كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
السلام عليكم
الثورة.. لقاء
صمت ثقيل ذلك الذي خيّم على مائدة المجموعة في ذلك الكافيه..
كان قد مضى ما يزيد قليلاً على الشهر، منذ تم الإفراج عنهم، وتوعّدهم بإعادة إلقاء القبض عليهم، لو عاودوا ما فعلوه..
ولم يدرِ أحدهم ما يفترض أن يفعله أي مواطن، يرغب في معرفة حقوقه وواجباته، في الوطن الذي ينتمي إليه..
درسوا الدستور..
ولكن يبدو أن نظم الأمن ترى أن دراسة الدستور جريمة، لا بد وأن يعاقب مرتكبها أشد العقاب، حتى لا يعود إليها مرة أخرى..
وكل منهم لن يستطيع نسيان ذلك العقاب، ما بقي له من العمر..
صحيح أنهم، بعد انقطاع طويل، قرّروا اللقاء مرة أخرى؛ لعل هذا يغسل عنهم بعض الأحزان والمرارة والألم.. ولكن من الواضح أن هذا لم يحدث..
لقد التقوا، بعد صراع طويل مع أسرهم، التي كانت ترتجف من مجرد تجاوزهم لأبواب منازلهم، بعد فترة الرعب القاسية التي عاشوها، والتي لم تلتئم جروحها بعد، ولكن اللقاء لم يكن كالسابق أبداً..
ولا حتى يشبهه..
كل منهم صافح الآخرين في فتور، وهو يتحاشى النظر إلى وجوههم، وكأنما يحمل كل واحد عارا في أعماقه، يخشى أن تكشف عنه عيونه..
ولنصف ساعة أو يزيد، جلسوا حول المائدة صامتين، لا يجرؤ أحدهم على النظر إلى الآخر، حتى أن ناجي، صاحب المقهى، شعر بالإشفاق عليهم، وهم الذين كانت مائدتهم تملأ المكان صخباً، ويتردّد فيه صدى ضحكاتهم..
حتى علياء، اتخذت مقعداً بعيداً عن خالد، وكأنما تخشى مجرّد الاقتراب منه..
ولكن داخل خالد، كان هناك بركان يغلي..
بركان جعله يقطع حبل الصمت الثقيل، وهو يقول في حزم مباغت:
- سامي..استبدل مقعدك مع علياء.
لم يكن الحزم والصرامة من سماته، لذا فقد شعر الجميع بالدهشة، ولكن سامي أطاعه على الفور، في حين تردّدت علياء لحظة، ثم انتقلت إلى جواره، وشيء ما في أعماقها يرتجف، ولكنها ما إن استقرت على مقعدها، حتى أحاط خالد كفّها براحته، وكأنه يعلن أن مشاعره نحوها ما زالت كما هي، وتطلّع إلى الجميع مباشرة، في جرأة عجيبة، تتنافى مع شخصيته الهادئة التي اعتادها، وقال في حزم:
- أين توقفنا آخر مرة؟!
نظروا إليه جميعاً في دهشة، وغمغم فتحي في قلق:
- ماذا تعني؟!
بدا صوت خالد جريئاً قوياً، وهو يقول:
- أظننا كنا نتحدّث عن ضرورة دراسة دستور بلادنا.
امتقع وجه علياء، وبدا التوتر على الآخرين، وتساءلت نهى في خفوت، وهي تتلّفت حولها في حذر:
- هل سنعاود التحدّث في هذا الأمر؟!
انعقد حاجباه، وهو يقول في حزم:
- وهل سيمنعنا أمن مسعور من معرفة حقوقنا؟!
اعتدل علاء، وهو يقول:
- حقّ التعبير مكفول للجميع.
أضاف أحمد في حماس محدود:
- في حدود القانون.
تدخّل تامر، قائلاً:
- هنا تكمن اللعبة.. يمنحونك حق التعبير، ثم يسنّون، من خلال مجالس نيابية مشبوهة، ما يعوقك عن هذا من قوانين تعسّفية.
شد فتحي قامته، وهو يشاركهم حماسهم، قائلاً:
- وهذه نقطة تحتاج إلى تعديل.
أضاف سامي:
- نقاط عديدة تحتاج إلى تعديل.
ضحكت علياء ضحكة قصيرة، وقالت في حماس، ولّدته داخلها يد خالد الدافئة، التي تحيط بكفّها:
- أتظنونهم يلقون القبض علينا مرة أخرى، لو طلبنا إجراء هذه التعديلات؟!
هزّت نهى كتفيها، وقالت في مرح:
- وماذا في هذا؟! لقد صرنا خبراء فيما يفعلونه؟!
انطلقت ضحكاتهم مرة أخرى في المكان، على نحو أثار دهشة ناجي، فأرهف سمعه نحوهم، وخالد يقول في حماس:
- المجموعات التي تكّونت على فيس بوك، حول جريمة قتل خالد سعيد، بلغت ما يقارب نصف المليون.
قالت علياء في حماس:
- إنهم يدعون لمظاهرة سلمية، يوم الخامس والعشرين من يناير القادم؛ احتجاجاً على معاملة الأمن للمواطنين، وعلى تجاوزات النظام في حقنا.
قال فتحي في اهتمام:
- الخامس والعشرين من يناير هو عيد الشرطة.
أجابه سامي في حماس:
- وهذا هو المقصود.
أكمل تامر:
- إنه اعتراض على تكريم الشرطة التي تنكّل بنا.
هتف علاء:
- فكرة رائعة.
وأضاف أحمد في حزم:
- سننضم جميعاً للتظاهرة.. أليس كذلك؟!
هتفت نهى، في حماس كبير:
- بالتأكّيد.
ظهر ناجي بينهم فجأة، وهو يقول في صوت خافت، ولهجة مذعورة متضرّعة:
- أستاذ خالد.. أرجوك.. أرجوكم يا شباب.. لا داعي لمثل هذه الأحاديث هنا.
التفتوا إليه جميعاً، في نظرة مستهجنة، وسأله فتحي:
- هل تشعر بالخوف يا أستاذ ناجي؟!
ارتجف صوت ناجي، وهو يقول:
- بالتأكّيد.. إنه أكل عيشي.. وأنتم لا تعرفون هؤلاء القوم جيداً.. إنهم يستطيعون إغلاق المكان، بألف حجة وحجة.. ولديهم دوماً قوانين تسمح بهذا.
مال سامي نحوه، وقال في لهجة متحدية:
- وما قولك، لو أخبرناك أننا لم نعد نبالي بهم؟!
أجابه في عصبية:
- هذا شأنكم؛ فكل منكم ما زال يتقاضى مصروفاً من أهله، أما أنا فهذا رزقي.
كان يبدو بائساً، حتى إنهم تبادلوا نظرة صامتة مشفقة، قبل أن تغمغم علياء:
- لا أحد، سوى الله سبحانه وتعالى، يستطيع انتزاع رزقك يا أستاذ ناجي.
التفت إليها بنظرة بائسة، دون أن ينطق بحرف واحد، فتبادل الجميع نظرة أخرى صامتة، ثم مال خالد، قائلاً في صوت خافت:
- ما رأيك لو تحدثنا بصوت خافت؟!
ارتجف صوت ناجي، وهو يهمس، ويتلّفت حوله في خوف:
- لهم آذان تسمع دبيب النمل.
نهض علاء، قائلاً:
- سنغادر إذن.
لم يعترض ناجي هذه المرة، وإنما واصل التلفّت حوله في توتر شديد، فنهضوا جميعاً، وسددوا ثمن ما تناولوه، ثم غادروا المكان..
وعند سيارة كبيرة أمامه توقفوا، وقال خالد:
- يبدو أنه علينا أن نبحث عن مكان آخر.
أجابته نهى:
- لست أظن هذا يصنع فارقاً.
هزّ أحمد كتفيه، وقال:
- سيخافون مثلما خاف ناجي.
بدا علاء غاضباً، وهو يقول:
- إنه نظام قمعي عفن.
نقل سامي بصره بينهم، ثم قال في تردّد:
- عندما كنا هناك، أخبروني أمراً أخشى الإفصاح عنه.
اندفعت نهى تقول:
- أنه لديهم جاسوس بيننا.
هتف فتحي:
- لقد أخبروني بهذا أيضا.
تردّد تامر، قبل أن يقول في خفوت:
- لقد أخبرني قائد حرس الجامعة بهذا، عندما أراد...
بتر عبارته دفعة واحدة، فسأله خالد في حزم:
- عندما أراد تجنيدك.. أليس كذلك؟!
أومأ تامر برأسه إيجاباً في صمت، فاعتدل خالد، وقال في حزم:
- أسلوب استعماري بغيض.. إنه يحاول زرع بذرة شك في أعماقك، تجاه كل واحد منا.
قالت علياء في تفكير:
- ويريده أن ينقل إليه دوماً الحقيقة كاملة، خشية أن يكون هناك آخر بيننا، ينقلها إليه.
أجابها تامر في سرعة:
- ولكنني لم أشك لحظة في أنه كاذب.
ابتسم سامي في ثقة، وقال:
- لم يتوقعوا أننا مترابطون إلى هذا الحد، وأن كلا منا يثق في الآخرين ثقة مطلقة.
غمغم فتحي:
- أمور كثيرة لم يتوقعوها.
تمتم علاء في مقت:
- الثورة.
التقط أحمد نفساً عميقاً، وأجاب في حزم:
- يوم عيد الشرطة.
ولم ينطق أحدهم بعدها حرفاً واحداً..
قط.
يتبع
|