السلام عليكـــــــــم
الثورة.. الدكتور عبد الله
التقط الدكتور عبد الله نفساً عميقاً، من هواء الفجر الرطب، وهو يخرج من البناية التي يقطن بها، في ذلك الحي الشعبي، المجاور لحي المهندسين الراقي..
كان هذا هو الحي الذي وُلِد ونشأ فيه، والذي رفض أن يغادره، بعد أن أصبح أستاذاً في كلية الطب، واسماً شهيراً، في مضمار العلاج النفسي..
والدكتور عبد الله رجل بسيط المشاعر، هادئ النفس، شديد التواضع والالتزام، وتربطه علاقات موّدة وصداقة بكل سكان الحي تقريباً، مع اختلاف طبقاتهم، خاصة أنه تجمعهم دوماً صلاة الفجر، التي يحرص على أدائها في المسجد القريب، منذ حداثته..
وفي ذلك الفجر كان يشعر بشيء من الانقباض، لم يدر له سبباً؛ فهو لم يبالِ كثيراً بعدم قبول الأمن لتعيينه رئيساً للقسم؛ لأن المناصب لم تكن يوماً أحد أهم اهتماماته، ولم يكن مستعداً لدخول لعبة الحزب، ليجد له مكاناً على القمة..
كان يؤمن فقط بالكفاءة.. والكفاءة وحدها..
وكثيراً ما نصحه بعض زملائه، من أعضاء هيئة التدريس، بالانضمام إلى الحزب الوطني الحاكم؛ حتى يضمن مكاناً مرموقاً، ولكنه رفض الفكرة من أساسها، وقرّر أن يظلّ مستقلاً، ورزقه على الله سبحانه وتعالى، كما يقول الناس في الأحياء الشعبية..
لقد كان ذلك الانقباض حتماً لسبب آخر..
سبب لم يدركه في عقله الواعي، وربما يكمن في عقله الباطن، كما تقول دراسته..
ولأنه لم يدرك ذلك السبب الخفي، فقد حاول طرح شعوره هذا جانباً، وهو يبتسم في وجه الحاج فؤاد الميكانيكي، الذي اعتاد مرافقته يومياً إلى المسجد، والذي استقبله بمرحه المعتاد، هاتفاً:
- صباح الورد يا أستاذ الأساتذة.
أجابه في موّدة:
- صباح الخير يا حاج فؤاد..أراك مرحاً كالمعتاد.
بهتت ابتسامة الحاج فؤاد، وهو يقول:
- وماذا لدينا سوى هذا يا دكتور؟! الحياة خلت من المرح فأحاول دفع بعضه إليها حتى لا أموت همّاً.
سأله الدكتور عبد الله ، وهما يتجهان نحو المسجد:
-أما زالت مشكلتك مع الضرائب قائمة؟!
أومأ الحاج فؤاد برأسه إيجاباً، وقال:
- وستظل قائمة، فالضرائب تتعامل معنا كما لو أنها جهاز جباية، لا يبالي باحتياجاتنا وبحقائق الحياة.. تصوّر أنهم يرفضون خصم مصروفات العلاج من الوعاء الضريبي، حتى لو كانت تفوق أرباحك، وحتى لو كانت مؤيدة بفواتير من مستشفيات حكومية.
مطّ الدكتور عبد الله شفتيه، وقال:
- مع الأسف.
تابع الحاج فؤاد، وقد بدأ الغضب يتسلّل إلى صوته:
- وتلك الضريبة العقارية الجديدة.. أي عقل شيطاني أبدعها.. هل يُعقل أن تؤخذ ضريبة عن شقة تقيم بها، ولا تربح منها قرشاً واحداً؟! أهذا عدل؟!
حاول الدكتور عبد الله أن يجيبه، ولكن الرجل كان منفعلاً، فواصل بانفعاله:
- لي قريبة تسكن في شارع شهاب في المهندسين، اشترى زوجها شقتهما، عندما كان حي المهندسين هذا منطقة زراعات، ودفع فيها أربعة آلاف وخمسمائة جنيه، ثم توفي، ودارت الأيام، وأصبح الشارع من أرقى شوارع الحي، ولكن الزوجة المقيمة في الشقة لا تملك سوى معاش زوجها، الذي يقلّ عن الألف جنيه، تنفق ما يقرب من نصفها على العلاج، والشقة تساوي بوضعها الحالي، مليون جنيه تقريباً، وهذا يعني أن تطالبها الضرائب بما يفوق ما تبقى لها من دخل، كضريبة عقارية، افترضت أنها تؤجر مسكنها بقيمة وهمية.. أهذا عدل؟!
غمغم الدكتور عبد الله:
- كلا بالتأكّيد.
واصل الحاج فؤاد، وانفعاله يتصاعد:
- ثم ماذا سيفعلون بها عندما تعجز عن السداد؟! هل سيقدّمونها إلى المحاكمة والسجن؟! وكيف يدفع المرء ضريبة عن مسكن يقيم فيه؟! ماذا لو قررّوا اعتبار أن كل من يملك سيارة يؤجرها، ويطالبون بضريبة عليها أيضا؟!
لم يجبه الدكتور عبد الله، أو لم يستمع إليه تقريباً، بعد أن تركّز اهتمامه على عربة أمن مركزي، تتحّرك لتسد الطريق المؤدي للمسجد..
وشعر بأن انقباضته كان لها ما يبررّها..
شعر بهذا، قبل حتى أن توضع يد ثقيلة على كتفه، ويسمع صوتاً غليظاً من خلفه يقول:
- دكتور عبد الله.
التفت مع الحاج فؤاد، ليرتطم بصرهما بعدد من الناس، يرتدون ثياباً مدنية، لم يدر أحدهما كيف وصلوا خلفهما مباشرة، دون أن يشعرا بهما..
وفي عصبية قال الحاج فؤاد:
- من أنتم؟!
لم يكن الدكتور عبد الله ينتظر الجواب، عندما قال صاحب الصوت الغليظ، في لهجة تهديدية ردعية واضحة:
- أمن الدولة.
امتقع وجه الحاج فؤاد، وتراجع خطوتين إلى الخلف، في حين غمغم الدكتور عبد الله، في هدوء، لا يدري كيف جاء إلى صوته:
- كنت أنتظركم في الواقع.
ابتسم صاحب الصوت الغليظ ابتسامة ذئب، وهو يقول:
- هذا سيسهّل الأمور كثيراً.
اندفع الحاج فؤاد يقول في حدة:
- بأية تهمة..
قاطعه الدكتور عبد الله بإشارة حازمة من يده، في حين التفت إليه الغليظ بنظرة قاسية متوعدة، جعلت الدكتور عبد الله يقول:
- اذهب إلى المسجد يا حاج.. واصل طريقك.. أرجوك.
انعقد حاجبا الحاج فؤاد، وهو ينتفض، قائلا:
- وهل أتركك وحدك؟!
قال صاحب الصوت الغليظ في صرامة:
- أتحب أن تنضمّ إليه.
هتف الدكتور عبد الله:
- أرجوك يا حاج.. واصل طريقك.
ثم أدار عينيه إلى الغليظ، متابعاً في استسلام:
- سأذهب معهم.
نقل الحاج فؤاد بصره، بين الرجال والدكتور عبد الله، الذي ربّت على كتفه، وحاول أن يرسم ابتسامة باهتة على شفتيه، وهو يشير إلى المسجد، ثم يتجه مع الغليظ نحو سيارة رباعية الدفع، تنتظر عند بداية الطريق..
وبسرعة، انطلقت السيارة، ليس لتغادر المكان، بل لتقف أمام منزل الدكتور عبد الله، ويهبط منها الرجال، مع ركّاب سيارة أخرى مشابهة، ويصعدون إلى شقته..
وفي ذهول غاضب خائف، تابع الحاج فؤاد ما يحدث، وغمغم:
- هذا غير قانوني..غير قانوني بالتأكيد.
لم يدر وهو ينطقها، أنه في هذه اللحظة بالذات، كانت والدة نهى تستيقظ مذعورة، على صوت طرقات قوية على الباب، في تلك الساعة، وسرعان ما انضمت لها نهى وشقيقتها، وهي تهرع إلى الباب في خوف، متسائلة:
- من بالباب؟!
أتاها صوت صفوت صارماً، يقول:
- أمن الدولة..
ارتجفت كل خلية من جسدها، وهي تسأل مذعورة:
- أمن الدولة؟! وماذا يريد منا أمن الدولة؟!
قال صفوت في حدة:
- هل تنوين فتح الباب بإرادتك، أم نقتحم المكان؟!
أسرعت تفتح الباب مرتجفة، ولم تكد تفعل، حتى فوجئت بجيش من الرجال يندفعون إلى الداخل، وينتشرون في الشقة، على نحو جعل شقيق نهى يهتف مستنكراً:
- ماذا يحدث هنا؟!
تجاهله صفوت تماماً، وهو يلتفت إلى نهى، قائلاً في صرامة:
- أنت نهى؟!
ضمّت نهى معطفها المنزلي على صدرها، وهي تقول في توتر شديد:
- نعم..أنا نهى، وما تفعلونه غير قانوني وغير دستوري، و...
قاطعها في صرامة، وقد التمعت عيناه:
- غير دستوري؟! يبدو أنك لم تقرئي جيداً التعديلات الدستورية الأخيرة، أيتها المناضلة.
نقلت أمها بصرها بينهما في ارتياع، وهي تغمغم مرتجفة:
- مناضلة؟! هل تقصد نهى بقولك هذا؟!
التفت إليها بنفس العينين المتألقتين، وهو يقول، في تشف واضح:
- ابنتك عضو نشط في تنظيم سري جديد.
هتفت نهى، في دهشة مستنكرة:
- تنظيم ماذا؟! أي تلفيق هذا؟!
خرج أحد الرجال من حجرتها، في هذه اللحظة، وهو يحمل نسخة الدستور، التي أهداها لها سامي، وهو يقول بلهجة ظافرة:
- عثرت على الدليل يا باشا.
اتسعت عيون الأم وولديها دهشة، وهتفت نهى مستنكرة:
- أي دليل؟! إنه الدستور المصري.
تألّقت عينا صفوت أكثر، وهو يقول:
- نفس النسخة، التي ضبطت كميات منها، عند سامي مسئول التثقيف في التنظيم.
فغرت نهى فاها دهشة، وبدا شقيقها مصدوماً، في حين غمغمت أمها، وهي تكاد تفقد وعيها:
- تنظيم ومسئول تثقيف؟! الدليل الذي تتحدّث عنه هو الدستور المصري، وليس الدستور الإسرائيلي، وحيازته، وفقاً لمعلوماتي المحدودة، ليست جريمة.
ابتسم صفوت في سخرية، وتألّقت عيناه أكثر وأكثر، وهو واثق من أن قضية هذا التنظيم الجديد ستصنع مانشيتات صحفية قوية..
وستصنع بالتأكّيد ما يحلم به..
الترقية.
يتبع