*(( القيد السابع ))*
عصرت الهاتف النقال
الذي كادت أوصاله تتهشم بين أصابعها المشدودة بحبال الضيق
وقالت والغضب يقطب حاجبيها:
- وش هالولد, ليش مغلق تلفونه؟ يريد يموتني ناقصة عمر.
وضعت كفها على ظهر أمها المختنقة من دخان الغضب
وأخذت تربت على ظهرها لعل فعلها يهدأ من ثوران قلبها, وقالت:
- أمي هدي ولا تحرقين أعصابك, خلاص يا أمي حميد بيروح ( يذهب ) وما بيرجع, أفهميها, هو قال لي هالكلام بنفسه البارحة, فلا تتعبن نفسك.
انتفضت من تحت يدها, وقالت وهي تطلق نظرة تصميم نحو هند:
- لا والله ما برتاح علين ( حتى ) أكلمه, وأفهم وش صار له, ليش تغير؟!! هذه مو تصرفات ولدي حميد, ولدي ( وتغضنه عضلات وجهها, لتشكل الحزن الأموي المتوجع ) ولدي حميد ما يسوي ( يعمل ) كذيه, أنا أمه, أنا ربيته, أنا أكثر واحد يعرفه في هالدنيا, ولدي ( غصت الكلمات في حلقها المرتعش ببرود الدمع الذي لم يكذب خبرا ونسل من مقلتيها الممزوجة بعصارة الحزن ) ولدي... ولدي حميد ما يعمل الشينة أبد, أبد, وما يتركنا أبد أبد ... أنا ربيته ... أنا ربيته ... ( وأخذت تضرب على صدرها بكفها وهي تردد بحرقة تنسكب على هيأت كلمات من فمها ) أنا ربته يا هند, أنا ...
أغمضت هند عيناها التي أحرقها النظر إلى أمها الباكية, فحمت مقلتيها من لهيب الألم, بإسدال ستارهما, وبقضم شفتها السفلى, لكي تمتص الدمع الذي ينسل داخل جوفها, وقالت بعد صراع مع كلمات جافة, وهي تدنو نحو أمها, لتجلس بالقرب منها, وتقيدها بذراعيها, الساحبتين لأمها نحو صدرها:
- أمي الله يخليك لا تبكين, ترا حميد ما يستاهل دموعك الغالية, ما يستاهلها, إنسيه, هذا مو حميد إلي نعرفه, أنسيه يا أمي, إنسيه.
وغرستها أكثر لصدرها
لكن أمها نفرت من صدرها
ودفعته بعيدا عنها
وقالت بصوت زاجر يتخلله شيء من الدهشة المرسومة على تجاعيد وجهها الذي أخذت الأعوام نضارته الفتية:
- أنتِ ينيتي؟!! كيف تريد مني أن أنسى ضنايه, مستحيل, هذا وحيدي حميد, ما أقدر أنساها, ولا بنساه علين آخر عمري, بس بس ( وأشاحت بعيناها المكبلتان بأثقال الحزن الفارز لدموع جهة الأرض, وقالت بانكسار الحيرة ) بس ما أعرف وش إلي صار له, ما أعرف ؟!!
ومن ثم عادت تسلط ضوء عيناها لهند
وهي تسأل بشغف المشتاق لجواب يشفي قلبها المعتل بالأوجاع:
- هند قول لي, وش صار لولدي؟!! ليش تغير كذيه, قول لي؟!!! ريحيني, ريحيني .
وأغدقت عيناها السخيتان بالمزيد من الدموع
التي جعلت هند تتصلب بمكانها
فهي كذلك تبحث عن جواب لهذا السؤال الذي لا يكل ولا يمل يدور في عقلها بحثا عن جواب يهدأ نفسها المتألمة لحيرة أدمته بخناجرها
___
ما أن وقع بصرها على من يقرع الباب من العين السحرية, حتى بوزت بضيق, وقالت:
- أفففففف, وش يابها هذه الحين؟ ما يخلون ( يدعون ) أحد يرتاح أبد.
وأخيرا بعد صرخات لا تريد أن تصمت من جرس الباب, فتحت وأنهت معاناته
وقالت وهي تضع قناع الفرحة الغامرة على وجهها:
- يا مرحبا بعمتي.
لترد عليها بجفاف الضيق المتعلق بمحياها:
- أهلا .. أهلا.
فسألت حتى تقتل هذا الحديث وهو في المهد, فهي لا تطيق حتى النظر لها:
- وين ولدي؟
في داخلها كانت تتلوى من شدت الضيق من تصرفات هذه العجوز الشمطاء, التي بنسبة لها تمثل المكر والدهاء, وهي العقل المدبر لفكرة زواج محمد بغيرها, أي باختصار هي عدوتها اللدودة, والذي يجب أن تتغدى بها قبل أن تتعشى بها
فقالت وهي تعكس صورة نقيضه تماما لما يتجسد في داخلها من مشاعر:
- والله المسكين نايم, حليله, طول الليل ما نام, ممتكدر من إلي صار, وا علي عليه.
وخللت نظرت الحزن بين أهدابها
زمت شفتيها, وهي مدركة لمكر هذه الحية, وقالت وهي تنفث ريح الضيق من رئتيها بقوة:
- يلا عيل بروح أشوفه, وأطمن عليه.
وحثت الخطى نحو غرفة النوم
لتسد الطريق عليها ذراع حصة الممتدة أمامها
لترد عليها بنظرات ملؤها الدهشة
ولتقابلها حصة بنظرة بريئة
وتقول بمياعة تنقطها أم محمد:
- حرام خالتي, خليه ينام, لمن كمن ساعة نام, حرام, تعالي وقت ثاني وكلميه.
صرت على أسنانها, وعقدت حاجبيها المندسين وراء برقعها, وقالت بضيق لا يخفى على سامعيه, وهي تدفع بالحاجز المانع لتقدمها بعيدا عن طريقها:
- والله ما بيموت محمد إذا صحى كمن دقيقة.
ورمت عليها نظرت تحدي
وأكملت طريقها
حتى لا تجعل للحية الرقطاء حسب قولها
مجالا لفعل أو حتى قول شيء
لتنغمس حصة في بركان غضب مشتعل
وهي تطلق شرارات عينيها
جهة أم زوجها الثقيلة على قلبها
وتقول بحنق:
- أوووووووووووووف منكِ لصقة, ما تفهميني؟ الحين لازم بتروح تزن على راسة كعادتها, بس هذا ويهي ( ومررت أناملها تحت ذقنها الرفيع وأكملت تنفث غضبها في كلماتها ) يالعيوز إذا سمع محمد كلامك مرة ثانية.
___
دخلت غرفته على عجل
لتجد الظلمة تفترش المكان
مع بعض خيوط الضوء المنسابة من وراء الستارة الحاجبة عنها الرؤية
وجدته نائما قرير العين
مندثر وراء غطاء الوفير
ممتدا على بطنه
بسكون
فهجمت عليه من فورها
وهزته بعنف لكي يستيقظ
وهي تناديه باسمه لكي تسرع عملية استيقاظه:
- محمد .. ولدي قوم ...قوم ..محمد أنا أمك ..قوم..
فتح جفنيه بخمول لازال يسيطر بجسده
وقال وهو لايزال في كنف النوم يعيش:
- هاااااااا, وش ( ماذا ) هناك؟!!
عادت تهزه بعنف أشد من قبل
وقالت بحنان تسكبه من شفتيها:
- حبيبي قوم, الحين وقت صلاة وأنت نايم قوم, يلا حبيبي قم.
أخذ يمد أطفاله المرتخية بغبار النوم
فينفضه منها
ومن ثم قام جالسا
وهو يدعك عيناه براحة يديه
ويقول بصوت أثقل بلعاب النوم:
- مرحبا أمي ...
فباغته التثاؤب
ومن ثم عاد يكمل جملته وهو يفتح نصف عينيه اللتين لازلتا يطمعان بالمزيد من النوم
- أشحالك ( أخبارك ) أمي؟
لترد عليه والكدر يزيد من تجاعيد وجهها:
- ما بزينة ( ليست جيدة ) يا ولدي, ما بزينة.
حدق بها بعينان بدأتا تطردان النوم منهما:
- خير أمي, وش هناك؟!!
لتطأطئ رأسها كأنها ارتكبت جرما, وتقول بصوت يميل إلى الهمس:
- ما أعرف وش أقول لك الصراحة يا محمد, بس أنت في الأخير بتعرف ( وزفرت بضيق وهي تكمل حروف جملتها ) اليوم يانا ( جاءنا ) أبو سعيد, ويقول...ويقول أنهم غيروا رأيهم, ومو ....ومو موافقين على العرس ( ثم أخذت تهز رأسها بأسى وهي تنطق بكلمات أندس فيها الضيق ) ما أعرف وش هالناس؟ ما يستحون؟ من كم يوم قالوا موافقين, والحين يقولون مو موافقين ( رفعت رأسها بغتة لتكشف عن حنق يصبغ وجهها الخمسيني ) يحسبون ( يضنون ) هالموضوع لعبة.
لتفاجئ بردت فعل لم تكون في حسبانها منه
حيث عواد يمد أطرافه ليبعد الخمول عنهن
وقد غمس وجهها في بئر من عدم الإكتراث
وقال ببرود يعاكس الثوران الذي يشتعل في صدر أمه:
- والله يا أمي هم الخسرانين.
لتتبلم لثواني أمه
فهي لم تحسب ردت فعل كهذه تبدر منه
لكن ما لبثت أن جمعت أوراقها المبعثرة من جديد وقالت وابتسامة مرتعشة تخنق شفتيها, وهي تجلس بجنبه على السرير:
- صح كلام يا محمد , هم الخسرانين, وين بيلقون ريال مثلك, جمال وشباب وأخلاق, لا تخاف ولدي, من اليوم بدور ( أبحث ) لك عن بنت أحسن منها بوايد, تليق بك.
هنا كسر جليد عدم المبالاة من عيناه المشرعتان
وقال و الارتباك يطعن كلماته الخارجة من حنجرته:
- ليش أمي ؟!! ما يحتاي تتعبين نفسك, وبعدين تعرفين أمي الظروف ما تساعد أنا ريال عندي ديون فوق راسي, خلي هالموضوع لبعدين, والا أقول لك ( ووضع يده على فخذها المطوي بقربه ) أنسي هالموضوع نهائي, العرس يباله مصارف وأنا مو مستعد, تعب, وبعدين أمر العيال لاحق عليه, وحصه وحليلها ما فيها عيب, بس الله ما كتب الحين نيب ( نحضر ) عيال, مثل عمي ( قالها بحماس, لكي يثبت صحت قضيته, وينهي الجلسة من أول جولة ) عمي وحرمته ما ييابوا سيف إلا وهم على كبر, يعني هذا موضوع وراثي, البنت ما لها ذنب فيه.
كانت تنظر إليه فاغرة فاها من الدهشة التي شلت وجهها
ومن ثم قال وهو ينحت تلك الابتسامة الواسعة على شفتيه:
- يلا أمي أنا بترخص أتوضئ, ولحق على الصلاة, وأنتِ حياك الله عندنا على الغدى.
وهب لكي يقوم
حين شلت حركته بيدها المحيطة برسغه
وقد علا عيناها نظرة من الحيرة:
- وش إلي صار محمد؟!! وش إلي غير رايك؟!!
وهي في قرارة نفسها عندها يقين بأن الحية الرقطاء لها يد في هذا التغير المفاجئ
أزدرد ريقه ببطء وهو يجمع الكلمات على بساط لسانه, ليحلق بها نحو مسمع أمه:
- ما أحد, أنا نفسي درست الموضوع, ولقيت أنه ما يناسب لي, إلا بيزيد مشاكلي مشاكل, وأنا الصراحة ما في على وجع الراس, يلا أمي اسمح لي, لازم ألحق على الصلاة في المسيد.
فحرر رسغه من حبل يدها
وهرب نحو الحمام
نفذا من مجهر أمه
التي لجأت لكلام النفس, لكي تفجر غضبها الكاتم على أنفاسها:
(( الله لا يوفقك يا الحية الرقط على إلي سويتيه بولدي, خليتيه يغير رايه بهالسرعة, صدق أنكِ مب ( لست ) سهلة ))
وزفرت ما تبقى من غضبها المتضخم في صدرها في أنفاسها النارية
وهي تحث الخطى لتخرج من هذا المنزل التي تجثم صاحبته البغيضة شكلا وخلقا على صدرها فتخنق أنفاسها
كانت قد سمعت كل حرف دار بينهما
فأعلنت الأفراح في داخلها
على هذا الفوز الكاسح على عدوتها اللدودة
كانت على وشك أن تفتح الباب الرئيسي للمنزل
عندما سمم سمعها فحيح الحية:
- وين عمتي؟ ما شبعنا من شوفتك, خليك عندنا تتغدين, ترانا أشتقنا لك وايد.
قالتها بدلعها الكريه على قلبها النابض بقوة تكاد تهشم قفصها الصدري
ردت عليها من وراء أسنانها
وهي معطيتها ظهرها
فهي آخر شخص تريد أن تراه في هذه اللحظة:
- لا شكرا, غدايه ينتظرني في بيتي.
وبسرعة البرق فتحت الباب
وأسرعت الخطى جهة السيارة
فقدماها لم تعودان قادرتان على حملها من شددت الغضب الذي يهز جسدها المسن
__
دقائق عجاف طوال, تأبى بأن تنهي لغة العذاب بجواب الشفاء والراحة
باتت هذه الدقائق كدهور لا تريد أن تنتهي
فتريح القلوب التي أضناها الانتظار
رفع رأسه
ليجدها على حالها جالسة أمامه
كخلقة بالية
لا تسكنها الروح
بين أحضان أم سيف المتمتمة بدعاء
حشرت نفسها تلك الذكرى الموجعة في عقله
ذكرى آخر أيام أبيه المرحوم
كان كحال شمسه حينها
وربما أشد
فهو كان لوحده
يرى عذاب أبيه وروحه التي تريد أن تهرب من عذاب جسده المتداعي
الذي لم يجعل فيه الخبيث إلا عظاما منخورة
مكسوة بجلد مهترئ
وضع كفه على جبينه الدبق من كثرت العرق المتصبب عليه
وأخذ يمسح جبينه
لعل تلك الذكرى تهجره
فمريم لن تموت
لن تموت
سوف تعيش
لن يحصل لها كما حصل لأبي
حاول بهذه الكلمات زجر تلك الذكرى السوداء
وإشعال روح الأمل في صدره
حين جاء الفرج أخيرا
يتمثل بصوت الباب الذي تزحزح من سكونه بعد دقائق مضرجة بوجع الانتظار الرهيب
هب من مجلسه من فوره واقفا
ونظرت الشغف لجواب ينهي خوفه تلف عيناه بيد من حديد
أما شمسه
فقد قفزت من بين أحضان أم سيف
وهرعت نحو الطبيب الأجنبي
وأخذت تنهال عليه بالأسئلة بنفس واحد
وقلبها مقبوض بجزع الموت
بادرت الممرضة التي كانت من بلد شقيق تهدءة روع شمسه, بابتسامة تسكن شفتيها, وبكلمات تبل ريقها الجاف من شدت الخوف العاصف بداخلها:
- ما تخافي, الحمد لله مريم بخير هلاء, عدت الأزمة على خير.
لتفتح شمسه فمها وهي تلتهم أكسجين الحياة من جديد
وبدأ شيء من السكينة ينشر عباءته على وجهها المرتاع
لتهلل أم سيف بفرح من وراءها وهي تقول:
- الحمد لله, الحمد لله, يعني الحين زال الخطر بنتي.
لترد عليها الممرضة, وبسمة الطمأنينة تعانق شفاهها:
- الحمد لله هلاء ما فيه خطر, بس لازم تاخذوا بالكم عليها كتير, حتى ما يصير إلي صار مرة تانيه.
وضعت يدها على قلبها
وأثنت أصابعها, لتشد الخناق على قلبها الصارخ بصوت التأنيب
ونكست رأسها بخجل
فهي المتهمة الأولى للذي حصل لمريم
فبسبب إهمالها كادت مريم أن ترحل من هذا العالم
لاحظ تقوقعها المرير
وترجمه بأنه الملامة
كما صار قبل قليل في الحمام
فتنهد هو الآخر
وكأنه يشعر بحرقة قلبها
في حين أن أم سيف الطائرة من الفرح بخبر نجاة مريم:
- مشكوررررررررررررررة بنتي, والله يجزاك خير, وإن شاء الله ما بنخلي ( نجعل ) هالشيء يصير مرة ثانية.
لتهز الممرضة رأسها بحركة مؤدبة, وتستأذن لرحيل هي والطبيب.
فأطلقت أم سيف العنان لساقيها
لتتوجه جهة غرفة مريم
والفرحة تشع من وجهها المغطى بستار البرقع البراق
لتجذب معها بكلماته شمسه:
- يلا بنتي شمسه, خلينا ( اجعلينا ) نشوف مريوم, الحمد لله عدت على خير.
لتطأطئ شمسة رأسها أكثر من قبل, وتقول بصوت هش, أعياه حمم الملامة:
- بعدين بلحقك عمتي, أنا بروح أيب ( أحضر ) شيء أشربه, تراني ( فأنا ) عطشانة.
لترد عليها أم سيف وهي تفتح الباب:
- تمام عيل, أنا بسبقك.
وتندفع كريح داخل الغرفة
تاركة شمسة تستسلم تماما لعقاب الذات اللوامة .
أما هو فلم يدعها وحالها
ظل يسلط مجهر عيناه عليها
يرصد فعلها
بأدق تفاصيله
فهو كان في يوم من الأيام في نفس وضعها
لهذا هو يعلم جيدا طعم الحنظل الذي تتجرعه الآن
تحركت أخيرا بعد سكون شل جسدها لدقائق
وليتحرك هو الآخر وراءها
كأن هناك حبل خفي يصل فيما بينهما
__
كانت متقوقعة حول نفسها في أحد زوايا البهو الرئيسي المستشفى
وهالة سوداء تحلق فوقها
وعبرات تنغز عينيها تتمرد على حبسها الإجباري
فهن يردن أن يرين النور
لم تستطع أن تستجيب لطلب عبراتها الحارقة لجفونها
فحشود الناس تخنق حريتها
لسكب آهاتها
وتفريج همها بفرازة دمعها
اخترقت هالتها المعتمة
يد محملة بقنينة ماء معدني
نظرت نحوها والتعجب يرسم عيناها
فتتبعت هذه اليد
حتى وصلت إلى وجه صاحبها
أنه هو
ذلك الدخيل
الذي اقتحم حياتها المنعزلة
بدون إذن
لقد كان مبتسم المحيى
حين قال:
- قلتِ أنك عطشانة.
ليجيئه جوابها بإشاحة وجهها بعيدا عنه
وتعود تلك اليد خائبة الرجاء نحو صاحبها
ويقول وقد أطلق تنهِدة وجع:
- أنا أعرف شعورك... أنا عشت حالتك هذه قبل سنتين مع والدي ... كان فيه الخبيث بعد..
كما يبدو بأن كلماته قد شدت انتباها, حيث لمح ارتفاع مقلتيها جهته
فسترسل في الحديث, وألم الذكرى يفتت قلبه:
- أنا كنت المرافق لأبويه لرحلة العلاج, فما كان أحد جنبه غيري, وما كان يشوف وجعه غيري, كان هذا يعذبني لكني ما قدرت أفضفض لأحد, قعدت كاتم ألمي في قلبي وساكت, والأمر من ذاك أنه أنا كنت الشاهد على عذابه في الأيام الأخيرة, يوم غدى كومة عظام ما فيها روح, هذه الصورة بعدها مطبوعة في عقلي ما تريد تنزاح, حتى أنه ما كان يقدر يتكلم ( صمت وهو يشعر بتلك العبرات التي همرها في الماضي تعود إلى جوفه )
أما هي فقد رفعت رأسها وقد قرصها قلبها من وجعه الذي يسكبه على مسمعها
ومن ثم أكمل وقد خفت صوته المرتعش:
- صحيح أبوي مات, لكنه كان ريال كبير وفيه أمراض ثانية في حضر الخبيث وكملها عليه.
سلط وبدون سابق إنذار عيناه التين تخطان التصميم, وقال وقد جهر صوته:
- لكن مريم بتعيش, مريم غير, بتعيش, أنا حاس بهالشيء, حاس صدقيني.
وأخذ يضرب على صدره
اتسعت حدقت عينيها وهي تنظر نحوه ولا تعلم ماذا تقول
سبُتت الأحاسيس بداخلها للحظة
فلم تشعر بشيء
سوى بتلك العبرات التي اشتد تمردها وراء حاجز عينيها
لاحظ تلك العينان المحمرتين اللتين تجاهدان لكبت صوت دموعها
فقال لها وهو يرخي من عضلات وجهه:
- بكي .. صدقيني البكاء يريح وايدددددددد, فبكي ولا تمنعين دموعك من غسل أحزانك.
أخذت برمي مقلتي عينيها يمنتا ويسار بحثا عن مهرب من عيون الناس التي تحرمها من صب وجعها
ومن ثم ما لبثت أن دست رأسها بيأس بين يديها
وهي تحاول منع أنفاسها الباكية من الخروج من حنجرتها المرتعشة بصوت البكاء
جاءها صوته الرجولي يندس إلى طبلت أذنيها وهو يقول:
- شمسه أنا بأغطيك, عشان ( حتى ) تأخذين راحتك في االبكي, وأوعدك أني ما بلتفت علين ( حتى ) تقولي لي.
فرفعت رأسها من غطاء يديها
والدهشة لوجهها عنوان
لتجد شفتيه تبرقان بابتسامة
ومن ثم أعطاها ظهره
وقال:
- يلا ما أحد الحين ( الآن ) يشوفك.
كأن جملته هذه هي مفتاح تحرير عبراتها من قضبان السجن التي أودعتها فيه
فخرجت حشود الدمع
غير متيحة لشمسه مجالا لتفكير
وهي كذلك لم تقاومها
فروح القتال لديها قد أعلنت استسلامها منذ زمن بعيد
فزخت تلك الدموع
وأطلقت تلك الآهات المحبوسة في صدرها
تخلل نشيجها الخافت مسمعه
فابتسم والراحة تغلف صدره
وهو يقف كسد منيع لا يتزحزح
أمامها
حاجبا عن الناس رؤيتها
وموفرا لها خلوت النفس الحزينة التي طالما بحثت عنها
__
ما إن دخل البقالة
حتى هجمت عليه يد
قرصت أذنه
ليتأوه
ويتلوى من الألم
وهو يسمع صوت أبيه الملتهب يصم أذنيه:
- يا الدعلة, يا الي ما فيك فايدة, وين غطيت؟!! لك أكثر من ساعة توصل طلبية بيت أبو حمد, والبيت مو بعيد ربع ساعة وترجع, وين رحت يا الغبي؟!!
من بين آهات الوجع, أخذ يقول:
- لاقيت واحد من الربع ( الأصدقاء ), ما شفته من زمان, فقعدنا نتكلم.
هذه المرة لم يكتفي بقرص أذنيه
بل أنهال عليه بالخيزرانة
لتعلو صرخات الفتى المتألمة
وهو يغدق عليه حممه في قوالب كلماته:
- يا الغبي وقاعد لي فوق الساعة تتسامر مع ربيعك, ما تقول أنه وراك شغل, تعرف كم طلبيه تكنسلت ( ألغيت ) عسبك ( بسببك ) يا تنبله.
ليصرخ بأعلى وتر من صوته المتوجع:
- والله ما أعيدها يا بوي , والله.
ليذيقه غير آبه بكلماته المزيد من طعم خيزرانته الملهبة للجسد
ويقول والغضب لا يفارق لسانه:
- كم مرة حلفت لي, وكم مرة صدقتك, وكم مرة تغط وتكرر سواتك الوسخة, أبا أعرف وين تروح كل يوم في ها الساعة, وين؟!!! لا تقولي كذباتك القبلية لأني حفظتهن, قول الصدق أحسن لك, والله تراني ما بخليك اليوم يا أحمد.
أرتبك أحمد وهو لا يعلم ماذا يقول لأبيه, فإذا قال الحقيقة فسوف يسلخ أبيه جلده عن عظمه, فهو يعرف والده جيدا..
فما خرج من فمه إلا كلمات متلعثمة لا صلت لها ببعضها البعض:
- ها.. أنا ... هو ... كنت ...
ليأتي صوت الهاتف المنجد لروحه
ويقطع سلسلة تعذيبه
واستجوابه
__
وصلا إلى آخر طريقهما
كانت تسبقه بخطوتين
في حين كان يمشي وراءها والحبل الخفي يقتاده وهو منكس الرأس
لم تعلم كيف تتصرف
فمنذ أن أهداها فرصة التفريج عن مكنون قلبها الباكي
لم تنبس ولا بحرف له
حتى بكلمة شكرا لم تنطق
فشعرت بالحرج وهي تمد يدها نحو مقبض الباب
فالرجل يلحق بها
ولا تعلم لماذا
ربما لأنه يريد كلمة شكرا تنبس بها
لكن ألهذا السبب يتبعها ؟!!!
أسئلة
وأسئلة
وكالعادة عقلها المغتم
لم يقدر على إنهاءها ولو بجواب صغير
تنهي حلقت البحث الدءوب عن جواب
في معمعتها هذه
تلجمت عن الحركة
وعن لغة الكلمات
ليكون كعادته في الساعات الماضية المنقذ
بقوله وهو مكبل نظره الثقيل بالأرض:
- أنا آسف.
رفعت رأسها المثقل بالتساؤلات
والدهشة ملء جفونها المحمرة من ملح الدموع التي همرتها
ليرفع هو رأسه
ويُنجدها بالجواب:
- لأني صفعتك, لكن أنا نفسي ما كنت بوعي ساعتها, كنت ميت من الخوف, وعملت أول شيء خطر على بالي.
وعاد يهرب ببصره الخجول بعيدا عن منظار عينيها
لتتراجع حشود الدهشة عن قسمات وجهه
أمام طيف ابتسامة احتلت شفتيها
ولو لثواني قلائل
وقالت:
- أعتقد أنه أنا لازم أن أقول لك شكرا, فأمكن لولا صفعتك لكنت على حالتي.
فوجهت بصرها المتكحل بالخجل جهة المقبض
وجعلت أصابعها المرتبكة
تتراقص على مقبض الباب
لعلها تلهيها عن ارتباكها
الذي اتضح كشمس تسطع في كبد السماء
على صفحت وجهها
وقالت بصوت بالكاد لامس طبلت أذنيه:
- وبعد أشكرك على وقفتك معايه قبل شوي.
هز رأسه يمتا ويسارا
وقد طوقت محياه ابتسامة :
- ما في داعي لشكر, فهذا واجبي, فنحن إلي لنا تجارب مع ها المرض, لازم نقف مع بعض, ونشد من أزر بعض.
لم تقول شيئا
فالكلمات انصهرت في فمها
فالحرقة عادت تبلل لعابها
على ذكر ذلك المرض اللعين
فكتفت بهز رأسها بنعم
ثم ظلت تتمالك نفسها التواقة لمزيد من طعم الدموع
وهو يخصها بنظراته المتتبعة
لتنشج ريح الكتم لصوت البكاء الذي علا بداخلها إلى رئتيها
وقالت وهي لم تبعد عينيها عن مقبض الباب, بصوت ضعيف:
- يلا عن أذنك.
وبدأت في تحريك المقبض الصائم عن الحركة
لتستوقفها كلماته :
- ممكن.
لتهجم عليه بعيني التعجب
فابتلعت ريقها وهي تقول بتوجس:
- ممكن أيش ( ماذا )؟!!
ليرد عليها بابتسامة تنبثق من شفتيه:
- أشوف مريم, وأطمن عليها, إذا أمكن؟
لتنصب الراحة على صدرها المرتاع
وتقول وابتسامة طرفيه تخترق شفتيها المغتمين:
- ممكن, بس ثواني.
ليهز رأسه للأعلى والأسفل
والبسمة رفيقة الدائم
وتدخل هي أخيرا الغرفة
__
أخذت تلعب بأصابعها بحركة ساخرة وهي تغدقُ عليهن بكلمات الشماتة المحبب على قلبيهما البغيض:
- لو شفتنها قاعد تتحرقص من الضيق, لو قدرت أصورها لصورتها لذكرى عيوز النار.
لتعلو ضحكاتهن المتشفية
لتتصدى أم حصة لمهمة أول المتحدثين بعد موجة الضحك:
- تستاهل, ما أحد قال لها تلعب بنار.
ولتسكب عليها أختها شيخه بمياه التأيد:
- أيوه ... أهي ما تعرف مع من تلعب.
لتقول حصة وقد رفعت صدرها بكل فخر:
- والله لأوريها نيوم ( نجوم ) الظهر خرابة البيوت هذه.
وعادت تلك الأفواه الملوثة بسموم الشماتة تطلق ضحكات النصر.
أخذت شيخة تتلوى كثعلب جائع, وهي تكسو جلدها بلونه الماكر:
- لا تنسين حبيبتي حصة أنه هذا بسبب عمايلي.
لتضرب حصة بضربه خفية على فخد خالتها الجالسة على يمينها, وتقول وابتسامة النصر تأبى هجرها:
- كيف أنسى ها الشيء خالتي, لولاك لكنت أنا في خبر كان.
لتشق ابتسامة ماكرة على محياها, وتقول وهي تمد كفها نحو حصة:
- عيل وين الحلاوة إلي واعدتني بها حبيبتي؟
__
بيد تضم ابنتها إلى صدرها المشتاق لملامسة حركة صدرها المتنفسة
واليد الأخرى تدلك رأس ضناها الصغير
ورموشها ترفض أن تطرف
فتفوت فرصة رؤية صغيرتها وهي تتنفس أكسجين الحياة
وجسدها يمتد بجوار فلذت كبدها ملاصقا لجسدها الغض
لا تريد أن تتركها ولا لثانية واحدة
كما فعلت منذ ساعات قلائل فندمت كل الندم
لا ترغب أن تنغمس في بحر الملامة من جديد
لن تفارقها ما حيت بعد الآن
هكذا عقدت العزم في داخله
وهي تحتضنها أكثر من ذي قبل
جاء صوت أم سيف ليضع حدا لصمت المحيط بالغرفة:
- يلا شمسة أنا بترخص, تأخرت وايد على العيال وأبو سيف.
رفعت رأسها ببطء حتى لا تزعج سكينة طفلتها
وقالت بصوت اتخذ طريق الهمس مسلكا له:
- مرخوصة عمتي, سلمي على عمي وايد, وبوسلي العيال.
فابتسمت عيناها الشامختان من وراء حواجز البرقع
و قالت:
- إن شاء الله, أنا إن شاء الله من طلعت الشمس بيي ( أحضر ) تبين أيبلك شيء معايه؟
ردت عليها بهز رأسها بنفي, وأردفت قائلة:
- لا سلامتك.
لتودعها أم سيف بخير الكلام:
- مع السلامة.
وبصوت لازال يميل إلى الهمس:
- مع السلامة عمتي.
لتندفع أم سيف جهة الباب
لترجع شمسة إلى وضعيتها السابقة
لتهمس في أذن ابنتها الثاقلة جفونها:
- حبيبتي خف صداع راسك, وألا أكمل همز ( دلكه ) ؟
لتكتفي بهز رأسها بوهن بمعنى نعم, وهي زامت شفتيها, فالصداع يفتك برأسها
لتطبع على جبينها قبلة حانية, وتقول وقد تشربت من كأس وجع ابنتها:
- يا عمري, بيروح الوجع, لا تخافين.
وعاودت تدلك رأسها
لتبتر حركاتها صوت أم سيف وهي تقول:
- شمسة حميد بره يقول أنه يريد يشوف مريم.
لتضرب بكفها جبينها, وهي مغمضة العينان وتقول:
- أووووووووووه, نسيته لما شفت مريوم, دقايق بس.
فعدلت من جلستها وهندامها
وقالت لأم سيف:
- خليه يدخل.
ليدخل بعد ما أن أذنت له أم سيف وهو مطأطأ الرأس, لتبادر شمسة بالحديث والخجل يصبغ وجهها:
- اعذرني, والله لما شفت مريم نسيت علومي.
ليهز رأسه بمعنى لا توجد مشكلة, ويؤيدها بكلماته:
- مو مشكلة, أنا مقدر الوضع.
لتقفز أم سيف بكلماتها مقاطعة حديثهما:
- اسمح لي حميد, أنا لازم أروح.
ليلتفت إلى أم سيف وقد علا برأسه بزاوية حادة, ويقول:
- مسموحة خالتي.
لتقول أم سيف:
- يلا عيل, مع السلامة.
ليودعها كليهما بنفس واحد:
- مع السلامة.
لترحل أم سيف
ويبقى هو وهي ومريم لوحدهم
شعرت بعبق الغرابة يفوح في الغرفة
والهدوء يعزز منه
لتقوم من على السرير, وقد احتارت مقلتيها أين تستقر
وقالت بارتباك يعثر حركت لسانها:
- تفضل أستريح.
وأشارت نحو السجادة التي تفترش الأرض.
ليجبها وقد اكتفى برفع عينيه صوبها:
- مشكورة, بس أنا جيت بس عشان أطمن على مريم, ورايح, كيف حالها الحين؟
لتصوب عيناها نحو مريم المستلقية بخمول على السرير
وتقول:
- اسألها بنفسك؟
ليخطو باستحياء نحو الطرف الآخر للسرير
ليصبح مواجها لشمسة
وقال وقد علت الابتسامة على شفاهه:
- أهلا مريم, أخبارك؟ وش ما عرفتيني؟!!
أخذت تحدق به بعينان شبه مفتوحتان
وهي تقلب عقلها بحثا عن وجهه في زواياه
لتتشكل ابتسامتها المشرقة من جديد وإن كانت مهزوزة وقد لمعت ذكراه في عقلها
وتقول بصوت أجهده التعب:
- وين ( أين ) هديتي؟
لتنفجر أساريره
وهو يقول لها ممازحا:
- الأول ... وين (أين ) لوحتي؟!!
وشمسة تشعر بالضياع بينهما, فهي لا تفهم شيئا من حديثهما
لتلف برأسها ببطء صوب أمها وتقول لها بنفس نبرة الصوت المتهالك:
- أمي .. يبي ( أحضري ) لي دفتر رسمي.
لتغدق على ابنتها بابتسامة حانية تخفي وراءها كومة من الوجع
وتذهب نحو الدولاب حيث الدفتر يقبع
وتعود لحميد سائلة بصوتها الذي اشتد خفوته:
- الحين ( الآن ) .. وين هديتي ؟
لتطوق الابتسامة محياه من جديد, لكن ما لبثت أن زالت وقد خطر له بأن الهدية لم تعد بحوزته فقد فقدها في معمعة الحادثة
فأخذ يبحث عنها بعيناه في أرجاء الغرفة
لترصدها عيناه أخيرا
ملقاة بالقرب من ستارة الغرفة
فيخطو بتسارع جهتها
لينحني ليمسك بها
حين استشعرت حاسة سمعه نشيجها من وراء باب الخزانة
فأحس بوخز في قلبه
وهو يسبح في باله خاطر مؤلم, بأنها مهما بكت فلن ترتاح روحها المعذبة حتى تشفى ابنتها.
استيقظ على صرخات مريم المتسائلة:
- وش تسوي ( ماذا تعمل )؟!! وين هديتي؟
لينتصب
وقد ارتدى قناعا باسما
وقال وهو يلتفت جهتها وقد رفع يده المحملة بالهدية:
- هذه هي هديتك.
ومدها نحوها وقد بات على مقربة منها
ليتهلل وجهها المنصهر بروح الإجهاد بالفرح
وتقول والسعادة تنسكب في كؤوس كلماتها:
- الله .. كبيرررررررررره وايد.
ليرد عليها والبسمة ملصوقة على شفتيه:
- ما قلت لك بيب لك هديه كبيرة, هااااا وش رأيك بي, ما وفيت بوعدي؟
لتهز رأسها بعنف بنعم
ومن ثم نادت أمها لكي تستعجلها وقد بدأ الوهن يتلاشى من محياها الرافض لوجوده في قسماته:
- أمي أمي, وين الدفتر..؟ بسرعة يبيه ( أحضريه )
لتمسح دموعها التي باتت رفيقتها الدائمة
وتقول وهي تدفع بقوى الصلابة في صوتها:
- يلا أنا يايه ( حاضرة ).
لتزفر تلك الزفرة الزاجرة لدمع بتوقف
وتشعل شمعة ابتسامة خافته على شفتيها المرتعشان
وتقبل نحوهما
لتقف موازية له
بمسافة لا بأس بها
وتمد يدها المحملة بالدفتر نحو مريم
التي قالت لها بسعادة تشع من وجهها:
- أعطيه عشان يشوف رسمتِ.
وكان الترقب قد نقش وجهها
نظرت إلى يمينها حيث يقف
وابتسمت باقتضاب وهي تسلمه الدفتر
ليقابل هو الأخر ابتسامتها بابتسامة, لكن في داخله يشعر بطاقة الوجع الكامنة في صدرها
لتتلاصق تلك العيون لثواني
لا تعلم تلك العيون لما الوصل يصل بينهما
فتقاطع تشابكهما صوتها المتحفز:
- يلا شوف الرسمة, أهي في الصفح الأخيرة, بسرعة.
لتكون شمسة أول من قطع خيط التواصل البصري, بالتفاتها جهة مريم
لينكس هو رأسه لثواني, وقد شعر بجبل من الحزن يجثم في صدره بعد أن أمتصه من عيناها المثقلتين به.
ومن ثم شرع بفتح الدفتر
ليصرخ بإعجاب :
- الله .. روعة ... أحل وايد مما تخيلتها.
كانت تريد أن تقفز من الفرح كعادتها, لكن جسدها المسلوب القوى خذلها
فرضخت لهز رأسها بنشوة الفرح مجبرة
وقالت والسعادة تراقص لسانها:
- صدق, عجبتك ؟
لينحني صوبها, ويقول وسحرها الطفولي يشعل ابتسامة صادقة تنبع من قلبه على شفتيه:
- بقولك شيء عني, أنا أبدا ما أكذب, عشان كذيه, يوم أقول لك أنه رسمتك حلوه, يعني أنها حلوه.
وضربها بسبابته ممازحا على أنفها المدبب
لتدوي ضحكتيهما
وهي تتابعهما
فتشعر شمسة براحة تصب على قلبها
لا تعلم من أين حلت عليها
__
لم يتضايق كعادته من عناد المصعد وتأخره
بل استسلم لشروده
فأين سوف يذهب بعد أن يخرج من هذا المصعد؟
لا بيت
لا أهل
ولا حبيبه
أصبح وحيدا
وكم يكره هذه الوحدة
التي تخنقه
طوال عمرة كان يحيط به الناس
لم يعش يوما واحدا بدون رفيق يأنس وحدته
لكن بعد أن زاره الضيف الثقيل الدم المسمى بالسرطان
أُطِر لكي ينفض أهله ورفاقه وأحبائه
بعيدا عن حياته
ليغدو وحيدا
وحيدا
وحيدا
وضع يده على وجهه
وتلك الكلمة البغيضة
يتكرر صدها في عقله
الناطق بلغة الحزن
وينضح بسؤال أكثر وجعا من سابقيه:
(( كيف بعيش آخر أيامي بدون أحد يكون بجنبي؟ كيف ؟!! ))
شعر بذقنه السفلى تستسلم لرعشة ريح البكاء القارصة
علا صوت المصعد معلنا وصوله أخيرا بعد طول انتظار
ليرن في نفس الوقت في رأسه صوت خافت, يحمل معه الجواب
ففتح عيناه مذهولا بما يهمس به عقله له
فيخترق صوت أنسي صوت عقله الملح عليه بفعل ما جاد به:
أخوي بتدخل اللفت ( المصعد ) وألا لا ؟ -
نظر إلى صاحب الصوت الذي بدت عليه علامات الضيق, وهو مابين عالمي حوار العقل والمنطق
ليعود نفس الشخص وقد حد صوته من شدت الضيق المتربع على وجهه:
- أخوي عندنا أشغال, بتركب وألا..
- لا
صرخ بها لا إراديا مقاطعا
فلم يكذب الرجل خبرا
شرع من فوره بالضغط على زر المصعد
ليغلق الباب
معلنا رحيله
في حين أن حميد أدرك ما نطق به لسانه متأخرا
فوضع كلتا يديه على فاه
مقوسا الحاجبين إلى أعلى
مشرع العينين
وما لبثت أن ارتخت يديه المطبقتان على فمه
فحررته
وتقلصت عيناه المذهولتان لترسما التصميم
ويلتفت إلى خلفه
فيدخل إلى صدره ما يقدر عليه من أكسجين
لكي يدفعه للقدوم قدما في تنفيذ ما عزم عليه
ويندفع بخطى واثقة جهة هدفه المنشود
ويقرع الباب بسرعة
فأي تأخر يعني التقاعس
والتخلي عن العزم وليد اللحظة
ليفتح الباب
وتظهر من وراءه شمسة
التي جعد وجهها الاستغراب ما أن رأته, فهو منذ بضع دقائق قد غادر, لتترجم استغرابها في كلماتها:
- خر حميد, هناك ش...
ليشير لها بيده بتوقف عن الحديث, وهو يعاود التهام الهواء, قبل أن يدفع بتلك الكلمات مرة واحدة حتى لا تخذله:
- أرجوكِ اسمعيني, ولا تقاطعيني, أرجوكِ شمسه, أمكن تضنينه جنون أو غباء, أو أي شيء, بس ... بس أنا أشوفه الحل الأمثل لي ولك ( وأشار بأنامله المتوترة نحوه ونحوها, وهو يجبر تلك الكلمات الرافضة للخروج من حنجرته لزيارة مسمعها ) عشان كذيه, أنا أريد أعرس بك.
لتخرج عينيها من محجريهما من هول ما سمعت
+++ يتبع +++
أرجو بأن يكون قد راق لكم الجزء ...
أختكم
وجـــــــــ الكلمات ـــــــــــــــع