عبدالرحيم محمود.. شاعر جاهد بالكلمة
والبندقية
عرفته شعرا قبل أن أعرفه شاعرا، عرفته قولا قبل أن أعرفه رجلا وإنسانا، ففي أواخر الأربعينيات ونحن تلاميذ في آخر سنوات المرحلة الابتدائية، كنا نتغنى بهذه الكلمات الرنانة القارعة:
سأحمل روحي على راحتي
وألقى بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
كنا نردد هذه الكلمات دون أن تنسب إلى قائلها، ولو نسبت فلن يغنى ذلك شيئا، فما كان منا أحد في هذه السن يعرف من هو الشاعر الفلسطيني المجاهد الشهيد "عبدالرحيم محمود" (1913 ـ 1948) وما كان أساتذتنا يقفون طويلا أو قصيرا إلا عند الأسماء المتوهجة المشهورة، من أمثال "أحمد شوقي"، و"حافظ إبراهيم".
كانت مأساة فلسطين في تلك الأيام في بداية نضجها المنكود، وولدت إسرائيل بعد مخاض اشترك فيه الاستعمار والصهيونية، والصليبية العالمية، والتقاعس العربي. وأبيات
عبدالرحيم محمود في أذني ونفسي ذات عبق خاص، ونكهة غريبة تختلف عما أجده في شعر الحماسة والوطنية الذي كنا نحفظه في هذه المرحلة.. ولكنى آنذاك كنت أتحدث إلى نفسي قائلا: حياة تسر الصديق، نعم. ولكن ممات يغيظ الأعداء، كيف؟! والأعداء يسرهم ويسعدهم أن يموت منا كل مناضل، وكل مجاهد شريف؟!! وتمر الأعوام، وينضج وعيي، وأدرك أنه الموت البناء، الموت المشيد المعلي، الموت الباعث الناشر، إنه الموت الذي كشف "أحمد شوقي" عن مفهومه وأثره في قوله:
ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يدني الحقوق ولا يحق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفى الأسرى فدى لهمو وعتق
إنه مفهوم علوي يسبح في أفق قوله تعالى {يخرج الحي من الميت}، نعم، لابد من موت شريف عظيم؛ لتولد حياة شريفة عظيمة، حياة تنبض بالقوة والحق والثبات، ولو مات مثل هذا الموت لماتت مثل هذه الحياة.
وعرفت أن الحقيقة التاريخية التي لا تنطمس أبدا تتلخص في أن الانتصارات الكبرى تعتمد على هؤلاء الذين تقدموا الصفوف، وقادوا الرجال، وجادوا بالنفوس ومضوا في التاريخ شعلات، وقدوات،وأسوات..تتفجر منها حيوات خالدات، تبني وتعلي، ولا تموت.. وعرفت أن الصيحة التي أطلقها عكرمة بن أبى جهل ـ رضى الله عنه ـ: من يبايعني على الموت؟ تعني: من يبايعني على الحياة؟.. حياة المضحي الذي يفوز بالشهادة؛ فقد صار من الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون. وحياة العزة والكرامة والإباء التي ستعيشها الأجيال القادمة مقتدية بهؤلاء الذين جادوا بأنفسهم طواعية في سبيل الله.
في أحد أيام الربيع من سنة 1913 ولد "عبدالرحيم محمود" في قرية "عنبتا" من قرى طولكرم بفلسطين، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية 1921-1925 واستكمل دراسته الاستعدادية (الثانوية) في طولكرم، ثم في كلية النجاح الوطنية بنابلس.. وكان أشهر أساتذة هذه الكلية الشاعر المشهور "إبراهيم طوقان" الذي كان يحبب طلابه في الشعر والأدب، وكان يعتز بتلميذه وصديقه
عبدالرحيم محمود. ويرجح أن شاعرنا اشترك في ثورة (1929) على نحو ما، ثم عمل مدرسا بكلية النجاح 1933 – 1937 وكان يغرس في نفوس طلابه حب الوطن والجهاد والحرية.. وكان استشهاد عز الدين القسام وأربعة من رجاله على أيدي جيش الانتداب الإنجليزي.. كان هذا الحدث هو الشرارة التي فجرت ثورة 1936 ضد الإنجليز والصهاينة وانخرط
عبدالرحيم في كتائب الجهاد، وقاتل الأعداء بالسلاح، وحمس الشعب بشعره الملتهب، ومن أشهر قصائده قصيدة شعب فلسطيني. وفيها يقول:
الحق ليس براجع
لذويه إلا بالحـــــــــراب
والصرخة النكراء تجدي
لا التلطف والعتاب
وحمل حملة شعواء على الكبار والزعماء الذين تهاونوا وهادنوا الأعداء، فقال مخاطبا الشعب الفلسطيني:
يا شعب يا مسكين لم
تنكب بنكبتك الشعوب
قلدت أمرك من بهم
لا يرجع الحق الغصيب
لهفي عليك ألا ترى
يا شعب حولك ما يريب؟!!
وبعد توقف الثورة سنة (1939) بدأت حكومة الانتداب تصفى حساباتها مع المجاهدين والمواطنين الذين رفعوا سلاح الثورة والمقاومة، وأخذت الحكومة تطاردهم في كل مكان، فتسلل
عبدالرحيم إلى العراق، وعاش هناك قرابة ثلاث سنوات، التحق خلالها بالكلية الحربية ببغداد، وتخرج فيها ضابطا، وانضم إلى ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 ضد القوات الإنجليزية.. كما عمل خلال هذه الفترة معلما في إحدى مدارس البصرة.. والتقى في العراق فحول الشعراء كمعروف الرصافي، والزهاوي، ومهدى الجواهري. ولكن الحنين إلى وطنه شده إلى العودة سنة 1941 وخلال الفترة من 1941 إلى 1948 نظم الشاعر أغلب شعره، وقد غلبت عليه النزعة الوطنية والدينية، وعاش مؤمنا صادق الإيمان، قوى اليقين، فلا عجب أن يرى في الإيمان بمفهومه الشامل خير وسيلة لتحقيق النصر:
غير أن الإيمان بالحق والروح
جدير بالنصر جد جدير
وإذا كان الشاعر قد تأثر بأستاذه "إبراهيم طوقان" في نزعته وطوابعه الأدبية، فقد تأثر في نزعته الجهادية بالشهيد "عبدالرحيم الحاج محمد"، وبالشهيد القائد "عز الدين القسام"، فاعتنق نهجه، وسار على دربه، وفى ذلك يقول:
هذى طريقك للحياة فلا تحد
قد سارها من قبلك القسام
وعاش شاعرنا يتغزل في شعره بالشهادة، مواجها الأعداء من الصهاينة والإنجليز بالبندقية، والكلمة المزلزلة. وجاء قرار التقسيم في (29 من نوفمبر 1947) والتحق الشاعر بجيش الإنقاذ، واشترك في معارك متعددة، كان فيها كلها مثالا للبطولة والشجاعة. وكانت آخر المعارك التي خاضها ضد اليهود هي معركة الشجرة في 13 من تموز سنة 1948.. ويقول أحد رفاقه في هذه المعركة، وهو الملازم "عبدالرازق المالكي" أحد ضباط جيش الإنقاذ: وتقدم أبو الطيب
عبدالرحيم محمود بأفراد سريته، وأدار المعركة، وكسر الطوق عن العرب المحاصرين، وقد أصيب بشظية قنبلة خلال الزحف، وفارق الحياة بعد أقل من ربع ساعة، وسحبناه على الأرض وسط رصاص المعركة الكثيف إلى قرية طوعان، ومنها نقلناه في سيارة عسكرية إلى الناصرة، وشيع جثمانه إلى المقبرة الإسلامية فيها.. وهكذا حقق الله أمنية الشاعر، وفاز بالشهادة، ليلحق (بإذن الله) بالنبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.