح لإهمالك شئوني وشئون منزلك."
أحنقها صوته العالي فنهضت من خلف المكتب قائلة بضيق ـ"لماذا تهتف بي هكذا؟ أنت تعلم مدى إنشغالي في دراس..."
قاطعها بغضب هادر لم تره من قبل_ أو بالأحرى لم تتوقع رؤيته_ قائلاً ـ"بيتك أهم يا سيدتي...بيتك وزوجك أولاً."
شعرت بأنها أمام (باسل) آخر غير الذي تزوجته، ولم يستوعب عقلها العلمي هذا التغير الشديد في أسلوب زوجها فقالت مدافعة عن نفسها ـ" أنت تعلم أنني لا أهمل شئونك عن عمد... وتعلم أنني..."
قاطعها هاتفاً في ثورة ـ" كل هذا ولا تهملين شئوني؟ عندما تتراكم كل ملابسي بهذا الشكل ناهيك عن نظافة المنزل والأكل من المطاعم... كل هذا ولا تعدينه إهمالاً عن عمد؟"
تصاعدت دماء الغضب بغزارة إلى رأسها وكادت أن تُفقدها صوابها إلا أنها تماسكت وهي تلتقط نفساً عميقاً وتنفثه في بطء وتقترب من زوجها في هدوء مدروس، وبإبتسامة رقيقة لمست ذراعه بحنو قائلة ـ"حبيبي أنا آسفة. قليل من التعاون لن يضرنا."
سحب ذراعه بعيداً عنها وأشاح به هاتفاً ـ"ماذا تقصدين بالتعاون؟ أن أغسل ملابسي بنفسي وأن أنظف لك البيت؟"
ضغطت أسنانها لتمتص غضبها وحاولت الابتسام قائلة ـ" حاول أن تعود إلى أيام العزوبية يا حبيبي. فيم إختراع مغاسل التنظيف الجاف إذاً؟"
أثاره هدوءها وكأنه كان ينتظر إنفجار غضبها كي يعيد إليها الحياة، أو ربما ليشعر بأنه يعيش مع كائن حي وليس وحده.
المهم انه إنفجر بها بثورة تشبه ثورة’سي السيد‘ قائلاً ـ"عزوبية؟ أنا لم أتزوج كي تطلب مني زوجتي العودة إلى أيام العزوبية، ولو أني اشعر بأنني لم أعد متزوجاً. ليكن في محيط معلوماتك الغزيرة يا زوجتي العزيزة أنني رجل شرقي... ولا يغرنك وجودنا في لندن. أنا لست بارداً ولا أتنازل عن حقوقي رغم أني تساهلت فيها كثيراً مراعاة لحبي لك، لكن يبدو أنك إستخدمت هذا الحب لمصلحتك الخاصة دون إعتبار لي."
وبحركة سريعة، وقبل أن تستوعب(سارة) دهشتها مما سمعته كانت أصابعه تنغرس في لحم ذراعيها بقسوة آلمتها وهو يتابع في ثورة ـ"وأرجو أن تتذكري دوماً أن واجباتك كزوجة تسبق أي واجبات أخرى، وأن..."
قاطعته هي هذه المرة وهي تجذب ذراعيها من قبضتيه في قوة وتهتف بكل غضبها المكبوت والذي لم تعد قادرة على حبسه بداخلها ـ"أنا باحثة قبل أي شيء آخر وأنت تزوجتني وأنت تعلم بهذا وراضي به. أتنكر أنك طلبت مني في مصر أن أهتم بدراستي وأن أستغل كل وقتي من أجل الإنتهاء من رسالتي في أقرب فرصة؟"
أجابها في حدة قائلاً ـ"أنا لا أنسى كلمة أقولها... لقد قلت يومها أن تحاولي إستغلال وقتك في غيابي بشكل مكثف، وقلت أيضاً أن هذا الطلب صعب جداً علّي. ولكن يبدو أنك كنت في إنتظار أن أعفيك من مهامك كزوجة لذا إستغللت الفرصة."
أشاحت بيدها بعيداً وهي تدافع عن نفسها قائلة ـ" والله أنا لم أجبرك على الزواج مني، وأنا واثقة من أنك كنت تعلم جيداً قبل الزواج أن أهم شيء في حياتي هو عملي، والمفروض أنك كيفت نفسك على هذا."
إستشاط غضباً من حديثها الذي بدا مخالفاً لكل الأعراف والتقاليد ولم يستطع منع لهجة التهكم التي سيطرت على صوته وهو يقول ساخراًـ" أكيف نفسي؟ يبدو أنك من هواة عكس الأمور. بدلاً من أن توفقي أنت بين عملك وبيتك، أقوم أنا بذلك، ولم لا...إنها الألفية الثالثة."
وبغضب هادر هتف بها ـ"لماذا تزوجتني من الأساس ما دام عملك أهم عندك من أي شيء آخر؟"
أعماها غضبها وإستثارتها سخريته ففوجئت بنفسها تهتف بما ندمت عليه بعدها بلحظات، إذ هتفت به في حنق وثورة عارمين ـ"أتعلم لماذا؟ لأنني فقدت منحتي لدراسة الدكتوراه في لندن. أوتدري لم؟ لأن الجامعة لا يوجد لديها إعتماد مالي لتغطية البعثات. أوتدري لم؟ لأن أموال البعثات ذهبت لبضعة صبية يجرون وراء كرة والإسم منتخب مصر أو أندية مصر أو أي مسمى آخر. هل علمت الآن لماذا تزوجتك؟ لأن حقي عندك أنت وزملاءك."
قالتها ووضعت كفيها على فمها بندم وهي تراقب بعينين متسعتين هلعاً تعبيرات وجه زوجها.
فقد إرتسم الذهول على وجهه وتحجرت عيناه على وجهها...
الوجه الذي ظنه يوماً وجه ملاك.
وفي أعماقه شعر بخنجر حاد يخترق قلبه في عنف وبلا هوادة تاركاً جرحاً عميقاً صعب إندماله.
وبألم شديد، وبصوت متحشرج من هول الصدمة قال ـ"حقك؟ أتبغضينني لهذه الدرجة؟ وكيف خدعتني كل هذه المدة؟ بل كيف سولت لك نفسك فعل ذلك بي؟ لقد إتهمتني وأصدرت حكمك دون أن تتأكدي من عريضة الإتهام يا دكتورة، بل ونفذت حكمك دون تردد."
وبحرقة شديدة هتف بها ـ" بعد كل ما فعلته من أجلك مازال قلبك مليئاً بالسواد تجاهي؟ على أي أساس بنيت إتهامك وحكمك؟ لعلمك الخاص أنا لم ألعب في منتخب مصر القومي قط. وكل أموالي قبضتها من عقد إحترافي وراتبي هنا. أنا حتى لم ألعب مع فريق الدرجة الأولى الذي كنت ألعب له في مصر أكثر من ثلاث أو أربع مباريات رآني في أحدها سمسار لاعبين ورتب لي صفقة إنتقالي إلى هنا. بإختصار يا دكتورة أنا لم أقبض حق منحتك لأني كنت أجلس مع الإحتياطي."
إغرورقت عينا(سارة) بدموع الندم وهي تراه ممزقاً أمامها من الألم فمدت يدها إليه هامسة ـ"(باسل) أنا آسفة...سامحني... لم أكن.."
قاطعها وهو يتراجع بعيداً عنها هاتفاً ـ"أسامحك؟ أسامحك بعد أن ذبحتني بنصل بارد؟"
إنهمرت دموعها تغرق وجهها وهي تقترب منه هاتفة ـ" أرجوك سامحني وسنبدأ من جديد...سأكون.."
أشاح بيده في الهواء قائلاً بمرارة ـ" ستكونين ماذا؟ ستكونين أكبر جرح في حياتي."
قالها وإندفع مغادراً الغرفة في إتجاه الباب الرئيسي للمنزل وإختطف في طريقه معطفه وسلسلة مفاتيحه غير عابئ بنداءات زوجته المتكررة ولا بتوسلها له كي يرجع، بل إنه حتى لم ينظر عبر زجاج سيارته ولم يلمحها تقف أمام الباب المفتوح ودموعها تنهمر في غزارة،
وبالتأكيد لم يسمعها تهتف من بين نشيجها قائلة ـ"رباه... ماذا فعلت به؟ ماذا فعلت بنفسي؟"
وإبتعد (باسل) في سرعة.
*************************
|