كاتب الموضوع :
وردة دجلة
المنتدى :
روايات عبير الاحلام المكتمله
الحلقــــــــة الأولــــــى
♦عيناكِ سرقت أوشحة الكلمات♦
عيناكِ أطيافٌ على سطح بحيرة المساء
كل قطرة بحرٍ خلقت سُكبت في لجة عينكِ الزرقاء
وكل ورقة تساقط ظلها تشبثت بذرات عينكِ الخضراء
يا امرأةً جمعت في عينيها قواميس النساء
يا امرأة علقت على أبواب عينيها طلاسماً
لهــــا بدايــــــةْ ....... وليس لها انتهاء
أوان
_ هياااا طاوعيني ..لا تكوني عنيدة!
همس جوزيف من بين أسنانه بعد لحظة من رمي جسده المتعب فوق المقعد الأحمر لسيارته السوداء للمرة العاشرة في النصف ساعة الأخيرة.. في اللحظة التي مد يده اليسرى الملطخة باللون الرمادي نحو مفتاح التشغيل وكبت شتيمة كادت تغادر شفتيه الرفيعتين المضمومتين بسخط متمردة ً على صبره الذي أعتاد إقحام أعصابه فيه وهو يراقب السيارة تأبى أن تدور وكأنها طفلٌ شقي يرفض أن ينصاع للأوامر ..أغمض عينيه بإرهاق مختطفا ً بضع لحظات ومرجعاً رأسه المكلل بالشعر الأشقر الغامق القصير الى الوراء ثم رفع أصابع يده اليمنى يعتصر تحت ضغطهما جفني عينيه اللتين تتوسلان من أجل إغفاءة الرحمة..أرخى أصابعه لتنزلق كمسعفٍ متفانٍ نحو لحيته الخفيفة المشذبة بعناية كعادتها مدلكاً إياها بخفة وكأنه يجمع محاصيل التعب المتجمهرة ليلقيها بعد ذلك الى مهب الريح التي أخذت نسائمها تتهادى كأمواج المد والجزر وتلامس الأغصان المصطبغة بدرجات اللون الأخضر الغني على ملامح ابنة بحر البلطيق "هلسنكي " القابعة تحت قبسات مصابيح الشارع المتناثرة بانتظام على طول الطريق .. تمتم عقله يخبره كم هو متعب و صرخت مفاصل جسده قبل عقله وهو يفتح عينيه منتزعاً نفسه من الدقائق المسلوبة التي أرادت التحايل على ضيق الوقت واختطاف شذرات ولو ضئيلة من الراحة..مد يده الى صندوق القفازات الأسود لينتشل قطعة قماش تبنية اللون مسح يديه المتسختين بها ثم أخرج ساقيه الطويلتين من السيارة بعد أن أختطف حقيبتيه الجلديتين السوداوتين ..الأولى تحمل في جوفها جهاز اللاب توب و الأخرى تحمل جهد الأيام الخمسة المنصرمة والتي أسفرت عن إلمامه بكل تفصيلة سيحتاجها في حلقة الغد التي سيستضيفون فيها المخترع ستيفن بول جوبز وهذا جعله يسعى جاهداً أن يلم بأكبر عدد من المعلومات عن شركة آبل التي كان يترأسها ستيف جوبز وأن يفهم كل شيء عن جهاز الأي بود وبرنامج أي تونر والآي فون بأجياله الأربعة والأهم من هذا كله أنه سيتم طرح جهاز آي باد في حلقة الغد لأول مرة في فنلندا كلها وهذا حتم عليه أن يغوص في المعلومات عن شركة آبل و فوكسكون..
وبما أن البرنامج الحواري الذي يقدمه والذي يتضمن كل فن أو أخترع أو عمل غريب يتمحور حول فكرة رئيسة فريدة وهي أنهم لا يقدمون المنتج فقط بل يعرضون كل ما يتعلق بخلفية مخترعيه وهذا يتضمن البحث عن الجنود المجهولين الذين طالما حققوا بصورة غير مباشرة النجاح للبرنامج..
فكر باغتباط أن جهده لم يتبدد يوماً في غياهب الفراغ الشنيع فكل قطرة عرق سكبها جعلته يرتقي درجة ً أخرى من سلم النجاح الرائع ..لاحت ابتسامة فخورة مرتاحة على شفتي جوزيف فبددت معالم الإرهاق السابق وحقنت الحماسة في خلاياه وفي كل بوصة من جسده..صحيح أنه يتعب الى أقصى درجات الإجهاد ليكون هذا المقدم الذي يفخر بجهده وتفخر به فنلندا لكنه يستلذ بهذا التعب ..عندما تُحصد ثمار الجهد المبذول تتلاشى وتذوب الأشواك المالحة لذاك الجهد ،أقفل باب السيارة ومازالت أطيافُ بسمتهِ تلوح في خضم مقلتيه مفكراً أن عليه أن يخرج من سيارته ليبحث عن تاكسي توصله الى الأستوديو ويتصل بميكانيكي السيارات ليجر سيارته الفيراري سبايدر بعيدا عن قارعة الطريق و في نفس اللحظة أخذ هاتفه المحمول يرتج ويرن في جيب بنطلونه الأسود فعلم من هو المتصل حتى قبل أن يمد يده التي ظهرت من تحت أكمام قميصه الأسود المرفوعة حتى ساعديه اللذين ما زالا يحملان ظلالاً طفيفة نتيجة محاولاته الفاشلة لإدراك سبب عطل السيارة و في جعل بطارية السيارة تعمل دون أن تصدر تلك التكتكة التي حيره سببها ..جاءه صوت كول مزمجراً في أذنيه:
_ جوزيف أين أنت؟! نحن ننتظرك منذ نصف ساعة..هل جلبت كل المعلومات المطلوبة؟ أنت تعلم أن أمامك مناقشة معي ومع "مصطفى" بشأن مونتاج الشرائط التي سبق تحضيرها عن ستيف جوبز؟فيجب ربطها بالمعلومات و التقنيات اللعينة التي لابد أنك ألممت بها..هل نسيت الموعد أم أنك فقط تهوى إضاعة وقتي؟
زفر كول بسخط وهو يحث ساقيه المديدين على السير متجهاً الى باب مكتبه بوجهه الذي عزز التجهم كل خط من ملامحه القوية وهو يسمع صوت شقيقه الذي يتشبث بأذيال الصبر:
_ لا لم أنسى الموعد وجميع المعلومات المطلوبة تئن في جمجمتي لكثرتها ولكنني أكملت كل شيء ولم يبقى سوى أن نتفق أنا وأنت و مصطفى على بعض الخيوط ولكني لمــ..
قاطعه كول وهو يهم بوضع يده الطليقة بعنف على مقبض الباب البني القاتم :
_ خلال خمس دقائق أريدك أن تكون هنا..برنامجك ليس الوحيد الذي يشغل وقتي وأنت تعلم هذا جيدا..عينايّ تنوحان من عدد الوجوه المتملقة والأصوات والحركات المتصنعة التي يشعر التمثيل منها بالعار لفرط رداءتها والتي قابلناها أنا ومساعدي الأول منذ الصباح من أجل الفلم الجديد..هل سمعـتـ..
تلاشت حروف كول وهو يسمع صوت جوزيف الواثق الذي تتخالط نبراته بالقوة والرخامة:
_ سيارتي تعطلت ولكني سأكون عندك في غضون ثلاثين دقيقة ،المقابلة ستجرى غداً مساءً وهذا يعني أن هناك وقتٌ كافٍ لإنهاء كل شيء عالق وهذا يعني أنه ليس هناك داعٍ لطبعك المزعج هذا.
زفر كول من جديد ولكن أنفاس الراحة ابتدأت تختلج مع أنفاس أعصابه الهادرة المعتادة لتجعل الهدوء يرفرف على طباعه الحادة..وحده شقيقه الذي يملك هذا الـ..الـ..ماذا يسميه الباسورد الذي يقتحم به أعماقه ليلجم غضبه، تمتم عقل كول معترفاً..جوزيف هو الوحيد الذي بكلمات ٍبسيطة ونبرة صوت مطمئنة يستطيع التحكم بزمام أعصابه وأعصاب أي إنسانٍ أمامه..لعل هذا هو سر نجاحه كمقدم برامج .. تذكر كول اللقب الذي يطلقونه على جوزيف"مُذيب الجليد" وهو يسمع جوزيف يكمل حديثه ضاحكاً:
_ حسننا أيها المخرج المتعجرف ها إن الملائكة نزلت لتنتشلني من قارعة الطريق..الى اللقاء.
قالها جوزيف وهو يوجه عينيه الفيروزيتين نحو سيارة المرسيدس البيضاء التي تحمل صورة جناحين أبيضين بأطراف فضية على ظهر مرآتها الجانبية اليمنى والتي توقفت للتو على بعد متر واحد منه على الشارع الدخاني اللون والتي يطل من شباكها رأس امرأة خلاسية ذات عينين سوداوين..متفاجئتين قليلاً لرؤيته وفم يبسم له بطريقة لن يمل أبدا من تلقيها من قبل النساء ،سار بخطوات ثابتة تضج بالثقة نحوها وأرخى مرفقيه على حافة نافذة السيارة بشيء من التكاسل والمرأة تقول له بلغة سويدية وما زالت البسمة ملتصقة بشفتيها المصطبغتين بحمرة ناعمة بلون الخوخ:
_ هل تحتاج الى توصيلة مِستر بيروتو؟
من الواضح أنها تعرفت عليه.. فكر وهو يجيبها بالسويدية فيما يحدق مباشرة في عينيها فاتحاً الباب في نفس الوقت ليدلف الى السيارة :
_ تعطلت سيارتي لكن دعيني أتحقق من شيء أولاً...
قالت وعيناها تعجز عن ترك تلك الابتسامة المثيرة التي تسكن زوايا ثغره النحيف الحازم والمثير في نفس الوقت والمحاط بالشعر الخفيف لشاربه ولحيته.. :
_ مـ....ـا هو ؟
اتسعت ابتسامته وهو يرى الوميض في عينيها وعلم أن ابتسامته حققت غايتها..تأمل البذلة الرسمية الكحلية التي ترتديها والتي لم تخفي قامتها الممشوقة وساقيها الطويلتين و أصابعها النحيلة الخالية من أي خواتم..شاب ثغره بعض المكر وهو يمد أصابعه الى وجهها وكأنه سيلمس بظهر أصابعه خدها وقال بصوته الذي تمتزج به القوة بالرخامة وشيء من التسلية وهو يترك أصابعه تقف في الهواء على بعد سنتيمترات ضئيلة من بشرة وجهها البرونزية الجميلة:
_ هل أنت حقاً هنا ؟! وأنا من قلت لنفسي أن الشارع خالٍ..لكن على ما يبدو أنه لا يخلو من الملائكة...لحسن حظي.
وأضاف مقربا أصابعه منها دون أن يلمسها وهو يلتقط كل اختلاجة في عينيها النجلاوين :
_لم يسبق لي أن أوصلني ملاك...أممممم لابد أن الرحلة ستكون ....فريدة من نوعها،قولي لي.. ؟
قالت بسرعة وهي تقلص المسافة بين وجهها وأصابعه حتى ألصقت خدها بيده وهي تشعر بابتسامته تذيب كل أفكارها كالسُكَر.. لا عجب أن يطلقوا عليه " مُذيب الجليد" إذا كانت طريقته الواثقة في التحديق في عينيها مباشرةً لا تكسر كل حواجز المقاومة و لا تروي كل شواطئ مشاعر المرأة فابتسامته تغرق تلك الشواطئ وتطمرها و تقضي على أي أفكارٍ قد تحبو نحو عقلها أن تتجاهل وجوده المثير:
_ ماذا؟
قال بصوت كسول وهو يشير الى مقود السيارة مبعداً بتعمد أصابعه عن وجهها:
_ متى ننطلق يا..؟
أومأت بصورة لا شعورية وكأنها شبه منومة لا تدري بماذا بالتحديد بابتسامته الناصعة الإثارة !أم بعينيه الفيروزيتين الواثقتين الى حد الغرور أم بعطره الذي أختار أن يلف عقلها بسحابة مدوخة وقالت تجيب بصوت مبحوح عن سؤاله عن أسمها فيما هي تحاول كبح حاجتها الى أن تعيد وجهها ليرتاح تحت لمسة أصابعه الدافئة:
_ كيمبرلي ...كيم ،إلى أين أوصلك مِــستر بيروتو؟
أبتسم جوزيف وهو يعود بجذعه ليستند إلى ظهر المقعد المريح:
_ ناديني جوزيف يا كيم ..وسيري وسأوجهك الى الطريق..
تناهى في الأرجاء صوت هدير السيارة فيما أتصل بمساعده ليجعله يعود للسيارة ويذهب بها الى الميكانيكي وما إن أقفل الخط حتى قالت له كيم بنعومة وعقلها يصيح دهشةً لانغماسها في محاولة جذبه:
_ برنامجك فعلا فريد من نوعه، لا أعرف كيف تتمكنون من الحصول على كل هذا الكم من المعلومات الدقيقة! ولكنني للأسف لا يتسنى لي مشاهدة كل الحلقات بسبب انشغالي الشديد ..لكني واثقة أنها مميزة بمجملها .
سألها جوزيف متجاوزاً بتعمد الحديث عن برنامجه:
_ وما عملك ِ ؟
سحبت كيم بطاقة من حقيبتها ما إن وقفت السيارة و استدارت بجسدها لتسلط عينيها على جوزيف المسترخي في مقعده وتمد يدها بالبطاقة إليه:
_ أنا محامية ..ها هي بطاقتي أتصل بي إذا احتجت الى أي مساعدة......قانونية .
أمسك جوزيف بالبطاقة وبأصابعها التي تعانق البطاقة الفضية كمعانقة البسمة لعينيه الفيروزيتين اللتين تذوبان في بريق الانتصار فيما أضافت كيم وهي تساءل نفسها أهي من أدنت رأسها منه أم هو من قام بالخطوة الاولى؟! وشددت على الحروف وهي تطوف ببصرها على وجهه الوسيم برجولة :
_ فــي أي وقت تحتاج .
♦ ♦ ♦
وصل جوزيف الى مكتب كول وتناهى الى أذنيه صوت سعال كول المختنق المعتاد حتى قبل أن يفتح باب المكتب ..كبت الضحكة الوليدة في أروقة شرفات عينيه الفيروزية وهو يرى وجه كول الذي كسته ثلوج الإرهاق الصقيعية و حمم نفاذ الصبر العاتية وهو يدلي قدمه المنهكة انتظاراً من فوق حافة مكتبه المصنوع من خشب الزان المتين ويرفع يده المدمنة على إمساك دخان موته البطيء.. ما إن رآه حتى تذكر فأخرج جوزيف العلبة المربعة من حقيبته السوداء وأخرج السيكارة البيضاء من قلب العلبة وتقدم من كول قبل أن يتسنى الوقت لهذا الأخير أن يزيح سيكارته التي تحرق نفسها وتحرق شقيقه معها ومد يده بسرعة خاطفة ينتزع سيكارة كول بعيدا عن فمه ..فأعترض كول بملامحه العاصفة وهو يفرد قامته الملتفة ببذلة رمادية اللون و قميص باللون نفسه..
_ تدخين وسعال ..تىء تىء طبخة سيئة .
_ هيييي!!!
كم مرة عليّ أن أخبرك إن كنت أريد أن أجعل رئتيّ صفيحتين من الجبن العفن فهذا خياري إذا كنت أريد أن..
أضاف مقلداً صوت والدتهما:
_ أدفن نفسي في مقبرة أعقاب السكائر.. فأنا حـــــر!
لم يدعه جوزيف يكمل صرخته الحانقة و حشر السيكارة التي يحملها في فم كول متجاهلاً يديه الممدودتين باعتراض تشابكت خيوطه بعقد التهكم..
امسك كول بالسيكارة المصنوعة من الفولاذ الأبيض وقلبها بين يديه وهو يلوي زاوية شفتيه اليسرى امتعاضاً ويقول متهكماً:
_ سيكارة الكترونية!!؟
قال جوزيف غير آبه باعتراضات كول العنيدة المزروعة في كل نفس من كلماته:
_ إنها هدية وصلتني حديثاً .. اختراع جديد ،جربها لن تخسر شيئاً..
أضاف جوزيف بدهاء مغيظ:
_ يقول العلماء أنك تدمن على نفث الدخان أكثر من إدمانك على السيكارة!
نظر كول الى السيكارة بين أصابعه شكلها كالسيكارة العادية ولكنها تنتهي بدائرة شبه محدبة ..دفعه الفضول الى وضعها بين شفتيه وأخذ نفساً منها فتوقدت الدائرة شبه المحدبة باللون الأحمر وكأنها فعلا ً لفافة تبغ يُحُرق طرفها وبالفعل نفث بعد ثوانٍ الدخان الرمادي من بين شفتيه..مثلها مثل أي سيكارة حقيقية!
_ اختراع ذكي لكن شكرا مقبرة الأعقاب تناسبني أكثر.
كبت جوزيف الخبث المتراكم في حنجرته وهو يقول له بنبرة محسوبة بغية تغير رأيه:
_ أظن أن أمك لن توافقك الرأي..لن ترغب بمريض مزعج مثلك بعد تقاعدها .
قال له كول متهكماً وتعبير ساخر يطوف حول وجهه كالغمام:
_ خلت أني شقيقك الكبير وأنا من يجدر بي نصحك .. يبدو أن السنوات الثلاث التي تفصل بيننا تتلاشى حينما تقترب من مقبرة الأعقاب الدخانية..
أبتسم كول بسخرية وهو يرمي الكرة الى معلبه وهو يسأله مغيراً الموضوع :
_ ما الذي حصل للنصف ساعة يأ أخي العزيز هل ألتهمتها الملائكة كعادتها معك.
قال جوزيف بإصرار وقد تخلل الجد مسامات حروفه يرفض أن يترك الموضوع ما إن رأى نوبة أخرى من السعال تهجم على رئتي كول:
_ على الأقل هذا الشهر كول؟ أننا في شهر تموز أم نسيت أطنان الحزن الذي تحملها أيام وليالي تموز ..إن كنت تحبذ رائحة مقبرة الأعقاب فهذا شأنك كما قلت أنت ولكنك تصنع لحوداً من القلق والحزن لأمي ..فهل ترضى أن تكون من يضيق خناق مشنقة تموز يا كول؟هل ترضى أن تسبب لوالدتـنـــ..
قاطعه كول بصوت فرمت قوته المرارة وهو يخلل أصابع يده في شعره الأسود الكثيف وكأنه يجمع الصور التي تقافزت الى ذاكرته من مقبرة تموز... يعلم جوزيف أن والدتهما هي نقطة ضعفه الوحيدة ويكاد لا يصدق أنه أستخدم هذه البطاقة الرابحة..تباً لك جوزيف لا تعلم كم غطاء جرح خلعت بمساومتك هذه..ولكنه محق والدتي تتوسل إلي من اجل أن أترك التدخين سيفرحها الخبر وسيكون زهرة لأشواك تموز!
_ سأترك التدخين! ولكن لا أريد أن تحشر أنفك التلفزيوني هذا في شؤوني مرة أخرى هل فهمت أيها الأحمق المزعج !
ابتسم جوزيف بانتصار متجاهلا كلماته اللاحقة قبل أن يسأله كول بمرارة:
_ هل مررت اليوم على المركز؟ هل كل شيء على ما يرام؟
_ لا تقلق كل شيء على ما يرام.
قال كول معترفاً وهو يخلل أصابعه من جديد في شعره الأسود الفاحم:
_ لقد انشغلت بإخراج الفلم الأخير و الآن تحضيرات هذا الفلم المعقد يكاد يلتهم كل ساعاتي و....
طرق الباب قاطع كلامه وما لبث أن دخل مصطفى العراقي
ذو الثامنة والثلاثين عاما الى المكتب فأكملوا اجتماعهم ..
" بيروتو للإخراج التلفزيوني والسينمائي " التي يترأسها كول ويتزعم جوزيف أحد أهم أطرافها هي الحلم الذي بذلوا من أجله الكثير،يقولون أن الأحلام جميلة...حسنناً الورود جميلة لكن سيقانها تمتلئ بالأشواك وكذلك هو سلم النجاح على كل درجة تزرع قنافذ الأشواك .. حتى تصعد للقمة لابد أن تخزك الأشواك وتخنقك حبال الإجهاد مرة بعد مرة بعد مرة...لكن ثمرة النجاح خيرُ بلسم .
لم يتولى كول زمام إخراج أي برامج حوارية تلفزيونية بنفسه سوى تلك التي يقدمها شقيقه و لشهرة أسمه كمخرج أفلام متميز بأفلامه عن تأثير الحروب في الشعوب هذا ساهم في انتشار برامج شقيقة بصورة أكبر لكنه لم يشك يوما أن جوزيف لن يحصد نفس النجاح حتى لو كان وحده فبراعته يشهد بها الكثيرون و إتقانه للكثير من اللغات ساهم في مقدرته على التواصل مع من يستضيفه من فنانين ومخترعين على اختلاف جنسياتهم وهو يعلم أنه يبذل جهداً مكثف في مؤسستهم وفي مركز بيروتو لمعالجة الإدمان من الكحول المهم جدا بالنسبة لعائلتهم .
خرج كول من الغرفة تمتطي قدماه سيراميك الشركة بسرعة وهو يعد نفسه بحمام منعش يبعثر تعب هذا اليوم المجهد ...تسابقت قدماه بوتيرة ثابتة تنزل درجات السلالم المفضية الى سيارته ، كان ينزل بسرعة حتى أنه شعر أن الهواء يدفعه ويمد له يد السرعة لذا لم يرى الفتاة التي تدلى معطفها الأسود من فوق ذراعها تصعد السلالم بسرعة مماثلة وكأن الهواء ذاته يمد لها يد السرعة..ولم يشعر إلا وهو يصطدم بها بقوة جعلته يئن إجفالاً و جعلتها هي تصرخ ..صاح منزعجا ً بنزق :
_ تباً انظري أمامك عندما تسيرين!
دوت آخر حروفه قبل أن يتراجع جسدها الملتف بفستان أزرق بلون سماء شمال فنلندا فمد يده بسرعة يلف خصرها بيده ليمنعها من التدحرج سقوطا ً من ارتفاع أربع درجات ولكنها تشبث بقميصه الرمادي وربطة عنقه بقوة بأصابع يدها الخمسة وبطريقة لا يدرك كنهها تسببت بسقوطه معها من فوق درجات السلالم فحاول بسرعة أن يتمسك بها لكي يجنب جسدها الهش صدمة الاصطدام بالأرض وضاع أنينه المكتوم في غمرة صيحاتها المتألمة وهي تسقط معه الدرجات الأربع ليرتطم جسدها أخيرا فوق جذعه المتألم..كادت كلمات التأنيب والانزعاج تسافر بسرعة الصاروخ منطلقة منه إليها ولكن يبدو أن قاعدة الجفاء نزعت أسلاكها وحل محلها شعور ٌ بلا عنوان .. أحس بألم جسده الملتصق بالسيراميك القاسي و ... الحار،هل السيراميك هو الحار؟! أم أن رموشها السوداء المعقوفة تكاتفت مع عينيها الزرقاوين الواسعتين المماثلتين للون فستانها لتحرقا أنفاسه في مخدعها ..لم يكن يعلم أن سماء شمال فنلندا قد تكون بهذا العمق وبهذا...الجمال المدمر، شعرها الحالك كليلة لا قمر فيها يتناثر على كتفيها الرقيقين و بشرتها البيضاء كالقطيفة تكاد تنطق لفرط نعومتها والبراءة المشعة والمشبعة في مساماتها .. حاجباها رقيقان زادا من نعومة ملامحها وأنفها قصير بشكل غريب !وشفتاها ناعمتان و مكتنزتان نوعاً ما بلون العنب الأحمر،أحس كول أن أنفاسه اختنقت في رئتيه ولم يكن السبب أبدا نوبات السعال ولا دخان السكائر ولا الألم الذي أصاب ظهره نتيجة الارتطام بل طبيعة إحساسه لحقيقة أنها مازالت تستند بجسدها اللين على صدره وجذعه مما جعله يشعر بكل خلية نابضة في جسده ترتطم بوهج دفء جسدها...
نظرت جورجي الى عينيه التركوازيتين وكادت تشهق ليس لألم ارتطامها به بل لأنها أدركت أن الدقيقة اكتسبت خصائص المطاط وامتدت الى زمن طويل تكسرت فيه عقارب الدقائق..قفزت خواطر الواقع لتنتشلها من ذهولها وهي تراقب رموشه السوداء..لم تكن رموشه طويلة ولكنها كانت كثيفة الى حدٍ جذاب ..قفزت مبتعدة عن صدره الصلب وهي تتمتم بحروف لا معنى لها من المفترض أنها كلمات اعتذار اختلطت بانين موجوع فيما امتدت يدها بسرعة الى منتصف فخذها بطريقة استقطبت انتباه عينيه..
_ أ أنـ..ــا آســفة! مـِستر بيروتو لم أراك و و ..هل أصبت بأذى؟
حملقت عيناه في الخط المتألم الذي تشكل بين حاجبيها وجذبته عيناها الدامعتان و شفتاها المرتجفتان وهي تتمتم بخجل صبغ وجهها و زاد من جاذبيتها ولم يعد يشعر بالخدوش التي أصابته نتيجة احتكاك ظهره بالأرض..فقال لها بعد أن وقف على قدميه وقد أستعاد صوته الثابت من لجة حنجرته النابضة وهو يلتقط حقيبتها وسترتها السوداء من فوق الأرض..بينما لاحظ أنها تمسك بفخذها وركبتها بألم وأحس أنها تضغط على نفسها لتستطيع الوقوف باعتدال..
_ لا عليك...هل أنت بخير؟هل أصبت ؟
تلفت حوله وكأنه يبحث عن مكان لتجلس عليه و قال لها وهو يقترب منها خطوة..
_ تعالي استندي علي سأجعلهم يأتون لك بـ..
مدت يدها إلى أغراضها لتأخذها وهي تقول بصوت لم يسمع بمثل شفافيته و رقته رغم أن بذور ألمها كانت واضحة في ارتجاف وتيرة صوتها:
_ أنا ... أنا بخير أرجوك لا تقلق من أجلي مِستر بيروتو ..سأكون بخير حتى أن موظفي الرسيبشن قد غادروا ولن تجد أي...
ترنحت وانطلق أنين خافت من بين شفتيها ، من الواضح أنها حاولت كتمه لكن ألمها لم يسمح لها..فأقترب منها بسرعة وضم كتفيها الرقيقين بذراعه القوية ..
_ تعالي سأوصلكِ ...ما أسمكِ؟
شعر كول بجسمها يتصلب ولم يدرك ما هو السبب أنتيجة ألم ساقها المصابة أم أن التصاق جانب جسمه بها قد وترها كما وتره؟ومهما كان السبب فقد شعر بها تبتعد عنه سنتيمترات قليلة وما إن فعلت حتى شعر بساقيها ترتخيان وشعر أنها على وشك التكور سقوطا على الأرض من فرط الألم فتلقف جسدها دون تفكير وحملها بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة فأحس بكتمها لشهقة دهشة.
_ ماذا كنت تفعلين في هذا الوقت في الشركة ؟
رفعت رأسها ما إن سمعت صوته من جديد فأحس أن فمه جف فجأة وهو يرى وجهها البريء المتألم فأردف بسرعة كابتاً شعوره السخيف بأن هناك من يمسك بجدران فؤاده ويرجه رجاً ..
_ ما أسمكِ ؟
_ أنـ...ــا جورجي كرو..لقد نسيت بضع أوراق لي في الأستوديو ..
_ أنت تعملين في الأستوديو؟ لم أرك من قبل!
نظرت جورجي إليه من تحت رموش عينيها نصف المسدلة وهي تشعر بأنفاسه تداعب خصلات شعرها :
_ أ أ نا مساعدة المصور الجديدة مِـستر بيروتو.
ارتسمت على وجهه ابتسامة متسلية رغما عنه وهو يلاحظ أنها تأبى أن تتمسك به بصورة صحيحة ربما لفرط ارتباكها فقال لها بصوت خفيض ما إن وصلا الى باب المبنى وهو يحدق في عينيها التي نسجت بهما أثواب البراءة الغضة وكل عضلة ٍ منه تستسيغ قربها الدافئ غافلاً عن نظرات رجل الأمن المشدوه لرؤية رئيسه :
_ تمسكي برقبتي جيدا ... ً لكي لا تقعي !
نظرت جورجي إليه بتردد قبل أن تلف ذراعيها حول رقبته مبعدة وجهها عن عينيه ومستندة الى صدره فسمعت تلك الطرقات الخافتة المتراقصة بين أضلاعه وعندها ارتسمت ابتسامة ماكرة في أغوار عينيها !!
♦ ♦ ♦
دخل جوزيف من الباب الرمادي المفضي الى مرآب ميكانيكي السيارات التي ترك مساعده السيارة في عهدته .. اجتذبه صوت السيارة المتقهقر فتبع خارطة الصوت لتوصله الى الميكانيكي ..يرجو أن يكون الميكانيكي قد انتهى من تصليح السيارة فكل ما يريده هو الذهاب الى شقته والنوم حتى الصباح ..كان يفكر بهذا عندما رأى الميكانيكي يرقد وراء مقعد القيادة لسيارة بيضاء من نوع فورد ويدير السيارة بين فينةٍ وأخرى فيما تتدلى قدمي ميكانيكي آخر من تحت السيارة بحذائه الأسود الطويل الشبيه بحذاء الجنود .. ما إن رآه الشاب الذي لا يتجاوز العشرين من عمره والذي يجلس وراء مقود السيارة حتى خرج مسرعاً إليه..
_ مرحبا... هل من خدمة؟
قال جوزيف وهو يشير الى سيارته الفيراري التي ترقد في أخر طابور السيارات الثلاثة المصفوفة جنباً الى جنب..
_ سيارتي تحت التصليح.
تلفت العامل الذي يحشر جسمه النحيل في زي كحلي اللون نحو السيارة ثم التفت نحو جوزيف وعلى وجهه ابتسامة حمقاء بعض الشيء:
_ أنت جوزيف بيروتو أليس كذلك؟!مقدم برنامج الغرائب؟
أومأ جوزيف بوقار وهو يسمع العامل يكمل وهو يمد يده ليصافحه:
_ سعيد برؤيتك مِـستر بيروتو، لحظة سأنادي سول..
سحب ثيو يده من يد جوزيف قبل أن يستدير بلهفة يطرق بقبضته فوق بدن السيارة فوق رأس سول وهو يقول:
_ جاء مِـستر بيروتو أنه صاحب سيارة الفيراري سبايدر..
كانت سول تنظر الى الفلتر فوقها والذي استحال لونه الذهبي الى أسود فاحم من زخم الأوساخ العالقة فيه ..كانت قد نزعت الأنبوبة المطاطية اليمنى فمدت يدها تنزع الأنبوبة المطاطية اليسرى وما لبثت أن أرخت المسمار الحاضن للفلتر وشرعت تنزعه بمنتهى الحذر ..في تلك اللحظة صدع صوت ثيو وطرقته على بدن السيارة فانتزع منها جزءاً من تركيزها مما جعل وجهها ورقبتها تستقبل بضع قطرات من الوقود المنسكب..مسحت وجهها بيدها والغضب المغلف لخلاياها يدور في جوفها ..والكلمات تئن دون صوت تحت أسنانها المطبقة ما إن سمعت كلمات ثيو "تــــبــــاَ لك ثيو أيها الأحمق ..أنت وذاك البيروتو !!"فكرت بخبث ما إن تذكرت أين سمعت هذا الاسم من قبل .. فلينتظر المقدم اللامع سيارته الفارهة أما هي فستكمل ما تفعله ..بمزيج من اللامبالاة والتركيز على عملها وضعت الفلتر الجديد و ثبتت مسمار حاضن الفلتر وأعادت الأنابيب المطاطية الى موضعها ..وصلها صوت ثيو المضطرب فتلميذها ثيو غير معتاد أن يراها تتجاهل الزبائن كل هذه المدة لكن ربما هو تعبها او ربما هو هذا البيروتو الذي كان يطل بابتسامته ألعنكبوتيه على الشاشة فتقع المراهقات في سحر تلك الابتسامة كالذبابة الغبية في شبكة العنكبوت...تلمست مسمار حاضن الفلتر تتأكد منه قبل أن تدفع بنفسها الى الوراء.
رفع جوزيف عينيه للسقف مستنجدا بصبره الذي أضناه يومه الطويل قبل ثانية من مقابلته نظرة ثيو المضطربة المليئة بكلمات الأسف المسترسلة وما إن شارفت أصابع ثيو المتململة على التجرؤ على المضي من جديد لطرق بدن السيارة حتى رأى جوزيف فردتي الحذاء الجبارتين الشبيهتين بسيارة الهمر تتحركان ما إن دفع الميكانيكي بنفسه من تحت السيارة المضطجعة ..صرير العجلات التي تركن تحت الجسم المسطح الذي تستلقي عليه سول اصدر صريرا ً مزعجاً وهي تزحف به خارجة قبل أن تهب واقفة على قدميها ..
انفتحت شفتي جوزيف الحازمتين برقة واتسع بؤبؤ حدقتيه الفيروزيتين بذهول لم تملك أي ذرة في إرادته التي تحفظ ملامحه كل بصماتها أي سيطرة عليها..فالميكانيكي الذي تغرق قدماه في فردتي حذاء بحجم باخرتين ليس هو بل هي...امرأة صغيرة الحجم!!
سكنت رموشه عن ابتلاع شراب الدهشة ليرتشف صدره نبضات هذا الوجه الملائكي...وجه امرأة ٍ تسربلت بأوشحة البراءة الطفولية ترتدي كل خيوط ملامحها ثوب الأنوثة المثيرة ،عيناها..لم يرى كعينيها في حياته كلها ! عين زرقاء وعين خضراء !،زُرع بؤبؤ عينيه في عينها اليسرى الخضراء ولم يعي صوتها وهي تحادثه شارحة عطب سيارته وهي تمسح يديها بقطعة قماش مبللة..
فعينها التي ضاع في أوراق غاباتها لم يترك له أي بقية ..كله دون أي بقية تجمهر كحشود فوق الرموش الصهباء لعينها اليسرى ..حلقة داكنة الاخضرار تحيط دائرة مقلتيها تسحبه كالسحر للعالم الأخضر الغني الذي تكاثف في مقلتها كأوراق شجرة الليمون ..أبتلع جوزيف ريقه وهو يسمع لأول مرة صوتها النافذ الصبر والبارد في الوقت عينه .
.أغمض قلبه عينيه بخفقة مجنونة غير مألوفة على أضلاعه وكـأنه يقول أستيقظ من نومك أيها الأحمق فأنت تحلم بأحلام لا يسعها الخيال..كالطيور المهاجرة ناحت عيناه الفيروزيتان وهو يغادر أوراق عينها الخضراء وركضت بلهفة نحو عينها الأخرى الزرقاء .. زرقاء ككلمة بحر في مخيلة طفل يعنون اللون الأزرق بالبحر، وجهها ناعم بياضه مشرب باللون الوردي يشبه تلك الفراشات الوردية المنغمسة بثوب الشفافية يعلو قمة رأسها الشامخ شعر تمري محمر له بريق الخمر في كاس الكريستال تشده الى الخلف في ضفيرة تبدأ من منتصف رأسها حتى أسفل عنقها وضاعت أطرافه القصيرة وراء رأسها كضياع الحروف وهروبها من شفتيه..يا لدهشة حروفه ويا لدهشة شفتيه التي نسيت الحروف التي يتلاعب بأنسجتها وخيوطها منذ الصغر ...قالت بصوت بعيد يحمل نبرة حجرية رقيقة..لم يكن يعلم من قبل أن للصلابة رقة ّ!
_ إذا انتهيت من تحديقك الأحمق بي تعال لأريك سيارتك .
حدقت سول في هذا الـبيروتو بانزعاج وهي تشم رائحة عطر الور يفوح منه ،نفس العطر الذي.. هزت رأسها ترفض التذكر، نظرت الى هذا الـ بيروتو كانت تشاهد مقابلاته مع مشاهير أوربا حتى قبل سنة وثمانية شهور عندما كان التلفاز سيد العالم وملجأ الهروب..عندما كان صوت التلفاز هو سترة النجاة من صوت أمها...أمها!كسا الامتعاض قسماتها وهو تحدق في وجهه بلامبالاة ورموش عينيه الشقراء الطويلة ترفض أن تبارح وجهها وعينيها فقابلت نظرته بأخرى متفحصة إياه بلامبالاة .. يبدو في أوائل الثلاثينات يرتدي بنطلوناً أسود وقميص أسود رفع طيات أكمامه الى مرفقيه و قامته
طويلة جدا بالنسبة لقامتها الضئيلة لكنها رفعت رأسها محدقة إليه بخليط مزعج من التحدي السافر واللامبالاة ..
سقطت كلماتها على وعيه كماء بارد سكب في النار الفيروزية لشواطئ عينيه ..فأفاق! افافت حروفه ونزعت الكمامة عنها ولكن قلبه ما زال يتعامل بغرابة ويدق لهذا الوجه الذي لم يرى مثله فتنة وغرابة ... في هذه اللحظة كأنما سرقت عيناه المزيد من اللحظات من هذه الفريدة من نوعها ذات الفم الوردي الأنثوي الصغير والأنف المستقيم ..صعقه أن هذه الوجه الحساس يتناثر عليه رذاذ داكن على ما يبدو انه وقود! إنها ميكانيكية ! وكأن جسدها الصغير يسخر من تعجبه فجذب عيناه إليه وكادت ملامحه تضحك لولا انشغالها بأشياء أخرى..كانت ترتدي بنطلون بحملتي كتف داكن اللون يبدو أن جسدها مغمور فيه فوق تي_شيرت ملتصق بزنديها الرقيقين وقد ضاعت تضاريس جسدها داخل خارطة البنطلون !
فكر متسلياً أنها فتاة داخل منطاد أنفجر و فرغ هوائه وخرجت كلماته من عقالها فلا أحد يتكلم معه بهذه الطريقة ولا أحد يقول له او لكلماته كش ميت خسرت اللعبة ..فهو وحروفه من يقولون الكلمة الأخيرة في كل زاوية من زوايا التحديات.
وصلها صوته عميقا ممزوجا برخامة ووجه الوسيم برجولة يستعيد إطرافه من غياهب الانبهار الصبياني وهو يمد يده إليها وكأن مسامات يديه تتحدى الهواء أن لا تبعث برسالتها..
_ مرحبا اعذريني ؟! أصابتني الدهشة عندما خَرجت من تحت هذه السيارة فراشة ٌ تحمل فوق أجنحتها الوردية حبات الاوبال يا عزيزتي سول..
نظر إليها بعد أن رأى ثيو يسألها إنه سيخرج إن لم تحتج إليه وعندما خرج قال معيدا ً نظراته الى هذه الميكانيكية الفريدة:
_ وأنا من كنت انتظر ميكانيكا يمنحني سيارتي ..فقط.
نظرت سول الى يده الممدودة نحوها والذرات الفيروزية في عينيه تتحداها أن لا تصافحه ..
أخذت قطرات من الدهشة تتساقط على سطح أفكارها فهو لقبها بـ أوبال وهذا أسمها الثاني ! جعدت أنفها باستخفاف مزيحة قطرات دهشة أفكارها ما إن رأت رفض عينيه مبارحة عينيها الأوباليتين وسحبت من جيبها ورقة صغيرة مدتها إليه وسبقته نحو سيارته وهي تقول مولية إياه ظهرها:
_ هذه فاتورة تصليح سيارتك أجرة القطعة المبدلة وأجرة التصليح ..
فتحت باب سيارته داعية إياه إليها وهي تقول بصوت حجري:
_ ها هي سيارتك جاهزة..
تجاهل جوزيف رفضها مصافحته و سار بثبات نحو السيارة اللامعة و جلس وراء عجلة القيادة وأدار مفتاح التشغيل فدارت السيارة دون تلك التكتكة فقال لها وهو يحدق في ثيابها المنطادية الأتساع ووجهها الأنثوي المتناقض مع محيطها وعينيها الأوباليتين اللوزيتي الشكل..
_ سول ..
نظرت إليه ورأت تلك الابتسامة المزعجة تطل على شفتيه .. ابتسامة من هو واثق من تأثيره على الجنس الأخر!
حدقت فيه بدون تعبير وكأن هناك طلاسم تحيط عينيها و تتشبث برموشها فلا يسعه فهم شيء..كيف وهو من يعشق قراءة قواميس النساء و يستحوذ على معاني نظراتهم كبساطة استحواذ أنفاسه الهواء ! لكن هذه الأنثى ليست كغيرها وطلاسمها تشده ليحل رموزها ويفهمها ..أكمل وهو يحاول أسر نظراتها بعينيه:
_ كم أنا مسرور لأن الميكانيكي المعتاد الذي أرسل إليه سيارتي مسافر رغم أن ..
قاطعته سول وهي ترفع حاجبها :
_ الأجرة..بيروتو ؟
_ماذا ؟
_ السبب الوحيد ألذي يجعلك ما تزال تحت سقف كراجي هو أنك لم تدفع أجرة التصليح بعد.
أبتسم جوزيف وهو يسحب محفظته من جيبه ولكنه لاحظ أن ابتسامته لم تفصم أي أنشوطه من لوغاريتمات عينيها الغامضة ! ،مد يده بالأجرة وهو يقول لها..
_ اعذري فضولي المهني ولكن لماذا اخترت مهنة يستحوذ عليها الرجال ؟
قالت له وهي ترمق نظراته المعجبة بنظرة حجرية..
_ ولما لا مِـستر بيروتو اللامع ؟ أم تحب أن تكون النساء فارغات وهشات مثل الكرواسون .
ضحك جوزيف فظهرت أسنانه الناصعة وقال لها وهو يستند على سطح سيارته السوداء ..
_ يستقطب قلبي أن أحترم المرأة التي أرافقها وكلما نضج عقلها زاد اهتمامي بها ..طبعا على أن لا تنسى أنها أنثى .
نظرة سول كانت تقطر لامبالاة وكأنه يشرح لها درساً في الرياضيات!وهذا شحذ ومضات التحدي في عينيه فلم يسبق أن تكلمت معه او نظرت إليه امرأة بهذه الطريقة اللامباليه!
مد يده ببطاقة عسلية محاطة ببرواز ذهبي تلألأ تحت الأضواء..
_ سأقابل المخترع ستيف جوبز في حلقة الغد سأكون سعيدا ً بحضورك الى برنامجي..
نظرت سول الى جوزيف وعقلها يستهجن ألتوق المشع من فيروز عينيه وقالت له بصوتها الحجري..
_ لست مهتمة ً بيروتو .
بخطوة واحدة أصبح جوزيف أمامها ومد يده بخفة واضعاً البطاقة في جيب بنطلونها الذي يقع بين صدرها ومعدتها ..كادت تشهق لخفة حركته تلك ولكن أنفاسها استهجنت شهقتها ما إن رأت عينيه التي تبدو وكأنها مشدودة لعينيها بخيوط غير مرئية انجذاباً لها..فكرت ساخرة يا حماقتك بيروتو !
_قلت لــ..
قاطعها بصوت ناعم ورخيم وهو يرفع أصبعه ملامساً حاجبها برقة :
_ لم أرى في حياتي كلها امرأة لها جمال عينيك الأوباليتين..ولم ..
لامس بأصابعه خدها برقة مزيلاً قطرات الوقود المتناثرة فيبدو أن أصابعه لا تفقه مع هذه الفراشة فن الانتظار وهو يكمل ..
_ ولم أرى في حياتي وجهاً بهذه الرقة سول بترفلاي(روح الفراشة)
نفضت سول نفسها عنه مبتعدة عنه وعلامات اللامبالاة المتحجرة تلوح من طلاسم عينيها وهي تقول متوجهة الى باب الكراج ..
_ سأغلق الكراج بيروتو أخرج.
راقبته وهو يصعد الى السيارة وما زالت تلك الابتسامة المزعجة الواثقة تطل كجلد ثاني من خلاياه وقال لها وهو ينظر الى عينيها الفريدتين ما إن وصلت السيارة الى مخرج المرآب..
_ جناحي الفراشة رقيقين ولن يرفا بقسوة أليس كذلك عزيزتي ..سنلتقي.
رفعت سول حاجبيها مستهجنة تلك الابتسامة المزعجة وقالت وهي تمسك البطاقة وتمزقها ببطء مستمتعة بتناثر نتفها تحت قدميها وهي تقول له ..
_ ولكني لست" سول بترفلاي" يا بيروتو ..أسمي هو" سول أوبال" و الاوبال ملك الأحجار فأبتعد عني وكف عن مغازلة حجر.
نهاية الفصل الأول
|