السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مساء الورد والياسمين على قلوبكم
في البدء أوجه شكري الى أخواتنا
" أوركيد" و "فجر الآمال"
على استضافتي هنا
لكل منا تجارب لا تعد ولا تحصى ولله الحمد كما ذقت مر تلك التجارب والامتحانات المختلفة ذقت ما أثمر لي منها من صقل لشخصيتي وتقوية أيماني ويقيني بأن لنا ربا أحن من قلب الأم..لم ولن ينسانا..
لكنني لن أطرح أياً من تجاربي تلك،سأتكلم عن تجربة ...تجربتها "هي"
أردت أن أطرح هذا الموضوع رغما عن أنف الألم الذي يبثه في قلب كل من يكتبه او يسمعه او يراه او يعيشه..هو جرحُ غائر بل جروحٌ غائرة لا حصر لها ولا شفاء لها، بعيدة عن أعين الخلق وتصورهم ،تختبئ بقهرٍ تحت ثياب النكران والصمت
او تحت أقنعة الموت البطيء..أردت أن أكتب عن قصة سمعتها بأذني فدخلت الى قلبي مضرجةً إياه ودخلت الى عقلي فأتعبته لأنها تركتني...متألمة..مصدومة..وبلا حول ولا قوة..لا أملك أي دواءٍ أقدمه "لها"..إلا الدعاء.
أمسكت القلم فلم يطاوعني..فالمأساة أغمق من الحبر،لم يطاوعني قلمي فصوتها الذي بكى وشكا لي تلك المأساة يلجم قلمي ولا يسمح له أن يخط ما خفي...وصدق من قال وما خفي كان أعظم...
لكني مصممة أن أكتب ولو بالرموز..رموز أأمل أن تفهمها كل أم فلا تترك بناتها الصغار يتساقطنّ في جحيم مستنقع الجهل وأن يعلمنّ بناتهنّ أن هناك خطوطاً لا يمكن تعديّها من أي كان..ومع أي ٍ كان.
لذا سأكتب قصتها هاهنا بقصة قصيرة من نثر الأدب الرمزي..عن لسانها هي..
أرجو أن تصل بكم الى لب ذاك الوجع الذي بنى أعشاشه الشائكة المتربة في عقلها وقلبها ومشاعرها وجسدها..الى الأبد!
**بين جدران غرفتي القديمة**
تك تك تك ....
صوت الساعة يدق فوق رأسي الغريق بذكرياتي ويصم أذنيّ كأن عقارب الساعة الساهرة التحمت بعقارب الذكريات السوداء وأخذت تنشب مخالبها الحادة حول أجفاني ومقلتيّ وتنقض على النوم وتنتزعه مني تاركةً أياي على ضريح سريري وضريح ذكرياتي التي تأبى الزوال..تنهدت بالأنفاس التي لطالما التصقت بحنجرتي لتعذبني وأنا أشعر بالهدوء المجوف يلف غرفتي..هدوء لفني كشرنـقة ضيقة و شنقني حتى كدت أختنق..الملاءات البيضاء الدافئة تحتي تتحول دائما الى ثلوج ..الصمت حولي دائما يتحول الى أصوات تدور وتدور في عقلي المشبع برائحة الذكريات النتن...أشعر بالبرد والخواء وكأن هناك من يمد يده منذ الأزل في جوف صدري وينتزع قلبي الساكن من مخدعه..حتى نبضات قلبي في حالة سبات لا أسمعها..لا أشعر بالحياة التي من المفترض أن تمنحني إياها...شهقت حتى توقف الهواء في حنجرتي التي أرادت أن تصرخ "لكنهُ" خلف الجدران..فكرت بخوف جمدني هو داخل جدران بيتنا!!نفس الجدران التي لم تستطع أن تحميني منه!
هاجمتني ملامح غرفتي القديمة ككل مرة وككل مرة الحيرة والدهشة والخوف يقتلني ويذبحني ويخيفني لحد الموت!
يا إلهي رحماك إلهي!!سألت نفسي ككل مرة كيف اشعر بالحنين إلى تلك الغرفة!!
ضغطت بأصابعي المرتجفة على شفتيّ المتجمدتين وأنا أعتدل في سريري نافضةً الغطاء عني بقوة حتى ناحت ذراعي ألما.. وكأني أحاول طرد الحنين الذي لم أفهم سببه..ولكن الحنين قبع يلاحقني في غرفتي قاذفاً عقلي الملبد بذكرياتي المرة الى غرفتي القديمة...
انهمرت دموعي والحنين ينهمر بين ضلوعي التي اختنقت من تزاحم أسئلتي..كيف أشتاق الى غرفةٍ خُلق فيها عذابي..وتعلمت أبجدية الوجع فيها..كيف أحن إليها وأنا أهرب منها ومن ذكرياتها ومن "ملامحه" فيها ما إن أدركت كنهها ..كيف أحن إلى الغرفة التي حولت صندوق ذكرياتي الى أفاعٍ تتلوى معتصرة قلبي وبدني..كيف أحن وهناك شنقت طفولتي بحبال عدم رحمته وجهلي؟!
احتضنت وجهي وأنا أبكي وأبكي والحنين يبكي ويسوق قدمايّ اللتين لم تعودا قادرتين على محاربة حنيني فوصلت الى الباب ثم الى السلالم..ضغطت أصابعي أكثر وأكثر على فمي أمنع تلك الصرخة الجاثمة في جوفي منذ الثامنة من عمري أن تخرج وتفضح ألمي المكبوت...
صعدت درجة درجة والحنين يدفعني إلى غرفتي القديمة..وتجويف في صدري يدعو الى من خلق كل ذرة مني أن يرحمني ويسامحني...صرخ عقلي...كفي عن لوم نفسك لست السبب..لست السبب!! هو السبب..كنت لا تفهمين وهو يفهم..كنت لا تدركين وهو يدرك.. كنت تجهلين وهو يعلم!
مددت يدي الى قبضة الباب الفضية..نفس قبضة الباب التي كان يفتحها ثم يغتال روحي..وأنا لا أدرك ماذا يحدث.
ضحكةٌ مريرة شقت ثغري وأنا أذكر سذاجتي وأنا أصدقه وهو يقول لي.."فلنلعب لعبة"..ذكريات تلك اللعبة قصمت ظهري طوال سنوات عمري.
عزتني الذكريات تحاول تطبيب جروحي وأنا أفتح الباب الخشبي..عزتني بحجة فاشلة لاطائل منها ..قالت هو لم يأخذ كل شيء..ضحكت بمرارة..لم يكمل اللعبة!
فاضت دموعي وهذا كان ردي لعزاء الذكريات..شهقت بمكتوم صرخاتي وأنا أغلق الباب العتيق من جديد..أعتصر قلبي وانفجرت أذنايّ من فرط أصوات الأيام..
كل شيء يصرخ بجنون...الهواء..النوافذ..الجدران..الأرضية..علامات اللوحات..كل شيء يصرخ حولي..ضغطت يديّ فوق أذنيّ لا أريد سماع أي شيء..لا أريد سماع صوته وهو يأمرني وأنا أنفذ بجهل ..أجهشت باكية ولكن أنفاسه مازالت تراودني..تنفرني..تخيفني..تلازمني للأبد...
كل شيء هنا تغير ..لون الجدران...الأثاث...السجادة اللعينة التي كانت تغطي الأرض..لكن الصورة لم تنتزع من أمام عيني كأن قدري أن لا أرى هذه الغرفة إلا بعين الألم والقهر كما كانت منذ سنوات وأن لا أراها إلا بحروق ظلمه..
انحدرت دموعي لتسقط فوق وجهي الممتقع كستارة شفافة أليمة لم تمنع بصري من أن يرى ويشعر ويعيش مرة أخرى تلك الأيام الحالكة..التي لم أدرك سوادها حينذاك! لم أدرك ماسلبته مني حتى كبرت ووعيت.. وزال جهلي، فدمرني إدراكي بعد فوات الأوان!
تمتمت والغصة تخنقني وأنا أرمق الألم يتدلى على ستائر الغرفة المتربة...وأنا أرى ذنبا ليس ذنبي يتدلى من السقف وأنا أرى وجهه يطوف كالأشباح في الهواء يريد اغتيال روحي قبل جسدي..
_أنا أكرهك لما كنت عليه في يومٍ من الأيام..أكرهك!
ارتجفتُ وأنا أغطي فمي بيدي من جديد و بصري قادني وهو يترنح في قبضة أغلال الخوف نحو ركن سرير الطفولة...حيث انتُزعت الطفولة...صرخت ذكرياتي تعزيني من جديد ..هو لم ينتزع كل شيء!لم ينتزع .....
ففاض دمعي أكثر وأكثر وصرخت في وجه الجدران الشاحبة وكأنها وجهه .. بصمت مطبق قطع قلبي قطعة قطعة من فرط الألم.."سلبتني كل شيء..سلبتني طفولة سعيدة كنت سأتذكرها في كبر سني ..سلبتني طمأنينةً بين جدران جسدي ..سلبتني احتراماً كنت سأكنه لك اليوم.. كل يوم أراك وأحاول فصل ذكرياتي عن حقيقة ما فعلت بي,كيف استطعت؟!كيف تستطيع أن تنظر في وجهي اليوم وكأنك لم تنتزع روحي من جسدي دون أن أعلم..كيف تستطيع أن تنظر في وجهي اليوم وكأنك نسيت..فانا لم أنسى ولن أنسى..لن أنسى ذبحك لي بين جدران غرفتي..كيف استطعت..كيف تعيش مع نفسك اليوم؟...أخبرني يا ابن أمي وأبي أخبرني؟!!!!
شهقت باكيةً من جديد والجدران تعتصرني بذكرياتها...آآآآآآآهـــ..الألم يقتلني ولا يزول...كيف أشعر بالحنين؟ كيف بحق الله أشعر بالحنين الى هذه الغرفة التي احتضنت سموم ذكرياتي!كيف أشعر بالحنين الى هنا..حيث سلبني أغلى ما عندي كيف...؟؟!
أبعدت يديّ المرتجفتين عن أذنيّ وأنا أسمع ذاك الصوت الرتيب الخفيض..فقفزت مذعورة والخوف يقلبني على مقلاة واقعي الملجم بلجام الخوف..
اتسعت عيناي وأنا أرى أن الباب لم يفتح وأن البيت ما زال ملثماً بلثام الصمت إلا الصوت الذي أخذ ينبض من تلك الزاوية البعيدة قرب الجدار الذي أبت عيناي إلا أن تراه باللون الأسود الذي "صبغه" على سنين عمري..اقتربت والصوت الخفيض يتقطع كأنه يتألم..ارتعشت قدماي قبل أن أهوي على ركبتيّ اللتين لم تعودا قادرتين على حملي وأنا أمد يدي الى تلك البِلاطة التي حفها التراب من كل جانب..حيث يصدر الصوت شهقاته من تحتها ...بأصابعي المرتعشة حفرت في الأرض فاتسعت عينايّ وجعاً وأخذت أبكي وأبكي بكل دموع الألم التي كانت وستكون وأنا أنظر إلى "قلبي" مدفوناً هناك...يلفظ سكرات أنفاسه منذ كنت طفلة...نطق قلبي المدفون ناظرا إلي..
- أعلمتي لماذا تشعرين بالحنين؟
شهقت أبكي وأصيح "يا الله ...يا الله ساعدني ياالله "والقلب الدفين يصيح بصوته الجريح المخضب بالدموع من طغيان من سلبني أكثر مما يظن.
-بيني وبين جدران غرفتي القديمة سيبقى الحنين..سيبقى الى الأبد..
دائماً سيحن القلب للجسد...دائما سيحن القلب للجسد.
***
في حفظ الرحمن
أوان