كان وجهها قد أصبــح ببياض الورق . . أرادت أن تخلل أصابعها
في شعره , وتشده إلى ذراعيها ولكن الخجــل , وقلة الخبرة أبقياها
متباعدة حذرة . . وما هي إلا لحظات حتى وقف سيرجيو , يجذبها معه
ويقودها نحو السيارة .
لم يكن لديها الوقت للاعتراض . وفيما كانت تنتظره , أدركت أن
سمعه المرهف التقط صوت تقدم اللاندروفر الهابط من التلال
نحوهما . . وقف اللاند على مقربة منهما وقفز منه ثلاثة أشخــاص :
رجلين وفتاة وهم يرتدون الجينز والتي شيرت , ويحملون في أيديهم
رشاشات معلقة على أكتافهم , ومصوبة إليها .
أحست نادين أنها دخلت فجأة إلى كابوس , وراقبتهم بعجـــز
يقتربون منها . . من خلفها سمعت سيرجيو يتحرك , فأحست بالراحة
لأنها ليست وحدها , فالتفتت إليه تشهق باسمــه .
ـ اخرجــا من السيارة !
كانت الفتاة تلقي الأوامــر بكلمــات حادة اللكنة اخترقت ضباب
الرعب الذي غلف نادين . . فتمتمت باسمه مرة أخرى وكـأنه تعويذة
ضد الشر وراحت تتوسل إليه ولكن عينيها اتسعتا وكأنهما لا تصدقان ما
تريانه على وجهه من تعابير حجرية وما تسمعه من فمه :
ـ نفذي ما قـــالت لك نادين .
ـ لكن . . .
ألا يرى أنها لو غادرت السيارة لأصبحت أكثر عرضة للخطــر ؟
آلمتها ضحكة الفتاة الشرسة وهي ترى وجه نادين الشاحب المذعور
أمام ارتبـــاك سيرجيو .
صاحت الفتاة :
ـ انظروا إليها ! إنها لا تصدق حتى الآن . . لا بد أنك قمت بعمـــل
رائع في إقناعها بتقبلك سيرجيو . . إنها حتى هذه اللحظة لا ترى
الحقيقة الحمقاء الصغيرة ! . . سيرجيو شريكنــا وهو لن يساعدك .
نظرت نادين إلى وجهه القاسي وعرفت أن الأمر حقيقـــــي . أدار
رأسه , وعيناه الرماديتان تتفرسان في كل ذرة ضعيفة فيها , وعرفت
بوضوح مرعب , أن كل شيء كان مخططاً له , كل تفصيل ممل , كل
كلمة , كل مداعبة , وهي كالبلهاء وقعت في حبائله . . وليس هذا
فقط , بل أنها حاكت بكل غباء أحلاماً عاطفية بشأنه . . . أوهمت نفسها
بأن شيئاً نادراً , ثميناً , موجود بينهما . . . ودار رأسها وهي تتذكــر كيف
كانت قريبة جداً من تسليمه نفسها . . شكرت الله لأنه وفر عليها هذا
الإذلال النهائي ! تصورته , وهذه الفتاة الزيتونية البشرة ذات العينين
البنيتين , يضحكان على عذريتها الضائعة , وعلى ثقتها التي لم تكن في
محلها , مدت يدها مغشية البصر إلى مسكة الباب , لتنزل من السيارة
ولكنها تعثرت بصخرة ناتئة وكادت تقع لولا ذراعا سيرجيو ولكنها
دفعته عنها دليل كراهية مريرة . . تخبـــئ الألم المرير , تستخدم ألم
خداعه لها لتحويل الألم إلى غضب , تقول بصوت أجــش :
ـ لا تلمسنــي !
منتديات ليلاس
ضحكت الفتاة المسلحة للمرة الثانية بسخرية :
ـ آه . . سيرجيو . . لقد أفسدت عليها كل أحلامها الجميلة . ظنتك
تريدها لنفسها , ولكنك في الواقع لا تريد سوى مال أبيها . . ترى كم
من المال سيسارع لدفعه مقابل حريتها ؟ من الأفضل ألا يتأخر . . روما
تحتاج إلى دعم مالي سريع لشراء المعدات اللازمة .
صمتت فجأة تشهق ألماً بعد أن تقدم سيرجيو ليمسك بمعصميها
ويديرها لتواجهه , ويقول بصوت ثابت بارد :
ـ احفظــي لسانك ليديا !
رفعت ليديا رأسها بتحد :
ـ ولماذا ؟ ثمة طرق لمنع صديقتك الصغيرة من تكرار ما تسمعه ,
ولكن هل فقدت إخلاصك لقضيتنا يا صديقي ؟ هذا هو اليوم الثاني
الذي نتواعد فيه هنا .
هز كتفيه : (( لقد تأخرت )) .
لكن رده لم يعجبها , وانضم حاجباها الكثيفان في عبوس شديد ,
وقالت بصوت خطير تنظر إلى نادين :
ـ أخرتك هذه . . سيرجيو . .
قاطعها سيرجيو :
ـ تأخرت في روما . . تذكري أننــي المسؤول هنا ليديا , وأنه من غير
المسموح لك أن تسألــــي عن تحركاتـــي . والآن اصطحبي الفتاة إلى
الآندروفر . . لقد قضينا وقتاً طويلاً هنا .
استقرت فوهة رشاش ليديا في أسفل فتحة قميص نادين , وقالت
ليديا متمتمة من بين أسنان بيضاء حادة :
ـ تعالي . . أنت جميلة ولكن رقيقة . . انظروا كيف ترتجف ! هــذا
الرشاش حساس جداً . . ارتجاف جسدك كاف لــ . .
قاطعها سيرجيو ببرود قاتل : (( لن تنفعنا ميتة )) .
كان قد تغير إلى حد كبير كادت معه لا تعرفه . فقد اختفت
الابتسامة الدافئــة والسحر السهل وحل محلهما الشر المخيف
والقسمات المحفورة حفراً .
لكن ليديا ســارعت لتوافقه الــرأي :
ـ لا نريدها ميتة ولكن والدها سيدفع فدية ابنته حتى وإن شوهناها
قليلاً . لقد أحسنت صنعاً باختيارهــا سيرجيو . . لقد قرأنا كثيراً في
الصحف عن نادين كلايتون , وعن علاقاتهــا ومال أبيهــا . .
التفتت إلى نادين تردف :
ـ سمعنا أنك آتية إلى إيطاليا , فوضعنا خططاً دقيقة وحذرة , قال
سيرجيو إنه لا يصعب عليه كسب ثقتك . . فلديك ضعف أمام الرجال .
صــــاح بها سيرجيو :
ـ توقفي عن إضاعة الوقت ليديا , اصحبوها إلى المزرعة . يجب
أن أعيد المرسيدس وعلي أن أراسل أباها بالتلكس , قد نرى النتائج
بسرعة . . والآن تذكري أن يظهر كل شيء طبيعياً حالما تصلون إلى
المزرعة خشية أن تكون مراقبة .
ـ ومتى تعود ؟
ارتفع حاجباه بسبب العداء في سؤال ليديا المتملك :
ـ لا أدري ! إن عودتــي وقف على موعد انتهاء الأمـــر .
سألته ليديا وهي تدفع بفوهة الرشاش نحو نادين :
ـ وهي ؟
ـ حافظي على الخطة فقط , وحذار الخشونة فلا جـدوى . .
ـ ألأنك لا تريد أن يفسد بشرتها الناعمة شــيء ؟
فجأة فهمت نادين أن ليديا تغار منها . . فما هي علاقة هذه الفتاة
به ؟ أهما عشيقان ؟ صدمها ما شعرت به من ألم ولكن أَلم يقتل اكتشافها
خدعة سيرجيو كل ما شعرت به نحوه وإلى الأبــد ؟
وسمعته يرد :
ـ لا تهمني بشرتها بل الثمن الذي ستضعه لها . كما عليك أن
تعرفي أن علينا أن نملك دليلاً قاطعاً على أنها ما تزال حية لأجل أبيها ,
ولهذا لا أريد أن تُمس شعرة من رأسها , على الأقل في الوقت الحالي .
سأقرر ما يلزم حين أعــــود .
نظر إلى ساعته الذهبية , وأحست نادين بالإعياء الجسدي لمجرد
التفكير في المال الذي يسعى إليه . لقد توقفت عن الوجود كآدمي
بالنسبة له , ولكن هل كانت موجودة بالنسبة له أصلاً ؟ ها قد أصبحت
ببساطة سلعة مميزة . . أما الكلمات التي تفوه بها قبل أن يتركها مع
حراسها الثلاثة فكــانت :
ـ لا تحاولي فعل ما هو متهور . . لدى ليديا الأوامر بإطــلاق النار
عليك إن حاولت الفرار . إنما ليس الأمر أن تقتلك بل أن تجعل ساقيك
أقل جاذبية وذلك بأن تغدوا محطمتين .
صعُب على نادين كبح الذعر , فضحكة ليديا الشرسة أخفتها فقط
رعدة محرك المرسيدس , التي التمع طلاؤها البراق في الشمس قبل أن
تسلك الاتجاه الذي سلكته منذ وقت قصير .
كان هذا إحياء حقيقــي لأسوأ كوابيسها . . هبوط مباشر من الجنة
إلى الجحيم . . . صرخ بها كل عصب بذعر مجنون فقاومت رغبة في
الارتداد على عقبيها للفرار ولكنها تعلم أن فرارها سيكون دعوة سهلة
لرد ليديا الذي ستنفذه بكــــل سرور .
وفيما كانت واقفة تحت حرارة الشمس , أمسكــت الحقيقة الباردة
بكل مشاعرها الضعيفة . . الحب والرغبة سحقا سحقاً رهيباً , أمام رغبة
حارقة في الانتقام . ليس بسبب الاختطاف فحسب بل بسبب الطريقة
التي تم بها الاختطاف , وبسبب الطريقة التي استخدمها سيرجيو
للوصل إلى حياتها , وبسبب ضعفها وانكشاف مواقع تعرضها للخطر
أمامه . لقد استغلها ببرود , وجرأة , وستجعله يدفع الثمن غالباً حتى
ولو اقتضاها ذلك سفك آخــر قطرة دم من دمائها ! استحوذ عليها فجأة
ظمأ للانتقام , محا كل خوف وذعر من نفسها وأعطاها القوة لمواجهة
هذه الوجوه الباردة , ورشاشاتهم القاتلة .
والدها مليونير وهو سبب يبرر اصطيادهم لها , ولكن معظم ثرائه
مرتبط بأعماله , فهو وإن استطاع جمع الفدية المطلوبة , لن تخرج على
قيد الحياة . . فقد قرأت قدرها ومصيرها في عيني خاطفيها . . كم من
الضحايا عانت من الوضع ذاته ؟ وكم منهم أطلق سراحهم ؟ تذكرت
صديق والدها مثلاً . لقد اختطف وقتل . . وهي الآن تواجه خيارين : إما
الاستسلام للذعر الذي ينتشر في داخلها , أو الاحتفاظ بآخر ذرة من قوة
احتمالها لتزعزع ثقة خاطفيها بأنفسهم . إنها الغريزة نفسها التي جعلت
أباها يرتقي من حالته المغمورة نسبياً , إلى المركز الذي يترأسه الآن .
انتشرت في نفس نادين الحاجة القديمة للحياة والبقاء , وكان أن
اتخذت القرار , وهي تسلك الاتجاه الذي أشارت إليه ليديا بسلاحها ,
ولسان حالها يقول : البقاء حية أفضل انتقام . . ! وهذا ما ستتمسك به
فعليهــــا أن تعيش , وستقــــدم للعدالة كــــل من شارك في ارتكاب هذه
الجريمة بحقها . . أما سيرجيو فسيكون الانتقام ألذ ما ستتجرعــه من
شراب , وراح عقلها يفكـــر بسرعة بحثاً عن وسيلة للهرب , متجــاهلة
صمت البندقيتين المصوبتين إلى ظهــرها .
نهاية الفصــل (( الثانـــي )) . . .